عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:25 PM
المشاركة 17
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي النهاية
لم يجد صوتا ليرد عليها. وعند صياح أول ديك في الفجر اصطدم بالواقع، ولكنه عاد ليغطٌ في نوم عميق، دون أي شعور بالندم. وعندما استيقظ، كانت الشمس قد ارتفعت. وكانت زوجته ما تزال نائمة. وكرر الكولونيل، بشكل إلى ومنهجي، حركاته التي يقوم بها كل صباح، ولكنه في هذا اليوم كان متأخرا ساعتين عن الأيام الأخرى، وانتظر زوجته لتناول طعام الإفطار.
استيقظت مكتئبة. تبادلا تحية الصباح وجلسا لتناول الإفطار صامتين. رشف الكولونيل فنجانا من القهوة مع قطعة من الجبن وشريحة من الخبز الحلو. ثم أمضي فترة الصباح بكاملها في دكان الخياط. وفي الساعة الواحدة رجع إلى البيت ووجد زوجته ترقع بعض الملابس وهي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا. قال لها:
ـ لقد حان موعد الغداء.
ـ لا يوجد شيء للغداء ردت المرأة.
هز كتفيه، ثم مضي يعمل على إغلاق الفتحات التي في سور البهو ليمنع الأطفال من الدخول إلى المطبخ. وعندما رجع إلى الممر كانت المائدة قد أعدت.
خلال تناول الغداء شعر الكولونيل بأن زوجته تجهد نفسها كي لا تبكي. وقد أفزعه هذا الشعور . فهو يعرف شخصية امرأته القاسية بطبيعتها، والتي زادت من قسوتها أربعون سنة من المرارة. حتى أن موت ابنها لم يجعلها تذرف دمعة واحدة.
ثبت عينيه التي تحمل نظرة لوم بعينيها مباشرة. فعضت هي على شفتيها، وجففت رموشها بكمها وتابعت تناول الطعام.
ـ انك بلا ضمير.
ولكن الكولونيل لم يقل شيئا.
ـ 'انك متكبر، وعنيد، وبلا ضمير' كررت هي. ثم وضعت أدوات طعامها متقاطعة في الطبق، ولكنها عادت لتعدل وضع الأدوات وتبعدها عن بعضها لاعتقاداتها الخرافية. وقالت: 'لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب لأجد نفسي الآن أقل اعتبارا من مجرد ديك'.
ـ ليس الأمر هكذا. قال الكولونيل.
فردت المرأة:
ـ بل هو كذلك. وعليك أن تعرف بأني أموت، وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضا وإنما هو الاحتضار.
لم يقل الكولونيل شيئا حتى انتهي من طعامه:
ـ إذا ما ضمن لي الدكتور بأن الربو سيفارقك إذا ما بعت الديك، فاني سأبيعه في الحال، أما بغير هذا فلن أبيعه.
أخذ الديك إلى ملعب المصارعة في هذا المساء. وعندما رجع وجد زوجته على حافة نوبة جديدة. كانت تتمشي على طول الممر، وشعرها مسدل على ظهرها، وذراعاها مفتوحتان وهي تبحث عن الهواء من خلال صفير رئتيها. وبقيت في الممر حتى أول الليل. وبعدها استلقت في فراشها دون أن تقول شيئا لزوجها.
مضغت صلواتها حتى ما بعد منع التجول بقليل، حينئذ أراد الكولونيل إطفاء المصباح. ولكنها منعته قائلة:
ـ لا أريد أن أموت في الظلام.
ترك الكولونيل المصباح على الأرض. وبدأ يشعر بالاستنزاف. كان يرغب لو انه ينسي كل شيء، لو انه ينام أربعة وأربعين يوما دفعة واحدة ليستيقظ يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' في الساعة الثالثة مساء، في ملعب مصارعة الديكة وفي اللحظة التي سيفلت بها الديك تماما، ولكنه أحس بأنه مراقب من زوجته.
قالت بعد هنيهة:
ـ 'أنها نفس القصة دائما. نحصل على الجوع ليأكل الآخرون. أنها نفس القصة تتكرر منذ أربعين سنة'.
احتفظ الكولونيل بصمته إلى أن توقفت زوجته عن الحديث لتسأله ما إذا كان لا يزال مستيقظا. وأجابها بنعم.
فتابعت المرأة حديثها بوتيرة متدفقة، لا تهدأ.
ـ الجميع سيكسبون من الديك، ألا نحن. فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتا واحدا لنراهن به.
ـ لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة.
ردت المرأة:
ـ وكان لك حق أيضا بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات . ولك الحق أيضا بالحصول على راتبك التقاعدي كمحارب قديم بعد أن حشرت انفك في الحرب الأهلية. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعا حياتهم المأمونة بينما أنت وحيد تماما، تموت جوعا.
ـ لست وحيدا قال الكولونيل.
وحاول أن يشرح لها أمرا، ولكن النعاس غلبه. واستمرت هي تتكلم إلى أن تنبهت لنوم زوجها. عندها خرجت من تحت الكلة وتمشت في الصالة المظلمة. وهناك تابعت الكلام، حتى ناداها الكولونيل في الصباح الباكر.
ظهرت في الباب، كطيف. كان ضوء المصباح الذاوي ينعكس عليها من أسفل، فأطفأته قبل أن تدخل تحت الكلة. ولكنها استمرت في الكلام. فقاطعها الكولونيل:
ـ اقترح أن نعمل شيئا.
ـ الشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نبيع الديك.
ـ يمكننا أيضا أن نبيع الساعة.
ـ لن يشتريها أحد.
ـ سأحاول غدا أن اجعل ألفارو يدفع لي أربعين بيزو ثمنا لها.
ـ لن يدفع لك شيئا.
عندما عادت المرأة لتتكلم هذه المرة كانت قد خرجت من جديد من تحت الكلة. وأحس الكولونيل بأنفاسها المضمخة بروائح الإعشاب الطبية.
ـ لن يشتريها أحد.
فرد الكولونيل برقة، ودون أي أثر للخداع في صوته:
ـ سنري ذلك. نامي الآن، وإذا لم نستطع أن نبيع شيئا في الغد فإننا سنفكر بوسيلة أخرى.
حاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين، ولكن النعاس غلبه وسقط في أعماق هلام بلازمان ولا مكان، حيث أصبح لكلام زوجته معني مختلف. ولكنه أحس، بعد برهة، بأن هناك من يهز كتفه.
ـ اجبني.
لم يعرف الكولونيل إذا ما سمع هذه الكلمة وهو نائم أم بعد استيقاظه. كان الفجر قد بدأ بالبزوغ. ومن النافذة كان يبدو النور الأخضر ليوم الأحد. وفكر بأنه مصاب بحمي، فقد كانت عيناه ملتهبتين، وكلفته استعادة الرؤية عناء كبيرا.
ـ ماذا نستطيع أن نفعل إذا لم نتمكن من بيع شيء كررت المرأة.
فأجابها الكولونيل وقد صحا تماما:
ـ عندها يكون يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' قد اتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين بالمئة من قيمة المراهنات.
فقالت المرأة:
ـ هذا إذا كسب الديك. ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر.
ـ انه ديك لا يمكن أن يخسر.
ـ ولكن افترض انه خسر.
ـ مازال أمامنا خمسة وأربعون يوما لنبدأ التفكير بهذه الأمور.
سيطر اليأس على المرأة، فسألته:
ـ 'حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل' ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي، وهزته بقوة.
ـ قل لي، ماذا سنأكل؟
لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيقة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي رد بها:
ـ هراء



تمت

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب