عرض مشاركة واحدة
قديم 07-28-2011, 10:17 AM
المشاركة 10
ناريمان الشريف
مستشارة إعلامية

اوسمتي
التميز الألفية الثانية الألفية الرابعة الألفية الثالثة الألفية الأولى الوسام الذهبي 
مجموع الاوسمة: 6

  • غير موجود
افتراضي
وقال سليمان بن عبد الملك: قد ركبنا الفاره، وتبطنا الحسناء، ولبسنا اللين، وأكلنا الطيب حتى أجمناه، وما أنا اليوم إلى شيء أحوج مني إلى جليس يضع عني مؤونة التحفظ ويحدثني بما لا يمجه السمع، ويطرب إليه القلب. وهذا أيضاً حقٌ وصواب، لأن النفس تمل، كما أن البدن يكل؛ وكما أن البدن إذا كل طلب الراحة، كذلك النفس إذا ملت طلبت الروح وكما لابد للبدن أن يستمد ويستفيد بالجمام الذاهب بالحركة الجالبة للنصب والضجر، كذلك لابد للنفس من أن تطلب الروح عند تكاثف الملل الداعي إلى الحرج فإن البدن كثيف النفس، ولهذا يرى بالعين، كما أن النفس لطيفة البدن، ولهذا لا توجد إلا بالعقل؛ والنفس صفاء البدن، والبدن كدر النفس. فقال: أحسنت في هذه الروايات على هذه التوشيحات وأعجبني ترحمك على شيخك أبي سعيد، فما كل أحد يسمح بهذا في مثل هذا المقام، وما كل أحد يأبه لهذا الفعل؛ هات ملحه الوداع حتى نفترق عنها، ثم نأخذ ليلة أخرى في شجون الحديث.
قلت: حدثنا ابن سيف الكاتب الراوية، قال: رأيت جحظة قد دعا بناءً ليبني له حائطاً فحضر، فلما أمسى اقتضى البناء الأجرة، فتماكسا وذلك أن الرجل طلب عشرين درهماً؛ فقال جحظة: إنما عملت يا هذا نصف يوم وتطلب عشرين درهماً؟ قال: أنت لا تدري، إني قد بنيت لك حائطاً يبقى مائة سنة؛ فبينما هما كذلك وجب الحائط وسقط؛ فقال جحظة: هذا عملك الحسن؟ قال: فأردت أن يبقى ألف سنة؟ قال: لا، ولكن كان يبقى إلى أن تستوفي أجرتك. فضحك - أضحك الله سنه - .
******************


الليلة الثانية

ثم حضرت ليلة أخرى، فقال: أول ما أسألك عنه حديث أبي سليمان المنطقي كيف كان كلامه فينا، وكيف كان رضاه عنا ورجاؤه بنا، فقد بلغني أنك جاره ومعاشره، ولصيقه وملازمه وقافي خطوه وأثره، وحافظ غاية خبره.
فقلت: والله أيها الوزير، ما أعرف اليوم ببغداد - وهي الرقعة الفسيحة الجامعة، والعرصة العريضة الغاصة - إنساناً أشكر لك، وأحسن ثناءً عليك، وأذهب في طريق العبودية معك، منه؛ ولقد سكر الآذان وملأ البقاع بالدعاء الصالح، رفعه الله إليه، والثناء الطيب أشاعه الله؛ وقد عمل رسالةً في وصفك ذكر فيها ما آتاك الله وفضلك به من شرف أعراقك، وكرم أخلاقك وعلو همتك، وصدق حدسك وصواب رأيك، وبركة نظرك، وظهور غنائك، وخصب فنائك، ومحبة أوليائك، وكمد أعدائك، وصباحة وجهك، وفصاحة لسانك، ونبل حسبك، وطهارة غيبك، ويمن نقيبتك، ومحمود شيمتك، ودقيق ما أودع الله فيك، وجليل ما نشر الله عنك، وغريب ما يرى منك، وبديع ما ينتظر لك من المراتب العلية، والخيرات الواسعة والدولة الوادعة، وهي تصل إلى مجلسكم في غد أو بعده - إن شاء الله - وكان هذا منه قياماً بالواجب، فإنك نعشت روحه وكان خفت، وبصرته وكان عشي؛ وأنبت جناحه وكان قد حص، بالرسم الذي وصل إليه لأنه كن قنط منه وهو قنوطٌ، وسمعته مراراً: من يذكرني وقد مضى الملك - رضوان الله عليه - ومن يخلفه في مصلحتي، ويجري على عادته معي؟ ومن يسأل عني، ويهتم بحالي؟ هيهات، فقد والله بالأمس من يطول تلفتنا إليه ويدوم تلهفنا عليه إن الزمان بمثله لبخيل كان والله شمس المعالي وغرة الزمن وحامل الأثقال، وملقتى القفال، ومحقق الأقوال والأفعال، ومجرى لجم الأحوال على غاية الكمال؛ كان والله فوق المتمنى، وأعلى من أن يلحق به نظير، أو يوجد له مماثل؛ لذته لمحٌ في تهذيب الأمور، وهواه وقفٌ على صلاح من في إصلاحه صلاح ونفي من في نفيه تطهير؛ ولولا أن عمر الفتى الأريحي قصير، لكنا لا نبتلى بفقده، ولا نتحرق على فوت ما كان لنا بحياته؛ الدنيا ظلوم، والإنسان فيها مظلوم.
فلما وصل إليه ذلك الرسم - وهو مائة دينار - وحاجته ماسة إلى رغيف، وحوله وقوته قد عجزا عن أجرة مسكنه، وعن وجه غدائه وعشائه عاش.
ومما زاد في حديث الرسم أنه وصل إليه مع العذر الجميل، والوعد العريض الطويل؛ ولو رأيته وهو يترفل ويتحنك لعجبت. فقال: سررتني لسروره بما كان مني، وإن عشت كففت الزمان عن ضيمه، وفللت عنه حد نابه، ولولا الضمانة مانعةٌ عن نفسه، وتمنع معها بنفسه؛ لغشي هذا المجلس فيكم فاستأنس وآنس، ولكنه على حال لا محتمل له عليها، ولا صبر عليه معها؛ أتحفظ ما قال البديهي فيه؟ قلت: نعم، قال: أنشدنيه، فرويت:
أبو سليمان عالمٌ فطن ... ما هو في علم بمنتقص

.... يتبع