عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2011, 12:56 AM
المشاركة 4
رقية صالح
أديبـة وكاتبـة سوريــة

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي




صوت الطبيعة الباكية:

ولد ويتمان في بلد بريّ، فجّ، كان لا يزال في طور البحث عن هويته. وشهد في شبابه شباب أميركا العاصف المتبجح، وهو يتخبط في طريقه نحو حرب مغامرة؛ حرب لقنت الأميركيين في ما بعد درساً إنسانياً مكلفاً، كان من نتائجه انتقال هذه الأمة من مرحلة الطيش إلى مرحلة النضج.

أيضاً عايش ويتمان مرحلة نزوح هذه الأمة نحو الفكر المادي، ومرحلة عمرانها وتحول مجتمعها مجتمعاً مدينياً صناعياً مستقلاً ومستقراً. وعليه فإن ثمة علاقة حميمة نشأت بينهما، و بين إنتاجه وإنتاجها، ولذا فإن النقد الأميركي اليوم لا يني ينظر إلى "أوراق العشب" في وصفها قصيدة أميركا ألأصيلة، وإلى أميركا بوصفها قصيدتها الأصيلة. لكن مجموعة كهذه جاءت شاذة قلباّ وقالباّ عن نماذج عصرها، لم تكن لتحظى من نعمة النقد آنذاك بغير اللعنة! إنّ ليبرالية أفكار ويتمان، وعدم مجاراة شعره لما كان سائداً في عصره من مفاهيم عامة تتعلق بآداب السلوك والحس الجمالي السليم، إضافة إلى عفوية أسلوبه المتمثل بالبعد عن النموذج الفيكتوري المتسم بالتكلف والفخامة والزخرفة والرطانة اللغوية، جعلت منه أضحوكة أدبية ليس أكثر، عرضة لقدح نقاد عصره وشعراء صالوناته.

ولكونه ينحدر من الطبقة العاملة في نيويورك وليس من النخبة المثقفة المتمركزة آنذاك إما في بوسطن أوفيلادلفيا أو فرجينيا، لم يكن في نظر النقاد في حينه سوى دخيل، متعد على عالم الأدب والشعر، لا بل معتوه، بحسب ما جاء في تعليق صحيفة "لندن كرتيك" "لا يفقه بأصول الفن أكثر مما يفقه الخنزير في علم الرياضيات".


ليست مستغربةً بالطبع شراسة انقضاض النقد على فريسة دسمة كهذه. فقد عاش ويتمان في زمن تقليدي، محافظ، قاس، ومزدوج المعايير إلى حد جعل شاعرة كبيرة كإميلي ديكنسون، معاصرة له ومنحرفة جنسياً مثله، تجهر بالقول أنها "لم تقرأه لأن ثمة من أخبرها أن شعره مشين"! علينا أن نتخيل فقط كيف أطبق أريستقراطيو عصره بأيديهم على أنوفهم وهم يقرأون بيته الشعري القائل: "إنّ رائحة هاتين الإبطين لهي أريج أعبق من الصلاة". وهل ثمة ما هو أفظع من أن يُشبه شعره بالقيء؟! غير أنّ ما قوّى عزيمة ويتمان على الإستمرار في إطلاق "صرخته الهمجية فوق سطوح العالم"، ما جاء على لسان الشاعر والفيلسوف الألمعي "رالف والدو إمرسون":

"كتابك هذا هدية رائعة، وهو النتاج الأدبي الأكثر ذكاء وحكمة من بين كل ما أنتجته أميركا حتى الآن... إنني أحييك وأنت تخطو خطواتك الأولى نحو حياة أدبية عظيمة". أبراهام لنكولن هو الآخر أشاد بعبقرية ويتمان وشاعريته.


الزمن وحرباء النقد:

مع مرور الوقت وتوالي الإصدارات من مجموعة ويتمان، فإن النقد لم يبق على حاله، بل راح يتخذ منحى أكثر تعاطفاً مع تجربته الشعرية. وبعد موته بوقت قصير، كأنما تعويضاً عن الإهمال الذي لحق به في حياته، بدأ النقد ينكّب على دراسة أشعاره وسيرة حياته. وبدأت كتب تظهر تحت عناوين مثل:"ويتمان بوصفه هيغلي"، "ويتمان بوصفه متجاوزاً لعصره"، "ويتمان بوصفه نبي الذات والديمقراطية وحكومة العالم"، "ويتمان بوصفه الأميركي الأكثر أصالة بين الشعراء الأميركيين، " ويتمان بوصفه مسيح جيلنا" الخ...

وعموماً فإن النقد تركّز على أربعة من وجوه ويتمان: كمجدد في الكتابة الشعرية ، كمختبر للغة، كشاعر للديمقراطية، وكنبي للذات. وبدا أن ثمة إجماعاً على كون ويتمان الشاعر الأميركي الوحيد الذي استعان بأشياء وعناصر من الحياة والطبيعة، أصيلة، فطرية، شعبية، نافحاً فيها من روحه الشعرية ومن وجدانه الأصيل، إلى حد يتعذر معه الفصل بين حياته وأشعاره، فهوالقائل: "يا رفيقي، هذا ليس كتاباً / من يلمسه يلمس إنساناً".


لقد بات في نظر النقد شاعر البشرية جمعاء إذ أن محبته اللامشروطة لم تستثن أحداً، حتى ولا عاهرة. وإضافة إلى اعتباره شاعر الواقعية والحقائق والديمقراطية، فإنه أيضاً بات يُنظر إليه في وصفه شاعراً رائياً، ليس لأنه يرى إلى المستقبل فحسب، بل لأنه يرى إلى الحاضر أيضاً، وإلى عمق الأشياء من حوله حتى لتتبدّى له معجزاتها الصغيرة.

تبنى ويتمان في كتاباته الأفكار الفرودية في التحليل النفسي المعاصر، فهو لم يتناول الجنس كوسيلة جسدية رومانسية للتعبير عن الوجدان العاطفي، بل كموضوع حياة وكطاقة تستفز الوعي والمعرفة لدى الإنسان. وفي النظر إلى كل ما تقدم، كان من البديهي أن كتابة شعرية كهذه، مندفعة بنَفَس جديد منرئة جديدة، لا بد أن تحتاج إلى جسد لغوي جديد أيضاً، يستوعب أفقها الإنساني اللامحدود ويخرجها من حدود القافية والوزن والقوالب الشعرية الجاهزة إلى فضاء الكتابة الحرة الرحب.

كان من البديهي لروح شعرية كونية شمولية، تجسّد أميركا في وصفها مزيجاً من حضارات الشعوب، أن تتشرّع على احتمالات جديدة لخلق نموذج كوزموبوليتاني للتعبير عن الذات. والواقع أنّ المنحى الراديكالي الذي اتخذه ويتمان شعرياً وفلسفياً لم يتسم بمستوى الجرأة ذاته في ما يخص الجنس. فأشعاره حين تتناول الموضوع الجنسي، تتحاشى تحديد جنس الحبيب حتى ليبدو محتواها إندروجينياً إلى حد ما. مع ذلك فإن ويتمان احتفى بالطبيعة الجنسية للإنسان وبعالم غرائزه في وقت كانت فيه حشمة ولياقة سلوك الآداب الفيكتورية تأبى مجرد الإشارة إليهما. يقول في قصيدة بعنوان"أغنية الدرب المفتوح": "سأذهب إلى الضفة لدن الغابة وأضحي بلا قناع، عارياً". العري له هو شرط الحريه، ودربه المفتوح هو الذي فتح الدرب لاحقاً، للبيتز مثلاً، في الخمسينات، في تبني فكرة حب الرجال. لم ينتمِ ويتمان طوال حياته إلى كنيسة خارج ذاته وشعره. في نظره كل ما في الطبيعة والحياة مقدس وليس الله وحده. كذلك لم يكن مسكوناً بنوستالجيا الماضي، فقصائده لم تعرف وجهة لها غير الأمام، في حركة تستدعي نهوض الإنسان من حاضره وواقعه. آدم ويتمان الجديد يبدأ من نفسه، يخلق نفسه أولاً ومن ثم موطنه، أي على النقيض تماماً من وجهة نظر إليوت القائل: "الوطن هو المكان الذي يبدأ منه الفرد". اكتشاف الماضي والعودة إلى الأصل هما في نظر ويتمان طريقان ينحدران إلى أرض الأموات.

ونتساءل: هل كان آدم ويتمان المنشغل بكيفية الإرتقاء بنفسه إلى معرفة تتجاوز فيعمقها معرفة الأصل والفصل، أكثر تقدمية وتحضراً من آدم اليوم التائه الذي لا يستقيم لوجوده معنى خارج حدود الهوية والجذور والإنتماء؟


أريستقراطي الروح:

كان ويتمان موضع تقدير كبار شعراء القرن العشرين في انكلترا، أمثال: تنيسون، سوينبرن، وايلد، هوبكنز، إدوارد داودن، روزيتي وغيرهم. اعتبر سوينبرن أن عظمة ويتمان توازي عظمة وليم بليك، فهما في رأيه شربا من النبع العميق ذاته، وأشعارهما استمدت قوتها من تلك الطاقة الخارقة للعناصر والأشياء الخالدة. لكن ويتمان لم يحظ بالتقدير نفسه من اثنين من أكبر شعراء أميركا: ت. س. إليوت وعازرا باوند. وليس سراً أن أناشيد باوند ورباعيات إليوت لم تخل جذورهما من نسغ ويتمان الواضح، لكن مقت هذين الشاعرين للحرية الأميركية بكل أيديولوجياتها ورموزها الوطنية وصانعي أحلامها هو ما دفعهما إلى التقليل من شأن ويتمان وإنجازاته الشعرية.

من جهة أخرى ثمة بين شعراء الحداثة من تأثروا بويتمان وأبرزهم: هارت كرين ود. ه. لورانس وديلان توماس. هؤلاء على رغم البون الشاسع بين أساليبهم الشعرية، شربوا جميعهم من النبع نفسه، فجمعهم بويتمان من المميزات الشعرية ما فرّق بينهم. في رأي النقد أن ما يجمع كرين بويتمان هي تلك الرؤية الشعرية الأسطورية لتجربة أميركا، وما يجمع لورانس به هو هذا الإنفعال والهذيان الروحاني الباطني لأشعاره. في حين أن أشعار توماس جاءت لتذكرنا بذاك النَفَس الملحمي الويتماني المليء بالتعاويذ والحكم البدائية.


اعتبر د. ه. لورانس أن "ويتمان أعظم شعراء الحداثة في أميركا، وأنه ليس أرستقراطي المنشأ بل أرستقراطي الروح، وأن الأميركيين لا يستحقونه". ومما قاله هنري ميللر في ويتمان: "أنا لم أفهم أبداً لماذا وجبت تسميته الشاعر الأشيب الطيب، في حين أن لون لغته، مزاجه، كيانه برمته، هو الأزرق المثير "، ويعلّق في مكان آخر أن "ويتمان لم يكن إطلاقاً شاعر الجماهير، بل كان نائياً عنهم كقديس عن أعضاء كنيسة "مضيفاً" ما من شاعر مثله تحلّى بهذه الرؤية الشمولية، حيث ما من حواجز تعيقه عن التواصل مع أي شيء حتى مع الشر". أيضاً اعتبر ميللر أن الشاعر الوحيد الذي يمكننا مقارنته بويتمان هو دانتي، إذ أن الأخير يرمز إلى القرون الوسطى، في حين أنّ ويتمان يجسد في شعره الإنسان المعاصر الذي حتى الآن لم نحظَ به ولا بالحياة العصرية التي تغنى بها! وأعلن بابلو نيرودا قائلاً:"على رغم أن لساني إسباني، غير أن والت ويتمان علّمني أكثر من ثرفانتس إسبانيا. في نتاجه لا يمكننا الوقوع على جهلاء مهانين او أي وضع إنساني مُساء إليه بطريقة ما". بعض النقاد الأميركيين اعتبروا أن سعي ويتمان إلى إعادة تعريف الطبيعة الجنسية وماهية الجسد هما من الأسباب التي جعلته لاحقاً مثالاً أعلى يحتذيه بعض المثليين والمثليا تجنسياً في عالم الأدب والفن أميركيا وعالمياً، ومنهم الشاعر الأميركي آلن غينسبرغ الذي كتب فيه قصيدته الشهيرة:"سوبرماركت في كاليفورنيا" و فيها كان يتحسّرعلى حلم أميركا الضائع؛ حلم ويتمان الذي أضحى كابوس غينسبرغ. الكتّاب السود في أميركا أيضاً تأثروا بويتمان، وعملوا على تبني نموذجه الشعري وتوظيفه في صراعهم ضد التفرقة العنصرية والإمتيازات الإقتصادية.


من جهة أخرى لم يخلُ النقد الأميركي بتاتاً من بعض المآخذ السلبية على تجربة ويتمان. الشاعر الأميركي وليام كارلوس وليامز على سبيل المثال أشاد بعبقرية ويتمان لكونه تنبّه منذ البداية إلى أن مشكلة الشعر تكمن أساساً في الشكل وفي التقنية واللغة، غير أنه لاحظ أن جهود ويتمان لم تستمر في التركيز على اللغة والشكل والمفردات، بل انشغلت عنها لاحقاً بالتركيز على المضمون الشعري ورسالته الإنسانية عن الديمقراطية.

وعليه فإن تأثير ويتمان على شعراء الحداثة، فاقت مفاعليه النظرية والفكرية تلك اللغوية. الناقد "لويس تركو" أيضاً قدّر ويتمان لأفكاره الشعرية، غير أنه في ما يخص شكل القصيدة ومساهمة ويتمان في تحرير البيت الشعري، أصرّ على أن ويتمان لم يخترع جديداً، إذ أن الكلدانيين سبقوه إلى ذلك في ملحمة جلجامش منذ بدء التاريخ!





هذي دمشقُ وهذي الكأسُ والرّاحُ
إنّي أحبُّ... وبعـضُ الحبِّ ذبّاحُ
أنا الدمشقيُّ لو شرحتمُ جسدي .. لسالَ منهُ عناقيـدٌ وتفـّاحُ
ولو فتحتُم شراييني بمديتكم .. سمعتمُ في دمي أصواتَ من راحوا
زراعةُ القلبِ تشفي بعضَ من عشقوا .. وما لقلبي إذا أحببتُ جرّاحُ
مآذنُ الشّـامِ تبكي إذ تعانقني .. وللمآذنِ كالأشجارِ أرواحُ
للياسمينِ حقـوقٌ في منازلنا.. وقطّةُ البيتِ تغفو حيثُ ترتاحُ
طاحونةُ البنِّ جزءٌ من طفولتنا .. فكيفَ أنسى؟ وعطرُ الهيلِ فوّاحُ
هذا مكانُ "أبي المعتزِّ".. منتظرٌ ووجهُ "فائزةٍ" حلوٌ ولمّاحُ
هنا جذوري هنا قلبي .. هنا لغـتي فكيفَ أوضحُ؟
هل في العشقِ إيضاحُ؟

- - - - - - - - - - - - - -
(أعشق وطني والمطر)