عرض مشاركة واحدة
قديم 08-14-2010, 09:12 PM
المشاركة 11
أحمد صالح
ابن منابر الـبــار

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي تابع
حمل إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء.
سألها:
ـ في أي يوم نحن
27 أكتوبر (تشرين الأول).
بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: 'الحقوق محفوظة'. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
ـ في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
ـ في 21 أغسطس (آب) .1949
بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في 'ماناوري'. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
ـ يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
ـ لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
ـ كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
ـ من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
ـ لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
ـ بقيت سنتان.
أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
ـ ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
ـ عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
ضحكت هي بصوت خافت وقالت: 'حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها'. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
ـ متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
فقالت:
ـ سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم 'إرادة الميت'.
ـ وهل كان به رعب.
ـ لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
استيقظت المرأة:
ـ مع من تتكلم
فرد الكولونيل:
ـ ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: 'بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها'. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. 'انه الشتاء'، كرر دون يأس. 'كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار'. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. 'حتى الأسبوع القادم فقط'، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. 'ثمة' نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة'. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
ـ لقد صرت عظما اجرد.
فقال لها الكولونيل:
ـ إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
فقالت له:
ـ تعال هنا.
أجابها الكولونيل:
ـ سآتيك حالا
ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
ـ عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
ـ اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
قال:
ـ لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
فقالت المرأة:
ـ القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
ـ إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
'لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر'. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:

ـ يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: 'اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود'.
سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. 'حاولي ألا تتحركي'، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
قالت:
ـ أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.
ـ لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
ـ وماذا سنأكل خلال هذا الوقت
تساءلت المرأة.
فقال الكولونيل:
ـ لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
ـ إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
ـ ماذا تريدين؟
فأجابت دون أن تنظر إليه:
ـ يمكننا أن نبيع الساعة.
كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: 'إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة'.
أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
ـ يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق.
فقالت هي بصراحة:
ـ لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: 'يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني'. وسيفهم هو في الحال.
شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
ـ أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: 'لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو'.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
قدم إليه أحدهم مقعدا. 'شكرا'، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: 'لقد كنت مارا من هنا بالصدفة'.
خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
قال:
ـ ألا أزعجكم.
اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لقد كتب أغوستين.
راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
ـ ماذا يقول؟
ما يقوله دائما.
أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
ـ ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
ـ لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
ـ 'لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك'، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
ـ أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
ـ إنني لا أريد إزعاجه.
فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
ـ أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: 'ممنوع التكلم بالسياسة'.
أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
ـ خراء، أيها الكولونيل.
فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: 'بدون كلمات نابية'.

ما أعظم أن تكون غائبًا حاضر ... على أن تكون حاضرًا غائب