عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 04:10 PM
المشاركة 11
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
ِأوراق ساخنة (5): في البدء كان العقل

إن الدارس لتاريخ الفكر يلاحظ أهمية الدور الذي لعبه العقل وما يزال يلعبه، في بناء المعرفة الإنسانية ونشر الوعي، وبناء الحضارة، وبالتالي السعي للوصول إلى الحقيقية المطلقة، ويبرز دورالعقل في كافة المناهج سواء الأسطوري، أو الطبيعي، أو التجريبي، أو الديانات الأرضية، أو الديانات السماوية، وكافة المناهج الفلسفية الأخرى، وعلى رأسها طبعًّا المنهج العقلاني.

فحينما سأل الإنسان الأول الأسئلة الوجودية عن أصل الأشياء، وعن كثير من الظواهر الطبيعية التي حوله، جاء الجواب من العقل، الذي أوجد الأجوبة، وبالتالي وضع الأسطورة كإطار منظم لتقديم التفسير العقلاني لتلك الظواهر، والإجابة عن التساؤلات التي انبثقت عن الوعي.

فالعقل إذاً هو أداة الإدراك والوعي الأولى إلتي حاولت تفسير وجود الإنسان، بما هو منطقي وعقلاني، حتى ولو كان أسطوريًّا من نسج خيال الإنسان، وقد فعل الإنسان ذلك مدفوعًّا بحاجته لتحقيق نوع من التوازن، ولكي يحفظ العقل نفسه من الضياع، أو الجنون، وفقدان السيطرة، ولكن العقل، على الرغم من الفلسفة التفسيرية التبريرية، التي وضعها واعتمدها، ظل في حالة نشاط دائم يبحث عن الحقيقة والإجابات الشافية، وكأن لسان حاله يقول إن هذا الإطار الفكري المنظم والمفسر (الأسطورة) هوإطار مؤقت، وتفسير آني للوجود وللظواهر الطبيعية، يخدمني أنا العقل الآن لكي أستمر، لكنني لن أتوقف عن البحث عن الحقائق والمعرفة الكاملة، التي هي الهدف الأسمى للنشاط الذهني والعقلي.
لذلك ومن خلال تجارب الإنسان مع البيئة المحيطة، وحالة القلق التي تولدت لدى الإنسان المفكر، بأن ما يؤمن به من أساطير صنعها العقل، لم تعد تقدم أجوبة منطقية شافية يقبلها العقل نفسه، ومن خلال نضوج العقل، ورفضه الاستمرار بالأخذ بالأطر القائمة على أنها تقدم التفسير المطلق والنهائي، لذلك دفع العقل بالإنسان لتوسيع دائرة البحث، وتوسيع الإطار الفكري والمعرفي الذي سبق أن وضعه، بهدف تحقيق التوازن المتمثل في الأسطورة، وبهدف استكمال رحلته في البحث عن الحقيقة، من هنا رفض العقل الاستمرار في التسليم بهذا القائم الذي اهتزت أركانه، وأصبح مشكوكًّا في صحته وصلاحيته.

ومن هنا أيضًّا، دفع العقل الإنسان للبحث عن منظومة فكرية جديدة كبديل لما هو قائم، لذلك توجه الإنسان للبحث في الطبيعية، باستخدام الحواس بديلاً عن الإيمان بآلهة الأسطورة الخيالية، لعله يجد التفسير المقبول لأصل الأشياء، ومع ذلك ظل العقل، مرحليًّا، يؤمن بالأسطورة في خط متواز ومتزامن مع أساليب البحث الحسية الجديدة المتمثلة في استكشاف الحقيقة، من خلال الحواس والتجريب، وذلك بسبب حاجة العقل الدائمة لوجود مثل ذلك الإطار التفسيري أياً كان؟ لحين تكوين البديل المقبول، وهذا ما مثل ولادة الفلسفة، وتحديدًا فلاسفة الطبيعية الذين قدموا تفسيرًا جديدًا للوجود.
وكلما حقق العقل نجاحًا منطقيًّا من الإدراك والمعرفة والوعي،(بمعنى أنه يدهش العقل ويدفعه لقبوله)، مثَّل ذلك يمثل بديلاً للفكر السائد. وعليه كان العقل يأخذ به، فتنحسر الحاجة للفكر السائد، مثلاً الأسطورة، لصالح الفكرالجديد الذي يمثل إطارًا جديدًا أعم وأشمل، ويقدم إجابات أوفى وأكثر منطقية.
ويظهر أن العقل بطبيعيته، وبهدف الحفاظ على توازنه، واستمراريته يتمسك مرحليًّا بالإطار الذي يقدم أفضل التفاسير في حينه، وأحيانًا كثيرة يصبح التخلي عن المنظومة الفكرية السائدة أمرًا يكاد يكون مستحيلاً، وهو ما يعرف حاليًّا بالقلق الناتج عن التغيير، والذي يتحول في أحيان كثيرة إلى توتر، ومن ثم إجهاد مرضي، يدفع الفرد للاستماتة في التمسك بما هو قائم. ورغم ذلك يستمر العقل في البحث عن الإجابات الشافية، مدفوعًا بحب المعرفة والحقيقة، ونظرًا لإن الإطار المعتمد والقائم يمثل مسلمات نسبية، لم يتمكن العقل يومًا من تقديم إجابات كلية شافية لها. ومن هنا جاء الفلاسفة الذين رفضوا التفسير الأسطوري للأمور، ونادوا بالأخذ بالمعرفة التي تتحصل من خلال الحواس، على اعتبار أن المعرفة تتحصل من التجربة الحسية.
ولكن العقل لم يتوقف عند ذلك، وبالنمط نفسه تقريبًا من حيث عدم التسليم بما هو قائم جاء سقراط العقلاني، ليعتبر أن العقل هو أساس المعرفة، وعلى أساس أن الحواس مصدر للشبهة، وأن المعرفة تتأتى من العقل نفسه قبل التجربة. وعليه ينظر إلى العقل على أساس أنه هو مصدر الأفكار، ويمثل طرح سقراط رفضًا لطرح الفلاسفة الطبيعيين إذًا، ولما سبقه من أفكار، وتقديم العقل على ما سواه.

كما أن أفلاطون جاء، بدوره، بتفسير جديد لعمل العقل، حيث اعتبر أن العقل عبارة عن جهاز استقبال الأفكار الأزلية الموجودة في عالم الأزل، وليس هو مصدرها، كما قال سقراط، ويصر أفلاطون على أن المعرفة الحقيقية تقتضي الانتقال من العالم الحسي إلى عالم المعقولات، حيث يفهم العقل وحده موضوعاته، ويرى بأن النفس البشرية التي كانت تعيش في عالم الأزل، وتعرفت على الأفكار هناك مقرها العقل.
أما أرسطو الذي اعتمد البحث الميداني كأساس للوصول إلى المعرفة، فقد قدم نظريته في الطبيعة الإنسانية، والتي جعلت العقلانية Rationality الصفةالمميزة، التي تعرف الإنسان على أنه "حيوان عاقل" مؤكدًا في كتابه "الأخلاق" على أن سعادة الإنسان السامية تكمن في ممارسته قدرات العقل النظرية الخالصة، وعلى الرغم من أنه يقدم الحواس والبحث الميداني العلمي على العقل إلا انه يعتبر العقل جهازاستيعاب المعرفة التي تتأتى من الحواس.
وقد اعتبر علماء النظرة التجريبية أن المشروع العقلاني المجرد عن التجربة الحسية لعبة انطوائية قائمة على الانغماس الذاتي للفرد، وليس لها إلا القليل من القيمة العلمية، وهو ما مثل معركة بين نهجي العقلانيين والتجريبيين ظلت قائمة ولم تحسم، وهو ما يشير إلى استمرارالعقل في نهجه من أجل الوصول إلى الحقيقة.
بينما يرى جون لوك، وهو من فلاسفة عصر النهضة، أن الوصول إلى المعرفة لا يحتاج إلى المعرفة (القبلية)، ولا يتم بواساطة الانطباعات الفطرية التي ترى بأن الحروف مطبوعة في ذهن (عقل) الإنسان ومولودة معه، لأن ذهن الإنسان عند الولادة، حسب لوك لوح أملس، وصفحة بيضاء خالية من أي حرف، والمعرفة بأصنافها اكتساب من خلال التجربة وحدها، وليس من فطرة مسبقة، لكن الفيلسوف العقلاني في المقابل (لايبنتس) في رده على جون لوك يسلم بأن الإدراك الحسي، قد يحدث المعرفة، لكنه غير كاف لاكتسابها، حيث لا توجد نظرية متكاملة في المعرفة لاتقر بالإسهام الذي يقدمه العقل نفسه. وهذا مؤشر على أن التطور المعرفي لم يقلل من قيمة الدماغ، وإنما ظل العقل ودوره في المعرفة يكتسب مزيدًا من الاهتمام امتد إلى أيامنا هذه، إضافة إلى التوسع في محاولات فهم كيف يعمل العقل، وشرح لدوره في المعرفة.
ورغم أن الأديان ذات الرسائل السماوية الموحى بها، تطرح نفسها كبديل عما سبقها من منظومات فكرية وفلسفية، لكنها لم تلغ دور العقل، فالعقل هو وسيلة الوحي في إيصال الرسالة، كما أن دور العقل لم يقتصر على نقل الرسالة أو استقبالها بل إن له دورًا في فحص ما ورد عن الوحي، واختباره وتأكيده. بمعنى أن الدين لم يلغ دور العقل، وإنما أكد عليه، وبخاصة الدين الإسلامي الذي أعطى عظيم الأهمية للعقل، ودوره في القضية الإيمانية، وإن كثيرًا من المؤمنين يفسرون الدين في ضوء العقل، ويعتبرون أنهما لا ينفصل احدهما عن الآخر.

من هنا، فقد توسع مع الأيام مفهوم العقلانية، ولم يعد مذهبًا مغلقًا بل أصبح نزعة ومنهجًا في التفكير، يميل إليه المفكرون والفلاسفة، بل والفقهاء داخل منظوماتهم، ومذاهبهم الفكرية، أو الفلسفية، أو الشرعية، مولين العقل مكانة محورية، سواء في نظرية المعرفة، أو في فهم العالم، أو تحكيم الشرع، والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله، كذلك أصبحت العقلانية تعني اقترابًا فكريًّا يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة.

وقد استثمرت الكنيسة العقل من أجل تثبيت المبادئ اللاهوتية المسيحية وخدمتها، واعتبرت العقل أداة الدين، وكذلك حاول بعض الفلاسفة المسلمين توظيف العقل للتعبير عن العقائد والأفكار الإسلامية، وللدفاع عنها ضد مهاجميها مثل الكندي والفارابي وابن سيناء الذين سعوا للتوفيق بين الدين الإسلامي والعقلانية اليونانية، وقد ذهب ابن رشد للقول إلى أن العقل هو الأساس.

ورغم النفوذ الذي تحقق للدين فقد استمر العقل في بحثه، وظل كثير من الفلاسفة يعتبرون أن العقل هو الأساس، ويرى بعض الفلاسفة أن الدين ما هو إلا مرحلة جديدة في تطور الوعي الكلي، وقد رفعت فلسفة التنوير العقل إلى درجة أرقى عنصر في الوجود، وأكدت ثقتها في قدرته على تطوير المجتمع، والتقدم به نحو الأفضل.

كل ذلك يشير بوضوح إلى أن العقل، كان وما زال وسيبقى ذا دور محوري في عملية المعرفة، والإدراك، والوعي، عند كل الأديان والمذاهب والفلسفات، وعلى رأسهم الفلسفة العقلانية سعيا وراء الحقيقة، والمعرفة الكلية الشاملة، ومن المؤكد أن مزيدًا من الفهم والتفعيل لهذا الجهاز ألإعجازي سيعني مزيدًا من الأهمية.