عرض مشاركة واحدة
قديم 12-03-2013, 01:15 PM
المشاركة 2
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
تابع...
إن التشوّهات التي لحقت بالمجتمعات العربية إثر الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة شكّلت ضغوطاً إضافية على ‘تيسير سبول’ الذي لم تسمح له حساسيته المفرطة إزاء الواقع المأزوم من ابتكار وسائله الخاصة للمواجهة في طريقه النضالي الطويل من أجل تحقيق وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية، وقد آمن ‘ تيسير’ بأن غيابهما هو السبب الرئيس الذي يقف وراء هزائم الأمة وأعتقد أننا في اللحظة الراهنة لم نزل نعاني غياب هذه القيم الذي دفع تيسير سبول حياته احتجاجاً على غيابها، وهو ما يرشّح الأمة لتحقيق المزيد من الهزائم والانكسارات المتلاحقة بجدارة متناهية، لاسيما وأن المؤسسات القمعية الرسمية منها والشعبية، تعمل على تكميم المثقف وتحرم عليه المطالبة بحقه في الحرية والكرامة، وكأني بتيسير سبول قد رافق الموت في الحياة، فآثر أن يعيش الحياة في الموت، فذهب إليه راضياً مرضيّاً.

* كيف تنظر إلى خريطة الشعر الأردني اليوم ؟ وهل صحيح أن الشعر دخل في طريق مسدود ؟
*ليس بالشعر وحده نفكّ طلاسم الكون ونتغلّب على رداءات الواقع، ونسوّي تضاريسه، ونتجاوز نتوءاته، ومواقع وهنه وانحداره، مع أن الشعر طريق موصل إلى كل النوافذ الموصودة، لكن الواقع المأزوم يكاد لا يتيح لنا أن نُحدِث فجوة في الجدار، أو أن نلحظ خلاصاً في الشعر على أهمية خطابه المنحاز للحياة بمعناها الأعمق وبما تحمله من قيم إنسانية، ذلك إن قضية التخلف أو التقدم، هي كلٌّ لا يتجزّأ، فحينما يكون المجتمع بلا أفق، ينسدّ كلّ أفقٍ فيه، وكلّ أفقٍ يؤدّي إليه، والشعر مثل أي عمل إنسانيّ خلاّق، يحتاج إلى بيئة ينهض بها وتنهض به، في عملية تبادلية، وحينما يكون الواقع صافياً ودافعاً يكون الشعر رافعةً من روافع البناء والصعود.
الشعر كائن حي متحرك يفعل وينفعل ويتفاعل مع مكونات الواقع الذي يحيا به ويتواصل معه، ويحاول بشكل دؤوب أن يواجه كل معطى، لتجويده، وجعل المجتمع يعبر إلى مستقبله عبوراً آمناً مبنيّاً على منسوبٍ عالٍ من الوعي بضرورات التقدّم والنهوض باعتبارها مشروع الشعر الذي يأبى التخلّي عنه أو المساومة عليه.
صحيح أن الانسداد العام يحدّ من قدرة الشعر على التنفس والحلم والتأثير، لكن الشعر المخلص لمشروعه العظيم بمقدوره كل يوم أن سبيله للخروج من أشدّ الأزمات قسوةً وعمقاً، لأنه مطمئنّ إلى أن ما يمتلكه من الضوء كفيل بهزيمة العتمة الوارفة، وأن محموله من الوعي بالثورة، كفيل بإجهاض ومحاصرة جيوب الجهل والتخلف والاستعباد، لذا فإن حالة المدّ والجزر التي تنتابنا هي حالة صحية تماما، تشير إلى قدرة الشعر على التقاط أنفاسه، واستعادة دوره التاريخي، والوقوف في خندق واحد مع قوى الإصلاح والتنمية الداعية للحرية باعتبارها معطى إلهيّاً رافقت الخلق الأول، ولا تتحقق إنسانية الكائن البشري إلاّ بها، وهذا التبنّي لهذه القيم ولمفاهيم العدالة هو ما يجعل الشعر مشروعاً إبداعياً على الصعيد الفردي ويحيله إلى مشروع مجتمعي إنساني في آن واحد.
*هل أنت استفزازيّ مشاكس بطبعك؟
*ربما يراني البعض استفزازياً على نحو ما، فأنا كاتب أرى أن من العار على الأشجار العالية أن تنحني لقبضة الريح، فلينحني العشب ليضمن حياةً آمنةً وبقاءً مسطّحاً تحت أقدام العابرين، لقد جُبلتُ على أن لا أعيش في المنطقة الوسطى، أُحِبُّ الرّماديّ لوناً، لكنني أكره أن أسجن روحي المنطلقة في دائرة الرّمادي المخاتلة، لأنها دائرة رياء ونفاق ومداهنة وازدراء للنفس وهزيمة للكينونة الإنسانية التي أرادها الله معبِّرة عن صفاته العليا، وهي الحق والخير والعدل والجمال، فإذا كانت المشاكسة هي المعادل الموضوعي للثورة على الاضطهاد والبغي والظلم والتجبّر، دفاعاً عن الفقراء والمهمّشين وفاقدي السّند من المستضعفين في أرض الله الواسعة، فإن من يضعني في صفّ المشاكسين يمنحني وسام شرفٍ أتمنى أن أكون من مستحقّيه بعد هذا العناء.
*ماذا عن إصداراتك الجديدة؟
*صدر لي، عن دار الكتاب الثقافي/ عمان، كتابان، أحدهما مجموعة شعرية بعنوان ‘ كتاب الموت’ والثاني بعنوان ‘عودة المقدس وانبعاث الصحوة’.
اشتملت المجموعة الشعرية على جزأين، الأول نصٌّ نثري، تناول الموت أسطورةً، وتجربتي معه مذ كنت طفلاً حينما كانت مواكبه تعبرُ الأزقة الضيّقة في قريتنا الأليفة، تشقّ صفوف النساء الودودات المتَّشحات بالسواد المعتّق، وصولاً إلى المقبرة حيث تُستكمل مراسم مواراة الجثامين والاستماع إلى طقوس التلقين والترانيم المصاحبة لذلك الحدث التراجيدي الذي لا يغتسل الناس من رواسبه، إلا في بيادر أفراحهم الشّحيحة الغلال.
أما الجزء الثاني، فهو شعرّ خالص، تناولت فيه تجربتي الشخصية الموجعة، وأنا أفتقد ولدي البكر ‘الدكتور عاكف’ في حادث سير صبيحة مغادرته مستشفاه، بينما كنت أنتظر عودته إلى البيت لأودِّعه قبل سفري للمشاركة في فعاليات ‘أيام سيراييفو الثقافية’ في أيار 2009، حيث جاءني خبر الفاجعة التي حلّت على غير انتظار، اعتصرني الألم مثل قطعة من الإسفنج، ككلِّ والد يفتقد ولده الأجمل، افتقدت الإبن الذي ربّيته على عيني، ولم يزل يوقد في أحشائي جمرة الغياب لتنهش نيرانها هشيم قلبي الصغير، وأبقاني أحمل ناياً مكسوراً يرسل أحزاني السرّية في فضاء مفتوح، مثل حلمٍ أفاق مشلوحاً على ناصية اليباب، هكذا رأيتني أحدّق مليّاً في فخاخ الموت المنصوبة في كل ركن، لكننا لا نقبض على مفصل من مفاصله، ولا نستبين شيئاً من ملامحه، ولا نحفظ سطراً واحداً من سطور آياته العقيمة السوداء.
لكنني أدركت بعد هذا الإعصار – الذي أطاح بكواكبي وأشجاري وخلخل أركاني من الأعماق – بأن الموت ليس في الموتى، بل هو فينا، نحن الأحياء الناجين منه إلى حين، المرتدين ثياب حدادنا، إنّهُ في قلوبنا الراجفة، وعيوننا المحدِّقة في ابتسامات الذين رحلوا هكذا فجأة بين إغماضة عينٍ وانتباهتها، لتنهشَ أنيابُ الموت أجسادَهم الطريّة الملساء.
أما كتابي الآخر ‘عودة المقدس وانبعاث الصحوة’ فهو مؤلّفٌ يمثل امتداداً للفكر الذي اعتقدتُ به وأخلصتُ له، الفكر المناهض للظلم والفساد وأسباب التخلف والتغوّل والاحتكام لمنطق حق القوة لا قوة الحق، على حساب قيم الحياة العليا.
كتبت حول مكابدات الكاتب العربي الذي لم يتكيَّف ـ كما أُريدَ له- ولم يُلقِ مراسيه في مرافيء الذلّ والخنوع، ولم يقبل أن يكون خشبةً طافيةً في عرض البحر، أو حارساً على أبواب السلاطين والقياصرة الصّغار، وكتبت عن الإرث الثقافي العربي الواقع بين مطرقة التلفيق وسندان التوفيق، في سياق الصراع الحضاري الذي افتعلته قوى حاقدة، تقودها أيديولوجيات الغلوّ والاستعباد والتهميش للآخر الذي بات عليه أن يبحث عن جبلٍ يعصمه من الطّوفان، ذلك أن الكائنات الرخويّة التي لم تُعِدّ نفسها للبقاء، ولم تمتلك منظومة تدافع بها عن نفسها، تلوذ إلى قوقعة تقيها شرور الآخر الآتي إليها من كلّ صوب، بكامل عدّته وعتاده، لإقصائها وافتراسها والهيمنة عليها، وهكذا هي حال الشعوب المستضعفة على المستوى الكونيّ،والتي تعاني من اضطهاد سياسي، وتشوّه اجتماعي، وتخلّف اقتصادي، وضمور ثقافي، وليس لها من ‘أَمامٍ’ إلاّ ذلك ‘الوراء البعيد’ الذي تحاول اللجوء إليه، والتنقيب في زواياه المعتمة، عن منجزٍ يبعث فيها شيئاً من العزّة والكبرياء المفقودتين.
جاء هذا الكتاب في مختلف فصوله مؤكّداً على أن الطريق الأوحد للتقدم والنهوض هو في إقامة العدل، والتمسّك بقيم الحرية والديمقراطية والتصالح مع النفس والانفتاح على المنجز الحضاري للأمم المتقدّمة والاستفادة من منجزاتها التقنية والعلمية على أوسع نطاق بعد توطين المعرفة وتكييفها بما يتناسب مع خصوصيات الأمة وفي حدود ردّ الإعتبار للهوية والتأكيد عليها.
إنني أعتقد بأن ‘بعض’ الذي يحول بين أمتنا وبين نهوضها وارتقائها ثلاثة أسباب في حدود اجتهادي، أولها: التناقض العميق والمزمن بين السياسي المتمترس خلف جدر مصالحه وبيروقراطيته الرثّة، وأناه التي تضيع بها ملامح الوطن وتختصره تاريخياً وجغرافياً وديمغرافياً، وبين المثقف الذي يحمل خطاباً منافياً للمشروع السياسي الممعن في إقصاء المثقف وإخصاء الأصوات الخارجة على طاعة وليّ الأمر العمياء الذي يعتبر الحرية والخبز والأوكسجين والغيث الذي يهطل من السماء، شكلاً من هباته ومكارمه.
وثاني الأسباب، تكمن في تخلّف التنمية المستدامة للمجتمعات العربية وسوء توظيف وإدارة المتاح من الموارد البشرية والثروات الطبيعية التي صار للإتّجار بها لتحقيق مصالح الفئات المتنفّذة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبالتالي محدوديّة ما يمكن توظيفه في الحقل الثقافي والمعرفي وفي خدمة البحث العلمي، وهو ما يُبقي هذه المجتمعات قابعة في قواقع تخلّفها، تواصل انحدارها في الوقت الذي تتصاعد، عند غيرها من المجتمعات، وتيرة النماء والتنمية وتراكمات الإنجاز على كافة الأصعدة.
وثالث الأسباب، تتمثل في بطء الاستجابة للكمّ الهائل من المعلومات والمعارف التي تنساب عبر قنوات الاتصال والتواصل في الفضاء الكوني المفتوح، وهذا يعني بقاؤها على شكل مستنقعاتٍ معلوماتية راكدةٍ، ويجعلها عاجزة عن الدخول في عملية التحديث والعصرنة.
*دكتور محمد، اليوم، بعد مرور أربعين عام على غياب الشاعر والروائي الأردني تيسير سبول، باعتقادك،…من القاتل ومن القتيل؟
غالباً ما يتحدث الناس عن القتيل وينسون قاتله، ويتجاوزون ملابسات الجريمة لأن إدانة الموتى أسهل كثيراً من إدانة الأحياء، بل إنهم في معظم الأحيان يحمّلون الموتى مسؤولية بلوغ آجالهم بهذه البساطة وعلى هذا النحو، في الوقت الذي كان بإمكانهم أي الموتى تحاشي الاقتراب منه، وهو أمرٌ مرفوض عقديّاً لأن الموت هو الحقيقة التي تحدّد مكانها وزمانها وأسبابها وظلّ هذا الأمر مخبوءاً في خزائن الغيب خلف أبواب موصدة عصية على الإدراك.
إن التشوّهات التي لحقت بالمجتمعات العربية إثر الهزائم السياسية والعسكرية المتلاحقة شكّلت ضغوطاً إضافية على ‘تيسير سبول’ الذي لم تسمح له حساسيته المفرطة إزاء الواقع المأزوم من ابتكار وسائله الخاصة للمواجهة في طريقه النضالي الطويل من أجل تحقيق وترسيخ قيم الحرية والديمقراطية، وقد آمن ‘ تيسير’ بأن غيابهما هو السبب الرئيس الذي يقف وراء هزائم الأمة وأعتقد أننا في اللحظة الراهنة لم نزل نعاني غياب هذه القيم الذي دفع تيسير سبول حياته احتجاجاً على غيابها، وهو ما يرشّح الأمة لتحقيق المزيد من الهزائم والانكسارات المتلاحقة بجدارة متناهية، لاسيما وأن المؤسسات القمعية الرسمية منها والشعبية، تعمل على تكميم المثقف وتحرم عليه المطالبة بحقه في الحرية والكرامة، وكأني بتيسير سبول قد رافق الموت في الحياة، فآثر أن يعيش الحياة في الموت، فذهب إليه راضياً مرضيّاً.