الموضوع: مُهاجر
عرض مشاركة واحدة
قديم يوم أمس, 07:18 PM
المشاركة 400
مُهاجر
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: مُهاجر
«الأنا» تلك العاهة المميتة، إن أفلتت من لجامها أَعْمَت صاحبها عن الصواب، وألبسته وَهْمَ الكمال، فظنّت أنها الموجود وما دونها العدم، وأنها الأصل وما عداها هوامش في فصول الحياة.

تنتفخ حتى ترى ذاتها مركز الدائرة، وتُقصي غيرها إلى هامش الرؤية، فتختلّ الموازين، ويضيع الميزان.

وهناك من يُصنّف الغرور، ويُدرجه — على تساهلٍ وخداع — في قائمة المصطلحات على أنه «ثقة زائدة»؛ وبهذا الوهم يُشرَع، بجهله، لبقائها، ويُمهَّد لتمدّدها، حتى تستحكم، وتستبدّ، وتُلبس صاحبها لباس الزيف، وهو يحسبه رداء المجد.

وفي أصلها، ليست الأنا إلا قناعًا بائسًا لدى من يتدثّر به، ليُواري هشاشة حاله، ويُخفي تصدّعات داخله؛ فهي في حقيقتها صرخةُ ضعفٍ لا نشيدُ قوّة، وستارُ نقصٍ لا دليلُ كمال.

والواجب على سليم العقل لجمُ جماحها، وتحديدُ كنهها، وفهمُ حدودها؛ ولا يكون ذلك بقمعها أو قتلها، فالقمع يُولِّد التمرّد، والقتل يُنبت التشوّه، وإنما يكون ذلك عن وعيٍ راشدٍ يُحرّرها من قيودها، ويكفّ شطحاتها، ويُعيدها إلى حجمها الطبيعي، حيث تكون أداة وعي لا معول هدم.

فتهذيب النفس لا يكون إلا بتعريفها بحدودها، وإيقافها عند مقامها؛ فلن يسمو عقلٌ إلا إذا اعترف أن النقص ينتابه ويعتريه، وأن الكمال لله وحده، وما عداه سعيٌ واقتراب.

وقد توقّف الفلاسفة طويلًا عند سؤال «الأنا»: ما هي؟ وأين تقف حدودها؟ وكيف تُدار دون أن تُستبدّ؟

فغاصوا في أعماقها، واستقصوا حقيقتها، وبحثوا في ماهيتها وحدودها وسبل التعامل معها؛ فرأى الحكماء أن الأنا ضرورةٌ للتمييز وتحمل المسؤولية، وبها يُعرَف التكليف، وتُقام المحاسبة، ويُحفَظ معنى الذات.

غير أن الخوف — كلّ الخوف — جعلوه من تحوّرها وتحولها؛ حين تنفلت من غير قيود، فتمرّدت، وارتدت ثوب الكمال، وادّعت العصمة، فتصبح العائق الذي يوقف تقدّمها، والعبء الذي يشدّها إلى الوراء.

فإذا بلغتها تلك الحال، فأين لها الوقوف على جادّة الصواب؟ وأيُّ عقلٍ يهتدي إذا كان أسير ذاته؟