عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2024, 04:54 AM
المشاركة 10
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان


أيضا من الأفعال المكملة لأفعال الظلم السابق ذكرها، فعلٌ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، بتصريحه أن فاعله لا يدخل الجنة، بل وأقسم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن فاعله لا يؤمن.
ألا وهو إيذاء الجار بأي صورة من الصور، وبأي فعل من الأفعال سواء كان هينا أو غليظا!
وذلك بمقتضي حديث النبي عليه السلام:
(لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ، ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ من لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ)" "
كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:
(واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ. قيلَ: ومَن يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوايِقَهُ.)
وهذا الوعيد الشديد من النبي عليه الصلاة والسلام، يعود بصفة أساسية لحكمة رب العزة وتشريعه، حيث أن العداوة والأذي بين الجار وجاره كفيلة بخلق مجتمع مُتحاسد متباغض لا يأمن المرء فيه على نفسه.
ورغم أن أذى المسلم وسَبّه أو قتاله فسق في حكم الله ورسوله عليه السلام، إلا أن هذا الأذى إذا كان من الجار للجار فهو مُضاعف في الإثم، ومُغَلّظ في العقوبة، نظرا لما يمثله أذى الجوار من ضيق وعنت وحرج شديد باعتبار أن الإنسان يمكنه أن يتفادى الأذى في أي مكان خارج بيته ويعود لبيته كي يجد الراحة والسكينة والهدوء.
فإذا كان الأذى موجودا في بيته من الجار فهذا معناه تعسير الحياة على الإنسان إلى أقصي درجة نظرا لأن المنزل موطن الراحة.

ويلتحق بهذه الأفعال أيضا رذيلة منتشرة ولا يحسب معظم الناس أنها من أكبر الرذائل، ألا وهي صفة (الجدل)، وهي رذيلة تعم عواقبها على المجتمع لا على الأفراد وحدهم!
والجدل هو الكلام الفارغ من أي مضمون، والنقاش الذي لا ينتج منه ثمرة أو شيء مفيد سواء في قضية عامة أو قضية خاصة.
وقد فَرّقَت الشريعة تفرقة تامة بين (الحوار) وبين (الجدل)، فالحوار ضرورة من ضروريات العلم، وأحد أهم أساليب شرح المسائل العلمية.
أما الجدل فهو إرهاق العقل واللسان بالأخذ والرد في قضايا تافهة فارغة لا تفيد في دنيا أو دين، أو في قضايا تمت إثارتها قبل مئات السنين ورد عليها العلماء في وقتها، فيستهلك الناس طاقات عقولهم بها ويتركون ما هو أجدر بالمناقشة والتطبيق، وهذا أشبه بمن يمتلك ماكينة جبارة ولا لكنه لا يأتي لها بالمادة الخام للتصنيع ويكتفي بأن يديرها أوقاتا طويلة لتمضغ الهواء بين تروسها دون أن تنتج شيئا فتكون النتيجة أن تروس الماكينة تأكل بعضها بعضا دون أي فائدة
لهذا قال النبي عليه السلام:
(أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لمن تركَ المِراءَ وإنْ كان مُحقًّا)
فتخيلوا إلى مدى وصل تحذير النبي عليه السلام من الجدل وكثرة الكلام، لدرجة أنه وعد من يتركه ببيت في أعلي الجنة، بالإضافة إلى أن الحديث أوضح لنا أن الجدل مذموم ومحرم حتى لو كان المجادل يجادل عن حق.
ذلك لأن الدفاع عن الحق لا يحتاج الجدل ولا يحتاج الكلام الطويل والمخاصمة، وعلي المسلم أن يعرف بدقة ما هي حدود المناقشة المسموحة وحدود الجدل المحرم عن طريق علامات بسيطة جدا وهي:
أولا:
أن يكون موضوع النقاش والحديث تافه وفارغ المضمون ولا يمثل فائدة، وللأسف فإن أكثر السائد في وسائل الإعلام الآن ومواقع التواصل هو أخبار التافهين والمراهقين وتصريحاتهم التي تجلب جدلا فارغا وعقيما في موضوعات يستحي من التورط فيها أي عاقل.
ثانيا:
أن يكون الموضوع موضوعا هاما، أو شبهة دينية، أو نقاش علمي، ولكن كثرة الأخذ والرد فيه قلبته إلى جدل عقيم، وهذا الأمر كثيرا ما يقع فيه المدافعون عن الحقائق، ويظنون أنهم بهذا يدافعون عن الحق.
لكن الدفاع عن الحق يتطلب أن يقتصر المرء على إيضاح الحقيقة العلمية بأدلة واضحة وصريحة لمن أمامه، فإذا كانت الأدلة أوضح من أن يتم إنكارها، وجاء من ينكرها لمجرد المخاصمة فهنا لا ينبغي للمدافع أن يتورط في النقاش مرة أخرى ويكتفي فقط بإبراز أي شبهة في المسألة ثم يترك النقاش والأخذ والرد عملا بنص حديث النبي عليه السلام السابق ذكره.
والجدل أحد علامات غضب الله تعالى على عباده، وأحد أهم أسباب الفشل لأي مجتمع وقد قال الإمام (الأوزاعي) ـــ فقيه أهل الشام ـــ مقولة لخصت مصيبة الجدل وما تفعله في أي مجتمع، فقال:
(إذا غضب الله على قومِ رزقهم الجدل ومنعهم العمل)
ولا شك أن مقولة (الأوزاعي) تلخص لنا أحد أهم الأسباب في تراجع الدول العربية تحديدا عن مصاف الدول المتقدمة، لأن القُطر العربي كله منذ بداية القرن العشرين وهو غارقٌ حتى الثمالة في جدليات فراغ العقل التي بدأها التغريبيون الذين استندوا إلى الاحتلال الانجليزي والفرنسي وَجَنّدوا أنفسهم لتفتح قضايا الدين والثوابت الأخلاقية في الجامعات، وفي وسائل الإعلام حتى صرنا منذ ذلك الحين ونحن في حلقات متواصلة من الجدل على نفس القضايا بنفس الكلام وبنفس العقلية ونفس الردود!
وتركنا أهم الموضوعات التي ينبغي على أي مفكر أن يثيرها في مجتمعه، وهي قضايا التعليم والتقدم التكنولوجي، وسُبل إقامة الوحدة المجتمعية بعيدا عن إثارة النعرات الطائفية أو الفرقة في المجتمع.

وإذا أردنا أن نتعرف على كوارث حركة التغريب وما فعلته بنا، علينا فقط أن نقارن بين البعثات العلمية التي جاءت من شرق آسيا لتتعلم في أوربا، وبين بعثاتنا نحن من الشرق.
وبالمقارنة نكتشف أن اليابان تقدمت في صناعة السيارات مثلا بسبب أن بعثاتها لأوربا ركزت على التقدم الأوربي في هذا المجال، وعندما عادوا لبلادهم وضعوا البذرة الأولي لتكنولوجيا تصنيع السيارات لتصبح اليابان أحد أهم أقطاب العالم في هذا الشأن.
بينما بعثاتنا نحن لأوربا والتي عادت لنا في بداية القرن العشرين جاءت لنا بمفكري التغريب والذين لم يروا في أوربا إلا التعري وحفلات المراقص وأكاذيب تحرير المرأة، والحرب على الثوابت، فجاءوا ليثيروا جدلا رهيبا في هذه القضايا منذ ذلك الحين
وتركزت دعواتهم على ضرورة ترك كافة الثوابت الدينية والثقافية والتبرؤ من التاريخ الإسلامي كله ومن الشريعة، لنلحق بركب التطور على حد زعمهم.
وبالفعل أثمرت تجربتهم عن إقرار دستور سنة 1923م، وتم إلغاء المحاكم الشرعية، وتحجيم دور الأزهر وإبعاده عن قضايا المجتمع بعد أن ظل الأزهر ورجاله هم قادة الرأي العام لألف عام تقريبا وهم الذين قادوا الحركة القومية في مواجهة الاحتلال الفرنسي.
فجاءت حركة التغريب بدعم الاحتلال وانتشرت ثقافتهم بسيف السلطة في المجتمع تنقل لنا طباع الغرب ـــ لا علومهم ــ ثم ماذا حدث؟!
هل تقدمنا وصرنا في ركاب الأوربيين؟!
هل تقدم التعليم بتنفيذ أجندات تحرير المرأة؟!
هل تقدمت التكنولوجيا بالسخرية من السنة النبوية وأحكام القرآن؟!
أظن أن الإجابة على تلك الأسئلة فيها بيان واضح على تلك القضية.

وقد امتدت المأساة حتى وصلنا في عصرنا الحالي لدرجة من المأساة المبكية حقيقة، لأننا اليوم عندما نتصفح وسائل الإعلام من برامج فضائية أو صحف أو مواقع تواصل، لن نجد فيها نقاشا فلسفيا أو حتى جدليا حول تلك المفاهيم التي كانوا يتصارعون عليها في بداية القرن العشرين.
بل إن الإعلام أصبح اليوم يقوم أساسا على كيفية إثارة الجدل، وأصبح الشخص الناجح إعلاميا هو الشخص الموصوف بلقب (المثير للجدل)، بل ويتعمد الإعلام نشر الاستفزاز لدرجة جلب الشتائم والسب والقذف حتى يمكن له أن يصل إلى أعلي التعليقات والمشاهدات!
ونحن هنا لا نتكلم عن ممارسات الصحافة الصفراء مثلا أو على المواقع المجهولة، بل نتحدث عن القنوات الأساسية والصحف الرئيسية في العالم العربي، والتي عزف عنها جمهور القراء، وانتهي عصرها كصحافة مطبوعة، فأصبحت تعتمد في ترويج نفسها على عوامل(الإثارة) وحدها.
وذلك عن طريق استقدام أخبار الرويبضة، وساقطي الاعتبار في المجتمع، والشخصيات المستفزة للناس ونشر أخبارهم وتتبع غرائبهم ووضعها بعناوين مثيرة بل وفاضحة أحيانا، كي يمكنها أن تحظى بالانتشار وبالتالي تحصد النجاح من وجهة نظرهم.
أي أن المجتمع اليوم لم يعد فقط يرتكب رذيلة الجدل كتصرف فردى، بل أصبح الجدل مهنة وسوق ضخم، وتقوم عليه مؤسسات كاملة من المفترض أنها مؤسسات إعلامية مهمتها نشر الوعي في المجتمع!
فهل يمكن لشخص عاقل أن يقول بأننا لم نبلغ بعد آخر الزمان؟!

وقديما لعن الله اليهود على لسان أنبيائه في القرآن الكريم لسببين فقط لا غير.
أولهما: أنهم كانوا يردون أمر الله تعالي، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينكرون المنكر، وفق قوله تعالى:
[كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:79}
وثانيهما: أنهم كانوا أصحاب إلحاح مقيت في جدال أنبيائهم، حتى قال المفسرون فيهم أن اليهود كانوا يجلبون لأنفسهم عناء تشديد الله عليهم في العبادة لكثرة جدالهم، ولعل أشهر مثال لذلك عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ولم يحدد وصفها، ولم يقيد لهم الأمر بل جعله متاحا لهم، ولو بادروا فنفذوا أمر الله تعالى دون جدال وذبحوا أي بقرة لكان هذا أيسر لهم وأتقي وأكثر قبولا من الله
لكنهم جادلوا موسي واتهموه أنه يريد أن يسخر منهم، فجزاهم الله بأن فرض عليهم بقرة محددة بصفات نادرة حتى وجدوها ورفضت صاحبتها بيعها حتى دفعوا لها أضعاف ثمنها" "
يقول تعالي:
[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] {البقرة:67}
مع أن الأمر كان بيدهم من البداية، لكن حبهم العقيم للجدل أوردهم هذا المورد.

ونحن الآن في عالم اليوم صرنا ألعن من اليهود في كلتا الصفتين، فلا وجود لدينا لأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وفي نفس الوقت نتجادل طوال الوقت في كل شيء وأي شيء إلا أن يكون جدالا في أمر يستحق!، وخالفنا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في التحذير من كثرة الجدل والمراء، ثم رضينا بما كره الله لنا وهو القيل والقال وكثرة السؤال!
وذلك وفقا لحديث النبي عليه السلام:
(إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)
والنهي عن كثرة السؤال الواردة في الحديث، ليس معناها النهي عن السؤال في العلم أو تفصيلاته، وإنما النهى عن الخوض في توافه الأمور وكثرة السؤال فيها وطرحها على مائدة الجدل، في نفس الوقت الذي نترك فيه الأسئلة عن الثوابت والقضايا العامة الملحة.
وقد طبق النبي عليه السلام هذا المبدأ على أصحابه، حيث كان ينهاهم عن كثرة السؤال المشابهة لأسلوب اليهود في التدقيق والإلحاح، كما كان ينهاهم عن الخوض في الموضوعات الغيبية التي لا تحمل فائدة علمية ملحة، وكان دافع النبي عليه السلام في ذلك أن يجعل تركيز الصحابة رضي الله عنهم منصبا على أصول الشريعة وثوابتها وتفصيلاتها لكونهم الجيل الأول الذي سيحمل الرسالة للأجيال التالية.
وبالتالي لو أنهم انشغلوا بنوافل القضايا سيؤثر هذا على اهتمامهم بالقضايا الرئيسية حتما.
ومثال ذلك ما فعله النبي عليه السلام مع (عمر) رضي الله عنه عندما لمحه ومعه وثيقة من وثائق التوراة يطالعها من باب الفضول العلمي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وقال له:
(أمتهوكون فيها يا بن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)

والنبي عليه السلام هنا نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن السؤال والبحث في الثوابت والقضايا التي حسمها القرآن الكريم، وعدم مطالعة أقوال اليهود أو أصحاب العقائد الفاسدة فيما يقولون نظرا لما يمثله هذا الأمر من تشكيك للإنسان وذبذبة لأن اليهود أهل تحريف وليسوا أهل أمانة في النقل
فهذه هي حدود النهي وطبيعته، أما السؤال فيما عدا ذلك من أمور العلم فهي من القربات، وهي من السعي المطلوب في طلب العلم، لأن السؤال هو أساس البحث العلمي وأساس الفهم.
وقد سُئِل حبر الأمة (عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، بعد بلوغه العمر الطويل والعلم الجزيل فقالوا له:
كيف بلغت العلم ؟!
فقال: بلسان سؤول وقلب عقول
أي بلسان لا يكف عن السؤال في العلم، وبقلب عاقل يعرف كي يحتفظ بالعلم بين ثناياه.
وإيضاح الفارق بين السؤال المنهي عنه، والسؤال المطلوب أمر بالغ الأهمية حتى لا نخلط بين ضرورة السؤال لطلب العلم وبين الجدل الفارغ.
وسنضرب مثالا طريفا لذلك، فمثلا ورد في القرآن قصة أهل الكهف، ولم يصرح القرآن الكريم بعددهم، بل جعله احتمالا مطروحا، لهذا كان العلماء وطلبة العلم يبحثون خلف عددهم" "
فالبحث هنا جائز ومتاح لكونه من التدبر والعلم، أما إن جاء من يسأل سؤالا تافها لا قيمة للمعلومة فيه مثل أن يسأل فيقول، ما اسم كلب أصحاب الكهف؟!
فهذا هو الجدل وهذه هي التفاهة.
وإذا كان مثل هذا السؤال تافها ولا يجب أن نضعه في نقاش، فلنا أن نتخيل موقف وحُكْم هذه المناقشات والجدل الرهيب الذي ينعقد على كرة القدم أو المسلسلات والأفلام؟!

أيضا من الأفعال المنتشرة على مواقع التواصل، والتي تجد رواجا كبيرا عند الناس لأنهم يفعلونها وهم يظنون أنهم يخدمون الدين وينشرون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام!
بينما هم في الواقع يقعون في كبيرة فادحة من الكبائر ألا وهي الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، بكل ما تعنيه هذه الجريمة من عقوبة ثبتت في الحديث الشريف:
(إن كذِبَاً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)

وهذه الجريمة هي اعتياد الآلاف من الناس نشر الأحاديث المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، دون أن يتحققوا من صحتها، ويكتفون فقط بأن هذه الأحاديث مكتوبة بتصميم مُصَور يوحي بأنها مقتبسة من أحد الكتب المعتمدة، وهذه بلا شك جريمة فادحة العقوبة كما قلنا.
وقد يقول البعض كي يريح ضميره أنه ينشر الأحاديث التي يراها دون أن يدري أنها أحاديث مكذوبة ولا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول ليس عذرا أبدا.
لأن نشر أحاديث النبي عليه السلام ليست أمرا سهلا يمكن أن نتهاون فيه في نشره دون التحقق من مصدره، فالأحاديث من الشرع، وحديث واحد غير صحيح قد يُوْرد الناس المهالك لو طبقوه وهم لا يدرون أنه غير صحيح.
بالإضافة إلى أن التحقق من صحة الأحاديث لم يعد أمرا صعبا كما كان في الماضي عندما كان لا يستطيعه إلا المتخصصون، بل أصبح متاحا باستخدام أدوات التكنولوجيا بالبحث عن صحة الحديث في محركات البحث ومطالعة أقوال العلماء فيه.
وأيضا باستخدام موقع (الدرر السنية) وهو الموقع المتخصص في فهرسة وتخريج كافة أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا أراد أي شخص المساهمة في نشر السنة المشرفة فعليه أن يتحرى عن الحديث قبل نشره، أو ينشر الأحاديث الموثقة والمذكور فيها مصدر الحديث ودرجته.
فإن قال قائل إنه لا يستطيع فهم مصطلحات التضعيف والتصحيح، ولا يعرف شيئا عن تمييز الأحاديث بين الصحة والضعف، فالحل أن يسكت عن ذلك تماما، ولا يقدم على نشر أي شيء إلا إذا أخذه من متخصص، لأنه ليس مطلوبا منه أصلا نشر الأحاديث والسنة ما دام لا يميز بين صحيح وضعيف.
وقد قال النبي عليه السلام:
(مَن حَدَّثَ بحديثٍ، وهو يَرى أنَّه كَذِبٌ؛ فهو أحَدُ الكاذِبَيْنِ)
ويكفي لإدراك خطورة هذا الفعل أن نطالع نوعيات الأحاديث الموضوعة المنتشرة، والتي تأتي في معظمها من صفحات الشيعة، ومعلوم لكل متخصص أن أحاديث الشيعة ورواياتهم من أكذب الكذب، فهم لا يأخذون بالسُنة المشرفة المروية من طريق الصحابة رضي الله عنهم نظرا لأنهم يُكّفّرون الصحابة جميعا!،
هذا فضلا على أنهم لا يمتلكون أي أسانيد صحيحة للسنة النبوية
ولعل أشهر الأحاديث المكذوبة التي يشارك الناس في نشرها بينما هي من خرافات الشيعة، ذلك الحديث الذي نسبوه للإمام (عليّ الرضا) وقالوا فيه بأن النبي عليه السلام لم يكن أُمّيًا بل كان يقرأ ويكتب بسبعين لغة مختلفة!
وهذا من أوضح الجهل بآيات القرآن والسيرة النبوية، فالله عز وجل في القرآن خاطب نبيه بقوله:
[وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ] {العنكبوت:48}
والآية صريحة في أن النبي عليه السلام ما كان يقرأ كتابا ولا يخط بيمينه شيئا، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبي عليه السلام أميا لا يقرأ أو يكتب حتى لا يرتاب الناس والمشركون فيتهمونه بأنه أخذ القرآن ونقله من كتب الأقدمين أو كتب الرسالات الأخرى
أيضا من الآفات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تورط الآلاف في كبيرة من فروع الشرك، وهي (التألي على الله)، والتألي على الله معناه التدخل بالكلام والحُكم في أحكام الله التي تعتبر من الغيب المطلق ولم ينزل فيها القرآن أو تتحدث فيها السُنة المشرفة،
والآفة المنتشرة من هذا هي مناقشة مصير الأموات، والجزم بمصائرهم إن كانوا في الجنة أو النار!
فالحديث عن أهل الجنة والنار بالأشخاص المحددين بأسمائهم يجب أن يقتصر على من تم النص عليه بالقرآن والسنة وحدهما، باعتبارهما الوحي المنزل.
أما من عدا ذلك فهو من التألي على الله، فلا يجوز لمسلم تحت أي ظرف أن يجزم بدخول أي إنسان للجنة أو للنار بناء على ما يري الناس من عمله.
فالمصير بيد الله عز وجل وحده، والشيء الوحيد المسموح بقوله في هذا الشأن أن نتحدث بعموم فنقول إن من مات كافرا فهو في النار، ومن مات موحدا فهو في الجنة إن شاء الله، أما أن تحدد الأشخاص بأعيانهم وأسمائهم فهذه مصيبة!
لأنه من المستحيل تحديد خاتمة أي إنسان، فمن الممكن للمذنب أن يتوب قبل موته ولا يعلم أحد، ومن الممكن أن يُخْتم للرجل الصالح بعمل سوء ولا يعلم أحد فالعبرة بالخواتيم.
وقد جاء عن النبي عليه السلام قوله:
(إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى الناس عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى الناس عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وهو من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا )
بالإضافة إلى أن المناقشة في هذه الأمور أصلا من العبث والعته وفراغ العقل، ولا تفيد الناس شيئا، لا في دينهم ولا دنياهم، فضلا على كونها من أقبح الكبائر.
وإذا اقتضت الضرورة مناقشة هذه الأمور فيجب أن يكون الكلام كله مبنيا على مشيئة الله تعالي، فَيُقَال للصالح أنه في الجنة إن شاء الله، ويكون القول على سبيل الدعاء له لا على سبيل اليقين قطعا.
ويُقال عن الكفار أنه إن مات على عقيدة الكفر والإلحاد فهو في النار بمقتضي حكم الله.
وقد جاء عن أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها حينما توفى طفل قالت:
(طوبى لك طير من طيور الجنة)
فقال ﷺ: (وما يدريك يا عائشة أنه في الجنة، لعل الله اطلع على ما كان يفعل؟)
فلنا أن نتخيل كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى السيدة عائشة عن الشهادة لطفل معين ومحدد بالاسم أنه من عصافير الجنة، رغم أن الأطفال قبل البلوغ ليس عليهم حساب، وذلك على سبيل التشديد من النبي عليه السلام في النهي عن الشهادة لشخص محدد بالجنة أو النار طالما لم يرد فيه نص واضح من الكتاب والسُنة.

وعِلّة التشديد في الحكم هنا راجعة لكون الأحكام على الأفعال محجوبة بحجاب الغيب لا يعلمها إلا الله، خاصة وأن شرط قبول العمل ــــ مهما كان عظيما في باب الخير ــــ أن يكون العمل خالصا لله تعالى.
وهذا من المستحيل أن يحكم به المرء على نفسه أو يحكم عليه به غيره، فهذه الأحكام مؤجلة إلى يوم القيامة بنص الحديث الشريف الذي قال فيه النبي عليه السلام:
(إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)

ونص الحديث واضح، فإذا كان الشهيد الذي ضحى بحياته نفسها، والعالم الذي أنفق عمره وجهده لتعليم الناس، والرجل المتصدق المنفق الذي ضحى بماله لخدمة الناس، كل هؤلاء من الممكن أن يجدوا أعمالهم كلها يوم القيامة سرابا لا ماء فيه ويكون جزاؤهم النار لأنهم افتقدوا شرط إخلاص النية وكان هدفهم دنيويا!
فمن ذا الذي يمكن أن يشهد لأحدٍ بالجنة بشكل قاطع بناء على عمله؟!

وقبل مغادرة هذه النقطة ينبغي التنبيه على أمر واضح.
أن عدم شهادتنا لأحد بالجنة، ليس معناه ألا نتذكر أعمال الصالحين وننشرها وندعو لهم بها، ما دام كلامنا ودعاؤنا محمول على رجائنا له الخير، فهذا مما يُسْتحب نشره وذكره، بشرط الالتزام بالصيغة النبوية عند ذكر فضائل أي إنسان فنقول:
(نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله)
مع ملاحظة أن المدح المبالغ فيه، والثناء بالتعظيم للمرء في وجهه ـــ لا عند غيابه ـــ يُهْلك المادح والممدوح، لأن مدح الإنسان في حضوره فيه مظنة التملق، وقد جاء عن (ابن عمر) رضي الله عنهما:
(مَدحُك أخاك في وجهِه كإمرارِك على حلْقِه مُوْسى ـــ شفرة الحلاقة ــــ رميضًا ـــ أي شديدًا ـــ)
قال: ومدح رجلٌ ابنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ في وجهه فقال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: احثُوا في وجوه المدَّاحينَ التُّرابَ، ثم أخذ ابنُ عمرَ التُّرابَ فرمى به في وجه المادحِ، وقال: هذا في وجهِك ــــ ثلاثَ مراتٍ ــــ)
والنهي عن المدح هنا، ليس معناه ألا نشكر من أدي لنا معروفا، أو فعل فعلا جميلا، فهذا مطلوب لكنه مرهون بصيغة محددة لا ينبغي تجاوزها ألا وهي قول:
(جزاك الله خيرا)
وهي تكفي وزيادة للتعبير عن الشكر والمدح المباح، وذلك وفقا لنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(من صُنعَ إليهِ معروفٌ فقالَ لفاعلهِ جزاكَ اللَّهُ خيرًا فقد أبلغَ في الثَّناءِ)
أما رد الجميل الحقيقي فلا يكون بالإفراط في المدح وإنما يكون في الدعاء لصاحب المعروف بظهر الغيب، وبظهر الغيب معناه الدعاء له سرا دون أن يعلم، طبقا لوصية النبي عليه الصلاة والسلام:
(من سأل باللهِ فأعطُوه، ومن استعاذ باللهِ فأَعِيذُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافِئونَه فادْعُوا له حتى تَرَوا أنَّكم قد كافَأْتُموه)

فإذا كان هذا هو حُكم المدح لمن يستحق المدح والثناء، فما بالنا بمن يُفْرِط في المدح والثناء والمبالغة فيمن لا يستحق مدحا أو ثناء، ويكون مدحه وثناؤه كذبا لأجل المصلحة والرياء؟!

ونعود لقضية الشهادة للميت بالجنة أو النار حيث تبقت نقطة هامة للإيضاح في تلك القضية.
فالنهي المشدد عن الشهادة لأحد بالجنة أو النار، ليس معناه عدم الرد والبيان الواجب فعله على المحاربين لدين الله وشريعته بأقوالهم وأفعالهم.
فإن الذي قضي عمره في الهجوم على الثوابت الدينية، ومهاجمة السُنة والمجاهرة بأعمال الإلحاد، كل هؤلاء إن مات فيهم أحد، لا نشهد له بالنار بشكل قاطع
ولكن ليس معنى هذا أن نكف عن بيان أقواله وأفعاله في الدنيا، ما دامت تلك الأقوال والأفعال موجودة ومنشورة ويشاهدها الناس وهناك من يساهم في ترويجها.
فهؤلاء الفئة من الناس لا يدخلون في إطار النهي المذكور في الحديث الشريف:
(لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)
فهذا الحديث الشريف يُرْسى قاعدة عامة في النهي المشدد عن سب الأموات وانتقاصهم وذكرهم بسوء، ولكن هذه القاعد العامة لها استثناء هام وواجب،
هذا الاستثناء أقَرّه الشرع إذا كان الميت من دعاة الكفر والبدعة والمحاربين لثوابت الدين، ولم يتب عن فعله قبل موته توبة مُعْلنة عرفها الناس عنه.
وقد ذكر الإمام (المناوي) هذه القاعدة بقوله:
(نُهِيَ عن سب الأموات لما فيه من المفاسد التي منها أنه يؤذي الأحياء، ومحله في غير كافر ومتظاهر بفسق أو بدعة، فلا يحرم سب هؤلاء ولا ذكرهم بشر بقصد التحذير من طريقتهم والاقتداء بآثارهم كما يدل عليه عدة أحاديث مرت)

وهذا ما اتبعه كافة علماء المسلمين منذ عهد التابعين وحتى اليوم، فقد نقلوا لنا في كتبهم السِيّر الذاتية لأصحاب الإلحاد والزندقة والبدع، وشرحوا لنا ما فعلوه، وَعَلّقوا بالذم على كتبهم وأقوالهم.
بخلاف أن (علوم الحديث) نفسها تحتوي فرعا ضخما منها وهو (علم الرجال)، وهذا العلم هو المختص بتحقيق صفات رواة الأحاديث وبيان أحوالهم من الصدق أو الكذب، ولم يمنع موت هؤلاء الرواة من دراسة أحوالهم واتهام الكذابين منهم، وإلا لضاع العلم كله.
وهذه القاعدة قاعدة وجوبية في عالمنا اليوم، بعد أن انفتحت منصات الإعلام لتمجيد كل دعاة الإلحاد الصريح، ودعاة البدع والخرافات، ودعاة هدم الثوابت وأصبح لهم عشرات القنوات والصفحات التي تدافع عنهم وتصفهم بالتمجيد والتعظيم، وتجزم بأنهم من أهل الجنة أيضا!
فلنا أن نتخيل أثر هؤلاء على المشاهدين والمتابعين لو لم يتم التصدي لأفكارهم وبيان أحوالهم للناس.