عرض مشاركة واحدة
قديم 03-04-2023, 09:31 AM
المشاركة 661
عبد السلام بركات زريق
مشرف منبر الشعر الفصيح

اوسمتي
الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الثانية المشرف المميز الألفية الأولى الحضور المميز 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي رد: فقه اللغة وسرُّ العربية / الثعالبي
الفصلُ السّادسُ والخَمسونَ


في إضَافَةِ الفِعْلِ إلَى مَا لَيْسَ بِفَاعِلٍ عَلَى الحَقِيقَةِ



مِنْ سُنَنِ العَرَبِ أنْ تُعَبِّرَ عَنِ الجَمَادِ بِفِعْلِ الإنْسانِ، كما
قالَ الرَّاجِزُ (امتَلَأ الحَوضُ وقال قَطْني)
ولَيْسَ هناكَ قَولٌ، وكمَا قالَ الشَّمَّاخُ:

كأنِّي كَسَوْتُ الرَّحلَ أحْقَبَ سَهْوَقًا
أَطَاعَ لهُ مِنْ رَامَتَينِ حَدِيقُ


فَجَعَلَ الحَدِيقَ مُطيعًا لِهذَا العَيْرِ لمَّا تَمَكَّنَ مِنْ رَعِيِهِ، والحَدِيقُ
لَا طَاعةَ لهُ وَلَا مَعْصِيةَ، وفي كِتابِ اللّهِ عَزَّ وجَلَّ {فَوَجَدا فِيهَا
جِدارًا يُريدُ أنْ يَنْقَضَّ}1 ولَا إرَادَةَ للجِدَارِ ولكنَّهُ مِنْ تَوَسُّعِ
العَربِ في المَجَازِ والاسْتِعَارَةِ، قال الصُّوليُّ: ما رأيْتُ أحَدًا أشَدَّ
بَذَخًا بالكُفْرِ مِنْ أبي فِرَاسٍ ولا أكْثَرَ إظْهَارًا لَهُ مِنْهُ ولَا أَدْوَمَ
تَعَبُّثًا بالقُرْآنِ، قالَ لِي يَوْمًا ونَحنُ في دَارِ الوَزيرِ أبي العَبَّاسِ
أحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ نَنْتَظِرُ مَجِيئَهُ: هَلْ تَعرفُ لِلعَرَبِ إرَادَةً
لِغَيْرِ مُمَيِّزٍ؟ فَقُلْتُ: إنَّ العَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الجَمَادَاتِ بِقولٍ ولا
قَوْلَ لَهَا، كَمَا قالَ الشَّاعِرُ (امْتَلَأَ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي) ولَيْسَ
ثَمَّ قَوْلٌ، قالَ: لمْ أُرِدْ هَذا وإنَّمَا أُرِيدُ في اللُّغةِ إرَادَةً لِغَيْرِ
مُمَيِّزٍ، وإنَّمَا عَرَّضَ بِقَولِهِ عَزّ وجَلَّ {فَوَجَدَا فِيها جِدَارًا يُريْدُ
أنْ ينْقَضَّ فأقامَهُ} فَأيَّدَني اللّهُ عزَّ وجلَّ بِأنْ تَذَكَّرتُ قَوْلَ
الرَّاعِي:

في مَهْمَهٍ فُلِقَتْ بِهِ هَامَاتُها
فَلْقَ الفُؤوسِ إذا أرَدْنَ نُصُولَا

فكأنّي أَلْقَمْتُهُ الحَجَرَ! وسُرَّ بِذَلكَ مَنْ كَانَ صَحيحَ النِّيَّةِ، وسَوَّدَ
اللّهُ وَجْهَ أَبي فِرَاس.
والعَرَبُ تُسّمِّي التَّهَيُّؤَ لِلفِعْلِ والاحْتِيَاجَ إلَيهِ إرَادَةً. قَالَ أبُو
مُحَمَّدٍ اليَزِيديّ: كُنْتُ والكِسَائيّ عِنْدَ العَبّاسِ بْنِ الحَسَنِ
العَلَويّ فَجَاءَ غُلامٌ لهُ وقَالَ: يا مَوْلَايَ كنتُ عِندَ فُلانٍ فإذَا
هُوَ يُريدُ أنْ يَموتَ فَضَحِكْنَا! فقالَ: مِمَّ ضحكْتُمَا؟ قُلنَا: مِنْ
قَوْلِهِ يُريدُ أنْ يَموتَ، وهلْ يُريدُ الإنسان أنْ يَموتَ؟ فَقَالَ
العَبَّاسُ: قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى {فَوَجَدا فِيها جِدَارًا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضَّ
فأقامَهُ} وإنما هَذَا مكانُ (يكاد)؛ فَتَنَبَّهْنَا والله أعلم.


1 "77" من سورة الكهف.