الموضوع: دخــــــان
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
6

المشاهدات
3947
 
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي

طارق الأحمدي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
853

+التقييم
0.14

تاريخ التسجيل
Apr 2007

الاقامة

رقم العضوية
3325
11-13-2011, 03:03 PM
المشاركة 1
11-13-2011, 03:03 PM
المشاركة 1
Post دخــــــان


- عندما أعود سأرمّم كل شيء. بل سأهدم كلّ شيء وأعيد البناء من جديد. ولن ينتابني الخوف بعدها من سقوطه, فسأشدّ البناء وأقوّي الأساس.

هكذا كان يفكّر ويعيد الكلمات بتمتمة غير مفهومة, وهو يغلق الباب وراءه متوجها إلى عمله. وأسرع وكأنّه يذكّر نفسه بأن الصّبح يحثّ الخطى وموعد الحافلة سيفوته.

وفعلا أسرع حتى بدا مهرولا. اعترضته المقبرة بصمتها وسكونها وظلمتها, فالتفت نحوها وسلّم.

- أنتم السّابقون ونح اللاّحقون.

واصل سيره نحو محطة العمال مترنما بمقطع لأغنية يحفظها, لكنه توقّف لكثرة ما ردّدها. وشغل نفسه بلفافة كانت بين أصابعه, فبدا متعجّبا من قدرتها على التخدير وبعث الهدوء.

رمى بالسيجارة لمّا أحرقت اصبعيه, فانتبه إلى السكون المخيّم حوله, وشعر أن كل شيء يراقبه. حتى الحجارة التي ملأت الطريق كانت تعدّ أنفاسه.

ركبته الوساوس, واقشعرّ جسده. فتراءى له الطريق ثعبانا أسودا يتموّج فيحدث زلزلة تحت قدميه, ويصدر فحيحا وحشرجة يرتجف لهما كلّ عصب فيه. حاول أن يحيد عنه حتى يتجنّب بطشه, فتراجع إلى اليمين فرأى المنازل وقد تحوّلت إلى أفواه فاغرة قد سال لعابها ولمعت أنيابها وبدأت تزحف نحوه. فيزيد خوفه ويعظم هلعه فيسرع إلى الجانب الآخر وهو يلتفت في كل الإتجاهات, فتعترضه الأشجار وقد سارت جنبا إلى جنب ترتدي السواد وتضع على رؤوسها أشياء شبيهة بالقبّعات ولكنها أقبح.

رآها تتجه نحوه وتشير إليه, فأسقط أدوات عمله من فرط الفزع.وأصبح كالمعتوه, لمّا أحسّ بالثعبان يقترب منه, والبيوت تصله وتطبق عليه, والأشجار ترفسه .

لم يبق له من حلّ سوى الرجوع من حيث أتى ليتّقي شرهم, فاستدار وهمّ بالمسير لكن المقبرة اعترضته بساكنيها, وقد التفّوا حور القبور.

لم يقو على احتمال ما يتراءى له, فجرى في كل اتجاه. فكان يّدفعُ ويّصدّ.

بقي على تلك الحال مدة حسبها دهرا, حتى ظهرت له أخيرا الحافلة بنورها الخافت فأسرع نحوها متعثّرا وصعد, فوجدها خالية, وقد استبدلت كراسيها بأسرّة خشبية, فارتمى على أول سرير اعترضه وتمدّد, ونام.

مرّ النهار, وقاربت الشمس على المغيب والأب لم يعد.

افتقده الجميع فخرجوا للسؤال عنه. وذهبت زوجته تنقل قلقها وخوفها إلى بقيّة نساء القرية. وخرج الأطفال يروون قلق الأم وحيرة ابنه الكبير.

خرج الرجال يبحثون عنه وسط صمت النساء وقلقهنّ, ومرح الأطفال ولامبالاتهم. وتواصل البحث مدة.

فجأة.

هرولوا نحو المقبرة لما سمعوا بعض الصبية ينادون ويستغيثون.

توقّف الجميع, حتى أن نبضات القلوب كادت تتوقّف لما رأوه ممدّدا على أحد النعوش وقد رسمت على شفتيه ابتسامة, وهو ينام في هدوء.

اقترب منه ابنه. نظر إليه مليّا, ثم استدار فلمعت دمعة ترقرقت في أحداقه, وقال.

- عندما يعود سيرمّم كلّ شيء. بل سيهدم كل شيء, وسيعيد البناء من جديد ولن ينتابه الخوف بعدها, فسيشدّ البناء ويقوّي الأساس.