عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:36 PM
المشاركة 23
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
مرض نفسي

بقلم الأستاذ عبد الرحمن صدقي

قال هيني شاعر الألمان بأسلوبه اللاذع الصادق في إحدى رسائله: الإنسان أزهى الحيوان كافة، والشاعر أزهى بني الإنسان فإذا أضفنا إلى ذلك اعتقاد العربي بأن أمته خير أمة أُخرجت للناس عامة فكل من عداها أعاجم، وأن قبيلته من بين القبائل أكرمها خاصة، حتى بلغ من العصبية أن صارت الأنساب علمًا له المقام الأول بين العلوم، وإذا أضفنا من الناحية الأخرى اعتقاده بفضل اللغة العربية على سائر اللغات، وأن أبناءها هم دون سواهم المطبوعون بالفطرة على الشعر، فقد اجتمعت لنا من هذا جميعه صورة صحيحة، أو هي أقرب ما يكون إلى الصحة، عن جنون العظمة عند شاعر العربية الأكبر أبي الطيب المشهور بالمتنبي. كان أبو الطيب من أصل وضيع خامل، وأبوه الحسين يعرف بعبدان السقا. وكان فيما يقال سقاء بالكوفة يستقي على جمله لأهل محلة بها اسمها كندة. والمأثور عن أبي الطيب حرصه على تكتم نسبه، وقد سئل في ذلك فقال يلتمس وجه الحجة: (إني أنزل دائمًا على قبائل العرب وأحب ألا يعرفوني خيفة أن يكون لهم في قومي ترة).
ولكنه مع هذا الذي رأينا من خمول نسبه، ما برح منذ الحداثة شامخًا، مصعرًا خده، ينفخ شدقيه بالمفاخرة والتعاظم فلا يقف عند نفسه بل يتجاوزها إلى ذكر جدوده:

لا بقومي شرفت، بل شرفوابي وبنفسي فخرت، لا بجدودي

وبهم فخر كل من نطق الضــ ـاد، وعوذ الجاني وغوثالطريد


وفي قصيدة أخرى على لسان أحد التنوخيين، ينفي الكرم عن غير اليمانية وهم الأرومة العاربة التي إليها تنتمي في القدم سلالات بينها شعبة شاعرنا الجعفي:

ومجدي يدل بني خندف على أن كل كريم يمان


ولولا شعور المتنبي بتواضع نسب أبويه لما قنع بالإشارة إلى عشيرته مرات قلائل، وعلى هذه الصفة من الإيجاز والتعميم، ولما انفك يقرع الأسماع ويجلجل الآفاق بذكر آبائه والإشادة بضخامة حسبهم في كل قصيدة، بمناسبة وغير مناسبة، ذهابًا مع ما درج عليه العرب من الفخر بالأنساب، وما انطبع هو عليه من غلواء الكبر والتعالي على الخلق. وليس أدل على هذه الغضاضة المكتومة من طريقته في تركيزه العظمة في نفسه، ثم استدراكه إلى ذكر قومه أنفة من الاستخذاء وخيفة أن يؤخذ سكوته عنهم تسليمًا بخفاء شأنهم وحطة قدرهم. وقد تقدم للقارئ في البيتين السابقين مثال على طريقة الشاعر في التركيز والاستدراك، ونزيد عليهما بيتين من قصيدته الشجية في رثاء جدته:

ولو لم تكوني بنت أكرموالد لكان أباك الضخم كونك ليأما
وإني لمن قوم كأن نفوسنا بها أنف أن تسكن اللحموالعظما

وطبيعي أن يكون لهذا التحرز عند ذكر الحسب ردة فعل في ضمير صاحبنا، وانتقاض بقدرما يعانيه من كان في مثل كبره من الحزازة والكبت. فإنه ليعتاض مما فاته من تفاخر بحسبه ونسبه، بالذهاب إلى الشأو الأبعد في الاعتزاز بنفسه، والمغالاة بقدره، والاستطالة على من واه. وليست تعوزنا الشهادة على ذلك في ديوانه وفي سيرة حياته، بلإن ذاك وتلك لا يشهدان على شيء إن خفيت دلالتهما على جنون العظمة عنده. فاستمع إليه يصف مقامه في الناس وإرباءه على الأكفاء وتميزه عن النظراء بما يجعله صنو الأنبياء:

ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام (المسيح) بين اليهود

أنا في أمة تداركها الله غريب "كصالح" في ثمود

وفي قوله هاجيًا:

يا لك الويل، ليس يعجز (موسى) رجل حشو جلده فرعـون

وهو يعلم من نفسه خيلاءها وعجبها فلا يصطنع المداجاة، ولا يحتال باعتذار، ويأبىله صدق إيمانه بنفسه وعمق يقينه إلا أن يصدع بقول لا جمجمة فيه بأن الكبرياء حقه لامنازع له فيه:

إن أكن معجبًا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد
وهذا الإحساس المفخم تتردد أصداؤه في كل قصيدة حتى ولو كان في موقف العبرة أمامالموت كقوله عن نفسه في مرثيته لجدته:

تغرب لا مستعظمًاغيرنفسه ولا قابلاً إلا لخالقه حكما


بل إنه ليقع في دخيلة روعنا منه أنه في تسليمه هنا للقضاء لينطوي على مضاضةالرغم، وأن هذا الشطر الأخير منتزع منه انتزاعًا. فإننا نعرف الرجل متمردًا على كلسلطان، مستخفًا بكل شيء، وإن لنا من تصرفه كدعوى النبوة في صباه، وتركه للصلاةوالصيام طيلة حياته، ثم من مبالغاته الكفرية في بعض تشبيهاته لممدوحيه، ما يشعرنامنه ضعف العقيدة ورقة الدين. وهل يستشعر خشعة التقوى من يقول ذات يوم ولو في مقامالفخر:

أي محل أرتقي؟ وأي عظيم أتقي؟
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همتي كشعرة في مفرقي