عرض مشاركة واحدة
قديم 06-26-2012, 10:30 PM
المشاركة 24
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
فعل الشعر ...

بين الموقف والموقع


عبد اللطيف عقل

رفيقي القارئ..
لا تقرْاني ولكن تقرّاني فإن الزهور على عهدها تمارسُ فعل النمو والطيور فعل الغناء، الزيتون منذ كان الزمن وهو يَفعلُ العطاء تماماً كما تفعل العطاء والبشر النوارس وأقواس قزح.

الأطفال هنا يفعلون الوعود والابتسامات كما يفعلون الدموع والحزن، كل شيء هنا مستغرق في دائرة الفعل، نحن لا نفكر ولا نتأمل ولا نحلل، إننا نفعل كل هذه، وأنا مثل هؤلاء، أمارس فعل الشعر، أنا لا أكتب الشعر ولا أقرأه إنني أفعله تماماً كما يفعل أطفال فلسطين ألعابهم من الطين والحزن....

إنني في موقف الفعل لأنني في موقع التراب الأول.. ولك بعدها أن تحلل فعل الشعر كما تشاء....

أنا لا أنفعل لأنني قد انفعل بدون الفعل، إن التجربة التي تدفعني إلى أحضان الفعل لا أحسبها، واعتقد أنني لست ذكياً، إن الفلاحين هنا لا يعرفون التحليل كما لا يعرفون ظاهرة الضغط الأسموزي، إنهم يفعلون فقط، يحرثون ويجدرون، ويتزاوجون، وفي البيادر يفعلون الحصاد ويزورون المدن ويعودون بالحلوى والملابس والسَام....

إنهم يفعلون الموت كما يفعلون الحياة نصفاً بنصف، يندفعون في المأتم كما تندفع السيول في الجهران أيام المطر، حتى مع الله يفعلون التقوى بالقدر البسيط الذي يفعلون فيه الفسق.

كل شيء هنا بدائي تقريباً، اللغة في بدئها والكتابة كذلك، الموت والحب والشعر كما المطر، أفعال فحسب ما تشوهت بالتحليل المحدد وما تساوقت مع قوالب الفكر والمنطق.

وهكذا أفعل الشعر كما أفعل الموت، وكما أفعل الحب، إن موقعي يفرض هذا الموقف لذلك لا أجد الفواصل بين الموت والحب والشعر، تستطيع أن تراني خلال فعل منها، حللني ان شئت، لكنك لن تكتشف موهبتك في سوء النية، اقرأني، لكنك لن تعجب بلون عينيك، إلا إنني سأمنحك ساعة دفء فأقول إنك قد تراني في درجات الفعل المختلفة، تماماً كما ترى الرسام في لوحته ذات اللون الواحد، وسأقسم لك اللون في درجتين:


أ‌- درجة فِعل القصيدة
هنا يصير الشعرُ فرحا، ونحن هنا نفرح بالمناسبة، يوم تتقاطر الفلاحات في أوائل الزيتون والمطر، يوم تتقاطر الجِمال والأطفال في أواخر الصيف بين حقول القمح والبيادر، يوم تدخل تلميذات المدارس أو يخرجن في جوقة يحرسها اللون الأخضر المخطط بالوعي، يوم ينور اللوز ويحصرم العنب، إنني أفعل القصيدة يوم تفعل طبيعتنا الجمال، واترك الأصوات تندرس في روحي وعلى الورق.

إنني أندمج في فعل شعري بسيط وأصير موسيقى مباشرة كما هو العرس في ساحة القرية، فعل العرس يمتلئ بالضجيج والفرح والنشاز، وهكذا ستقرأني في قصائد (صفحات من يوميات عاشق) وفي ( قصيدة قديمة عن رحيل جديد)..

هنا أفعل الفرح أو الغضب، أو الرفض بالشعر، وأراني وكأنني أطفو على سطح موقعي كما تطفو أوراق الزيتون وأزهار اللوز على صفحة الأفق الزرقاء وارتبط بالأشياء والأحداث بعلاقة الفرح الواعد بالحب، إنني أتوحد بها حقيقةً يفسدها المجاز، وهكذا تتحدد الصورة بتوزيع خفيف للنور والظل وتكون الألوان سابحة فيَّ في مباشرة لا يودُها ساكنو المقاهي ومحترفو اللعب بالأشياء.

لا يُهمّني أنني أتقدم أو أتأخر، أو أنحرف يميناً أو يساراً لأن ممارسة الفعل تفترض الحركة الحرة وأنسى تسميات النقاد.

ففي هذه المجموعة قصائد، كما أنه في ما حول قريتنا زهور وأعشاب....

ب‌- درجة فعل الشعر:
في الطريق إلى القدس، تغيم المرئيات، وتنسد أمامك نوافذ الفرح فتهاجمك إبر الشعر، وتنزلق في روحك أظافر مدببة تستنزف الأعصاب.. فيلد فيك فعل الشعر، وتنصب على الورق، والحب يمطر في أعماقك أحزان الزيتون ...

تتحلق الأطفال في الطرقات المسيجة بأحذية الجنود الثقيلة، ويتوارى اللوز الأخضر من العيون الصغيرة وينشأ فيك فعل تلونه موسيقى الكلمات البدائية، وهنا يعتنق الحب الموت كما تعتنق جذور التين خصور التراب الأحبَل بالخصب.

في درجة فعل الشعر، يندغم التاريخ في لحظة وتصير الأمكنة كلها محشورة في نقطة بين جامع الجزار، وسوق البصل.

وهنا أجدني وكما يؤكد الرفاق في أكثر اللقاءات إنني في الغموض، أو أنني على الحافة، او انني مسور بالحزن حيناً، والخوف أكثر الأحيان، لكنني وكما يندفع الدم الواعد من فتحة الجرح الكبيرة أنفجر في كلماتي، وكان يمكن أن تكون هذه الكلمات مقدمة عن تجربتي الشعرية بعد أربع مجموعات، وهي ليست كذلك، إنها كما تراها إشارة حادة إلى المدخل الشعري، وان أي فنان أصيل لا يستطيع أن يزيف موقفه كفنان لأن قانون موقعه لا يرحم، ولو كنت في بيروت لكان في لغتي طعم أعقاب السجائر ممتزجاً بكل المصطلحات المفرغة الا من الطلاء الخالب.

ولعلهم هناك على حق، ولكنني لست بالقاصر عن الردح والتسكع، إنها الأحزان الجميلة التي تختلط بالطحالب على حيطان سور القدس المنهوب...

إنني أسير الابتسامات العفوية في شفاه الأطفال المنعوفين على الطرقات من رأس الناقورة إلى رفح، هنا يكون لفعل الشعر مذاق الموت، ذلك بالنسبة لي واضح وضوح القتل، ان فعل الشعر هنا معتق وعمره عمر الزمن الساكن في حارات عكا، وهو حدث يومي اتشربه في عيون التلاميذ كل صباح، وقد لا أكون مفهوماً، حسبي أن أكون محسوساً، إن قرنا كاملاً تقريباً من السياسة والظلم يفقدني مقدرتي على استخدام الذاكرة، وان كل الأرقام على ذلك محفوظة في التلافيف فما قيمة أن تكون على الورق، إن هذا التاريخ العاهر يضعني في قلب الشعر فعلاً حزيناً من أفعال الحب، فهل نحن متصوفون؟

وما الضرر في ذلك ما دام فعل الشعر يوحدنا بالأحداث من الطلوع إلى المغيب، ولا يترك لنا فرصة التبويب والتحليل...

نحن هنا خارج اللعبة بعد، لا نتحدث عن البطولة ولكننا نفعلها، كلنا هنا نفعل البطولة، نفعلها كما نفعل التنفس والتدخين، ولا خيار لنا فليس فعل الشعر تطريزاً لثيابنا إنه الذي يسير العودة فينا، وهو ليس الكحل المجمل لعيون التلحميات وبنات حيفا، انه البؤبؤ الذي به الرؤيا .. وأنا لست ادري متى سقطت أريحا وغزة لأنني كنت في السقوط ...

وخير لي ورفاقي القراء هنا وهناك أن أترك أمر السقوط وتحليله إلى أبطال اللعبة في المقاهي، ليعمر شارع الحمرا بالنساء والفكر...

خذوني من هنا، من القلب، فإن الصحف في القاهرة وبيروت وعمان بحاجة إلى مادة نظيفة...

لست شاعراً حديثاً ولا قديماً، لست رومنسياً ولا واقعياً، لست ذاتياً ولست موضوعياً، لأن فعل الشعر يحتوي كل ذلك ويصير البديل ولكن في مناسبة للحديث عن الشعر والتصوير والموسيقى، لكم ان تحبوا أوزان الشعر وقوافيه، ولكم أن تستعرضوا قدرتكم على التأويل ولمس التجربة الشعرية وتحليل عناصرها وابحثوا ما شئتم عن الصورة، والمضمون والأصالة والخيال.. فذلك شأنكم، أما هنا فلا يوجد إلا فعل الشعر في مستوى القصيدة وتحت اعتبار الفرح الواعد، ومستوى فعل الشعر يوم يصير الموت كالحب وأراهما في وضوح القتل.

والآن رفيقي القارئ، تستطيع ان تبدأ القصيدة الأولى من قصائد، "الحب الذي لا يعرف الرحمة"، هذا الحب الذي قال التاريخ وقالت السياسة أنه مات، له قلب كبير، كبير جداً يتأبى على الموت ويرفض الآخرين كما يرفض التراب الأصيل البذور اللقيطة بها.

نابلس

أول أيار 1975

--------------------