الموضوع: ورقة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
2938
 
ياسر علي
من آل منابر ثقافية

اوسمتي


ياسر علي is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
1,595

+التقييم
0.38

تاريخ التسجيل
Dec 2012

الاقامة

رقم العضوية
11770
12-02-2013, 03:03 AM
المشاركة 1
12-02-2013, 03:03 AM
المشاركة 1
افتراضي ورقة
يحب الأوراق ، هي وقوده ، هي حبه ، هي كل ما يسعى إليه ، يراها تفك عقد حياته ، تشق السبل أمامه غير آبهة بالعوائق ، تحول بينه و بين السقوط في ظلمات العوز و جحور الفقر . رفعت منزلته في هرم بلدته . تجعل زوجته راضية عن نفسها أمام نساء البلدة ، تنعم بآخر ما تفتقت به بصيرة الحرفيين من حلي و أقمشة و أحذية . تفتح أمام أبنائه أبواب المدرسة الحرة الباسمة في وجه براعم علية القوم ، الناطقة بأساليب الحداثة والحاضنة لطفولة اليسر ، تقيهم شر سباب أبناء الأحياء المكتظة ، وألعابهم العنيفة و خصوماتهم المتناسلة .
توقيع و طابع كاف ليتهاطل وابل الأوراق على روافد برصته ، قد لا يحتاج بريقا من عينيه و لا صوتا مدويا في وجه زبنائه ، فأغلبهم يدفعون وقلوبهم مطمئنة وراضية ، وآخرون يعرفون نهمه الشديد ، وعطشه الذي لا يرويه غير طوفان المال ، هو أيضا خبير بفنون الابتزاز ، تجاهل الزبون و رميه على كراسي الانتظار كاف لتطويع شدته و تأديب نشوزه ، فتراه يبحث يمينا وشمالا عن وسيلة لقضاء مأربه . بعضهم لا تنفع معه كل المحاولات ، لكن أخطاء تركت بلا معالجة منذ القدم في وثائقهم يكلفهم إصلاحها أضعاف ما يمكن أن يشتروا به غض الطرف عنها و توقيعها من السيد المحترم .
تقدم بدوي بجلبابه الرث إلى مكتب السيد راجيا أن يشفع له مظهره في توقيع أوراقه بلا ضريبة ، لكن السيد ما عاد يميز بين الأخضر واليابس ، فنار جشعه علا لهيبها . دمعت عيناه واستعطف الموظفين ليتوسطوا له عند السيد ، فأكدوا له أن ورقة واحدة تكفي لجبر كل أضراره ، تقدم قرب المكتب و أخرج محفظة جلدية متلاشية خيوطها من جيبه ، أخرج منها الورقة اليتيمة المطوية المتآكلة ، وضعها على المنضدة فانساب التوقيع على الورقة بنعومة . تقدمت أنامل السيد نحو الورقة النقدية يبسطها على المكتب في اشمئزاز ، فتراءت له حشرة ظنها انقرضت بأطرافها الستة تغادر مخدعها مسرعة باحثة على أقرب مخبإ تلوذ إليه . أمسكها بين أصابعه و الرعشة تعصف بهدوئه ، فطبق عليها ظفري إبهاميه كما كانت تفعل أمه و هي تطارد القمل في بدنه وشعر أخته قديما . سافر عقله أعواما إلى الوراء ، تذكر والده الذي تمت تصفيته من طرف عملاء الاستعمار ، لأنه أبى أن يسلم محصوله و أراضيه ، تذكر وصاياه : " يا بني ، إياك والظلم ، يا بني كن عونا للفقراء ." تذكر أمه التي هاجرت به إلى المدينة بعد موت أخته جراء الجوع والأوبئة ، تذكر كدها المتواصل كخادمة بيوت ، حتى بدأت ملامح رجولته تظهر مع بزوغ الاستقلال ، فودعت الحياة في أول يوم نال فيه مرتب وظيفته . فتح حصالته و قدم ما جمع من المال للفقير معتذرا عن فعلته .
خرج من مكتبه و توجه إلى شباك المصرف حيث يستقر أجره ، قدم له المصرفي بضعة أوراق ، تفحص لائحة مطالب أسرته و بدأ جولته عبر الدكاكين . عند العشاء صاحت ابنته الصغرى : " بابا ما أحلى أكلة اليوم ، فأنا لم أتذوق مثلها من قبل ، تستحق قبلة لأنك أحضرت أجود ما في السوق " .