عرض مشاركة واحدة
قديم 11-28-2011, 05:28 PM
المشاركة 25
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي
تحدث القادري :
- منذ زمن بعيد تعرّفت زهرين على رجل طيّب بسيط انبثق فجأة من بين ركام الفقر الذي كان يحوّط الناس في ذلك الوقت. جاءنا الهادي يحمل قفّة جمع فيها بعض أدوات الزينة من " سواك" وأمشاط ومناديل... يبادلها لنساء القرية مقابل بعض قمح أو شعير أو كمية من الصوف. وكانت طيبة نفسه وطول صبره وابتسامته التي لا تفارقه سببا في حبّ الناس له.
كان نحيفا, وفقره مرسوم على ثيابه البالية وقدميه الحافيتين. كان يحبّ صغار القرية فيمنحهم بعض قطع من السكر أو الحلوى مجانا.
وبرغم آثار السنين المحفورة على جبينه, والتعب الذي يغلّف عينيه الواسعتين لم نسمع منه كلمة سخط أو ثورة على وضعه.
" تفّ " على الأيام كم تظلم وتطغى.
الهادي لم يظلم أحدا, لم يتعدّ حتى على حجارة زهرين. لذلك كنا نحبه فلم نمنع نساءنا عن مساومته وقضاء حوائجهن منه.
كنت تراه راضٍ إذا وضع قفته على الأرض وحوّطته النساء يسألنه عن كل شيء, ويقلّبن كل شيء.
- الهادي...
- عيوني.. تحت أمرك.
- عندك "سواك"؟
- عندي يا " لَلَّه".
- بكم هذا الفستان؟
- بكم يناسبك يا عروسة؟
- لا يعجبني. لونه داكن بعض الشيء.
- عندي غيره. انظري هذا إنه خيط ليناسب مقاسك.
- يا.. يا الهادي اهتمّ بي قليلا.
- يا.. سآخذ هذين الصحنين بإبريق قمح فقط.
- حاضر " لَـلَّه".
- سأشتري منك هذا الفستان على شرط أن تعطيني مشطا مجّانا.
- حاضر " لَـلَّه".
حاضر " لَـلَّه"... حاضر " لَـلَّه"... لم تكن تسمع منه إلا هذه العبارة. يُرضِي الكلّ ولا يغضب أحدا.
لكن بعض النساء تحدّثن عن أمر لم نصدّقه, ونلن جزاءه عقابا من أزواجهن.
تحدثن عن اهتمام الهادي بلطيفة بنت الكامل. كانت في غاية الحسن والدلال. صحيح أنها فتنت الشباب, صحيح أنها تقابل الهادي وتشري منه. لكن أن تنظر إليه, تعشقه. هذا محال, هو في الأربعين يجرّ الخصاصة جرّا, وهي يانعة لم تتخطّ عتبة العشرين, مازالت أزهارها تتفتّح وأريجها يفوح.
قالت العجوز عائشة:
- إن الهادي حين يلحظ لطيفة يترك كل شيء وينهشها بعينيه الفائضتين جوعا.
وتحدثت زينة خفية, وبعيدا عن سمع زوجها:
- إنه أهداها سراويلا صفراء فاقعة اللون. وأن لطيفة غمزته وهمست له بحديث لم يتبيّنوا كنهه.
ووشوشت الخامسة زوجة عمها في أذني عبد الملك أخوها:
- أختك انفرط عقد الحشمة منها وحلّت شعرها عن آخره وستفضحنا إن لم تشكمها وتردعها.
وثار أخوها وأزبد وأرعد وصبّ جام غضبه في لطيفة لولا رحمة الناس بها وتأكدهم من طهارة الهادي.
أشعل القادري سيجارة أخرى أخذ منها نفسا تبعه سعال عنيف يظنه غير العارف به أنه لن يتوقّف. ولما خفّت النوبة واصل حديثه يقرأ الأفق ويستحضر شريطا تراكم عليه غبار السنين...