عرض مشاركة واحدة
قديم 11-13-2010, 03:29 PM
المشاركة 15
عبد اللطيف غسري
شاعر ومترجـم مغـربي
  • غير موجود
افتراضي
أخي الكريم الأستاذ أيوب:
أجدد لك الشكر على اهتمامك الراقي الجميل.. وهذه أجوبتي عما طرحته من أسئلة:


1ـ تنبثق فكرة الكتابة لدي في لحظة من الشرود الذهني الذي أنساق إليه لاشعوريا، فأجدني أفكر في موقف معين شهدتُه في حياتي اليومية أو في لحظة من الزمن مرت علي فتركت في نفسي أثرا تترجمه الملكة الشعرية لدي فأهب إلى كتابة ما خطر ببالي من أبيات شعرية في هذا المقام. والحقيقة أنني لا أتخذ قرارا مُسبقا بالكتابة بل أجدني مدفوعا إليها في معظم الأحيان برغبة جارفة لا أعرف من أين تأتي وإن كنتُ أعرف سببها.. إنها لحظة شرود يكتنفه التأمل في موقف من المواقف أو الإذعان لشعور عاطفي ما.

2ـ منذ السنين الأولى لطفولتي كنتُ شغوفا بالمحفوظات والأناشيد التي كنا نتلقاها في المدارس، ثم اهتديتُ فيما بعد إلى شئ اسمه الشعر العربي فوجدتُني أتلهف على قراءته أيا كانت المصادر التي أتزود به منها. كنتُ أقبل على قراءة الشعر العربي القديم ، جاهليا كان أو إسلاميا أو أمويا أو عباسيا.. تدفعني إلى ذلك الرغبة في استكشاف هذا العالم المثير الذي أثارني منه بداية الأمر ما نسميه بالإيقاع. كنتُ أقرأ وأعجب لهذا التناسق البديع الذي أحسه وأراه بين أشطر القصيدة الواحدة ويأخذني طرب عجيب ونشوة فائقة. ثم ألفيتُني أمسك بالقلم وأحاول تقليد ما أقرأه كتابةً. ومن هنا بدأ لدي الشغف بالكتابة الشعرية... كنتُ أقرأ لمعظم الشعراء القدامى وأقرأ أخبارهم وسيرهم وكنت أجد في ذلك متعة كبيرة.

3ـ لعل المتنبي هو الشاعر الذي كان له أكبر الأثر في تهذيب سليقتي الشعرية إن صح التعبير. كنتُ وما أزال عاشقا لهذا الشاعر العملاق الذي لا أرى أن الزمان قد يجود بمثله مهما تعاقبت العصور ومهما ظهر في آفاقنا الشعرية من فراقد شعرية مشهود لها بالألق والتميز. إنه شاعر فريد في لغته وفي البناء الفني للقصيدة لديه. وإذا صح ان ننعت شاعرا بالعبقرية فلا أرى شاعرا من شعرائنا القدامى أو المحدثين من يستحق هذا النعت أكثر من المتنبي. أشكرك على سؤالك إياي عما إذا كنتُ متأثرا بالمتنبي لأنه هو أحب الشعراء إلى نفسي وآثرُهم لدي وأشدهم إمتاعا لي...

4ـ لا شك أن قصائدي هي ترجمة صادقة لمشاعري وأحاسيسي وتأملاتي الفكرية والعاطفية.. فأنا لا أكتب حبا في الكتابة في حد ذاتها بل أكتب لأنني إن لم أكتب فسوف أغص بما لدي من تأملات عاطفية وفكرية، والكتابة هي المتنفس الوحيد لدي.. فأنا لا أدخن ولا أشرب.. وطبيعة عملي كأستاذ مدرس تفرض علي الانتباه إلى سلوكي العام وأخذ جانب الحيطة في التعامل مع الذات والآخر.. لذلك أجد في الكتابة منفذا لكل ما يعتمل في فكري ووجداني من مشاعر وأفكار.. بل إنني حين أكتب قصيدة ما لا أختار وزنها ولا رويها ولا قافيتها. كل ذلك يأتي بشكل تلقائي استجابة للداعي العاطفي أو الفكري الذي دعاني إلى الكتابة..

5ـ هذا استقراء وجيد لمفهوم العبقرية.. وأنا، وإن كنتُ أرى نفسي بعيدا جدا عن مقام العبقرية، أقرُّ أن هذا الاستقراء ينطبق علي إلى حد بعيد.. لقد أمضيتُ طفولة مختلفة عن الطفولة التي يعيشها أبناء الميسورين.. إنها طفولة استمدت جانب العسر والألم فيها من قلة ذات يد المُعيل لا أقل ولا أكثر.. لذلك كبُر عندي الإحساس بآلام الآخرين وقرَّ في ذهني مفهوم المعاناة رافدا من روافد الإبداع.. ولعلك تجد في معظم نصوصي صبغة خاصة طالما أثارت من يقرأ نصوصي، من أنني أكثر من نبرات الشكوى في قصائدي..

6ـ أجل أنا لا أحب الحديث عن الموت في نصوصي الشعرية، وإن تم ذلك فإنما يكون بشكل موجز وعابر.. ولعل في تجنبي لهذا الموضوع ما يشير إلى أنني أشعر برهبة خاصة في مقام الموت، لذلك أوثر تجنبه في نصوصي.. إنني مغرم بالطبيعة والحياة والجمال أيا كانت مشاربُه.. وقد أتخذ هذا الغرام سببا في هيامي بالصورة الشعرية ومحاولة الابتكار فيها والتجديد في مستوياتها في كل مرة أكتب قصيدة.. أنا أكره تقليد الآخرين في ما أرسمه من صور ـ أزعم أنها شعرية ـ لأنني أحب أن تكون لي شخصيتي الخاصة المستقلة.. ثم إن رأيي أن الشاعر الحق هو من يُضيف إلى الشعر العربي مجالات جديدة من الإبداع الشعري.. التجديد على مستوى الصورة إذن هو ما جعلني أغرم بالطبيعة وجمال المرأة وجمال الحياة وجعلني أتجنب رهبة الموت في أشعاري..

7ـ أعترف ـ كما قلتُ آنفا ـ أنني أشعر برهبة كبيرة عند ذكر الموت.. هي رهبة من العِظَمِ بحيث لا أجرؤ على الكتابة في أي موضوع يرتبط بالموت..

8ـ لعل أحد أهم مزايا الفن، والشعر خاصة، قدرته على احتواء الآراء المختلفة، فمنها ما يعمد فيه الشاعر إلى التصريح ومنها ما يعمد فيه إلى التلميح أو الرمز.. وقد أسمح لنفسي بتصنيف أسلوبي الشعري ضمن إطار الرمزية في تمرير آرائي وتأملاتي.. قناعتي في ذلك أن الشاعر ليس مطالبا بأن يكون مباشرا في بوحه الشعري، بل أنا أرى أن المباشرة تقتل روح الشعر.. لا يكتسب أي فن، والشعر خاصة، شرعيته وتأثيره في النفوس إلا إذا ارتكز على الرمز وفتح للمتلقي آفاق التأويل والاستقراء..
أنا أمارس رقابة ذاتية في شعري لكن على مستوى الأسلوب الذي أتبناه في تمرير أفكاري ومشاعري وهو الرمزية والإحالة..
وهذا نموذج لنص تفعيلي من ديواني (قوافلُ الثلج) قد يكون شاهدا على ما أقول:
المُتكالِبونَ على رَغيفِ الوَقتِ
عبد اللطيف غسري

1
بُعدانِ يَحترقانِ في قيظِ الوجودِ
إذا خلا منهُ الوجودْ:
هذا التوَجُّسُ مِن سُعار الوقتِ،
والمطرُ الذي يمتارُ مِن ذاتِ الكتابةِ
هاتِها يا سَاقِيَ الأحلامِ
وائتِ بها مِن الغُرَفِ التي بُنِيتْ
هناكَ... على أديمِ الوجْدِ أو صخر الجُمودْ

2
آمَنتُ أنَّكَ قادِمٌ مِن وَشْوشاتِ الليلِ
مِن لغةِ الكآبةِ
مِن جَنوبِ الريحِ
مِن ريحِ المتاهَةِ والشرودْ

3
آمَنتُ أنَّ حدودَ خَطِّ الوشمِ في جَسَدِ الرتابةِ
أن تشِطَّ بلا حدودْ
أن تكسِرَ الوثَنَ الذي يَمتدُّ في صمتِ الإجابةِ
عن سؤالِ النهرِ حينَ يعودُ
أو حِينَ الإجابةُ لا تعودْ

4
حتى وجوهُ المُتعَبينَ الجالِسينَ على بِساطِ النارِ
تفتحُ بابَ ذاكرةِ الرَّبابَةِ
حيْثُما وَلـَّيْتُ وَجهيَ لا أرى إلا عُيونًا
تسْتحِمًّ بوابلٍ مِن تنْهِدَاتٍ يَخْتزِلْنََ
قصائدَ الأرَقِ المُجَفَّفِ
بالإنابَةِ
عن كلامٍ كانَ يَسْرقُ بَعضَ خُبزِ نهارهِ
مِن سَلَّة الوَجَعِ الكَنُودْ

5
يا أيُّها المُتكالِبونَ على رَغيفِ الوَقتِ
لا.. لا تَنقعُوهُ بِخَلِّ تلكَ الأمْنيَاتِ
وَجَفِّفُوهُ الآنَ مِن عَرَق الخَطابَةِ
كَيفَ يَصنعَ فيكُمُ سيزيفُ صَخْرَتَهُ
مِنَ الكلمَاتِ
والجبلُ الذي يَمتدُّ فوقَ رؤوسِكمْ
هُوَ ماردٌ مِن أُحْجِياتِ الذلِّ قامَ
ومِن حِكاياتِ الخمودْ

9ـ إن شغفي بالصورة الشعرية يجعلني أكثر من الوصف التأملي إن صح التعبير.. وأحب تبطين المفردات بأفكاري ولمحاتي من خلال التركيز على عمق الفكرة والصورة لا على سطحيتهما.. كما أحب القصائد الحوارية كقصيدتي "معلقة على أسوار الحب".. ولكن أهم ما يتملكني هو ذلك النوع من القصائد والنصوص التي تنطلق من الذات الشاعرة وتعود إليها.. ومثل هذه النصوص كثيرة لدي من مثل "الجرس الخفي" و"كواليا.. إضاءات على جسر الألم" و"أكفان العتمة ملءُ يدي" و"تقاسيم على أوتار رملية" و"طبق لطعام الليل وأرغفة القلب" وغيرها..

10ـ استخدامي لبعض الألفاظ التي قد يراها البعض كلاسيكية بالمقارنة مع الألفاظ التي يستخدمها الشعراء المعاصرون هو أمر قد أعزوه إلى حبي الشديد للشعر العربي القديم وجزالة ألفاظه ومتانة بنائه الفني.. لكن لي رأيا في هذا الموضوع، وهو أنني أرى أن مهمة الشاعر العربي الحديث أن يُعيد الاعتبار إلى لغته العتيدة التي طالها الركود والجمود والتردي في عصر التكنولوجيا واللغات العالمية الحية.. وإعادة اعتباره للغته لا يعني انفصاله عن العصر الذي يعيش فيه.. بل أنا أرى أن الانتماء إلى العصر رهين بما تجترحه من موضوعات وليس على مستوى الشكل. لماذا لانكتب قصيدة عربية حداثية الصبغة والموضوع والصور ذات بناء أصيل (الوزن والقافية والتفعيلة)؟ أنا أرى أن ذلك ممكن جدا لو توفرت الإرادة وصحت العزيمة.. ذلك أفضل من تقليد الغرب في كل شئ.. نحن لنا لغتنا الخاصة العتيدة وشعرنا العربي المختلف عن كل روافد الشعر العالمية الأخرى على مستوى الألفاظ والبناء الفني للقصيدة، ولن تقوم لنا "قومة شعرية" في المحافل الدولية إلا إذا أعدنا الاعتبار إلى لغتنا وشعرنا العربي.. الحل إذن كما أراه، هو قصيدة عربية كلاسيكية شكلا ـ عمودية أو تفعيلية ـ وحداثية موضوعا وصورا وقضية شعرية.


حفظك الله ورعاك وسدد في الحق خطاك.
مودتي وتقديري