عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2024, 04:52 AM
المشاركة 9
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

والعنصر الثالث من عناصر النجاة:
أن يسلك الإنسان سبيل النجاة والبعد عن الأفعال التي تُحّرم عليه دخول الجنة، ولا أعتقد أن هناك أغبي من الشخص الذي يوفقه الله لأعمال الخير حتى تأتيه الجنة فَيُفَاجئ بأن الجنة محرمة عليه بسبب أنه تورط في عمل من تلك الأعمال التي قررها الله كمبرر لتحريم الجنة على فاعلها.

وقد تعرضنا سابقا في هذا الموضوع للأحاديث التي بَيّنَت قِسْما من هذه الأفعال، ومنها مرتكب النميمة على سبيل الاعتياد، والعاق لوالديه، وقاطع الرحم، ومدمن الخمر، والديوث، والمنّان بما أعطي المرائي بعمله، وأيضا الرَجِلَة من النساء أي التي تعتاد سلوك صفات الرجال سواء في الملبس أو في الكلام أو في مُجمل الصفات.
وقد جاء في الحديث الشريف.
(ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ وثلاثةٌ لا يدخُلونَ الجنَّةَ: العاقُّ لوالِدَيهِ، والمدمِنُ على الخمرِ، والمنَّانُ بما أعطى)

كذلك منهم (المُجَاهرون)، الذين ورد فيهم حديث النبي عليه السلام:
(كلُّ أُمَّتي مُعافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من الجِهارِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا ثم يُصبِحُ وقد ستره اللهُ تعالى فيقولُ: عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربُّه، ويُصبِحُ يكشفُ سِترَ اللهِ عنه)
والذي يتأمل المجتمع اليوم، لن يجد شيئا أكثر انتشارا من المجاهرة بالذنب!
وهي من الكبائر المخفية عن الناس بسبب انتشار الثقافات المُعَلّبة، والدعوات الغريبة الصادرة عن معاتيه المثقفين في دعوة الناس ليعلنوا معاصيهم وفواحشهم في العلن تحت زعم الجرأة والصراحة وعدم النفاق!
وقد انتشرت أقوالهم تدعو الناس لتقليد الغرب في الإعلان بالفواحش والموبقات، ويفسرون دعوتهم بأن المجتمع الغربي صريح ومتسق مع نفسه ويعلن ما يفعله، بينما المجتمع العربي منغلق ومنافق يحب الفواحش والمعاصي ويقع فيها لكنه ينكرها ويخفيها في العلن!
وهذا من تلبيس الشيطان الرهيب على هؤلاء الناس
لأن إخفاء المعاصي والتستر عن الناس عند ارتكابها ليس من الصراحة أو الجرأة في شيء!
فالصراحة والجرأة هي من الأخلاق الحميدة، ولا يمكن أن نصف بها إنسانا إلا إذا كانت صراحته وجرأته في الحق وحده،
أما الخروج على الناس بالمعاصي والفواحش فهي وقاحة لا صراحة، وزندقة لا شجاعة وجرأة.
والمُستحيي من معصيته ومن يخفيها عن الناس هو مرتكب للمعاصي نعم، ولعل الله يتوب عليه، وغاية ما يناله أن يُعتبر في ميزان الشريعة مذنبا
أما المُعلن بمعاصيه والداعي لها والمجاهر بها على الناس، فهذا خرج بنفسه من حدود الذنب إلى حدود أعتي الكبائر لأن في فعلته تلك تحديا لشريعة الله تعالي، وتهوينا للمعصية في عيون الناس، وَهْدَما مؤكدا للضمير المجتمعي الذي يعتبر وجوده في أي مجتمع هو الحصن الذي يمنع الموبقات من الانتشار
كما أن مجاهرته تمثل تشجيعا رهيبا لغيره على ارتكابها، وتمهيدا للطريق أمامه بعد أن كان يمتنع بمعصيته ويسترها عن الناس من خوف إنكارهم عليه.
وأَشَرّ أنواع المجاهرين بالمعصية هم الداعين لها، والمدافعين عنها، والساعين لأن يتقبلها المجتمع تحت زعم الحرية وقبول الآخر، وهؤلاء صدق فيهم قوله تعالي:
[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النور:19}

أما قولهم الغريب بأن المجتمع العربي يحب المعاصي ويخفي ارتكابه لها وأن هذا من النفاق، فهو قولٌ معتوه لا يصدر عن عاقل!
فليس مطلوبا قط من المسلم أن يقتل شهوته ويهدم رغبة نفسه في ارتكاب المعاصي، بل المطلوب منه أن يمنع نفسه عنها ويصبر على عدم فعلها ــ إلا في الحلال ـــ اتقاء ونفاذا لأمر الله تعالي، ولذلك يجزيه الله تعالى على صبره ومقاومته تلك.
ولو كانت المعاصي ليست ذات إغراء للنفس، وممقوتة، وليست مُـرَكَبة في طبيعة الإنسان لانعدمت الحكمة من أخذ الثواب على عدم ارتكابها.
فهؤلاء الجهلة لا يفقهون أبجدية التشريع.
فالمسلم غير المتزوج تثور به رغبه للزنا فيمنعها ويقهرها بتقوى الله، ولو كان هذا الشخص لا يمتلك الشهوة للنساء ــ لأي سبب ـــ لما قيل عنه أنه اتقي الله تعالي لغياب العلة أصلا

ولتقريب الأمر بمثال.
فالشجاعة ليست معناها (عدم الخوف)، بل الشجاعة هي القدرة على كبح الخوف ومقاومته، أما انعدام الشعور بالخوف فهذا هو (التبلد) وما أبعد هذا عن ذاك
ولهذا فإن الدعوة لنشر الانحلال والمفاخرة بفعله ليست من الشجاعة وليست من الصراحة المجتمعية المطلوبة لأي مجتمع، لأن إعلانها وشرعنتها كفيل بخلق مجتمعات ملوثة تهدم معنى ومفهوم الإنسانية فضلا عن مفهوم الدين والأخلاق.
أو هم كما وصفهم المفكر الراحل د. (مصطفي محمود)، عندما قال إن هؤلاء الناس يريدون أن يجعلوا المجتمع مثل جبلاية القرود كل قرد فيهم مهتم بمؤخرته!

وأمثال هذه المجتمعات أنزل الله بها عقابا ماحقا جزاء فسقهم المعلن، مثل قوم لوط الذين كان قانونهم المجتمعي يشرعن الشذوذ ويعاير المتطهرين!
وَغنِيٌ عن الذكر أن نشر الفاحشة في المجتمع علنا والمناداة بها، أحد الأسباب الرئيسية في ظهور الابتلاء الإلهي بالأمراض الفتاكة والأوبئة المستعصية مصداقا لحديث النبي عليه السلام:
(يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ:
لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم)


وقد حفلت مواقع التواصل ووسائل الإعلام بمصائب من هذا النوع تستحي منها الشياطين، مثل الدعوة للإنجاب في غير زواج، والدعوة لإباحة الشذوذ، والدعوة لفتح بيوت البغاء ... الخ
كما أننا طالعنا في أوساط المثقفين انتشار هذه الظاهرة في مذكراتهم الشخصية التي يكتبون بها تجاربهم، وهو أمر يثير الغثيان في الحقيقة!
لأن هؤلاء الناس من المشاهير كان من الممكن أن يدونوا مسيرتهم وسيرتهم في مجالاتهم الثقافية دون ذكر ما ارتكبوه من موبقات في شبابهم وطفولتهم!
لأنها أفعال من الطبيعي أن يستحي منها صاحب الفطرة السليمة فضلا على المسلم العادي
لهذا كان مما أثار استغرابي بشدة وأنا أطالع بعض هذه المذكرات حكاية أحدهم والذي حرص على ذكر تفاصيل حياته في الطفولة وحكي فيها بالتفصيل أول واقعة زنا ارتكبها وكان عمره لا يتعدى الثانية عشرة!
ثم بعد ذلك أتحفنا بذكر قصص العشق التي خاضها لأربعين عاما كاملة من عمره!
وإعلامي آخر كتب في مذكراته نفس تلك المخازي التي اعتاد عليها منذ كان في العاشرة من عمره!
والسؤال المحير هنا حقيقة!
إن كانت كتابة المذكرات الشخصية للمشاهير صُنِعَت لكي يتعرف الناس على تجاربهم الفكرية والعملية ومشروعهم العلمي أو الإبداعي أو الثقافي في المجتمع، وهي بطبيعتها مجال يجب أن تقتصر الأحداث فيه على الوقائع العامة أو الوقائع الخاصة التي لها إطلالة على شأنٍ عام، لأن الهدف الأساسي من فن كتابة المذكرات هو عرض النماذج الحياتية للتجربة كي يستفيد منها القراء.
وبالتالي فإن ذكر تفاصيل الحياة الشخصية يعتبر من العبث وضياع الوقت والفائدة.
هذا إن كانت هذه التفاصيل أصلا من المباحات، فما بالنا إذا كانت تفاصيل الحياة الشخصية عبارة عن ركام وجو فاسد تأنف منه الخنازير!
والذي يثير الذهول أكثر أن رُواة هذه المذكرات لم يكتبوها إلا في نهايات عمرهم، بعد بلوغهم سن الثمانين وأكثر!
ولا شك أن هذا من غضب الله على هؤلاء الناس، فإن المرء في هذه السن له من المحاذير ما يجب أن يتوقاها، فقد جاء في الحديث:
(أعذر الله إلى امرئ أُخِّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة)
بل إن المرء يجب عليه الحذر عند بلوغ الأربعين، فقد جاء في تفسير (ابن كثير) للآية الكريمة:
[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ] {الأحقاف:15}
أورد (ابن كثير) قول (مسروق) رحمه الله: (إِذَا بَلَغْتَ الْأَرْبَعِينَ، فَخُذْ حِذْرَكَ)" "
وجاء في تفسير الإمام (القرطبي) في تفسير هذه الآية الكريمة.
(ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ آنَ لَهُ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، وَيَشْكُرَهَا، قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، وَهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا وَيُخَالِطُونَ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ لِأَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِذَا أَتَتْ عَلَيْهِمُ اعْتَزَلُوا النَّاسَ)
نسأل الله العفو والعافية.

وكذلك من الموبقات التي يجب تلافيها على كل عاقل، كبيرة من أكبر الكبائر، لكنها ذات خصوصية في الجزاء حتى أنه لا يفوقها إثما إلا الشرك بالله وعقوق الوالدين، وهي جريمة (الربا)
فالربا الصريح والذي اتفقت عليه كلمة العلماء المتخصصين في تحريمه، من أشد الذنوب التي تقسم النار لِمُرْتكبها، بخلاف كوارثها في الدنيا.
ويكفي أن نعلم أن الربا هو الذنب الوحيد الذي توعد الله عز وجل فاعله بحرب من الله ورسوله، وذلك في قوله تعالي:
([فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] {البقرة:279}
وقد جاء هذا النهي المشدد للربا إلى هذه الدرجة من الوعيد نظرا لما يتسبب فيه من خراب بالمجتمعات، وانهيار للأموال، واندثار للتجارة وتشجيع البطالة المقنعة عن طريق التجارة المجردة بالمال بدلا من استخدامه فيما ينفع الناس من أعمال التجارة والعمران، والذي هو الهدف والمغزى والحكمة الإلهية من خلق الإنسان على الأرض.
وقد اعتدنا في التشريع الإسلامي أنه يتشدد للغاية فيما يخص تحريمه للجرائم والكبائر التي تعود على المجتمع ككل بالضرر البالغ، لأن الجريمة أو الكبيرة إذا اقتصر ضررها على مرتكبها هان شأنها وتأثيرها، أما إن كان تأثيرها على المجتمع واسعا، فالشرع هنا يُغَلّظ العقوبة والوعيد عليها.
والضرر القادم من الربا هو أوسع أنواع الضرر أثرا بعد جريمة إثارة الفتن والبغي والحرابة.
لهذا حذر منه النبي عليه السلام تحذيرا شديدا في أكثر من حديث، فقد صح عنه أنه قال:
(لعنَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكلَ الرِّبا وموكلَهُ وشاهديْهِ وَكاتبَه)
وغنيٌ عن الذكر أن (اللعن) معناه الطرد من رحمة الله، والطرد من رحمة الله معناه تحريم العبد علي الجنة بطبيعة الحال، فإن الخلق تدخل الجنة برحمة الله وحدها وفق نص الحديث.
(لنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟
قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يتغمدني اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ: إمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خَيْرًا، وإمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ)
واللعن عندما أصاب إبليس لعنه الله، حرم الله عليه التوبة وطرده من رحمته وأوجب له النار.
فهل هناك عاقل يمكن أن يغامر بنفسه إلى مصير الطرد لأجل إصراره على فعل مهما كانت أهميته له؟!

كذلك هناك أبوابا يستحق فيها مرتكب المعصية اللعن، وبالتالي تُحَرّم عليه الجنة، والمشكلة الكبري حقيقة أن بعض هذه الأعمال لا يدرك مرتكبوها أنها بهذه الدرجة من الجسامة،
ومنها قول النبي عليه السلام من حديث (ابن مسعود) رضي الله عنه:
(لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ، والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللَّهِ ما لي لا ألْعَنُ مَن لَعَنَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو في كِتابِ اللَّهِ.)
والحديث يتحدث عن الزينة المحرمة على النساء، فالزينة كلها مباحة للنساء أمام محارمهن وأزواجهن إلا ما جاء ذكره في الحديث من أنواع الزينة السابقة، ولا شك أن العناصر المذكورة في الحديث رغم انتشارها في المجتمع إلا أنها لا تستحق من أي عاقل أن يصر عليها ما دامت عقوبتها فادحة لهذه الدرجة!
وهناك ملحوظة هامة للغاية على القارئ أن ينتبه لها، وهي أنه يجب عليه اللجوء لفتاوي المجامع الفقهية حتى يدرك كل إنسان ما هي حدود الربا المحرم، وما هي حدود الزينة المحرمة وضوابطها وما يلحق من استثناء
فهذه المحرمات وغيرها جعل الله لها استثناء يجيزها ويبيحها في حالات خاصة وهي الضرورة، وتحديد حالات الضرورة المُبيحة في الكبائر ينبغي أن يؤخذ فيها قول مجامع الفقه ومجموع أقوال العلماء وأدلتهم، لأنه لا يبرئ المسلم أن يأخذ التبرير والتحليل من قول شاذ أو من فتوى بغير دليل.
ويلتحق بالفئة السابقة من النساء اللواتي يأتين بالزينة المحرمة، فئة النساء التي أخبر عنهن رسول الله صلي الله عليه وسلم، بأنهن لا يجدن ريح الجنة ولا يدخلنها، بمعنى أن هذه الفئة ضمن الفئات المحرمة على الجنة، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:
(صنفان مِن أهلِ النّار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربونَ بها النّاس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُـميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسهنّ كأسنمةِ البختِ المائلة، لا يدخلن الجنّةَ، ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحَها لتوجدُ مِن مسيرةِ كذا وكذا)
وأظن أن الحديث لا يحتاج شرحا لمفهوم الكاسيات العاريات، فإذا كان جزاء الكاسيات العاريات هو التحريم على الجنة، فما بالنا بجزاء من يدعو النساء إلى ذلك، ويحرضونهم على هذا تحت زعم التحرر، وكأن التحرر لا يكون إلا بالتعري والتهتك والتخلي عن ثوابت الدين والأخلاق؟!
يحدث هذا في نفس الوقت الذي يرفض الغرب أن يتخلى عن ثوابته وأعرافه الاجتماعية، بل يُجبر مواطنيه ــ حتى لو كانوا من المسلمين ــ بالتخلي عن أزيائهم المحتشمة لأنها تخالف قوانينهم وأعرافهم، رغم أن الغرب في دعوته تلك يتناقض تناقضا رهيبا مع مبادئ الحرية الفردية وحقوق الإنسان التي صدعوا بها رؤوسنا لعشرات الأعوام!
ولكن العيب هنا ليس عيب الغرب، بل العيب الأكبر في أولئك المتغربين من العرب الذين خالفوا دينهم وأعرافهم واحترامهم لأنفسهم وقبلوا أن يقفوا صفا واحدا مع دعاة البغاء المقنن!
وفي الدورة الأولمبية الأخيرة في اليابان لعام 2021، وَجّهَت إحدى الفرق الأوربية ضربة قاصمة لدعاة التعري عندما رفض الفريق النرويجي للكرة الشاطئية أن يلتزم بارتداء زي السباحة المكشوف بالكامل وارتدى زِيّا أكثر حشمة يغطى معظم الجسد وقالوا في تبرير ذلك أنهم يريدون للناس أن يشاهدوا مهارة وفن الكرة الشاطئية لا أن يشاهدوا أجساد اللاعبات العارية!
وكانت النتيجة أن الاتحاد الأوربي للعبة وقع عليهم الغرامات المادية نتيجة تمسكهم بعدم ارتداء الزي التقليدي.
فإذا كانت بعض النساء في أوربا قد أدركن الخدعة التي مارستها عليهم دعوات التحرر طيلة عشرات السنين، وأدركوا أن النداء بتحرير المرأة لم يكن إلا دعوة فاسدة لتصبح المرأة سلعة متاحة بلا ثمن، فما بالنا بمن يطلقون على أنفسهم مثقفي التنوير في العالم العربي لا ينطقون بكلمة أو تعليق!
ولماذا لم يرفعوا شعار حرية المرأة في اختيار الزي الذي تريده؟!
أم أن نداءاتهم لا يمكن أن تنادي بالحرية إلا فيما يخص حرية التعري؟!

ومن تلك الكبائر التي تُحبط وتفسد العمل الصالح ممارسات اعتاد عليها الناس في عالمنا اليوم ويتوهمون أنها مباحة، أو على الأقل من المعاصي التقليدية.
بينما هي أفعال إما أنها تورد النار، وإما أن تُحبط العمل (وإحباط العمل معناه خسارة الإنسان لرصيد حسناته بالكامل)، وإما أنها أفعال تلتهم موازين الحسنات القيامة.
ولا أظن أن هناك عاقلا في عالمنا اليوم يغامر بخسارة حسنة واحدة من حسناته، مع ندرة أعمال الطاعات وانتشار الإثم والفواحش ليل نهار.
والكارثة الكبرى أن هذه الأعمال ليست من الأعمال التي يصعب مقاومتها أو الأعمال التي لها نفع من أي وجه!
بل هي أعمال يستطيع الإنسان الكف عنها بسهولة.
ورغم ذلك فانتشار مواقع التواصل الاجتماعي جعلها منتشرة انتشارا رهيبا في المجتمع، ويفعلها الناس سعيا وراء التسلية أو المشاركة بالتعليق أو لجلب الشعبية لما يكتبه على صفحته!
ويعتبر أشد هذه الأعمال حُرمة وخطورة هي تأييد الظلم والترويج له أو تبني وجهات النظر الظالمة ولو لفرد واحد في المجتمع.
وليس المقصود هنا مجالات العمل السياسي فقط، بل حتى في المجال الاجتماعي، فإذا تعرض أي إنسان لظلم واضح وانتشرت مظلمته بين الناس فإن من يؤيدها سيكون شريكا فيها كفاعلها تماما رغم أنه لا علاقة له بالأمر من الأساس!
فالمساندة والتأييد لأفعال الظلم الواضحة والرضي بها، تجعل المؤيد مشاركا فاعلا فيها كالفاعل الأصلي، والمساندة والتأييد للظلم أو الباطل على نحو الاشتباه لا يعفي من العذر يوم القيامة لأن المرء من المفترض ألا يؤيد ويساند إلا ما كان واثقا من أنه فعل من أفعال الحق.
فإذا اشتبه عليه الحق مع الباطل فالسكوت هنا واجب.
والله عز وجل يقول:
[وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {هود:113}
وقد جاء في تفسير (الكشاف) للزمخشري:
(عن عطاء أنّ رجلاً قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال فمن الرأس، يعني من يكتب له؟
قال خالد بن عبد الله القسري، قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث
" ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة أو بري لهم قلماً، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي به في جهنم"
)

فالظلم لا يشمل الظالم الفاعل وحده، بل يمتد ليشمل المعين والمشارك والأخطر أنه يشمل المؤيد والراضي به أو المشجع له.
وفي الحديث الشريف:
(اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ)
فالأمر ليس فيه هزل أو استخفاف، وليس على الإنسان من شيء إن اتقي الشبهات أو الوقوع في أمور فادحة مثل هذه الأمور وهو يحسبها أمرا هينا
خاصة وأن تحديد مفهوم (الظلم) و(الظلمة)، يحتوي على معانٍ خطيرة جدا، قد لا يدركها بعض الناس.
فالظالم هو الفاعل، والمعين على الظلم ليس هو الشريك كما يفهم الناس، لأن الشريك في الظلم (فاعل أصلي) وليس فاعلا معاونا.
بينما مفهوم (أعوان الظلمة) يشمل ما هو أفدح، وهو الذي يقوم بتيسير حياة الظالمين ولو بغير المشاركة في أفعالهم!
فقد قال الإمام (ابن تيمية) في تعريف مفهوم (أعوان الظلمة).
(وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة، أو برى لهم قلمًا، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك، قال تعالى:
{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا})

وللإمام (أحمد بن حنبل) تعريف وشرح بالغ الخطورة لمفهوم (أعوان الظلمة)، فمن المعروف عن الإمام أحمد أنه تم سجنه وحبسه ظلما في الفتنة المشهورة المعروفة باسم (فتنة خلق القرآن) التي نوهنا عنها سابقا، والتي حبسه فيها الخليفة العباسي (المأمون)، ونظرا لجلالة قدر الإمام أحمد عند الناس فقد كان حراس السجن يخشون من عواقب حبسه ظلما، ويحاولون النجاة من هذا الإثم، وحدثت القصة التالية في أثناء فترة حبسه.
(قال أبو بكر المروذي:
لما حبسوا أحمد بن حنبل في السجن جاءه السجان، فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن أنفسهم
)

فلنا أن نتخيل حقيقة الأمر على السجان الذي كان يظن أنه من أعوان الظلمة، رغم أنه يفعل هذا مضطرا، فإذا به من الظلمة أنفسهم، وأصبح أعوان الظلمة هم أعوانه في شئون حياته العادية من الذين يتعاملون معه في التجارة ونحوها من أمور معيشة الناس دون حتى أن يتورطوا في ظلمه نفسه.
مع ملاحظة هامة ينبغي أن يدركها القارئ، وهو أن مفهوم (أعوان الظلمة) هنا يقتصر على من يعينون الظالم على حياته العادية وهم لا ينكرون فعله، أو يتبرؤون منه، فإن أنكروه فقد برئوا من الإثم إن اضطروا للتعامل معه.

ونعود هنا لقضيتنا الأساسية في ضوء هذا الشرح.
فمعنى هذا أن التأييد أو الترويج لفعل الظلم، لا يجعل من الإنسان معاونا للظلمة فقط بل يجعله منهم، ووزره مثل أوزارهم رغم أنه اكتفي من كل هذا بمجرد التأييد بالكتابة أو اللسان!
والتطبيق العملي لهذه التصرفات نجده في مواقع التواصل عندما تنقلب الصفحات والتعليقات للسب والقذف وتبادل الشتائم في تأييد قضية معينة أو نفيها، دون أن يدرك المتورطون في ذلك ما فعلونه بأنفسهم!
والشتائم والسب بالألفاظ النابية والقبيحة حتى في الأمور العادية واستخدام هذه اللهجة وجعلها أسلوبا للمخاطبة في الحوار، هذه كلها من كوارث مواقع التواصل، والتي هي بالقطع من أشد الأفعال إثما وأشدها في استهلاك حسنات الناس نظرا لأن الطعن في الأعراض والسب والافتراء، كلها لن يكون تكفيرها يوم القيامة إلا من خلال حسنات الساب أو الشاتم، والذي يعتبر وفق نص الحديث النبوي أفلس الناس في الدنيا والآخرة، حيث يقول النبي عليه السلام:
(أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ.)

والكارثة الأكبر أن هذا الأسلوب في الحوار أصبح يلاقي اعترافا ومدحا من المجتمع، بل وتشجيعا كبيرا باعتبار أن الشخص سريع البديهة في الردود الساخرة والشاتمة يعتبر من الأشخاص المميزين بين أقرانهم على مواقع التواصل!
ومع التشجيع المستمر يتورط الإنسان ويوغل في هذا الأمر الذي سيفضي به حتما للنار وفق نص الحديث ما لم يتب ويكفر عن ذلك.
وامتداد لسان الإنسان إلى أعراض الناس، لا يعادله أي إثم أو معصية يرتكبها الإنسان في حق نفسه سواء بالتفريط في الفرائض أو من خلال الوقوع في الذنوب.
فإن معصية الإنسان إن كانت في حق نفسه هان أمرها بالتوبة والاستغفار، أما المعاصي المتعلقة بالناس فهي مرهونة بعفوهم هم وإلا تم الحساب عليها يوم القيامة.
وقد ثبت تفصيل التفرقة بين أنواع المعاصي في حديث النبي عليه السلام.
(الدَّوَاوِينُ عِنْدَ الله عز وجل ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ الله مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ. فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِالله قَالَ اللهُ عز وجل، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا؛ الْقِصَاصُ لَا مَحَالَة)

وقد جاءت لنا وصية بليغة من (عبد الله بن عمر) رضي الله عنه، عندما طلب منه رجلٌ، أن يلخص له من علوم الشريعة ما ينجو به، فقال له (عبد الله بن عمر):
(إِنَّ العِلْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ البَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لاَزِمًا لِأَمْرِ جَمَاعَتِهِمْ، فَافْعَل)
أي أن الصحابي الجليل (عبد الله بن عمر) لَخّص للرجل سبيل السلامة والنجاة في ثلاث وصايا جامعة، بأن أوصاه أن يلقي الله دون أن يكون عليه حقٌ من مال الناس بسرقة أو غصب، ودون أن يتورط في الدماء، ودون أن يتورط بالخوض في أعراض الناس، وأن يلزم أمر الجماعة.
ومن خلال وصية (ابن عمر) ندرك مدى خطورة التورط في الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، حيث جعلها (ابن عمر) في ثلاث مواضع من وصيته لأنها المواضع التي سيحاسب عليها الناس بمثقال الذرة يوم القيامة.
فلا ينبغي للعاقل أن يورط نفسه في هذا الجزاء الرهيب، دونما أدني فائدة تذكر.

ولكن مع ملاحظة هامة جدا وضابط هام في هذا السياق،
وهو ألا يعمد المرء إلى اليأس من رحمة الله أو الظن بأنه لن يُغْفر له إن تورط في حقوق العباد وجاءت لحظة التوبة فنوى التوبة من قلبه ولكن تعذرت عليه سُبل التحلل من حقوق العباد وإبراء ذمته منهم.
لأن الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ولا يغلق باب التوبة قط حتى لحظة الموت، مهما كانت الأفعال جسيمة، طالما أن العبد نوى التوبة وعقد عزمه وصح ندمه.
وللجواب عن نقطة حقوق العباد، فإن الله عز وجل افترض فيها على العبد ضرورة أن يؤديها في الدنيا قبل أن يأتي أوان حسابها في الآخرة فتؤخذ منه بالقصاص.
ولكن هذا الأمر ليس معناه غلق باب التوبة إذا استحال على الإنسان أن يقضي الحقوق التي عليه أو بعضها، كأن يكون صاحب الحق مجهولا لا يعرفه، أو أدركه الموت وليس له ورثة مثلا أو نحو ذلك.
فالأصل أن يجتهد الأمر لرد الحقوق المادية والمعنوية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن استحال ذلك وكان الحق حقا معنويا بغيبة أو نميمة أو بهتان، فليكثر التائب من الاستغفار لصاحب الحق، وَيُكثر من ذكر من أخطأ في حقه بالذكر الحسن في المَوَاطن التي ذكره فيه بسوء.
وإن كان الحق ماديا واستحال عليه أن يؤديه لصاحبه، فليستغفر الله ويتصدق بقيمة هذا الحق ويهب ثوابه إليه وإذا استحال أداء الحق من كل وجه، فليستغفر الله تعالي بصدق توبته فإن علم الله صدق توبته قَبِلَ منه وأدى عنه يوم القيامة إن شاء الله.

وقد جاء في الحديث قصة الرجل الذي قتل مائة نفس ــ ولا شك أن الدماء هي أقوي الحقوق وأول ما يُقْضي فيه يوم القيامة ـــ وكان الرجل قاتلا فتاب إلى الله، والتمس عالما يهديه الطريق، فنصحه العالم بأن يهجر محل سكنه الذي يكثر فيه من يشجعونه على الإثم ويرتحل إلى بلد آخر معروف بصلاح أهله فيقيم بينهم.
فذهب الرجل لينفذ وصية العالم له وتوفي في الطريق فغفر الله له بذلك.
وهذا هو نص الحديث كاملا:
(كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فكمل به مائة،
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة، فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره )
فالعبرة كما يوضحها الحديث ألا نيأس، وفي نفس الوقت ينبغي أيضا ألا نستهين ونتواكل، فالله عز وجل لا يأمرنا إلا بصدق النية وبذل أقصي الجهد، حتى لو كان هذا الجهد مقدار حبة من خردل، سيقبله الله منا ويجعله طريقا لِصِدق الوصول إليه.