الموضوع: المدينة
عرض مشاركة واحدة
احصائيات

الردود
4

المشاهدات
4109
 
محمد عبدالرازق عمران
كاتب ومفكر لـيبــي

محمد عبدالرازق عمران is on a distinguished road

    غير موجود

المشاركات
850

+التقييم
0.18

تاريخ التسجيل
Jul 2011

الاقامة
البيضاء / ليبيا

رقم العضوية
10226
08-12-2011, 12:35 AM
المشاركة 1
08-12-2011, 12:35 AM
المشاركة 1
Wink المدينة
( المدينة )

[justify]وصفني أحدهم مرّة بأنني كسول ، وفي الواقع فقد كنت أستلذّ الاسترخاء وأعشق السباحة في عالم الأحلام عوضا عن التّسكع في الأزقة الكئيبة أو الهروب من شقاوة الصبيان الذين يستمتعون بمطاردتي ويتفنّنون بابتكار الوسائل الغريبة لتعذيبي والتي لا تخطر حتى على إبليس نفسه .
حلمت مرّة بأبي الذي لم أره قط ، وأمّي التي رعتني صغيرا وهجرتني كبيرا ، وحلمت مرارا بالجنّة وتخيلتها تزخر بأطنان من اللحم والرحمة وصبية ملائكيين .. نمت هذا النهار بطوله دون أحلام ، وخرجت مساءا بحثا عن رزقي .. البرد قارس والظلام كثيف والشارع خال من البشر ؛ تقطعه من حين لآخر سيارات الأجرة التي تقل روّاد الملاهي الباحثين عن أماكن أكثر دفئا وضجيجا .. لم تفلح ( لافتات النيون ) أو مصابيح الإنارة الموزعة على طول الشارع في تبديد الظلمة .. كنت جائعا ووحيدا فأخذت أجوس بحثا عن طعام أو رفقة .. ألفيت عند تقاطع شارعين فرعيين حفنة من ( عصفورات الليل ) ، يتحلقن حول نار تنبعث من برميل ، اقتربت منهن واستطعت تمييز روائح عطورهن الرخيصة ، تمسّحت بساق إحداهن ولكنها ألقت عليّ نظرة شاردة ثم لم تعرني أي اهتمام .. مضيت صوب أحد الشوارع الرئيسية ومررت أمام نزل صغير سئ الصيت لا يدقق في هوية نزلائه الذين يرتادونه لسويعات ، في حين يدفعون أجرة ليلة كاملة شاملة وجبة الإفطار الصباحي .. وقفت وسط ميدان يتوسطه تمثال برونزي لأحد المبجّلين بهذه المدينة واستطعت أن أميّز بين أصوات تأتي من جهات مختلفة شجار بين رجل وامرأة / تحطم أوان وتهشم مرآة / جمع يطارد لصا / غناء جماعي لرجال منتشين / همهمات / صرير عجلات سيارة / سعال امرأة عجوز / مواء قبيح لهرّين لحظة نزو / بكاء طفل ولد للتو .. ولكنها كلها لم تشغلني عن الجوع والبرد ، فعللّت نفسي بالوقوف أمام مطعم ، بدت الإنارة بداخله جيّدة .. زاد جوعي لدى رؤية سفّود اللحم وانبعاث رائحة الشواء .. أحد روّاد المطعم يحتسي الجعة ويدفن رأسه بين كفيه ويبكي على أنغام أغنية لأحد المطربين الزنوج ، فيما جلس كهل مع فتاة شابة إلى مائدة تنشر فوقها أسياخ اللحم المشوي مع شرائح الطماطم والبصل ، وبضعة صحون للمقبلات وأربعة أرغفة طازجة .. الكهل يدخن ويثرثر فيما انهمكت الفتاة بالأكل ، بدا جليّا أن اهتمامها بالطعام أكثر من تركيزها على ما يلقيه الرجل من طرائف لأنه كان يضحك لوحده ، فيما كانت تجاريه بهزّة من رأسها أدركت أنني لن أحظى بشئ ؛ أ\فأحدهم كان غارقا في حنينه مع أغنية مع أغنية المطرب الزنجي والفتاة تقاسي جوعا كجوعي ، لذا قرّرت البحث في براميل القمامة المكوّمة في زاوية الشارع ، إلا أن هوس النظافة لدى سكان هذه المدينة كان مبالغا به إلى حدّ مرضي ، لذلك لم أجد ما يؤكل داخل هذه البراميل التي خلت حتى من علب الصفيح .. غيّرت وجهتي إلى رصيف آخر ، عدوت مسرعا خوفا من سائقي الأجرة المخبولين .. شممت رائحة أنثى ، رفعت رأسي وتطلّعت فرأيتها تقف أسفل أحد مصابيح الإنارة ، اتجهت صوبها وحين اقتربت منها تمهلت وكأنها لا تعنيني ، مشت أمامي بدلال ، قسمات وجهها متناسقة ، وانحناءات جسدها انسيابية ، ومن حسن حظّي إنها تنتمي إلى نفس فصيلتي ، وتعاني الجوع والبرد وربما الوحدة مثلي .. درت حولها مرتين ولكن لم تصدر عنها أية إشارة مشجعة ، دفعني كبريائي أو لعله ( جوعي ) للابتعاد عنها فاستدرت باتجاه معاكس لها ومضيت .. رنوت إليها من بعيد فألفيت ذكرا يدور حولها ، أدركت أنه يتحرّش بها ، نسيت جوعي وقرّرت بشهامة أن أذود عنها فرجعت نحوها واقتربت منهما ، أخذ هذا الفاجر يتشممها في محاولة مكشوفة للفوز بها ، وقبل أن أقدم على أية خطوة رزته جيدا .. بدا أضخم مني وتغذيته جيدة وينتمي إلى سلالة عريقة وتطوق عنقه سلسلة ذهبية .. في الواقع عزفت عن الشّجار ، أو بالأصح لم أكن أرغب بالتورط في معركة خاسرة وتلقي هزيمة قاسية أمام هذه الأنثى الوديعة ، ولكن في لحظة شطط استجمعت ما لديّ من عزم وأعلنت له بوضوح عن رغبتي في منازلته ، ربما لأنني وإياها ننتمي إلى فصيلة واحدة .. التفت نحوي وصوّب إليّ نظرات نارية ، شعرت عندها أنني هالك ، ولكن لم يكن أمامي الآن أية فرصة للتراجع لذلك استنفرت بقية من شجاعة وتأهبت بانتظار خطواته القادمة .. مرّت لحظات مصيرية شعرت خلالها بخفقان قلبي وارتعاش مفاصلي .ز ولكنه استدار وانصرف إلى حال سبيله ، شعرت بعمق إهانته لي ، والأنكى من هذا أنها نظرت نحوي باشمئزاز وأسرعت تعدو خلفه .. قفلت راجعا بانكسار ، مررت على مطعم الوجبات السريعة وتناهى إلى مسامعي نواح المطرب الزّنجي ، اتجهت نحو لوحة تحمل إشهارا لنوع جديد من ( النّقالات ) ، رفعت قائمتي الخلفية وتبوّلت .[/justify]

( فتحي نصيب / ليبيا )


* ويأتيك بالأخــــبار من لم تزوّد .
( طرفة بن العبد )