عرض مشاركة واحدة
قديم 03-25-2016, 10:08 PM
المشاركة 14
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(9)

ظل رجال اللجان الشعبية يضحكون حتى انقلب بعضهم على بعض وهم يستمعون إلى قصة سمكة ورفيقه وزة... ورتب جلال على عاتق سمكة وهو يقول مبتسماً :
ـ " لقد تحولت إلى بطل شعبي يا سمكة ..."
ـ " مثل أبطال (الحواديت)؟ "
قالها سمكة والسعادة تبض من وجهه رغم إرهاقه .. فتعالت الضحكات من حوله على حين ظل نادر صامتاً لبرهة وهو ينظر لسمكة ووزة .. بلطجية الأمس أبطال اليوم ...
وساد الصمت انتظاراً لكلمته..
ـ " ربما غداً تكتشف أنك كنت أعظم من كل أبطال (الحواديت).. على الأقل أنت حقيقة يراها الجميع .."
ثم إنه استدار في مواجهة الجموع المحيطة..
وتفرس في وجوههم.. جلال.. محسن.. المعلم فوزي ..الشيخ حسن الفقي.. وشاع على وجهه البشر مردفاً :
ـ " كلكم أبطال تلك الملحمة.. ملحمة شعبنا الذي قهر الظلاميين بعون ولطف من الله.. هنا في شرق المدينة.. سيتوقف التاريخ طويلاً أمام ما فعلتموه.. "
وفي زاوية المشهد وقف العوادلي يداعب ذقنه بأنامله .. يبحث له عن دور من أدوار البطولة التي توزع .... ولما تأكد أنه خارج إطار البطولة قرر أن يجد لنفسه موضع حجر .. رفع كفه ونعق مثل الغربان ..
ـ " ربما نكون قد دحرناهم في الشرق .. لكن مازال الغرب بأيديهم .."
التفتت إليه الوجوه .. وشاعت ابتسامة رائقة على وجه نادر وهو يصيح :
ـ " ومن قال أن التاريخ سيتوقف هنا في الشرق للأبد.. ألا تشاهدون ..."
وتحرك المعلم فوزي ناحية شاشة المرئي الضخمة التي أحضرها من المقهى لتسلية المقاومين وقام بتشغيل البث المباشر لأخر الأخبار .... الأخبار تأتى من الغرب يومياً تحت سطوة الظلاميين ... فالمذيع من هؤلاء يذيع الموجز وهو يتلفت حوله .. لو أخطأ في حرف فستكون نهايته السريعة وإلا فالكل ينتهى أمره إلى طعام .. اليوم خرج المذيع على الشاشات هادئاً ثابتاً مستقراً ......
وانعقد حاجبي العوادلي و احولت عيناه تقريباً وهو يستمع للمذيع الواثق يقول :
ـ " انتهى الكابوس .. سقط قائد الظلاميين في الشرق أسيراً وجاري السيطرة على فلول الظلاميين في الغرب ...."
واختفت صورته لتظهر صورة حية من الشارع في الغرب .. جحافل من الشعب الذى قرر ألا يكون طعاماً للظلاميين .. يطوفون بالشوارع.. والويل كل الويل لأى ظلامي عاثر الحظ يقع في طريقهم .. وفي السماء حلقت طائرات تابعة لقوات السلطة ..
" معظم السلاح الخفيف والثقيل والآلات العسكرية مخبئة في مخازن سرية غرب المدينة ولابد أن نصل إليه.."
وتصايحت الجموع ملوحة لسرب الطائرات ..
والتفت جلال بحدة إلى نادر الذي بادله النظرات التي تداري الكثير
وعادت صورة المذيع مع صوته :
ـ " لقد عادت السلطة المتوارية .. عادت إلى ميدان المعركة ..عادت إلى الشعب .. "
كاد العوادلي أن يفقد وعيه على حين تعانق محسن مع المعلم فوزي .. ورفع جلال قبضته وهزها في قوة... وهرش سمكة مؤخرة رأسه في عدم فهم... وعقد نادر ساعديه أمام صدره وهو يبتسم في رضا .
وبعين الخيال رأى وجه ما.. وجه أسود مكفهر.. يتابع الأخبار بعينين لا تريان.. لو كان نوسام آدمي المشاعر لمات بالفالج الأن..
ـ " ألم يحن الوقت بعد؟"
التفت نادر فإذا بجلال ينظر إليه نظرة إجلال.. فابتسم في غموض واطرق للأرض متسائلاً :
ـ " لأي شيء؟ "
حك جلال أنفه وهو يضيق عينيه قائلاً :
ـ " لنعرف حقيقة من كان يقودنا.."
اتسعت ابتسامة نادر غموضاً وهو يرنو للأفق..
ـ " أتدري يا جلال.. هذه المدينة التي تضمنا جميعاً.. بشرقها وغربها.. مدينة مغرقة في العراقة والقدم.. وليست بالسهولة التي قد تبدو عليها أمام الأخرين.. إنها أصعب وأمنع مما تتخيل.. وستظل كذلك إلى ما شاء الله.."
ـ " كنا على علم منذ البداية بما سيحدث أليس كذلك؟.. لم يكن في تحركاتنا أي ارتجال.. فلماذا تركناه يحدث؟ "
شرد نادر كأنما يستعيد ذكرى ما.. وبدأ يهمس كأنما يحدث نفسه:
ـ " الخطة كانت كما يلي.. سنمتص الصدمة.. مهما كانت الصدمة مؤلمة .. سنمتصها.. وفي الوقت المناسب سنرد الرد المناسب.. هذه كانت الخطة وعلى هذا كان العهد.."
ـ " عهد من؟ "
ـ " عهد الرجال.."
غمز جلال بعينه قائلاً :
ـ " كلنا رجال.."
أومأ نادر برأسه واكتسى وجهه بالأسى :
ـ " اتحدث عن الرجال الذين لا يعرفهم أحد.. ولا يتذكرهم أحد إلا كالحلم العابر الذي تنسى تفاصيله بمجرد الاستيقاظ.. لكن يظل مذاقه في حلقك ما حييت.."
ـ " تتكلم مثل الشعراء.."
ابتسم نادر بركن فمه وشردت عيناه مرة أخرى بعيداً وهو يهمس:
ـ " كذلك هم.. فرسان شعراء.."

***

في مكان ما بشرق المدينة فتح يسرم عينيه ليجد نفسه في قفص حديدي داخل غرفة لها باب واحد ونافذة واحدة يتسرب منها ضوء القمر.. الغرفة تبدو كمخزن قديم تم إعداده لينزل فيه سجيناً..
قفز ناحية باب القفص وضرب رأسه به عدة مرات وهو يعوي كالذئاب..
بعد قليل انفتح الباب ودخل منه جلال ومعه نفر من رجال السلطة
لم يكد يسرم يلمحهم حتى أطلق فحيحاً غاضباً:
ـ " أنا جائع.."
نظر إليه جلال بلا مبالاة قائلاً :
ـ " القائد جاء بنفسه ليقابلك.."
تقلص وجه يسرم وهو يتذكر وجه نادر ذلك الشباب الذي ظهر فجأة
وقلب الأمور رأساً على عقب..
ـ " أنا جائع يا حمقى.. ألا تفهمون.."
هنا برز نادر وخلفه العوادلي فتراجع يسرم وانكمش في ركن القفص.. تساءل نادر :
ـ " ألم تطعموه..؟ "
قال جلال :
ـ " طعامنا لا يعجبه.. إنه يريد دماء.."
التفت نادر إلى يسرم ثم اقترب من القفص..
ـ " أيها القائد.."
شعر بكف جلال المضطربة تحول بينه وبين التقدم لكنه ردها برفق
مطمئنا إياه.. ثم واصل الاقتراب حتى لامس وجهه القفص الحديدي وهو ينظر ليسرم في ثبات..
ـ " هذه معاملة غيـ..غير أدمية بالمرة.."
هذه كانت من العوادلي طبعاً.. التفت إليه جلال محنقاً فتراجع متحسساً عنقه وقال :
ـ " لابد أن نحرص على سمعتنا أمام الشعوب "
قال نادر دون أن يرفع عينيه عن يسرم :
ـ " هذا السجن أفضل بكثير من باطن الأرض حيث جاء يا دكتور.."
هنا وثب يسرم واقفاً في منتصف القفص وصاح :
ـ " أريد طعام يا حمقى.. ألا تفهمون.."
رفع العوادلي سبابته قائلاً :
ـ " هذا حـ.. حق من حقوق الإنسان.."
كور جلال قبضته حول فمه كأنه متردد في لكم العوادلي.. ثم إنه قال بغيظ مكظوم :
ـ " إن كان شرب الدماء الإنسانية حق من حقوق الإنسان.. فيمكنك أن تتبرع له بدمك يا دكتور "
هرب الدم من وجه العوادلي وتحسس عنقه مرة أخرى قائلاً :
ـ " أنا لا أقـ.. أقصد هذا.. لكن هناك دائماً بديل للدماء البشرية.."
هنا قال نادر وهو يرمق العوادلي بنظرة جانبية:
ـ " البديل هو أن يعود لبشريته يا.. دكتور..."
ثم عاد ينظر ليسرم والأخير يتضور جوعاً.. هذا المسخ لا يشغل باله الأن إلا الطعام.. وفكر نادر.. لو لم تكن هناك قضبان حديدية
تحول بينهما.. لمزقه إرباً.. هذا الكائن يستحق القتل مئات المرات..
لكن.. ليس الأن..
ـ " لا يوجد هنا فئران؟.."
قالها يسرم زاحفاً على ركبتيه وهو يتشمم الأرض..
غمغم جلال متقززاً :
ـ " مع أي مسوخ قذرة نتعامل؟ "
رفع يسرم وجهه إليه وأطلق فحيحاً غاضباً :
ـ " ستدفعون ثمن هذا غالياً.. بنو الأصفر حلفائنا سيغزونكم لو تعرضتم لي بسوء.. لو كنت مكانكم لبحثت عن طعام لسيد الظلاميين
ومن يدري.. ربما فكرت ساعتها في الصفح عنكم "
عقد جلال ساعديه أمام صدره وتبادل النظرات مع نادر قبل أن يلتفت الأخير ليسرم قائلاً :
ـ " لو كان الشعب الأصفر قادراً على غزونا منذ البداية.. لما كان لمؤامرتهم الكبرى معكم أي معنى.."
لعق يسرم أصابعه وهو ينظر لنادر في غل :
ـ " أكيد.. أكيد.. نحن مهمون لهم.. كما أنهم مهمون لنا.. لكنهم قادرون على حرق الأرض من تحت أقدامكم.. لا أحد يتحدى سياسة
الشعب الأصفر.. ألم تتعلم شيئاً ممن سلفك.."
ابتسم نادر قائلاً :
ـ " نعم تعلمت.. تعلمت الكثير.."
مال جلال للإمام كأنه يستنطق نادر المزيد.. لكن الأخير استدرك:
ـ " لكنكم لا تتعلمون شيئاً ممن سلفكم يا سادة الظلام.."
كاد العوادلي يموت غيظاً وكمداً.. ذلك الظلامي الأبله يتكلم بلا حساب.. لذا حاول أن يوجه دفة الحوار بعيداً :
ـ " أنه يهـ.. يهذي من شدة الجوع.. أي علاقة تلك التي تجمع الشعب الأصفر رمز الحضارة والرقي بهؤلاء.."
قال نادر :
ـ " من الذي سعى للحوار مع الظلاميين.. كلنا شاهدنا التمثيلية السخيفة التي أداها مبعوث الشعب الأصفر مع هذا اليسرم.."
ـ " أنا متأكد أنـ.. أنهم خدعوا فيهم مثلما خدعنا كلنا فيهم "
ـ " إذن سنراهم قريباً معنا ضد الظلاميين؟ "
ابتلع العوادلي ريقه.. وبدا كأنه قد أسقط في يده.. لكنه حاول أن يجيب :
ـ " ر.. ر.. ربما.. "
نظر نادر في ساعته قائلاً :
ـ " اعتقد أنك سهرت معنا أكثر من اللازم يا دكتور.."
كانت إشارة واضحة فعدل العوادلي من ربطة عنقه وأستأذن في الانصراف وهو يتمنى للجميع ليلة سعيدة..
وبعد انصرافه تردد من جديد عواء يسرم الجائع.. طرق نادر على قضبان القفص الحديدي وقال:
ـ " تريد دماءً حارة؟.."
فغر يسرم فاه.. وسال الزبد من بين شدقيه وعينيه متعلقتان بشفتي نادر وهو يكمل :
ـ " يمكنك أن تحصل على ما هو أفضل لو تعاونت مع أخونا جلال"
وحينما غادر نادر محبس يسرم همس لجلال :
ـ " هذا الظلامي الجائع كنز معلومات.. أريدكم أن تعصروه حتى أخر قطرة.."
ـ " والعوادلي؟ "
ـ " ليس الأن.."
وتركه قبل أن يسمع منه أي تعليق..

***

في اليوم التالي انقلب العالم رأساً على عقب ..
العالم أشبه بحافلة يرى فيها لص يسرق عياناً بياناً ولا يتحرك أحد.. حتى يقرر أن يخرج أحدهم ويهلل : هذا لص .. فتنهال على الأخير الصفعات والركلات .. كان العالم بانتظار ذلك الـ ( جدع ) الذى سيطل برأسه ويدلي بدلوه لتتبعه الجموع .. وهذا الجدع بالمناسبة كان ..
سيد الشعب الأصفر ..
خرج وأعلن للجموع أنه قلق لما يحدث للشعب الأسمر .... ودعا للهدوء وضبط النفس والحوار ... ثم أنهى بيانه وطلب رجله هناك .. كان بحاجه إلى إفراغ شحنة الغضب في أحدهم ... وكان نوسام يستحق ..
ـ " مازال الوقت مبكراً لنعلن فشلنا يا سيدي .."
ـ " متى إذن ؟. عندما يعلن عدونا فشلنا على الملأ .."
ـ " لدي خطة "ـ قالها نوسام وهو يضغط على أسنانه ـ " أقسم لك بتاريخي كله لن تفشل خطة القرون ... خطة الأجداد .."
جائه صوت زعيم الشعب الأصفر متأففاً :
ـ " أشرح لي خطتك .. وبناء عليها نبحث أمر بقائك هناك من عدمه"
وبدأ نوسام على عجالة من أمره يشرح الخطة البديلة .. كان يشرحها وهو يسمع صوت صراخ الظلاميين وهتاف الشعب الأسمر ... كان في أحد الأبنية المطلة على الشارع الرئيس .. المطل على ملحمة شعب يفيق من ثباته العميق ... وما أشد هذا على نوسام إنه لا يتخيل شعبنا إلا نائماً وغارقاً في المتاهات التي يصنعها هو وأسلافه ...
وأنهى نوسام المكالمة مع زعيم شعبه والتفت إلى دشرم .. أين أنت أيها القذر؟.. ها هو ذا متعلقاً ببعض الأستار يرتجف في رعب وهو يرمق الطريق الرئيس والشعب الحاشد ...
ـ " دشرم .."
صرخ نوسام فطار دشرم كأنما أصيب بصاعقة وتدحرج عند قدمي سيده وهو يلهث ثم رفع طرفه إليه مناشداً :
ـ " أرجوك يا سيد .. لقد تلقى شعبنا الظلامي لطمة عاتية لم يتلقى مثلها من قبل ..."
جذبه نوسام من عنقه وقربه إليه :
ـ " السبب هو .. الحماقة .. الاندفاع .. الهمجية .."
كان يتحدث وهو يضرب برأس دشرم الجدار والأخير تدور عينيه في محجريهما ... أخيراً تركه يسقط على الأرض واعتدل مكملاً :
ـ " الأن على أحدهم أن يسمع ويطيع دون أن يتدخل من عند نفسه .. نوسام لديه خطة .. كل شيء يمكن أن يعاد بنائه ..."
ورفع عقيرته مستطرداً في جنون :
ـ " إننا نصنع قدرنا ..."

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..