عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
12

المشاهدات
1856
 
عبد الكريم الزين
من آل منابر ثقافية

اوسمتي
الوسام الذهبي الألفية الرابعة الألفية الثالثة وسام الإبداع الألفية الثانية التواصل الحضور المميز الألفية الأولى 
مجموع الاوسمة: 8


عبد الكريم الزين is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
14,144

+التقييم
11.35

تاريخ التسجيل
Dec 2020

الاقامة
المغرب

رقم العضوية
16516
03-13-2022, 10:20 PM
المشاركة 1
03-13-2022, 10:20 PM
المشاركة 1
افتراضي اللوحة والغياب..قصة قصيرة
أناملها الرقيقة امتدت تزيح الستائر الخضراء، وشفتاها الورديتين همستا مترنمتين:

[ وأنا من قبلكِ لم أدخلْ مدنَ الأحزان
لم أعرف أبدًا أن الدمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسانْ ]

تدفق دفء الشمس ونورها على الكراسي الخشبية الأربعة والطاولة المستديرة، تجاوز الكنبة الصفراء العتيقة، واستقر على الإطار المذهب اللامع لصورة المرحوم المثبتة وسط غرفة الاستقبال.

اتجهت إلى المطبخ بخفة.. صوت ارتطام قوي بدد صفحة صفائها.. علقت الحروف في حلقها، وانقبض قلبها.. هرولت إلى الغرفة، ووقفت مشدوهة أمام شظايا زجاج اللوحة المتناثر، وإطارها الخشبي المحطم.. ارتدت عباءتها، وأصلحت غطاء رأسها، تطلعت إلى نفسها في المرآة، ونزلت الدرج، سلمت اللوحة إلى العم محمود النجار، ورجته أن يصلحها في الحال، نظر إليها مليا، ثم قال:
- تحتاج لبعض الوقت.. يلزمها إطار جديد..
بعد إلحاح وعدها أن تكون جاهزة مساء يوم غد..
عادت إلى بيتها.. فتحت الباب، ونظرت إلى مكان الصورة، كان لون الأثر المربع الذي تركته مختلفا عن لون الجدار.. جلست على الكنبة وتنهدت.

…. …. ….

كانا في رحلة بمناسبة مرور عشر سنوات على عقد قرانهما، في قرية أثرية سياحية.. يداعبان بقدميهما رمال الشاطئ الناعمة.. يمر رسام بورتريه من قربه.. تصر على رسمه، يرفض بادىء الأمر، ثم يجلس صامتا والابتسامة لا تفارق شفتيه.. يتم الرسام عمله ويرسمه بزي تقليدي كما أوصاه.


ينظر إلى اللوحة ويقول باستغراب:
-لقد بالغ في إبراز أنفي في اللوحة!
تبتسم وتمس بإبهامها أرنبة أنفه وتقول:
-أنفك ما شدني في وجهك في أول لقاء بيننا.
يضحك بصوت مسموع ويحدق فيها مستغربا:
-ماذا أعجبك في الأنف الطويل! ألا تعرفين أنه لو كان أنف الحسناء المصرية كليوباترا أقصر طولا لتغير وجه العالم كله!
تشيح بوجهها عنه وتقول غاضبة:
-وهل كليوباترا أجمل مني؟
يقترب منها ويهمس في أذنها:
- لا شيء يضاهي جمالك..
تبتسم، فيشير إلى قرص الشمس المتسلل مختفيا:
-في طلعة شمسك التي لا تغرب ما يغنيني عن كل نساء الكون..
تتصاعدت خفقات قلبها، فتغمض عينيها.. تحس لحظتها أنها تمتلك الدنيا…

…. …. ….

صوت مواء قطها أعادها إلى الغرفة، ففتحت عينيها، ومررت يدها على جسده الطويل، مداعبة شعره الأصفر الناعم.. رفع الحيوان بصره إليها، وعاود المواء، ثم غادر المكان مسرعا.. تابعته بنظرها باستغراب.. كان من عادته أن يتمدد على الكنبة، مستقبلا اللوحة، ومستمتعا بدفء أشعة الصباح.

نظفت الأرضية، وتوجهت إلى المطبخ.. أعدت صحون الفطور، ورتبتها بتأن على مائدة غرفة الاستقبال، وجلست تنتظر قدوم ابنيها خالد وهيفاء.. أسندت رأسها على ذراعها فانسكبت خصلات من شعرها على أجفانها، أزاحتها برفق متأملة خيوط البياض الزاحفة على أطرافها.

…. …. ….

كان الخبر مفاجئا، صاعقا.. أن ينتزع الموت خلسة جزءا من روحها، أن ينقلب العالم حولها، مزعزعا ثقتها في حياتها وأفكارها، ثم في نفسها.. لم تصمد في البدء على فقدان حبيبها، فتسلل الشيب إلى شعرها الأسود، وتسرب اليأس مكبلا قلبها بالحزن والألم.. خلدت إلى الصمت والشرود، ثم طالعتها صورته من اللوحة مواسية ومعاتبة لها.
تجلس لساعات أمام اللوحة تحدثه، تلقي إليه بهمومها، تحدثه عن الأبناء، ترسم برفقته مستقبلهم وأمنياتها.. يخيل إليها بل تجزم أنه يستمع إليها.. يبتسم ويشجعها.. تعود إليها نضارتها ويتفتح قلبها مقبلا على الحياة...

…. …. ….

سمعت صوت أقدام تقترب، رفعت رأسها ومسحت دموعا ترقرقت على وجنتيها.. سرعان ما اختفت الابتسامة التي أعدتها لاستقبال ولديها القادمين.
حدجت ابنتها مستنكرة:
-لا يمكن أن تذهبي للمدرسة بهذه التنورة القصيرة!
هزت الفتاة وقالت:
-لكن ماما، أغلب زميلاتي يلبسن مثلها!
قاطعتها:
-أبوك ما كان ليرضى بذلك، و..
واستدارت إلى موضع اللوحة، ليستقبلها الفراغ..
كيف نسيت أنها سلمتها للنجار!
احتد صوتها:
-لا تناقشيني، اذهبي وغيريها!
حاولت البنت الاحتجاج، لكن صرامة ملامح وجه أمها أقنعتها بالتراجع.. طأطأت رأسها وانسحبت تدندن إلى غرفتها.
تابعها خالد ببصره وقهقه، فرمقته أمه بنظرة قاسية، ابتلع بقايا ضحكته.. خفض طرفه، وانكب على صحن الطعام.

ما إن انصرف الابنان إلى مدرستهما، حتى راودتها الهواجس، واستبد بها قلق غريب.
ما بال الولدين! ليست هاته التصرفات من عادتهما!
نظرت بعينين دامعتين إلى مكان اللوحة تستجدي سندها.. ظلت شاردة لمدة، ثم ضحكت.

…. …. ….

غمرها شريط الذين تسابقوا للزواج منها..هم أكثر من أن تتذكرهم.. يدخلون بخطوات واثقة، تفوح منها رائحة غناهم ومناصبهم.. يصطدمون بصورته تراقبهم وتطبق على الغرفة.. تتسلط عليهم ابتسامته الهازئة وأنفه الأشم، فيرتبكون وتضيع كلمات الغزل والمباهاة.. ينسحبون يجرون أقداما مهتزة.

…. …. ….

طرق خفيف على الباب انتزعها من ذكرياتها، فأسرعت تفتح الباب،
جاء أبو المرحوم وأمه.. أطرق الرجل ببصره إلى الأرض، وأجهشت زوجته بالبكاء.

تورد خداها باحمرار متوقد، تلعثمت الكلمات في لسانها، وهي تشرح كيف انزاحت الصورة عن مكانها، همست:
-تحركت من مكانها واصطدمت بالأرض.
هز حموها رأسه متأسفًا:
-لا عليك يا ابنتي، كل شيء يتغير عند غياب الأصالة…
ثم استأذن وغادر وزوجته مبكرا على غير عادتهما.

التحفت بعباءتها، وهرولت إلى الباب.. هبطت تعدو في الدرج، تفاجأت أنها مكشوفة الشعر، فهرعت عائدة أدراجها، ولقفت أول غطاء رأس صادفته في غرفتها.. أدركت العم محمود، وهو يغلق باب دكانه.. طلبت منه اللوحة.. أصرت على أخذها قبل إصلاحها.. ضمتها إلى صدرها ثم علقتها في مكانها الأصلي، واستلقت قبالتها على الكنبة.. جاء القط وجلس هادئا في حجرها.