عرض مشاركة واحدة
قديم 03-30-2016, 11:26 AM
المشاركة 18
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(13)


كان الظلاميون يعانون في اعتصامهم بقاع المدينة ..
لقد تخلى عنهم الحلفاء .. وصاروا بأنيابهم العارية في مواجهة حاسمة مع سلطة شعبنا .. صار الطعام شحيحاً نادراً... عدد الحمقى الذين يمرون من قاع المدينة من شعبنا سهواً أو عتهاً صار قليلاً ... صار الظلاميون يقتتلون حول جثث ضحاياهم .. وشاهد دشرم عدداً منهم يسقط تحت وطأة الصراع على الطعام... فتبادل العطشى النظرات مع زعيمهم فأومئ لهم وهو يزدرد لعابه فهجموا على إخوانهم الذين سقطوا وارتووا من دمائهم حتى ثملوا .. الظلامي يشرب من دم الظلامي .. لابد أنه أقسم أن يدفع شعبنا الثمن غاليا .. هنا علا صوت ضجيج مميز فأجفلت الجموع وامتقعت الوجوه ...
عربات السلطة تحاصر قاع المدينة ..صرخ دشرم مستبقاً الجموع :
ـ " اثبتوا يا حمقى ... لن يستطيعوا مداهمتكم .. النصر سيكون حليفنا في النهاية .. لأن الخير دائماً ينتصر.."
تبادل الظلاميون النظرات الحائرة .. لكنهم تعلموا أن القائد دائماً على حق وأن متابعته فيها النجاة والنصر .. قائدنا لا يخطئ أبداً .. لذا فقد تكتلوا من حوله مزمعين الموت دونه .. وهو من القلب يوجههم صارخاً :
ـ " لا تنسوا قضيتكم .. إننا نقاتل من أجل هدف نبيل .. ولن يتخلى عنا الله .. الله معنا .. شعوب العالم تشاهدكم الأن أيها الأبطال وأنتم تستبسلون في سبيل قضيتكم ..."
هنا وكزه أحد معاونيه هامساً في أذنه :
ـ " لقد فر المراسلون حاملين كل الكاميرات .."
امتقع وجه دشرم وهمس في رعب :
ـ " هل دبرتم لنا مخرج.."
ـ " هناك واحد دائماً.."
ازدرد لعابه متمتماً :
ـ " البركة في الشباب إذن. "
ثم عاد ليزعق بصوت حاول أن يكسبه بعض الحماس :
ـ " إن شعب الظلاميين أقوى من الظروف .. أقوى من المحن ... مهما تخلى عنا الأصدقاء فالله معنا .. وهو ناصرنا ..."
كانت عربات السلطة قد حاصرت قاع المدينة من كل الجوانب وفي السماء حلقت طائرات السلطة فوق رؤوس الظلاميين ورفع جلال مكبر الصوت وبدأ يهتف عبره :
ـ " عودوا إلى القاع .. عودوا إلى الكهوف ... ولن يمس أحد بأذى ..."
التفت دشرم إلى الجموع وصرخ فيهم :
ـ " نعود مرة أخرى للجحور ... حتى يتسنى لهم غلق الفجوات علينا ويتحول القاع إلى قبر أبدى لشعبنا ... الموت دون ذلك .."
وتصايح الظلاميين :
ـ " الموت دون ذلك .. الموت دون ذلك ..."
خفض جلال مكبر الصوت ونظر إلى رجاله الذين يحاصرون قاع المدينة .. وهز رأسه في يأس :
ـ " لم يتركوا لنا أي خيار ..."
هنا برز الدكتور العوادلي كعادته مثل غراب البين ورفع كفه معترضا.. نظر له جلال متقززاً فرفع سبابته في وجهه قائلاً :
- " هذا اسـ .. استعمال مفرط للـ ..للقوة .."
تقلص وجه جلال وهو يصيح :
ـ " ماذا تقول ..؟ أنا لا أسمعك جيداً ..!"
ورفع يده بإشارة إلى قاذفي اللهب كي يستعدوا وهو يرمق الظلاميين الثائرين... لأول مرة هو لا يحب ما سيقوم به.. ولا يدري لماذا ؟..
ربما لأنهم كانوا قديماً يستعملون النار لإفزاع تلك الكائنات وردها للقاع لا بقصد إحراقهم.. لكن قد يأتي الحرق تبعاً .. لكنه اليوم سيصب اللهب مباشرة على الجموع الغفيرة المحتشدة .. لكن من قال أنهم سيصمدون عند إطلاق أول قذيفة لهب .. لا شك أنهم سيفرون للقاع .. ومن أعماق قلبه تمنى أن يفعلوا ..
وتقدم قاذفي اللهب في تؤدة وعند مسافة مناسبة صوبوا القاذفات منتظرين إشارة البدء من قائدهم جلال .. الظلاميون يضطربون حول دشرم .. والأخير يصرخ فيهم أن اثبتوا .. موتوا رجالاً ...
العوادلي يصرخ :
ـ " أنا احتج .."
و جلال يفتح فمه ليعطي أمر الاطلاق ..و..
هنا هبت عاصفة عاتية جعلت الجميع ينحني والغبار يعمى الوجوه .. وهبطت طائرة عليها علم شعبنا وإلى جوارها شعار المسئول الأول .. هبطت في ساحة خالية وراء العربات المحاصرة وقفز منها نادر في خفة وعدا ناحية جلال الذى هتف في دهشة واستنكار:
ـ " القائد بنفسه .. هذه مخاطرة قصوى .."
لكن نادر انتزع منه مكبر الصوت والتفت يواجه جموع الظلاميين متجاهلاً اعتراض جلال ...
ـ " إلى كل المعتصمين في قاع المدينة ... إلى كل المعتصمين في قاع المدينة .. اسمعوا هذا الكلام جيداً .. أنتم لم تخلقوا للظلام .. لكن تم دفعكم إليه دفعاً .. والذين دفعوكم إليه تخلوا عنكم .. ونحن لن نتخلى عنكم .. لأنكم منا .. لكن تم تشويه فطرتكم عمداً .."
انعقد حاجبي جلال مستنكراً .. في حين تبادل الظلاميون النظرات المستغربة .. هم لم يسمعوا أبداً مثل هذا الكلام من قبل .. دشرم كان يغلي من داخله .. هو الوحيد الذى يعرف ما الذى يرمي إليه نادر ..
ـ " لا تسمعوا هذا الكلام الفارغ .. الظلام هو أصل الأشياء .. والنور أمر عارض .. أنتم الأصل .. أنتم أصحاب الحق .."
وعاد صوت نادر يتردد :
ـ " ماتزال هناك فرصة يا إخواننا ... أننا لن نطالبكم بالعودة للجحور .. بل نطالبكم بالانضمام إلينا على السطح .. فقط تخلصوا مما علق برؤوسكم من أفكار ظلامية .. عودوا إلى أدميتكم .. تصيرون منا ونصير منكم .. أنتم لم تخلقوا لمص دماء إخوانكم .. أنتم بشر .. بشر .."
وساد الصمت تحت وقع الكلمات ..
حتى دشرم لم يجد ما يقله ...
ـ " من قرر أن يغادر الظلام للأبد وينضم إلى إخوانه... فليغادر قاع المدينة .. توجد حافلات ستحملكم إلى مصحات تم إعدادها لإعادة تأهيلكم من جديد .. ومن يبقى فقد أختار الظلام إلى الأبد ... "
وخفض نادر مكبر الصوت وهو يلهث في انفعال وتبادل النظرات مع جلال الذى هز رأسه في عدم فهم واقترب منه وهو يتمتم :
ـ " ماذا تتوقع ...؟"
بلل نادر شفتيه بلسانه قبل أن يهمس بصوت مبحوح :
ـ " لا أعرف .. أقسم لك يا جلال أنني لا أعرف ..."

***

نظر ذلك الظلامي إلى قدميه ثم رفع طرفه إلى السماء صارخاً :
ـ " ماذا تنتظرون يا حمقى ...؟"
ثم انطلق يعدو ناحية خلاصه ... وخلفه انفصل ثان .. وثالث .. ورابع ..
وأمام عينيه الملتاعتين رأى دشرم العشرات والمئات يلوذون برجال السلطة متفلتين من بين يديه .... لكن لا .. هكذا صرخ صارخ بداخله ... كان ينظر إلى نادر الذى تهلل وجهه وهو يتابع صفوف الظلاميين تغادر قاع المدينة ناحية الحافلات ...
وتمتم دشرم من بين الخلص من رجاله وعينه تركز على واحد بعينه :
ـ " الذى تدعو إليه قد يقتلك .."
قالها ثم انفصل عن رفاقه والتحم بصفوف المغادرين .. الصفوف تقترب من عربات السلطة حيث يقف جلال ورجاله وحيث يقترب نادر في عدم حرص قاتل من الصفوف ملوحاً لهم بقبضته في تأييد .. وانتبه جلال لذلك فرفع كفه صائحاً :
ـ " حذار أيها القائد .."
هنا قفز دشرم من بين الصفوف واثباً ناحية نادر الذى ارتفع حاجباه في دهشة وهو ينظر في عيني دشرم الناريتين وأسنانه الحادة تلمع و.. واكتسى وجه نادر بصرامه لا حدود لها وضم شفتيه وهو يرفع مكبر الصوت ويهوى به على رأس دشرم .. وتوقف المشهد كله في لحظة ... الكل تجمد في مكانه .. جلال .. رجال السلطة .. الظلاميون المغادرون ..
نادر يقف ممسكاً بمكبر الصوت وهو يرمق دشرم الذى سقط عند قدميه وقد زاغت عيناه وتدلي لسانه خارج فمه ورأسه يدور ...
ـ " هل أنت بخير ..؟"
قالها جلال وهو يندفع ناحية نادر على حين لوح العوادلي بقبضته في الهواء محتداً :
ـ " أنا احتج على هذه الطريقة العنيفة في التعامل مع الـ..."
ببطء التفت إليه نادر .. نظرته جعلت العوادلي يبتلع لسانه أخيراً ..
وخرجت كلماته تنضح :
ـ " لم تمتد يدى إلى أي ظلامي من قبل.. لكنه كان يستحق ..."
***
لم يغادر كل الظلاميين بالطبع ..
كانت ماتزال هناك مجموعة مؤمنة بالفكرة قررت أن تختار الظلام مرة أخرى .. وكان نادر ورجاله يعرفون أن المرحلة القادمة لن تكون بالسهلة أو اليسيرة .. الطائفة الجريحة لن يهنأ لها بال حتى تنتقم من شعبنا .. وعلى شعبنا أن يكون متيقظاً في تلك المرحلة الحرجة .. مرحلة كفاح جرثومة زرعت في قلب شعبنا النابض .. مرحلة كفاح قد تستمر لأيام .. لأسابيع .. ربما لأعوام .. المهم ألا ينسى شعبنا مع مرور الأيام من عدوه ومن وليه وأن لا يستدرج مرة أخرى إلى فخ الظلاميين..

***

قهرنا الظلاميين على سطح الأرض وحان وقت تطهير القاع حيث البؤر التي بها يقبعون ومنها يشنون غاراتهم على أبناء شعبنا ..
قاد جلال الذي صار مسئولاً عن سلطة شعبنا حملة شعواء على الفجوات التي تعج بالظلاميين ..
لأول مرة يلج رجال السلطة إلى القاع ويواجهون الظلاميين في عقر دارهم ولم تكن المواجهة بالأمر الهين .. كان القاع مفاجئة مفجعة لرجال السلطة ..
عالم مظلم كئيب عطن الرائحة.. وبين الحين والحين تتعثر قدم في جثة جافة خالية من الدماء.. ويزداد رجال السلطة احتقاناً ويعصف بهم الغضب .. سيمزقون أي ظلامي يجدونه.. لكن أين هؤلاء الشياطين؟..
عشرات بل مئات الأنفاق المعقدة تحت الأرض تمتد لمساحات الله أعلم بمداها..
حصاد سنوات من العمل المضني في الظلام.. بالتعاون مع بني الأصفر..
لقد وجد رجال السلطة أثناء البحث في الأنفاق بعض الملفات السرية التي تتحدث عن تاريخ العلاقة بين الظلاميين والشعب الأصفر وقد تم إخراج تلك الملفات وسمحت السلطة بنشر بعضها على عامة شعبنا فيما بعد..
لكن السؤال الذي كان مطروحاً.. هل ماتزال هناك وسيلة اتصال بين الظلاميين وبين الشعب الأصفر..
ومتى يستطيع شعبنا تطهير كل تلك الأنفاق وسدها ؟..
كان لابد من قرار حاسم لتلك المعضلة .. رفع جلال جهاز اللاسلكي إلى فمه وعرض وجهة نظره على الطرف الأخر .. قيادة شعبنا ..
ـ " لابد من سد تلك الفجوات على من فيها .."
جاوبه الصمت من الطرف الأخر .. هو يعرف رقة قلب القائد الجديد لشعبنا
لكن في مثل تلك الظروف .. لابد من طرح المشاعر جانباً ..
ـ " لا فرق بين قتل الظلاميين وحرقهم وبين عزلهم عن الخارج فيموتون جوعاً .."
نحن نحتاج لعشرات السنين حتى نسيطر على كل تلك الأنفاق ..
هنا جاء الرد الحازم من القائد :
ـ " بالطبع أنا لست مشفقاً على حثالة الظلاميين .. أنا أفكر في خطتك تلك وفي نتائجها .. هل حقاً نستطيع عزل الظلاميين عن العالم الخارجي في باطن الأرض ؟"
ـ " هذا كان ممكناً حتى في العهد البائد .. لكن بني الأصفر ما كانوا سيسمحون بذلك .. أما الأن .."
ـ " الأن فقط يمكننا أن نعرف كيف يتصل الظلاميين بالشعب الأصفر .."
لم يفهم جلال مراد القائد.. لكنه تساءل :
ـ " نبدأ الأن في سد تلك الأنفاق؟ "
ـ " بلى.. لكن بالماء.. الماء طهور يا جلال كما تعلم.."
ابتسم جلال وهو ينهي الاتصال ثم التفت إلى رجاله قائلاً :
ـ " لأول مرة سنقهر الظلاميين بالماء لا بالنار.."

***

في البداية لم يفهم الظلاميين ما يحدث..
ظنوا أن رجال السلطة تراجعوا عن مطاردتهم وبدا بعضهم يتنفس الصعداء.. سنبدأ من جديد..
لكن عزروت لم يبد مرتاحاً.. إنه يشم رائحة الخطر عن بعد كأي ظلامي يحترم نفسه كذلك هو الرأس المدبر للظلاميين حالياً بعد سقوط دشرم .. وإليه انتقلت عهدة المحافظة على بقاء الطائفة..
وقد أقسم على ذلك بروح انبلا نفسه..
ـ " هل تسمعون؟ "
قالها عزروت فصمتت الأصوات وسكنت الحركات..
والكل منصت..
هل هذا الصوت الخافت الذي يتصاعد شيئاً فشيئاً صوت هدير؟
وبدا الرعب يكتسي الوجوه وهم يتخيلون ماهية الخطر القادم..
هنا نهض عزروت صارخاً :
ـ " إنهم يصنعون لنا مقبرة مائية .."
ورددت الأنفاق الممتدة إلى ما لا نهاية صدى ضحكته الساخرة! ..
ـ " تضحك وهم يغرقوننا! .."
قالها له أحدهم والذعر يكسو ملامحه.. التفت إليه وهو يلهث في جشع :
ـ " بهذه السهولة يا رفاق .. إن هذا لأمر معيب .."
ـ " أنت تعرف لنا مخرجاً من تلكم الأنفاق يا عزروت ؟"
ـ " نعم .. فقط اتبعوني ..."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..