عرض مشاركة واحدة
قديم 06-03-2022, 12:02 PM
المشاركة 7677
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: مَجْمعُ الأمثال
3759

.... ما وَرَاءِكِ يَا عِصَام‏؟ ....

قَالَ المفضل‏:‏ أولُ من قَالَ ذلك الحارث بن عمرو مَلِكُ
كِنْدَةَ، وذلك أنه لما بلغه جَمَالُ ابنة عَوْف بن مُحَلِّم
الشَّيْبَاني وكمَالُها وقوة عَقْلها دعا امرأةً من كِنْدَة يُقَال
لها عِصَام ذاتَ عقل ولسان وأدَب وبَيَان، وقَالَ لها:
اذهبي حتى تعلمي لي عِلْم ابنَةِ عَوْف، فمضَتْ حتى
انتهت إلى أمها، وهي أمامَةُ بنتُ الحارث، فأعلمتها ما
قدمَتْ له، فأرسلت أمامة إلى ابنتها، وقَالَت‏:‏ أي بنية،
هذه خالتُك أتَتْكِ لتنظر إليك، فلَا تستُرِي عنها شيئًا إن
أرادت النظر من وجهٍ أو خلق، وناطقيها إن استنطقتك،
فدخلت إليها فنظرت إلى ما لم تر قَطُّ مثله، فخرجت من
عندها وهي تقول‏:‏ ترك الخِدَاعَ مَنْ كَشَفَ القَناع، فأرسلتها
مثلًا، ثم انطلقت إلى الحارث فلما رآها مقبلة قَالَ لها‏:‏ ما
وراءك ياعصام‏؟‏ قَالَت‏:‏ صَرَّحَ المَخْضُ عن الزُّبْد، رأيت جَبْهة
كالمِرْآة المصقولة، يزينها شعر حالك كأذناب الخيل، إن
أرْسَلَتْه خِلْته السلاَسل، وإن مشطته قلت عناقيد جَلَاها
الوابل، وحاجبين كأنما خُطّا بقلم، أو سُوِّدا بحمم، تقوَّسا
على مثل عَيْن ظبية عَبْهَرَة، بينهما أنف كحدِّ السيف الصَّنيع،
حَفَّتْ به وَجْنَتَان كالأرجُوَان، في بياض كالجُمَان، شُقَّ فيه فم
كالخاتم، لذيذ المبتسم، فيه ثَنَايا غُر ذات أشَر، تقلَّبَ فيه
لِسَان، ذو فصاحة وبيان، بعقل وافر، وجواب حاضر، تلتقي
فيه شَفَتَان حَمْرَاوان، تحلبان ريقًا كالشهد إذا دلك، في رقبة
بيضاء كالفضة، ركبت في صَدرْ كصَدْر تمثال دُمْية، وعَضُدان
مُدْمَجَان يتصل بهما ذراعان ليس فيهما عظم يُمَسُّ، ولَا عرق
يجس، ركبت فيهما كفان دقيق قصبهما، لين عَصَبُهُما، تعقد
إن شيء منهما الأنامل، نتأ في ذلك الصدر ثَدْيان كالرمَّانتين
يخرقان عليها ثيابها، تحت ذلك بطن طُوِيَ طيَّ القَبَاطيِّ
المدمجة كسر عُكَنًا كالقَرَاطيس المدرجة، تُحِيطُ بتلك العكن
سُرَّة كالمُدْهُن المجلوِّ، خلف ذلك ظهر فيه كالجدول، ينتهي
إلى خصر لولَاَ رحمة الله لانْبَتَرَ، لها كَفَلٌ يُقْعدها‏ إذا نهضَت
وينهضها إذا قعدت، كأنه دِعْصُ الرَّمْل لَبَّده سقوط الطَّلِّ،
يحمله فَخِذَانِ لُفَّا كأنما قلبا على نَضَد جُمَان، تحتهما ساقان
خَدْلَتَان كالبرديتين وُشِّيتا بشعر أسود كأنه حلق الزرد، يحمل
ذلك قَدَمَان كحذو اللسان، فتبارك الله مع صغرهما كيف
تطيقان حمل ما فوقهما، فأرسل الملك إلى أبيها فخطبها،
فزوجها إياه، وبعث بصداقها، فجهزت، فلما أراد أن يحملوها
إلى زوجها قَالَت لها أمها‏:‏ أي بنية، إن الوصية لو تُرِكت لِفَضلِ
أدبٍ تُرِكت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل، ومَعُونة للعاقل،
ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لِغِنَى أبويها وشدَّة حاجتهما
إليها كنتِ أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقْنَ، ولهن
خلق الرجال‏.‏ أي بنية، إنك فَارقْتِ الجوَّ الذي منه خَرَجْتِ،
وخَلَّفْتِ العُشَّ الذي فيه دَرَجْتِ، إلى وَكْر لم تعرفيه، وقَرِين
لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبًا ومليكًا، فكونِي له أمَةً يكُنْ
لك عبدًا وَشِيكًا، يا بنية احْمِلِي عني عَشْرَ خِصَالٍ تكن لك
ذُخْرًا وذِكْرًا: الصحبة بالقناعة، والمعاشرة بحسن السمع
والطاعة، والتعهُّد لموقع عينه، والتفقُّد لموضع أنفه، فلَا تَقَع
عينُه منك على قبيح، ولَا يشم منك إلَّا طيبَ ريح، والكحلُ
أحسنُ الحسن، والماء أطيبُ الطيب المفقود، والتعهد لوقت
طعامه، والهدو عنه عند منامه، فإن حَرَارة الجوع مَلْهبة،
وتنغيص النوم مَبْغَضَة، والاحتفاظ ببيته وماله، والإرعاء على
نفسه وحَشَمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال حسن التقدير،
والإرعاء على العيال والحشم جميل حسن التدبير، ولَا تُفْشِي
له سرًّا، ولَا تعصي له أمرً، فإنك إن أفشيتِ سِرَّه لم تأمني غَدْرَه،
وإن عصيت أمره أوْغَرْتِ صَدْره ثم اتَّقِي مع ذلك الفرح إن
كان تَرِحَا، والاكتئاب عنده إن كان فَرِحَا، فإن الخصلة الأولى
من التقصير، والثانية من التكدير، وكوني أشَدَّ ما تكونين له
إعظامًا يكن أشَدَّ ما يكون لك إكراما، وأشد ما تكونين له
موافقة، يكن أطولَ ما تكونين له مرافقة، واعلمي أنك لَا
تَصِلِين إلى ما تحبين حتى تُؤْثِرِي رضاه على رضاك، وهواه على
هواك، فيما أحببت وكرهت، والله يَخِيرُ لك، فحملت فسُلِّمَت
إليه، فعَظُم مَوْقِعُها منه، وولدت له الملوك السبعة الذين
ملكوا بعده اليمن.
وروى أبو عبيد ‏"‏ما وَرَاءَكَ‏"‏ على التذكير وقَالَ‏:‏ يُقَال‏:‏ إن المتكلم
به النابغة الذُّبْيَاني قَالَه لعصام بن شهبر حاجب النعمان، وكان
مريضًا، وقد أُرْجِفَ بموته، فسأله النابغة عن حال النعمان،
فَقَالَ‏:‏ ما وراءك يا عصام‏؟ ومعناه ما خَلْفَكَ من أمر العليل، أو ما
أمامك من حاله، ووَرَاء‏:‏ من الأضداد.
قلت‏:‏ يجوز أن يكون أصل المثل ما ذكرت، ثم اتفق الاسمان،
فخُوطِبَ كلٌّ بما استحق من التذكير والتأنيث.