الموضوع: الأدب العبري
عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-2010, 11:19 PM
المشاركة 16
عبير جلال الدين
كاتبـة مصـرية
  • غير موجود
افتراضي رد: الأدب العبري
الإبادة وتفكيك الإنسان كإمكانية كامنة في الحضارة الغربيـة الحديثة
Extermination and Deconstruction of Man as a Potentiality in Modern Western Civilization


لابد أن نؤكد ابتداءً أن التحولات الاقتصادية والسياسية في أي مجتمع لا تتم في فراغ مهما يكن مستوى هذه التحولات عمقاً أو ضحالة. فالمناخ الفكري والثقافي والنفسي يساعد على تحقيق بعض الإمكانات الكامنة في الواقع المادي وإجهاض البعض الآخر، وعلى تحديد المسار النهائي لهذا الواقع إلى حدٍّ كبير.
وتبني ألمانيا النازية لسلاح الإبادة كوسيلة لحل بعض المشاكل التي واجهها المجتمع الألماني لم يكـن لينبع من الاعـتبارات الاقتصـادية أو السـياسية وحدها، فهو أمر مرتبط تماماً بإطار ثقافي وحضاري ونفسي أوسع.

ويمكننا القول بأن ثمة عناصر تسم التشكيل الحضاري الغربي الحديث جعلت الإبادة احتمالاً كامناً فيه وليست مجرد مسألة عَرَضية، وولَّدت داخله استعداداً للتخلص من العناصر غير المرغوب فيها عن طريق إبادتها بشكل منظم ومخطط.
وتحـققت هذه الإمكانية بشكل غير متبلور في لحظات متفرقة، ثم تحققت بشكل شبه كامل في اللحظة النازية النماذجية. وقد قام الإنسان الغربي بعملية الإبادة النازية وغيرها من عمليـات الإبادة لا رغم حضارته الغربية وحداثته، وإنما بسببها.

ولكن قبل أن نتوجه لقضية النزعة الإبادية في الحضارة الغربية، لابد أن نشير إلى وضع اليهود داخل الحضارة الغربية حتى عصر النهضة.
فالمسيحية الغربية لم تُطوِّر مفهوماً واضحاً خاصاً بالأقليات في المجتمع الغربي ولم تُشرِّع لهم ولم تحدد وضعهم القانوني، واكتفت بمفهوم المحبة إطاراً عاماً.
وقد صنَّفت الكاثوليكية الغربيـة اليهـود باعتبارهم شـعباً شاهداً، يقف في تدنيه وضِعَته « شاهداً » على عظمة الكنيسة وانتصارها. ولم يكن الأمر مختلفاً كثيراً على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، حيث تحوَّل اليهود إلى جماعة وظيفية، وهي جماعة تُعرَّف في ضوء وظيفتها وفائدتها ونفعها (فهي مادة استعمالية) لا قداسة لها.
وهذه الرؤية تعني «حوسلة» اليهود، ولكنها في الوقت نفسه تعني ضرورة الحفاظ عليهم وحمايتهم من الهجمات الشعبية.
فالكنيسة الكاثوليكية كانت تحتاج إلى هذا الشاهد الأزلي على عظمتها.
كما أن الطبقات الحاكمة (النبلاء الإقطاعيون والملوك) كانت في حاجة إلى اليهود كأداة طيعة من أدوات الاستغلال وامتصاص فائض القيمة من الجماهير (كان يُطلَق على اليهود كلمة «الإسفنجة»، لأنهم يمتصون فائض القيمة من الجماهير ثم يقوم الحاكم الإقطاعي باعتصار ما جمعوه من ثروة من خلال الضرائب).
ولذا، وعلى عكس ما يتصور البعض، كان العداء لليهود حركة شعبية موجهة ضد الطبقات الحاكمة وضد الكنيسة مُمثَّلين في الرمز المحسوس المباشر اليهود، وكانت الكنيسة الكاثوليكية ومعها النبلاء هم حماة اليهود.

وتغيَّر الوضع مع ظهور عصر النهضة وبداية التشكيل الحضاري الغربي الحديث بشكل جوهري.
إذ ظهرت البروتستانتية التي رفضت فكرة الشعب الشاهد ولكنها تبنت بدلاً منها العقيدة الألفية الاسترجاعية التي ترى أن المسيح سيعود مرة أخرى للأرض ويؤسس مملكته على الأرض لمدة ألف عام، وكان كل هذا مشروطاً بعودة اليهود إلى أرض الميعاد وتنصيرهم.
فكأن اليهودي ظل مجرد أداة (كما هو الحال في الرؤية الكاثوليكية) ولكنه أداة لا يتم الحفاظ عليها وإنما لابد من نقلها (ترانسفير) إلى فلسطين وتذويبها في المنظومة المسيحية. وتزامن هذا مع ظهور البورجوازيات المحلية والدولة القومية التي اضطلعت بكثير من وظائف الجماعة الوظيفية اليهودية التي لم يعد لها نفع.
ولذا، كانت المسألة اليهودية في أوربا تُناقش في إطار مدى نفع اليهود، فكان أعداء اليهود يبينون أنهم لا فائدة لهم، أما المدافعون عنهم (ومنهم المتحدثون باسم اليهود) فكانوا يركزون على « فائدة » اليهود ونفعهم.
وطُرح تصور مفاده أنه يجب زيادة حقوق اليهود زيادة طردية مع زيادة نفعهم، فإن زاد الواحد زاد الآخر (وهو ما يعني أن تَناقُص نفعهم يعني تفاقم مشاكلهم). وقد قُسِّم اليهود إلى أقسام مختلفة تم تنظيمها بشكل هرمي.
ففي أعلى الهرم كان يوجد أكثر اليهود نفعاً، وهؤلاء كانوا يتمتعون بكافة الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن ألماني، وفي قاعدة الهرم كان يوجد اليهود غير النافعين الذين لا يتمتعون بأية حقوق ولذا كانوا يُصنَّفون ضمن من يجب التخلص منه وذلك بترحيلهم
(بالإنجليزية: ديسبوزابل ترانسفيرابل disposable transferable).

وساهمت كل هذه العناصر ولا شك في خلق الاستعداد الكامن والتربة الخصبة والتبادل الاختياري (بالإنجليزية: اليكتيف أفينيتي elective affinity في مصطلح ماكس فيبر) بين الحضارة الغربية وعملية إبادة اليهود. ولكن العنصر الحاسم ـ في تصورنا ـ في ظهور النزعة الإبادية (ضد اليهــود وغــيرهم من الأقليــات والجمــاعات والشعوب)
هـو الرؤيــة الغربيــة الحديثــة للكــون.
وهي رؤية يمكن وصفها بإيجاز شديد بأنها رؤية مادية واحـدية (حلوليـة كمونية) تعـود جذورها إلى عصر النهضة في الغرب.
وقد اتسع نطاقها وازدادت هيمنتها إلى أن أصبحت هي النموذج التفسيري الحاكم مع منتصف القرن التاسع عشر، عصر الإمبريالية والداروينية والعنصرية.
وقد بدأت هذه الرؤية بمرحلة إنسانية هيومانية وضعت الإنسـان في مركز الكـون وتبنت منظومات أخلاقية مطلقة، تنبـع من الإيمان بالإنسـان باعتـباره كائناً مختلفــاً عن الطبيعــة/المــادة، ســابقاً عليهـا، لـه معياريتـه ومرجعيته وغائيته الإنسانية المستقلة عنهـا (وهـذا شكـل من أشكال العلمانية الجزئية).
ولكن هذه الرؤية الإنسانية المادية تطورت من خلال منطق النسق المادي الذي يساوي بين الإنسان والطبيعـة ومن خـلال تَصـاعُد معدلات الحلولية والعلمنة وانفصـال كثــير من مجــالات النشاط الإنساني (الاقتصاد ـ السياســة ـ الفلسفة ـ العلم) عن المعيارية والمرجعية والغائية الإنسانية إلى أن فقد الإنسان مركزيته ومطلقيته وأسبقيته على الطبيعة/المادة وتحوَّل إلى جزء لا يتجزأ منها وأصبح هو الآخر مادة، منفصلة عن المرجعية والغائية والمعيارية الإنسانية (وهذه هي العلمانية الشاملة).

وفي هذا الإطار ظهرت الأخلاق النفعية المادية التي تُعفي الإنسان من المسئولية الأخلاقية، فهي مستمدة من الطبيعة/المادة ومن قوانينها المتجاوزة للعواطف والغائيات والأخلاقيات الإنسانية.
ومن ثم تَحرَّر الإنسان الغربي من أية مفاهيم متجاوزة مثل مفهوم «الإنسان ككل » أو «الإنسانية جمعاء» أو « صالح الإنسانية »، كما تحرر من القيم المطلقة مثل «مستقبل البشرية» و « المساواة » و«العدل»، وجعل من نفسه المركز والمطلق المنفصل تماماً عن كل القيم والغائيات الإنسانية العامة، وأصبح هو نفسه تجسيداً لقانون الطبيـعة ولحركة المادة وتحـول إلى مرجعية ذاته، وقانون ذاته، ومعـيارية ذاته، وغائية ذاته، ومن ثم أصبح من حقه أن يحوسل العالم كله وجميع شعوب الأرض لخدمة صالحه كما عرَّفه هو. وبذا تحوَّلت الإنسانية (الهيومانية) الغربية إلى إمبريالية وأداتية ثم إلى عنصرية، وانقسم البشر إلى سوبرمنsupermen إمبرياليين يتحكمون في كل البشر والطبيعة، وإلى سبمنsubermen دون البشر أداتيين يذعنون لإرادة السوبرمن ولقوانين الطبيعة والمادة. وهذا ما نسميه «النفعـية الداروينية» وهي المنظومة التي تذهب إلى أن من يملك القوة له «الحق» في أن يوظِّف الآخرين لخدمة مصالحه، مستخدماً في ذلك آخر المناهج العلمية وأحدث الوسائل التكنولوجية، متجرداً من أية عواطف أو أخلاق أو أحاسيس كلية أو إنسانية باعتبار أن الإنسان إن هو إلا مادة في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير، ومن ثم فمثل هذه الأحاسيس هي مجرد أحاسيس ميتافيزيقية أو قيم نسبية مرتبطة بالزمان والمكان، وليس لها أية ثبات أو عالمية.


عبد الوهاب المسيري

،،