عرض مشاركة واحدة
قديم 05-18-2024, 04:22 AM
المشاركة 8
محمد جاد الزغبي
مستشار ثقافي

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

والعنصر الثاني من عناصر طريق النجاة:
وهو البحث عن سبيل العتق من النار بأن يكون ضمن السعداء الذين حَرّم الله عليهم النار، ولا يمكن للمسلم أن يرجو شيئا أكبر من أن يكون مُحَرّما على النار، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ سامية يوم الحساب.
فهي أشبه بجواز سفر دبلوماسي يمتنع به عن دخول النار ولو كان مُسْتحقا لها بعمله وميزان سيئاته، وهذه الكرامة جعلها الله تعالي لأعمال بعينها ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام.
فالأحاديث التي ورد فيها تعبير (حُرّم على النار....)، تستحق أن نضعها أمام أعيننا ليل نهار، لأن كلام النبي عليه السلام ليس كلاما عاديا، وتعبيراته وحيٌ مُنزل وتشريع مُرْسَل، فإذا وصف هذا الوصف فلا شك أنه وصف دقيق مقصود، وبشارة متحققة بإذن الله.
وقد أحسن فريق العلماء بموقع (الإسلام سؤال وجواب) عندما جمعوا هذه الأحاديث في صفحة واحدة مختصرة تتضمن الأعمال التي وردت فيها هذه البشارة ومنها.
قوله عليه الصلاة والسلام.
(عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لمعاذ رضي الله عنه: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)
ولا شك أن شهادة التوحيد ــ بصدق القلب ــ هي الأساس والأصل لكل رسائل الرسل قاطبة، والسبيل الاسمي الذي لا يدانيه سبيل هو إخلاص التوحيد لله تعالي.
وهذا الحديث متمم للآية الكريمة التي شرحت لنا عاقبة الشرك، فإذا كان الله يغفر لعبده الذنوب جميعا إلا أن يُشرك به، فلا شك أن نقيض الشرك وهو (التوحيد) يجعل العبد مُحَرّما على ناره وعذابه.
والحرص على قول (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) و (لا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)
هي خير ما ينبغي أن يحرص المسلم على ترديدها في كل أحيانه، وأن يكون ترديدها مقرونا بإيمان القلب وتصديقه فهي حصن المسلم الحصين في الدنيا والآخرة، وقد ثبت عن النبي عليه السلام قوله:
(من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلْكُ وله الحمْدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. في يومٍ مائةَ مرَّةٍ، كانت له عِدلُ عشرِ رِقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائةُ سيِّئةٍ، وكانت له حِرزًا من الشَّيطانِ يومَه ذلك حتَّى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاء به إلَّا رجلٌ عمِل أكثرَ منه)

ومن أحاديث النجاة من النار أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:
(حُرّم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ)
وهذا الحديث علامة والله من علامات الإسلام، وسمو شريعته، ودلالة علي صدق قائله ونبوته، صلي الله عليه وسلم.
لأن الحديث من الإعجاز الاجتماعي عندما يجعل هذا الجزاء الأسمى لحُسْن الخلق، والتي قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أنها أقرب الطاعات التي تجعل المرء في الجنة قريبا منه هو شخصيا عليه السلام وذلك في الحديث الصحيح:
(إن من أحبكم إلىّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلىّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)

فالمجتمع الذي يلتزم فيه المسلمون بهذه النصوص، لا يقتصر جزاؤهم فقط على النجاة من النار، بل يجدون جزاءهم في الدنيا في مجتمع أصيل متماسك متعاضد لا يضيع فيه الضعيف ولا يفتري فيه القوي، ومن هنا جاء إعجازه الاجتماعي.
ونعود للحديث الأساسي في هذه النقطة وهو أن الله تعالى حَرّم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس، وهذه الصفات كلها لو تأملناها سنعرف أي مصيبة نقع فيها الآن في مجتمعنا.
فالهين السهل القريب المتواضع من الناس دوما ما يصفه الناس بالضعف، بالذات إذا كان يمتلك أسباب القوة من نفوذ أو مال أو جاه أو علم.
وتكون الكلمة الأثيرة للمجتمع له في هذه الحالة هي نصيحته بأن يغتر بنفسه قليلا أو يحفظ مكانته ولا يخالط الناس ــ حسب قولهم ــ أو يتعامل بوضعه ـــ كما يقول البعض الآخر ـــ وأن يجعل بينه وبين الناس مسافة ـــ كما يتشدق آخرون ــ وألا يجعل معاملته للناس من منطلق البساطة!
فأين هؤلاء من أخلاق الإسلام التي فرض الله فيها التواضع، وأين هم من أفعال النبي عليه السلام الذي جاءه صحابي يبايعه لأول مرة، وكان يرتعد ويتلجلج وهو في حضرة خير خلق الله قاطبة،
فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟!
دعونا نطالع الحديث.
(أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ رجلٌ، فَكَلَّمَهُ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ، فقالَ لَهُ: هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ)
وبالنظر إلى الحديث نجد أن النبي عليه السلام أرسي قاعدة هامة جدا، وهي أنه رغم مكانته التي لا تدانيها مكانة إلا أنه شدد على أصحابه ألا يُمَيزوه ويبالغوا في إطرائه وألا يعاملوه معاملة الملوك، وبالفعل تعامل النبي عليه السلام بنفسه مع أصحابه كأحدهم، فكان يعمل معهم كما يعلمون، ويتقدمهم في كل عمل أو جهاد، وكان يجوع معهم إذا جاعوا، ويجتهد قبلهم في مواقع الجهد، بل ويتصدى للمشقة التي قد تقف عرضة أمام أصحابه في الأداء

وبلغ من شدة تَحَرّيه عليه السلام وحرصه على عدم التميز عنهم أن رجلا من خارج المدينة جاء إلى مجلسه في المسجد كي يلقاه ويسأله عن دعوته ويبايعه.
ودخل إلى المسجد وتأمل في الجالسين جميعا وقال:
(أيكم محمد؟!)
وكان هذا التساؤل درسا أخلاقيا رهيبا يندر أن تجد مثله في وضوحه، فالرجل الغريب لم يستطع أن يميز شخص النبي عليه السلام بين أصحابه لأنه كان مخالطا لهم، لم يميز نفسه بمقعد أو بعرش أو حتى بحلقة أو ثياب أو عمامة تختلف عن الجالسين!

ولذلك يُعتبر من أشد أنواع الكبر، أن يطلب الإنسان التميز على غيره والمعاملة الخاصة له، اعتمادا على ما وهبه الله من النعمة أو العلم أو المنصب، فهذا كله من الكبر المحرم.
فإذا جاء التمييز وجاءت المعاملة الخاصة من الناس لأحد رموز المجتمع ـــ دون أن يتعمدها أو يطلبها ــ فهي عندئذ جائزة ولا شيء عليه منها، لأن الواجب على المجتمع تقدير أهل السن والخبرة والعلم والمكانة، أما الشخص المميز نفسه فلا يجوز له مطلقا أن يطلب التميز في شيء، حتى لو كان في مسألة شكلية مثل وقوف الناس له تعظيما أو اجلالا عند دخوله أو خروجه.
فهذه المسألة قد تكون شكلية عند الناس، أما حُكْمها في الشريعة فكارثي، لأن النبي عليه السلام يقول:
(من أحبَّ أن يتمثَّلَ له النَّاسُ قيامًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ)
فتخيلوا أي كارثة نغفل عنها إذا كان مجرد حب الإنسان لوقوف الناس تكريما له تجعله من أهل النار بنص الحديث، فما بالنا بالمصائب التي نجدها منتشرة بين المجتمع وتدعو آحاد الناس للتميز لثروة من المال، أو بعضٍ من العلم؟!
ونقول لهؤلاء الذين ينصحون الناس بالكبر والتكبر، يكفي أن نصائحكم يمكن أن تورد النار كل من استمع إليها وظن أنها قواعد اجتماعية عادية ومباحة وذلك وفقا لحديث النبي عليه السلام.
(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر)
وأحيانا كثيرة يغيب معني ومفهوم (الكبر) عن الناس، فيأتون من التصرفات الموروثة من الأعمال التليفزيونية طباعا هي من أشد أنواع الكبر لكنهم لا يدركون ذلك،
لهذا يكفي أن نقول بأن الكبر هو كل تصرف يصدر منك ويكون فيه فصل بينك وبين فئة البسطاء من الناس أو الفقراء، بمعنى أن تتعمد التميز عنهم وعدم مخالطتهم، تحت تأثير المقولة الشهيرة عن تباين الطبقات!

أما من يدعون لهذه الطباع ويتعمدون الكبر على من دونهم مالا أو نفوذا، فيكفيهم أن نقول بأن الهين السهل البسيط المتواضع إذا امتلك أسباب القهوة والعنجهية وأصَرّ على البقاء كما هو بفطرته فجزاؤه عند الله هو أن يُحَرّم الله عليه النار، وكفي بها فضيلة.
وينضم إلى جملة أصحاب الفطرة، هؤلاء الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن قلوبهم رقيقة كأفئدة الطير من شدة رقتها، فهؤلاء يلتحقون أيضا بكل هين لين سهل قريب من الناس، وينعم الله عليهم بالتحريم على النار وذلك مصداقا لقوله عليه السلام:
(يدخلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئِدَتُهُم مثْلَ أفئِدَةِ الطيرِ)
وهؤلاء هم من نعرفهم في المجتمع بعدة صفات، جميعها يشملهم الحديث الشريف، وهم أصحاب القلوب الرقيقة التي ترضي لأقل شيء وتسامح لأقل اعتذار، وتبكي لأقل موقف، فقلوبهم لا تحتمل القسوة حتى في العداء، ولا يستطيعون تغيير طباعهم تلك مهما واجهوا من عنت الدنيا والناس.
وكذلك منهم أصحاب القلوب الخاشعة لله، شديدة الخوف من الله عز وجل، فإذا ذُكّرَ أحدهم بالله وجدته يرتعد خوفا ويندم على أقل تقصير.
كذلك منهم أصحاب القلوب التي تتوكل على الله كالطير تغدو خماصا وتعود بطانا، وهم هنا أصحاب التوكل الصحيح الذين يبذلون من العمل ما يستطيعون ثم يتركون الأمر لله واثقين بأنه لن يضيعهم، وترى الواحد منهم شديد الثقة بتوفيق الله كما لو كان قد أدرك المستقبل ورآه بعينه.
فهؤلاء الفئات جميعا يدخلون في معنى الحديث السابق.
وهؤلاء جميعا هم على العكس من أولئك الذين يتميزون بالتكبر على الناس، أو يشعرون بأفضليتهم على الناس أو الذين يتعالون على قبول النصيحة أو الحق إذا جاء من غيرهم
لأن أخطر أنواع الكبر إثما، التكبر في شأن العلم، سواء كان تكبرا من الإنسان بما أنعم الله عليه من علم فيغتر به على من دونه، أو تكبرا عن قبول الحق ممن يراهم أصغر منه شأنا، لأن الحق كبير بذاته، متى ظهر أمام المسلم فيلزمه أخذه والاعتراف به بغض النظر عن القائل به.
كذلك التكبر عن النصيحة، فهذه آفة كبرى حيث يرفضها البعض استنادا إلى أنها جاءت ممن هو أقل منه عبادة أو علما، فيجد في نفسه غرورا أن يتم توجيهها إليه، فهذه مهلكة كبرى وجب توقيها، والقبول بالنصح الحق ولو جاءك ممن لا يعمل به.

ومن الأحاديث الشريفة في هذا الجانب أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:
(مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ)
وهذا باب بالغ الاتساع وميسور للناس جميعا، فالمقصود من تعبير (اغبرت قدماه) أي مشي في سبيل الله تعالي ولو ساعة واحدة من نهار.
ولا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يتيسر له ذلك بشتى الطرق، بداية من الجهاد في سبيل الله، وهي متاحة للأغلبية من الشباب في فترات التجنيد وأعمال الحروب أو حتى في فترات السلم ما دام تجنيده تم لهذا الغرض، فليس شرطا أن يخوض المرء قتالا كي يعتبر من أهل الجهاد، فالرباط من الجهاد قطعا، والرباط هو الحراسة والقيام بأمر الحماية على الحدود والثغور.
ووصولا إلى السعي في سبيل الله على الأرملة والمسكين وعوام الفقراء في قضاء مصالحهم، فهذه الأعمال عند الله كالجهاد في سبيل الله
(السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوْ: كالَّذِي يَصُومُ النَّهارَ ويقومُ اللَّيْلَ)

ويدخل فيه أيضا السعي وبذل الجهد في مصالح عموم الناس، أو في مصالح أفراد الناس عند من يمتلك القدرة على معاونة غيره، ويدخل فيها أيضا السعي في طلب العلم لأنه طلب العلم والسعي فيه وبذل الجهد من أفضل الجهاد عند الله .... الخ
وهناك حديث شامل جامع عن النبي عليه السلام يتمم هذه المعاني كلها، فلو تدبره المسلم سيجد فيه أبواب الخير علي أعلي ما يكون من التيسير،
يقول النبي عليه السلام:
(عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل
)

ويلتحق أيضا بهذه الأعمال التي تحرم على النار، وتضمن المغفرة، عمل يستطيعه الإنسان سهولة لا سيما في ممارساته التجارية، وهي فسخ العقود بالتراضي.
فقد جاء عن النبي عليه السلام قوله:
(مَن أقالَ مُسلِمًا بيعتَه؛ أقالَه اللهُ عَثرتَه يومَ القِيامةِ)
وهو تحفيز للمسلمين ليكون تعاملهم التجاري بالتسامح وقبول العذر، وعدم انتهاز فرصة الإعسار والعثرات لتكبيد أحد طرفي العقد فوق طاقته، إذا اضطرته الظروف لعدم تنفيذ العقد.
فالذي يبادر فيخفف الشروط ويسهل المعاملات ويقيل العثرات سيجد المعاملة بالمثل يوم القيامة عندما يحاسبه الله على أعماله بنفس هذا المنهج فيقيل عثرته ويتجاوز عن خطاياه.
والأمر ليس خاصا بالأعمال التجارية وحدها، بل إن تسامح المسلم مع غيره وقبوله العذر ومد مهلة القروض أو التخفيف منها، والتجاوز عن الديون كلها أعمال تؤدي لنفس النتيجة مصداقا لقول النبي عليه السلام:
(إنَّ رجلًا لم يعملْ خيرًا قطُّ، وكان يُداينُ الناسَ، فيقولُ لرسولِه: خُذْ ما تيسَّر، واتركْ ما عَسُرَ وتجاوزْ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا. فلما هلك قال اللهُ له: هل عملتَ خيرًا قطُّ؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلامٌ، وكنتُ أُدايِنُ الناسَ، فإذا بعثتُه يتقاضى قلتُ له: خُذْ ما تيسَّرَ، واتركْ ما عَسُرَ، وتجاوزْ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا. قال اللهُ تعالى: قد تجاوزتُ عنك)

والحديث السابق خطير في مضمونه،
لأن الرجل بطل القصة لم يعمل خيرا قط، أي أنه اقتصر على العبادات المفروضة، ولم يبادر لأعمال النوافل أو أعمال الخير إلا في شيء واحد وهو (التجاوز عن الناس، والتسامح في اقتضاء الحقوق)، رغم قدرته على استيفاء حقه كاملا، فكان جزاؤه يوم القيامة أن تجاوز الله عن سيئاته وذنوبه ولم يحاسبه عليها أصلا.
وهذا يعلمنا حقيقة تغيب عن بال كثيرين.
أن الإنسان في الدنيا هو الذي يختار طريقة الحساب معه في الآخرة بطريقة تعامله مع الناس، فمن كان حريصا على استيفاء حقوقه لا يتسامح في ذرة منها، فلن يظلمه الله يوم القيامة، طالما أنه يستوفي حقوقه ولا يعتدي، لكن بالمقابل سيكون حسابه يوم القيامة على أعماله ذرةً بِذَرة، لا تجاوز فيها.
والذي يتجاوز ويتساهل ويتغافل عن بعض حقوقه، وحتى إن استوفي حقوقه يستوفيها بأفضل الطرق، لا يُحْرج أحدا ولا يستغل ضعفه أو يمن عليه، فهذا سيكون حسابه أيضا بنفس المعاملة يوم القيامة فتعلو حسناته، ويتم التجاوز عن سيئاته كما كان يتجاوز عن الناس.


ولعل هذا الحديث يعلمنا درسا رهيبا وهو مدى خطأ وإجرام الثقافة المنتشرة في المجتمع والتي تجعل من الإنسان الفظ الغليظ الذي لا يترك شيئا أو يتسامح فيه، تجعله ثقافة المجتمع مثلا أعلى في أنه لا يترك حقه، ويعتبره المجتمع إنسانا قويا وذكيا لا يترك لأحد فرصة التحايل عليه!
ونحن لا نقول بقبول التحايل، لكن الكارثة أن تعامل الإنسان مع كل من حوله ممن تمر بهم الظروف القاسية على أنهم محتالين ليس من الذكاء ولا من القوة.
فالقوة أن تكون قادرا على استيفاء حقوقك لكنك تتجاوز ما استطعت عمن يمد عذره إليك، على احتمال بسيط أنه صادق، ولو كان كاذبا فلن تخسر شيئا لأنك نويت الخير أصلا وأجرك فيه ثابت ووزر الكاذب عليه فهذا هو الذكاء الإيماني والقوة الحقيقية.

ومن الأحاديث المؤسسة أيضا في مجال الأعمال التي تحرم الإنسان على النار قوله عليه السلام:
(مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)
وهذه طاعة ميسورة لمن أنعم الله عليهم بالمواظبة على الصلاة وسُنَنِها، فإذا أضاف المسلم إلي السنن الرواتب أربع ركعات قبل الظهر وبعده فهي لا تمثل جهدا كبيرا، وبالمقابل فهي من الأعمال التي تؤدي به لإدراك فضيلة التحريم على النار

ومنها أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين غَضّت عن محارم الله)
وهذا الحديث يشمل كل عين قامت بالحراسة في سبيل الله على سبيل العموم أو على جماعة محدودة وسواء كان صاحبها من المكلفين بذلك كعمل له أجرــ بشرط أن يؤدي حق عمله كاملاــ، أو من المتطوعين بهذا، وفي سائر الأحوال فالحديث يشمل كل عين حرست في سبيل الله ولو لمدة يسيرة ما دام فاعلها قد فعلها ابتغاء الأجر.
كما أنها تشمل كل من بكي من خشية الله، سواء خوفا وإشفاقا من عذاب الله تعالي، أو تأثرًا بآياته وشرعه، أو من محبة خالصة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولصحابته المقربين
وكل مسلم لابد عليه أن يبذل الجهد اليسير لالتماس مواقف الخشوع ــ وما أكثرها ــ في العبادات وفي تلقي العلم وفي سماع القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن رقة القلب ودموع العين إذا كانت قريبة ومبذولة فهي علامة من علامات رضا الله تعالي علي عبده.
والعين الثالثة هي العين التي عَوّدَها صاحبها على الغض عن محارم الله، ولا شك أنها في زماننا المعاصر أصبحت طريقا ذهبيا للطاعة، بعد أن انتشرت المحارم وأصبح التشجيع عليها قائم ليل نهار، ورغم صعوبتها البالغة على النفس في عالمنا اليوم إلا أن الله عز وجل عودنا أن الجزاء على قدر المشقة
ولا شك أن من يغض البصر عن محارم الله في زمنٍ تكثر فيه المعاصي أفضل بمراحل من الذي يغض بصره في زمن الفضيلة، وإذا كانت العين التي تغض الطرف عن المحارم جزاؤها ألا تمسها النار، فلا شك أن الجزاء متحقق بضمان أكبر لمن استطاع أن يغض بصره في أزمنة التهتك.

وأيضا من الأعمال التي جعل الله جزاءها التحريم على النار ما ورد في حديث النبي عليه السلام.
(لا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)
و(تَحِلّة القسم) المقصودة في الحديث ليس معناها ــ كما فهمها البعض ــ أن النار تمسه فعلا، بل المقصود ـــ كما جاء في شرح صحيح مسلم للإمام (النووي) ـــ من (تحلة القسم) هنا، فترة المرور على الصراط والتي سيري فيها كافة الخلائق النار سواء كانوا من الناجين منها أو من غيرهم، فالمرور على الصراط مقرر على الجميع وهذا المرور سيقوم به أهل الجنة ولكن ليس معناه الغمس أو لمس النار، بل هو تحلة القسم الإلهي في قوله تعالي:
[وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] {مريم:71}
ولا شك أن الجزاء هنا في هذا الحديث فيه عزاء كبير جدا لمن ابتلاه الله بموت الولد، وقد حدد الحديث الشريف من مات له ثلاثة من الولد أن الله تعالي سيحرمه على النار إن صبر وشكر.
ولكن ليس معنى هذا أن من مات له ولد واحد فصبر، لن يناله من هذا نصيب، بل الجزاء موفور حتى لمن مات عنه الشخص المقرب والمصطفي بحياة المرء فَصَبَر المسلم علي فراقه منذ لحظة الصدمة الأولي. وذلك مصداقا لحديث النبي عليه السلام.
(يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)" "
وهذا كرمٌ عظيم من الله تعالى، فالحديث واضح في أن الله يَـعِد وعدا صريحا ـــ وهو أصدق القائلين ــ كل من مات (صَفِيّه) من الدنيا فاحتسبه وصبر، وعده بالجنة لا محالة
و(الصَفّي) هنا هو الإنسان الأشد قربا للمسلم، سواء كان من الأهل أو من غيرهم لأن الحديث عام في ذلك، والصفي المختار هنا قد يكون الأب أو الأم أو الصديق أو غير ذلك، القصد أن يكون هذا الشخص هو الأكثر قربا والأشد في تأثيره على حياة المرء
ويجدر التنويه أن شرط الحديث بالصبر هنا يلزمه أن يكون الصبر عند الصدمة الأولي، بحيث يُطبّق المسلم حديث النبي عليه السلام فيسترجع فور أن يبلغه خبر الوفاة، والاسترجاع هو قول المسلم (إنا لله وإنا إليه راجعون).
والاسترجاع هو السُنَة التي سنها الله تعالي لعبده عند كل مصيبة بقوله تعالى:
[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:156}

أيضا من هذه الأعمال الصالحة والتي لها أجرٌ عظيم (الذب عن عرض المسلم)، ومعناه ببساطة قيام الإنسان بالدفاع عن شخص يعرفه جاء أمامه ذكره بسوء، فانبرى للدفاع عنه بما يعرفه فيه من صفات حميدة، أو هو في صورة أخرى رفض المسلم أن يُغْتَاب مسلمٌ في مجلسه وهو حاضر سواء كان يعرف الشخص الذي وقعت في حقه الغيبة أم لا، فدفاعه عنه ورد غيبته من أعظم القربات عند الله وهي أحد الأعمال التي تٌحَرّم العبد على النار أو تدفع عنه النار وذلك بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(من رد عن عرض أخيه ردّ الله تعالى عن وجهه النار يوم القيامة)
وهذا العمل فيه تطبيقات وتفصيلات كثيرة، من هذه التطبيقات أن رد الغيبة عن المسلم واجب، ورد البهتان أوجب منه، فالغيبة هي ذكر الإنسان في غيبته بسوء موجود فيه، أما البهتان فهو ذكر الإنسان بما ليس فيه أي بظلم وافتراء عليه.
وذلك بمقتضي حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(عن أبي هريرة قال يا رسولَ اللهِ، ما الغِيبةُ؟ قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَهُ. قيل: أفرأيْتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه، وإن لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهَتَّه.)

كما أن رد الغيبة في شأن الدفاع عن العرض من أوجب الواجبات أي أنها ليست مجرد ثواب يستحقه المرء إن قام به، ولا يُحاسب على تركه، بل هو واجب على الإنسان إن فعله نال الجزاء العظيم، وإن قصر فيه عوقب بمثل قائله ما لم يدفع عنه أو يبرأ من الإثم بمغادرة مجلس الغيبة
لأن القذف في العرض من الموبقات وأكبر الكبائر، فالدفاع عنه واجب، وإن لم يستطع الإنسان رد الغيبة أو البهتان أو الطعن في العرض فعليه أن يقوم من هذا المجلس، لأن سكوته عن الباطل أو الغيبة في حق أشخاص غائبين يعتبر شراكة منه في هذا الإثم ما لم يدفع عنه، فإن لم يستطع فعليه القيام من هذا المجلس ليبرأ من الإثم.
ونظرا لأن كل قاعدة ولها استثناء، فالشريعة استثنت من إثم الغيبة كل مُجاهر بالمعصية وكل فاسق معلن بفسقه، فهؤلاء ليس لهم غيبة لما في أفعالهم من ضرر يلحق بالمجتمع إثر أفعالهم، ولهذا أباح الله غيبتهم والحديث عنهم ليحذرهم الناس ويعرفون صفاتهم.
كذلك يستثني من إثم الغيبة الشهادة بالحق أمام القضاء، وأمام الناس أيضا، فمن سئل عما يعلمه من طباع شخص وكان هذا السؤال ينجم عنه معاملة ما كالنسب والتجارة مثلا، هنا تجب الشهادة بالحق في صفة الشخص المسئول عنه.

وإذا كان من يذب عن عرض أخيه، ويرد غيبته، مثل هذا الجزاء العظيم بالعتق من النار، فهل لنا أن نتخيل الجزاء الموفور لمن يرد الإساءة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن أمهات المؤمنين، وعن الصحابة، رضي الله عنهم جميعا.
فهذا فوق أنه من أوجب الواجب، فإن له من الجزاء ما لا يعلمه إلا الله، والسكوت عنه مصيبة كبرى تحل بالمسلمين جميعا إن قَصّروا في الرد الواجب.
ويدخل في باب الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام، نشر سيرته العطرة، ورد شبهات المهاجمين لشخصه وسيرته، وكذلك الأمر في الذب عن الصحابة وأمهات المؤمنين يدخل فيه نشر سيرتهم وعطائهم وفضلهم، والحرص على تعليم الناس تاريخهم وجهدهم.
وبالجملة فإن كل عطاء يقوم به أي مسلم في سبيل الدفاع عن النبي عليه السلام وأصحابه، يعتبر من إبراء الذمة تجاه هذا الواجب مهما كان هذا الفعل هينا أو بسيطا ولو بمجرد إبداء الغضب أو الاستنكار.
كذلك هو الذب عن السنة النبوية في مواجهة مهاجميها ومنكريها، فهذا من أفضل الجهاد في سبيل الله، لأن السُنة دليل الدين ودليل القرآن الكريم، ولكن الدفاع عن السنة لا يكون إلا بالعلم، فلابد لمن يتعرض لهذه المهمة الجليلة أن يتسلح بمبادئ الدفاع عن السنة النبوية في مواجهة أصحاب الشبهات.
والذي يتفرغ ليتعلم أصول ومبادئ السنة، ثم يوجه جهده في رد الشبهات وفي بيان صحيح الدين وتعقب أقوال الملحدين، فهو معدود في علماء الأمة العاملين إن احتسب عمله لله وأخلص نيته ولم يطلب فائدة دنويه من وراء عمله هذا، وجزاء أهل العلم العاملين لا يمكن حصره لأن فضل العلم عند الله لا يدانيه فضل، ومكانة العلماء تأتي بعد مكانة الأنبياء مباشرة عليهم السلام.
وقد قيل للإمام (أحمد بن حنبل):
(الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟)
والمقصود من "التكلم في أهل البدع" هو العالم أو الباحث الذي يرد شبهات المبتدعة عن السنة النبوية، ويُبطل حجج منكريها أو الآخذين بغيرها.
فقال:
(إذا صام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل)
وقد قال (يحيى بن يحيى):
(الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله،
فقيل له: الرجل ينفق ماله، ويُتعِب نفسه، ويجاهد، والذاب عن السنة أفضل منه؟)
فقال: نعم بكثير).
ومن كان راغبا في الدفاع عن القرآن والسنة، لكنه لا يمتلك العلم الكافي لذلك، فإن تفريغ بعض وقته لسماع أهل العلم في هذا، وقراءة الكتب المدافعة عن السنة لرد شبهاتها يعتبر أيضا من أعظم القربات، لأن المسلم إذا حَصّن نفسه بمعرفة رد الشبهات سيفيد نفسه وأهله في الدنيا والآخرة
وذلك لما في الدفاع عن السنة من خير عميم يشمل سائر المسلمين، ولا شك أن الأعمال التي تعود بالنفع العام والهداية للحق هي أفضل الأعمال بلا منازع.

فهذه هي مجمل الأعمال التي قرر فيها النبي عليه الصلاة والسلام أن فاعلها مُحّرمٌ علي النار بفضل الله وكرمه سبحانه وتعالى.