عرض مشاركة واحدة
قديم 09-06-2010, 12:45 PM
المشاركة 37
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
الجدل النفسي والفني في شعر المتنبي
إن هذا القسم الثاني من الدراسة خصصه اليوسف لإبراز العلاقة الجدلية بين العوامل النفسية والفنية في شعر المتنبي، وذلك أن المتنبي " قد تخلد على الزمن بسبب من قيام النفساني بإنتاج الأبعاد الفنية لشعره "، فكيف انعكست هذه السمات على الخطاب الشعري ؟ وكيف وجهت عالمه من حيث الرؤية والبنية ؟
لخص اليوسف العوامل النفسية المتحكمة في العالم الشعري للمتنبي في ثلاثة :
1) النرجسية،
2) ازدواجية الميول،
3) حس الإحباط.
i- النرجسية وإعادة كتابة التاريخ :
إن مقولة النرجسية ليست قيمة سالبة بل موجبة، فهي من مآثر المتنبي لا مثالبه، حيث إنها كانت بمثابة طاقة دافعة إلى تمجيد الذات التائقة إلى التحرر وبلوغ الكمال الإنساني عبر مقولة أساسية وهي إرادة القوة، فلقد ظل المتنبي يشيد بهذه المقولة طيلة حياته الشعرية.
اختار اليوسف بعض الأبيات للتدليل على هذه المقولة، مبرزا أن المتنبي قد " أصاب كبد الحقيقة حين طرح الافتراس قانونا أساسيا للتاريخ الاضطهادي، وحين أدرك أن نزعة الأرصاخ هي الدافع النفساني المركزي للسلوك في الحضارات القمعية، وحين بين أن القوة مطلب أساسي لكل فرد ". يقول المتنبي :

إنما أنـــفــس الأنــيــس سباع



يتفارسن جهرة واغـتــيـالا ( )


من أطاق التماس شتى غلابا



واغتصابا لم يلتمسه سؤالا


كــل غـاد لحــاجـتـه يـتمنى



أن يكون الغضنفر الرئبال "


من خلال تعليق اليوسف على هذه الأبيات تلوح معالم سر التشبث القوي بهذا الشاعر، وذلك من خلال تمجيده للقوة، باعتبارها قيمة خالدة، وهنا يستعير الناقد التصور الماركسي الذي يفسر خلود الروائع بربطها بالقيم الإنسانية الكبرى. يقول " من الواضح أن الفن الخالد هو الذي يتعامل مع القضايا الأكثر ثباتا في النفس ". ولقد ربط اليوسف مقولة القوة بنرجسية المتنبي وإحساسه باللاأمن، وبالضعة والاغتراب في زمن السقوط والانهيار. لا جرم أن ما يدعو إليه المتنبي هو شيء متأصل في الذات العربية ومحدد لكينونتها، إنه مفهوم الأنفة والرجولة وتمجيد الانا.
أ/ العودة إلى زمن البدايات :
إن عودة المتنبي إلى تضخيم الانا هي عودة إلى بدايات الزمن العربي، لذا فإن اليوسف يتساءل بهذا الصدد عن معنى عودة أبى الطيب إلى " تلك المرحلة الوثنية ومفاهيمها وقيمها الرجولية ؟ ما معنى أن يتبنى المعتقد الجاهلي الضخم الذي هدمه الإسلام والذي يتلخص بان العرب فوق كل الأقوام ؟ ".
لقد كف الشعر العربي قبل المتنبي عن بسط الانا المتضخمة، غير أن المتنبي جعل هذه الإشكالية محور شعره، فما هي أسباب هذه العودة ؟ يلتمس اليوسف عاملين لتفسير هذه الظاهرة لخصها في :
1) العامل الفردي : تمثل في إخفاق الشاعر في إنقاذ المرحلة من الانحطاط، وفي إخفاق العصر أمام العبودية، هذا الإخفاق المزدوج ولد لدى الشاعر نزعة نكوصية والتفافا حول الذات من أجل الاحتمــــــاء بها،إذ إحساس المواطن بالإهانة القومية أو الاجتماعية يشده بقوة إلى ما يمكن أن يبقى له شخصيا، أعني كرامته الفردية ".
2) العامل الجماعي : فأمام انهيار الحضارة العربية راح المتنبي يبعث الحياة في السماة النفسية التي أبرزت التفوق العربي في الماضي وهي الأنفة والكرم ورفض الخضوع للأجنبي ومن ثم فالعودة للأصول هي عودة دفاعية طفت بشكل حتمي كإجابة عن النكسة والسقوط. إن نرجسية المتنبي من خلال هذا المنظور تصبح ضرورة وليست عقدة مرضية.
ب/ المتنبي كتجسيد للمطلق :
استطاع المتنبي أن يضع يده على جوهر الكينونة العربية، مجسدا بذلك قيمها الكبرى، وبذلك ظهرت قوته " لأنه يستشير في داخلنا حاجة ويشبعها، ويعزز في أعماقنا تلك القيمة الأساسية، أعني قيمة القوة ، فقد جسد المتنبي المطلق، بتجاوزه للظرفي والمرحلي، فهو لم يكن فقط إنتاجا لزمنيته الصغرى في لحظاته القوية، وبذلك أصبح شعره نصا جامعا يشتمل على تجارب الشعر العربي السابقة، إن الماضي الشعري هو المؤسس الأكبر لمجمل إنتاجه فقد " لخص أبو الطيب كل عصور الشعر العربي السابقة عليه : لخص نزوع الجاهليين نحو القوة عبر تمثله للانا الجاهلية المتضخمة، ولخص موضوعة الإقصاء الاجتماعي التي كانت محور العذريين الأمويين، ولخص نزوع شعراء العصر العباسي الأول نحو الصورة والمجاز والتجديد في مضمار لغة الشعر وأشكاله الفنية، ولهذا كان شعره يضم لغة العصور الشعرية كلها ".
إن استمرارية الماضي في الحاضر في وعي العربي هي المسوغ الرئيس لاستمرارية المتنبي، خصوصا وان الآمة العربية الحديثة منيت بهزائم ونكسات وإخفاقات سياسية كبرى، إن مثل هذه الأوضاع المازومة تستدعي ضرورة صوت المتنبي باعتباره شحنة وجدانية أملا متجددا.