عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
15

المشاهدات
2037
 
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8


عبد الكريم الزين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
14,144

+التقييم
11.26

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
المغرب

رقم العضوية
16516
04-28-2021, 04:28 PM
المشاركة 1
04-28-2021, 04:28 PM
المشاركة 1
افتراضي زرقاء واليمامة......قصة قصيرة
زرقاء واليمامة


رددت أزقة المدينة المتدثرة بأطياف الضياع صدى صوتها، و تكسرت بين الوديان المتوجسة خيوط ندائها، فجثت على حافة السور تستحث بقية أنفاس تستعر بصدرها.

دلفت إلى وسط المدينة تدحرج خطواتها، صوتها يقرع جدران البيوت السابحة في دياجير الركود " أرى شجراً يتحرك أسفل الوادي "، لكن اليمامة صمت آذانها، و الكلام لم يعد مباحا للعارفين. فسيد المدينة استنفر سحرته في الأسواق و أطلق أبواقه:
"لا صوت يعلوعلى صوت جديس".
"مجنونة" قالوا "منبوذة فقدت قواها".

أشاح الناس عنها برؤوسهم، مشت، هرولت، ركضت تنقل أسارير وجهها الشاحب بين جموع السائرين، ظمأى إلى عيون الراغبين.
صرخت كالثكلى في وجوههم:
"لم أنتم صامتون! لم تخنعون! ألا تتذكرون، تبا لكم. كذا كنتم حين اغتال عمليق ليلة عرسها صبح الشَّمُوس!"
سحبتها عتمة الأزقة الطينية إلى قصر الإمارة المتسربل بأعمدة الرخام الصقيلة و السجاجيد الفارسية الثقيلة. أطل الأمير محاطا بأجمة من الرماح المسننة، خاطبها ساخرا بنبرة متعالية:
"زرقاء ما عدت صادقة كديدنك القديم".
شمخت برأسها، و تردد صوتها لاذعا:
"كل اليمامة أجدبت مذ أحرقت أسفارها، وكممت بالنار فمها الحزين".
صاح ناظرا شزرا لمن حوله:
"أتسمعون لما تقول؟ شجر بالوادي يسير! هل أصيبت بالجنون!"
ردت و عيناها تقتحمان أسوار كبريائه:
"هلا بعثت طلائعا تستكشف الوادي، و تعود بالخبر اليقين".
هز كتفيه باستخفاف، و انصرف يجر حرير عباءته مدمدما:
"أنا الأمير، أنا اليمامة، من أنت حتى تأمرين!"
همست زرقاء و سحابة حزن تتكاثف ببطء على محياها:
"لهفي على اليمامة إذ غدت محراب قوم ساقطين".
اهتزت خصلات شعرها الطويل المفعمة بسواد كئيب، فشعرت بنذر عاصفة قادمة. أنَّ قلبها متوجعا:
"أحقا هذه آخر أيام اليمامة! بل قبلها: أيام نفي العارفين، أيام سَجن الكرامة".

ريح مزمجرة أطاحت بأغصان الوادي المتحركة، فانجلت عن جيش عرمرم يستحث الخطى نحو المدينة مثل قطيع ذئاب أضناه جوع الشتاء الطويل، و هيجته رائحة الدماء الطازجة.
انحط سيل الغزو جارفا هدوء العراء، و اكتسح الأبواب النائمة في سكون من سراب، كانت عيونه التي لا تنام قد أنبأته "أن قبيلة جديس معلقة الأبصار على غريمتها طسم، وأن آذانها طين قُدَّ من صمم، وكل ما عداها وهم عارض أو عدم". وكدوحة ذبلت جذورها سقطت اليمامة تحت سنابك الخيل المغيرة.

شاهرا سيفه المثخن بأرواح ضحاياه، خاض حسان الحِميري جداول الدماء و اعتلى تلة أجساد لا زالت تتسرب منها آخر قطرات الحياة، ثم صرخ في جيشه مكشرا:
" حية أو ميتة أريد زرقاء، إن لم تجدوها فلا نصر لنا في اليمامة و لا بقاء".

انتشر الجند فيما تبقى من فراغات في المدينة، ينقبون عن زرقة في العيون، أو همسة تذمر دفينة في صدور المهزومين.

عندما عادوا إلى كبيرهم يجرون خيبتهم، استشاط حسان غاضبا:
" ما هذا الهراء؟ جيشي المعظم عاجز! والخصم غادة عيناء!"
تقدم مستشاره القيل ذو رعين و انحنى ثم قال :
" مولاي زرقاء ليست كالنساء، هي آخر نبضة تأبى الخضوع لنا، هي كالهواء"
ومضت شرارة غضب سريعة في السواد الداكن لعيني القائد الحادتين، وامتدت يده تطبق على مقبض سيفه بشدة. اندفعت الكلمات هادرة من فمه:
"أصل النيران شرارة، والسيل أوله قطرة من ماء. لن أترك الداء يستشري، ذو رعين ما ترى وما الدواء؟"
انقبضت أخاديد جبهة المستشار الضيقة ثم انبسطت قبل أن يجيب:
" ما كنت خائنا لنصحكم مولاي، فأرسل في المدائن حُواتك والخطباء، وليعلنوا بأنا نحن الغالبون، وأن يمامة الصحراء قد قتلت و أن عيونها الزرقاء لديك غنيمة".

عانقت الصحراء الجسد المتدثر برمالها المتطايرة، ونسجت بأشعة الشمس الحارقة غلالة ذهبية على وديانها المستظلة بالوحشة، فحجبته عن أنظار المطاردين المتربصين، ونميمة الغربان الباحثين عن حظوة على مائدة السلطة الحاكمة الجديدة.

أطلقت زرقاء صرخة مدوية فرددتها جدران الوديان السحيقة:
" زرقاء لم تمت ولن تموت. هي حية في حروف العارفين، في دمعة للظلم قطعا لن تستكين، في كل قلب حر في سماء الحالمين.
وأنت كغيرك يا حسان، لست سوى ذيول غمامة، جفت ثم حلت فوق أهداب اليمامة، والريح آتية كعادتها بالغيث المطهر لا محالة. إني أكاد أبصرها ببصيرتي لا بالعيون".

ظل الصوت يجوب الصحراء بلا انقطاع، يمشطها باحثا في كل مرة عن مرفَأ جديد، ويقال أنَّ السائرين على دروبها يسمعون هسيسه إلى اليوم.