عرض مشاركة واحدة
قديم 11-26-2011, 09:12 PM
المشاركة 18
طارق الأحمدي
أديــب وقاص تونسي
  • غير موجود
افتراضي


وتراقصت أمامه صورة بعيدة, ولكنها واضحة.

مرّ في ذاكرته شريط يومه الأول من قدومه زهرين. ابتسم, تكلم دون صوت يحدّث الصورة المعلقة أمامه على الجدار.

لما قدمت زهرين, كانت بين جنبيّ أمان كثيرة تدفعني للسّير قدما نحو هذه القرية. هذا الإمتداد والإنعتاق الذي تبحث عنه روحي.

أنا...

الذي جرفتني الأقدار إلى هذا المكان, ودفعتني إليه دفعا, لتلهب جمرة كادت تخبو في قلي. وليتشتّت عصبي المنهوك دائما ببراكين حزن تتفجّر كلما صرت وحيدا. ولأشبع رغبة غجرية تتملكني لخوض كل ما هو مثير, وبلا نتائج. لأتعب عقلي, أقهره حتى لا يدمرني بأسئلته ويرديني في هوّة لا جوانب, ولا قاع لها من الحيرة. وقد وجدت ضالتي في هذا المكان. عند هؤلاء الناس الذين رحبوا بي واستقبلني العمدة بحفاوة مبالغ فيها وسط " ساحة الإجتماعات" - هكذا يسمونها - . وهي عبارة عن شجرة " أكاسيا" كبيرة, ضخمة تقف في صبر في قلب زهرين.

وقد أخبرني الحسين مؤذن الجامع الوحيد في القرية, أن هذه الشجرة ما كانت لتنمو وتصير هكذا لو لم "يَبُلْ" تحتها سيده " صاحب الجمل" !!.

تقزّزت لهذه المعلومة, دغدغت أنفي رائحة كريهة ضاربة في القدم. تخيلت الرجال وهم يتمرغون في البول صباحا وعشيا. وطفرت فكرة صغيرة في عقلي المتعب. بدأت تكبر وتعظم.

" مادام للبول هذه المنافع, فلِمَ ننتظر المطر؟ ونحفر الآبار, وننقّب عن الماء؟ لِمَ لا يبول كل واحد منا تحت شجرته, وإن كان له أكثر يخصّص لكل واحدة يوما, وستصير أشجار بلدي كلها بحجم هذه "الأكاسيا".
وكأن اللعبة استهوتني, فتغافلت عن العمدة الذي بدأ يحشو أذنيّ ترحيبا, وسألت الحسين بدهشة مصطنعة.