عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2010, 09:10 PM
المشاركة 2
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
وقسم ثالث رهن فكره وجنده كاملا للتجربة وعن اقتناع تام .. ووقف إلى جوارها داعما ومتناسيا وغافرا لكل خطاياها فى نظير قدسية الرسالة القائمة على فكرة القومية العربية التى حلت محل فكرة الخلافة مثل أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ وكامل زهيري ومحمد عوده ومحمود السعدنى ومحمد التابعى وصلاح جاهين وتلامذتهم مثل يوسف القعيد وجمال الغيطانى وجلال عارف وغيرهم
وعلى رأس هؤلاء يقبع مفكرنا الكبير محمد حسنين هيكل .. والذى كانت علاقته الشخصية بعبد الناصر وإخلاصه له سببا مباشرا فى تعميق التجربة الناصرية بدون أدنى مبالغة .. فهو مُبشرها وصانع خططها وصائغ نظريتها وهو الذى جعل من الناصرية مجالا فكريا قبل أن يكون سياسيا
لأن وقوف هيكل إلى جانب عبد الناصر أتى لاتفاق خلفيته وقناعاته مع مبادئ التجربة وهى الخلفية التى أدت فيما بعد إلى ابتعاد هيكل ورفضه التام للتعاون مع السادات فى إستراتيجيته الجديدة القائمة على هدم الثوابت الناصرية
فكان هو الكاتب الأوحد لخطب عبد الناصر فضلا على أنه صائغ ( الميثاق ) وبيان ( 30 مارس ) وهو الكاتب الحقيقي لكتاب ( فلسفة الثورة ) , ثم كان هو أخيرا صاحب الموسوعات السياسية والتاريخية التي أرخت للناصرية مثل كتبه ( قصة السويس ـ ملفات السويس ـ سنوات الغليان ـ الإنفجار ) [1]

وقسم رابع .. جعل ولاءه الأول لأيديوليجيات مختلفة رهن لها قدراته الفكرية ودافع عنها غاضا النظر عن الثوابت المتمثلة فى النهوض بالأمة .. أى أنه اهتم بالنظرية وأهمل فشل التطبيق !
مثال هؤلاء قمم المفكرين التى رهنت نفسها للمذاهب الماركسية والتى شغلت نفسها طوال الوقت بالدفاع عن معتقدات لا تثمن ولا تغنى من جوع فكانت حربها حرب ديوك لا هدف منها إلا المناطحة
مثال هؤلاء لويس عوض ومحمود أمين العالم و مفكر قدير مثل الدكتور فؤاد زكريا .. والذى وقف منتقدا ومفندا للتجربة الناصرية فى بداية السبعينيات داعيا إلى اليقظة الواجبة لحال الأمة .. لكن دعوته وللأسف الشديد لم تكن لعودة الوعى للأمة بل لليسار الذى يُعتبر أحد أقطابه
وكانت دراساته تلك مركزة وموجهة لليساريين للنهوض والإفاقة من فكرة التحالف مع الناصرية والالتفات إلى أنفسهم خوفا من اليمين المتشدد الذى يوشك أن يأكل بساط الساحة بعد سقوط الناصرية .. وليس أدل من ذلك أن دراساته تلك التى احتضنتها صفحات جريدة روز اليوسف فى معركة فكرية مطولة كانت بعنوان " عبد الناصر واليسار المصري "

وكم يدمى القلب أن ينطق تلميذ مخلص لأساتذته الكبار بتعبير قاس كالذى استخدمته معبرا عن خطيئتهم تجاه الثقافة والمثقفين وأجيال الفكر .. فهؤلاء بالرغم من قدراتهم وفضلهم وبالرغم من أية عوامل كانت حاكمة لهم عند اتخاذهم مواقفهم السابقة .. كانوا هم الذين سلموا الراية للأجيال التالية منكسة الرأس مريرة الحماسة .. وكل منهم له دور فى تلك الأزمة
فالذين ابتعدوا كالعقاد فضلوا حفظ أنفسهم بعيدا عن دوائر الإهانة أو النفاق وليس دون الاثنتين سبيل كما قدروا الموقف وقتها
فمواصلة المقاومة كانت ستنتهى حتما بإخراس اللسان المتحدث وبأبشع وسيلة ممكنة ..
والمبادرة إلى التأييد بدون اقتناع حقيقي كانت حتما ستجره إلى النفاق .. لكن هذا الإبتعاد كان ثمنه غاليا فيما بعد عندما ضاعت الأسس التى أسسها العقاد وأمثاله فى الفكر العربي مع انسحاب جموع الشباب والمثقفين إلى الجانب الآخر دون راد لهم لغياب التوجيه ..
وهكذا خسر العقاد مثلا .. كثيرا من أثره الفكرى و الذى أصبح حكرا على نوعيه معينة من المثقفين وكان لزاما له أن يقود الأمة كلها من المحيط إلى الخليج مع رفعه لراية التوحيد والإدراك والتأمل فى التاريخ الاسلامى وإسناد الكتف إلى مرجعية قادرة على انتزاع التشتت الذى نعانيه الآن .. وذنب الأستاذ العقاد هنا يقع أنه سلم الراية مبكرا جدا وكانت الصورة رمادية فقط مما يؤمل معه محاولة إدراك الحقيقة وممارسة الرسالة ولو من خارج مصر
أما الذين غاب وعيهم .. واستعادوه متأخرا .. فقد كان أثرهم أعمق فى التأثير .. فقد جاءوا منكرين لما سبق أن أيدوه .. وبغض النظر عن مختلف الأعذار فالتراجع عن المواقف من الخطأ إلى الصحة أمر محمود ما لم يكن فى عقيدة أو رسالة كاملة .. عندئذ يكون التراجع أمرا مدمرا لا سيما إن جاء منكرا لسابق المبادئ بلا استثناء
وهذا ما حدث فى تجربة توفيق الحكيم .. والذى لم يبرئ نفسه كمفكر يتحمل مسئولية غياب وعيه عندما انقلب موقفه من غياب للوعى إلى عودة مفاجئة على حد تعبير الكاتب وفى ظروف قاسية تلت أحداث النكسة مما تسبب فى انهيار تام لثوابت كان الشباب يؤمنون بها إيمان العقيدة وقد تشكلت فى وعيهم عبر كتابات هذا القسم من المفكرين وردد العشرات خلف توفيق الحكيم كلمات اللبنة الذهب واللبنة الفضة التى تتشكل من كفاح الشعب العامل وهى الكلمات التى وردت فى روايته الشهيرة " الأيدى الناعمة"

فكان طبيعيا أن يكون أثر الصدمة مخلفا وراءه شظايا متفجرة لأفكار سقطت وسقط معها مؤيدوها بعد أن هانت عندهم كل قيمة وكل قمة .. تماما كما حدث بالإتحاد السوفياتى عندما فوجئ الشعب كله بمدى عمق الخدعة التى وقعوا فيها سنوات طوال وهم يأملون فى كل عام أن تتحسن أمور الدولة وتبدأ عهود الرفاهية فإذا بالرئيس السوفياتى السابق " ميخائيل جورباتشوف " يفاجئهم فى بداية الثمانينيات بسياسة البروسترويكا والجلاسوسنت التى تعنى المصارحة وإعادة البناء وكشف لهم دهاليز الأحداث فثارت ثورتهم وقاموا هادمين مخربين على خلاف التوقعات التى كان يأملها جورباتشوف الحالم بتأييد شعبه إذا صارحه بكل الحقائق ..
لأن الحقائق هدمت نصف قرن تقريبا من الشظف والمعاناة اكتشف الشعب فجأة أنها ذهبت فى الهواء وثمنا لأسطورة كلامية
والذنب هنا أوقع وأشد ..
لأن عودة الوعى جاءت غير منطقية لا سيما وأن التأمل نفسه كان غائبا عن إدراك ما تم إدراكه فيما بعد .. وبالتالى فمن الصعب قبول أى مبرر لغيابه فعليا عندما كانت الأحداث تجرى على أرض الحاضر
وبالنسبة للقسم الثالث من المفكرين وهو الذى يتزعمه أسطورة السياسة والصحافة محمد حسنين هيكل .. والذى رهن قدرته للرسالة العربية وهى بلا شك كانت دعوة لها أهميتها فى ظل عالم متغير وملئ بالأحداث طمعا فى تثبيت الهوية قبل ضياعها
لكن المحزن هنا
أن صمت هيكل وتجاوزه عن أخطاء النظام الناصري تقديرا منه لعمق تجربته كان صمتا وتجاوزا زائدا بأكثر مما هو مسموح فى أحيان كثيرة .. لأن الأخطاء تختلف عن الخطايا ..
أخطاء النظام الناصري التى كان من الممكن التجاوز عنها أقل بكثير من الخطايا التى كانت تضرب أمل التجربة الناصرية نفسها فى مقتل وهو ما حدث بالفعل وصمت عنه هيكل وعلى سبيل المثال ..
أزمة قانون الصحافة الشهير بتأميم الصحافة وانتشار الرقابة على الصحف وهو القانون الذى اعترض عليه هيكل وسمح له عبد الناصر بتعديل بعض بنوده إلا أن هذا التعديل لم يجن فائدة حقيقية وكان بداية لعهد الإعلام الرسمى الذى أصبح قاصرا على صوت النظام ومؤيديه .. ومفكر بحجم هيكل كونه يتقبل هذا بالرغم من عمق فكره الذى كان يعرض أمامه الأثر الفادح لمنهج الصمت إلا عن ما هو مسموح فتلك جريمة ما كان عليه أن يشارك فيها وقد رأى بعينيه نهاية التجربة النازية الألمانية بالرغم من قوتها لأنها كانت تجربة رجل واحد
ومن الغريب أنه أدرك خطورة تركيز القرار فى يد واحدة عندما أحال إليه عبد الناصر مسئولية دار أخبار اليوم إلى جوار مسئوليته عن الأهرام فقام هيكل بتعديل القرار وجعل له نائبا فى أخبار اليوم يتولى العمل المباشر كما التمس من عبد الناصر سرعة إنهاء هذا الوضع لأن جمع زمام المؤسستين فى يد واحدة هو تركيز للقوة الإعلامية بأكثر مما هو ضرورى .. على حد تعبيره فى كتابه الشهير ( بين الصحافة والسياسة ) [2]

فان كان هذا هو رأيه القاطع فى العمل الاعلامى ــ بالرغم من كفاءته المطلقة وقدراته التى تكفل له إدارة المؤسستين ــ فما باله سكت عن تركيز مصير أمة رهنا رجل واحد لا يقبل المراجعة أو النقد
وتأتى مسئولية هيكل هنا لمكانه ومكانته فى هذا العصر وهى المكانة التى كانت تسمح له بالصمود أو الإبتعاد عن مجرى الحوادث والكتابة إلى جماهيره محذرا طالما استشف برؤيته الثاقبة عواقب تلك الأمور وهو الأمر الذى فعله بعد ذلك مع حصار السادات له بعد عام 1974 م ..
لكنه فضل المكوث مع التجربة لنهايتها بالرغم من تحذيراته التى كانت لا تأتى بنتيجة حول قرارات بعينها أدت إلى النهاية المؤلمة مثل قرار حرب اليمن والصدام مع السعودية والعراق وتجربة الوحدة التى كانت برأى عبد الناصر نفسه تجربة سابقة لأوانها ومع ذلك نفذها منفردا بالقرار استجابة لنوازع عاطفة بحته من مجموعة الضباط السوريين الذين هبطوا عليه بمصر ملحين فى قبول الوحدة فاستجاب لهم لأجل ذلك وكذلك قرار التحرك العسكرى المظهرى فى أزمة خليج العقبة التى أدت إلى النكسة وقرار ترفيع رتبة عبد الحكيم عامر من الصاغ " رائد " إلى اللواء دفعة واحدة وتعيينه قائدا عاما للقوات المسلحة وبقاؤه رغم ثبات فشله ثلاث مرات على الأقل قبل كارثة النكسة .. وهلم جرا ..



الهوامش :
[1] ـ صدرت هذه الكتب كلها عن مركز الأهرام للترجمة والنشر ـ عدا الكتاب الأول صدر عن شركة المطبوعات بلبنان
[2] ـ بين الصحافة والسياسة ـ محمد حسنين هيكل ـ شركة المطبوعات