عرض مشاركة واحدة
قديم 06-29-2016, 01:39 PM
المشاركة 60
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
دخلنا البيضاء صباحا بعد أن طوينا سبعمئة كيلومتر على ظهر مركبة عمّي ، زرنا خالتي في منزلها ، زرنا ابن عمّتي التي رافقتنا ، خالي الذي كان في المكتبة أصبح بيضاويا ، قد تكون الرحلة استغرقت مدّة قصيرة ، بضعة أيام فقط ، لكنها كافية لأعرف بلدي أكثر ، لأطّلع على أحوال أبناء بلدتي في البيضاء ، جلّهم يعانون في حياتهم ، هؤلاء المراهقون الذين يأتون صيفا بملابس مدنية أنيقة ، حياتهم هنا مقزّزة ، أجورهم أزهد من زهيدة ، كنت دائما أشمّ رائحة التعالي في مشيتهم ولم أجد لها مبرّرا ، يتحدّثون بلسان بيضاوي أحرش كلّما جاؤوا لزيارة الملت ، الآن عرفت لماذا ، إنها عقدة الدونية ترافقهم ، إنها لحظة تعويض عن كرامة مفقودة ، هؤلاء الذين سلخوني في موسم الرماة ثلاثة منهم هنا في البيضاء ، ابن عمّتي و ابنا عمّه و واحد من أبناء موسى وغيرهم كثير ، يعملون في مهن مختلفة ، لكن حالهم لا توحي بخير ، الآن عرفت لماذا يعود بعضهم بعد فترة إلى القرية مهزومين وقد أكلت المدينة زهرة أعمارهم ، أين المفرّ يا إخوان ، أنا الذي كنت أفكر في مغادرة الدّراسة ، إلى أين ستتجه يا نورالدين ، على الأقل المدرسة تسترنا ، هل أستطيع أن أتخلّى عن إنسانيتي لأعيش في البيضاء ، هل أنا أتحمّل الإهانة اللفظية ، لأتحمل ماهو أكبر منها ، أن تهان في إنسانيتك ، في مأكلك ، في مشربك ، في مسكنك ، في ثقافتك ، في وجودك ، ما هذا ؟ هل الحياة قاسية إلى هذا الحدّ ، لم أعلم هذا ، لم أكن أعرف أنّنا في القاع ، رأيت الكاريان ، رأيت الفئات المغلوبة على أمرها ، رأيت منبع "مهمومة "، رأيت و رأيت ، رغم أن عمّي يقصد في الغالب الأماكن الأكثر بهاء ، لكن كلّما هممنا بزيارة واحد من معارفه ، وجدت الحقيقة المرّة . رغم أنّنا شربنا القهوة في رحاب مقهى حياة ريجنسي ، أكبر فنادق البيضاء يومها ، و جلسنا على كورنيش عين الدياب و شربنا العصير بأضعاف أثمانه ، و رأيت فتيات اللّيل وجمالهن الخلاّب، كسواتهنّ وأحذيتهنّ من الماركات العالمية ، رغم هذا كلّه أحسست انقباضا يلفّ كياني ، خطفنا خطفة إلى مدينة المحمديّة ، أمضينا فترة الظهيرة على رمال شاطئها المنبسط الجذّاب ، يكاد يكون مشابها لشاطئ أكادير . رجعت من البيضاء وكلّي يقين أن النّاس يبدعون في تزييف حقائقهم ، كلّما رأيت أسرة ترفل في الخيلاء عندما تأتي إلى القرية ، و حقيقتها الهشّة في البيضاء ، وجدتني ، لا أستطيع أن أكون من سكّان هذا الكوكب ، عذرا أبي سامحني ، يوما غضب غضبا مريعا و سبّني سبّا رديئا ، لماذا لأنّني أكثر من متابعة كرة القدم . كان يعرف واقعه علم اليقين ، وكان يعرف حياة اللاعين في الدّيار الأوربية . لا يحقّ لي يا أبي أن أفرح بهم ، إنها خدعة كبرى ، نفرح لأفراحهم ، و نبكي لأتراحهم الزائفة ، فمن يشاركنا نحن هذا العويل الصّامت ، الذي نجد من العار البوح به ، و من العار النطق به ، بل يجب أن تستمر ، يجب أن تناضل و لو أنك ترى الأبواب موصدة عن آخرها .

موسم رماة تغزوت ، في اللّيل تتجه فرقة أحواش إلى الملعب ، يتقدمهم عميدها ، في صفّ يدخلون لكأنهم نسخة مكرّرة ، لا ترى غير الأبيض سروالا و قميصا و جلبابا و جوارب و نعالا و عمامة خفيفة كعصابة يشدّ بها رأس الراقص، الدفوف تحمى جلودها حتى تطن طرقاتها طنينا حاداّ ، تتناغم الإيقاعات بشكل عجيب ، و يتناوب أصحاب الدفوف في أخذ الريادة و استراق أضواء صعود الرقصة ، الراقصون في حركات متناغمة باليدين تتوج بتصفيقات مفصلة على مقاس الإيقاع ، تنخرط الأكتاف في ارتعاشة مميزة ، فينتقل مسّ أحواش السحريّ إلى الأرجل فتتوالى حركاتها العجيبة و ضرباتها على الأرض المرشوشة ماء اتقاء الغبار الكثيف ، لسان الراقصين لا يتوقف عن إنشاد آخر مقطع ممّا صدح به الشاعر منذ بداية الرقصة ، دخلت الصفّ وعمّي عبد السّلام لجولات عديدة ، أحسست انشراحا باهرا ، شيء في دواخلنا يحبّ هذا التماهي مع الإيقاعات ، مع ألحان الأشعار ، مع صوت الطبيعة .