عرض مشاركة واحدة
قديم 02-04-2011, 05:55 PM
المشاركة 2
أحمد فؤاد صوفي
كاتب وأديـب

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
الــمــطـــر


( قصة قصيرة )



المجموعة القصصية :


( الآخرون مازالوا يمرّون )



زكية نجــــم


بركةُ مطرٍ ضحلة تمتدُّ في سكون فوق الأرض الرطبة قرب ساقيه الحافيتين ، طبقات صغيرة من وحلٍ جاف ملتصقة بالفراغات الضيقة الفاصلة بين أصابع قدميه ، مرَّ وقت طويل وهو لازال ممدَّد الجسد ، مستند الرأس إلى حجر طيني أملس السطح.
أمطرت بغزارة !! .. كانت تلك المرة الأولى التي تجرّأ خلالها أن يدّلف حتى منتصف الحي ويصرخ .. أخذ يلهث راكضاً وسط الأزقة المتداخلة بين البيوت بينما تتناثر نظراته حول الأبواب ، النوافذ وأسطح المنازل علَّ أحدهم يراه فيسمح له بالدخول حتى انتهاء عاصفة المطر.
مخالب القطة التي ألفها تصدر جَلَبةً وهي تعبث بحجر الطين الرابض تحت رأسه .. تقلق سكونه ينتفش وبرها في تحفُّز ..تقفز بأقدامها الأربعة وتستقر فوق رأسه.. يلطمها بذراعه بعيداً ..تسقط في بركة المطر.

"المطر.. المطر.. لم يهزمه أحدّ مثلما هزمه المطر..
رائحة الأخشاب المبلَّلة تفوح في الفضاء تيار العاصفة البارد يجعل انهمار المطر أكثر قسوة .. فرائضه ترتعد وهو يركض قابضاً على قطته بكتلي يديه.. بينما كانت تصدر مواءً خافتاً أشبه بالفحيح .
وقعت عيناه على طفل ٍ يحبو مجتازاً أحد الأبواب ومحاولاً هبوط درجات المنزل الخارجية المغمورة تحت ماء المطر.
قذف القطة نحو الأرض .. هرع باتجاه الصغير وحمله .. كان جسده مثله مبللاً لكن بعينيه فرحةٍ تتقافز ، وبفمه أحرف مرحٍ ساذجة لم يفهم ماذا تعني.
صعد به نحو الباب وحينما حاول الطرق فُتح الباب بشدة ، برزت ذراعان ضخمتان ، انتزعتا الصغير ودفعتا الصبي إلى الوراء .
حمل قطته.. سمع وهو يعدو صراخ الصغير بينما كان صوت ساخط يرجُمُ مسمعه
" مشرد.. بلا أهل .. بلا بيت".

القطة تداعب حشرةً مختبئة داخل تجاويف الجدار ، ينقلب على جنبه الآخر..
مرَّ زمن طويل وهو كما يقولون "مشرّد" هكذا وجد نفسه فجأة بعد موت أبيه.. وجهاً مهملاً تحت ظل جدار.. تذكر المرة الأولى التي حمله فيها والده إلى هذه القرية.. لم يكن يعرف من أين جاء به.. ما قصته.. وعن ماذا كان يبحث.. كل ما يعرفه أنهما كانا وحيدين..
القطة تتسلَّقُ ظهره ، تلتصق مخالبها بردائه.. تموءُ بحدة.. يدفعها بعيداً .. يسمع صوت سقوطها مرة أخرى في بركة المطر.

"المطر.. أصبح يخافه كثيراً ..
ظلَّ يعدو بشدة وسط تلك العاصفة.. وفجأة لمح عينين تتلصصان خلف نافذة مواربة.. توقف عن الركض.. انحرف باتجاه النافذة.. ظلَّ رأسه الصغير مرفوعاً ونظرته مشرئبة نحو ذلك الخفي المتواري خلف النافذة..

"المطر شديد.. أبحثُ عن مكان جاف.. أرجوك:"
يواصل التحديق.. الخفي يرمقه بنظرة متوجسة..
تذكر لحظتها صبية الحي حينما كانوا يقذفونه بالحجارة وهو نائم تحت ظل الجدار المنتصب بعيداً عن بيوت الحي.. كثيراً ما فكّر في أمر ذلك الجدار.. لماذا توقف بناؤه ؟؟.. من الذي بناه ؟؟.. أهو والده ؟؟..
ولماذا هو قائم هكذا بعيداً عن بقية البيوت ؟؟.. هل لو أصبح بيتاً لتقاربت المسافة بينه وبين بقية البيوت؟؟." .
تيارٌ قوي يهب فجأة .. يهز قامته الناحلة .. يُرجعه إلى الوراء بضع خطوات.. القطة تموء بين يديه.. بصره زال معلقاً بمن وراء النافذة..
"المطر.. شـ شـ شـ .. ديد .. أأ.."
تنطفئ العينان فجأة.. يحكم الخفي إغلاق النافذة بالمزلاج.. شبحه يبتعد إلى الداخل. تصبح النافذة موصدة .. لا تختلف عن بقية النوافذ والأبواب.
يعود حاني الرأس من حيث أتى .. تنحدر قطرات المطر من بين أهدابه.. يرمي جسده بمحاذاة الجدار.. يتشبث به.. لا يشعر بأي شيء .
مواء القطة لا زال يقلق سكونه.. تدور حوله .. تسير بخطى رشيقة فوق ساقيه المُمددتين قرب بركة المطر.. أحد مخالبها يعمل جرحاً صغيراً بساقه وهي تداعبه.. يفتح عينيه بحدة .. ينزلق رأسه عن الحجر الطيني الأملس.. ينهض واقفاً يسير خطوتين.. تتبعه القطة يقف عند حافة البركة.. قدمه ترتفع عالياً ثم تهبط بشدة داخلها.. عمود من الماء يرتفع ثم يتناثر رذاذه فوق جسدها.. تصدر مواءً عالياً وهي تنفض الماء عن وبرها .. يكركر الصبي.. تقفز نحوه.. يتطاير الرذاذ خلفها بينما أصبح وبرها ملتصقاً بجسدها الهزيل
كركرته تطول.. يصمت فجأة.. سحابة سوداء تقترب في ثقل.. تنشر عتمة مريعة في سماء الحي..
لم يمر وقت طويل حتى أخذت السماء تهطل بغزارة .. أغلقت النوافذ والأبواب سكنت الشوارع.. أشتدَّ الفضاء حلكةً.. لم يعد يُسمَع سوى خطوٍ يمعنُ في الركض.. مواء قطة.. وطقطقة مطر.




الأديبة الكريمة زكية نجم المحترمة

قصتك من منظور القصة القصيرة تعتبر جميلة متكاملة . .
وهي لا شك تشي بموهبة عالية . . وهذه ليست مجاملة مني . .
أعجبتني . . وقرأتها بشغف . .
وأعجبني فيها ترك النهاية مفتوحة للقارىء . .

تقبلي تحيتي واحترامي . .
دمت بصحة وخير . .

** أحمد فؤاد صوفي **




همسة :
في المستقبل . . أرجو نشر المشاركة نفسها . .
وليس الرابط فقط . .