عرض مشاركة واحدة
قديم 03-22-2016, 09:25 AM
المشاركة 12
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي


(7)

فحيح.. فحيح ..
جحافل الظلاميين تتدفق عبر الطريق السريع كالسيل الجارف ولا صوت يعلو على أصوات الـ..
فحيح.. فحيح..
الظلاميين ليسوا بحاجة لوسائل مواصلات فهم يستطيعون قطع مسافات هائلة سعياً على الأقدام.. لكنهم لا يستطيعون التوقف عن ذلك الـ..
فحيح.. فحيح ..
من بعيد تتبدى معالم الأحياء السكنية لشرق المدينة وقد أحيطت بسور من النيران .. وتوقف الفحيح..
وتوقف الزحف ...
لا شيء سوى أصوات اللهاث ولعق الأصابع و الشفاه...
ثم صرخ يسرم :
ـ " لااااااه.. كان المفترض أن يستسلموا مثل الأخرين ..."
وقفز عشرة فوق بعضهم البعض صانعين برجاً ووثب يسرم ليعتليهم كلهم كي يتمكن من إلقاء نظرة أشمل على الموقف.. فبدا الأمر أشبه بفقرة في سيرك..
ـ " سنحاصرهم حتى تخمد النيران أو تسقط عليها الأمطار .."
ثم عاد إلى الأرض فأحاط به جيش الخفافيش الظلامية منصتين :
ـ " تدبروا أمركم عن طريق قنص بعض الحيوانات إلى أن يستسلم المحاصرون..."
هنا شق الهواء شيء ما يتصاعد منه الدخان .. زجاجة تم حشر خرقه مشتعلة في فوهتها ... وأخذت العيون الواسعة تراقب الزجاجة الطائرة في عدم فهم حتى سقطت بينهم ودوى الانفجار ... عندئذ أدركت الكائنات ماهيه تلك الزجاجة وهي تصرخ وتقفز مبتعدة عن دائرة النيران .. هناك ثلاثة منهم تحولوا إلى زهرة نارية تتلوى من فرط الألم....
وكان أول الغيث قطر مثلما يقولون .. عشرات الزجاجات تطير في الهواء وتهوى على الأجساد الظلامية .
ـ " تراجعوا ..."
يتصاعد فحيح النيران.. وفحيح الآلام ..
عشرات الانفجارات تدوى وجحافل الظلاميين تتراجع بعد أن سيطر عليها الرعب وقاد زمامها الخوف الجبلي من النيران ..
كانت فرقة رماة الزجاجات الحارقة هي إحدى الفرق الخاصة التي أعدها نادر بالاستعانة بالبلطجي التائب سمكة .. تم صنع مئات الزجاجات المتفجرة لتكون طليعة الهجوم على الظلاميين .. وهكذا تحول المحاصرين إلى مهاجمين وصار من يحاصرونهم فارين تحت وطأة نيران الزجاجات الحارقة ..
وصرخ محسن من فوق سطح البناية التي صارت برج مراقبة :
ـ " إنهم يتراجعون .. يتراجعون .."
وارتج المكان بالتكبير والتهليل ... وبرقت عينا نادر وهو يهمس لجلال :
ـ " أبلغ سمكة ألا يتوقف عن مطاردتهم بالدراجات النارية والزجاجات الحارقة .. "
وتلقى سمكة مكالمة جلال وهو يلقي زجاجة أخيرة ناحية حشد من الكائنات الفارة قبل أن يدهس ثلاثة أخرين تحت إطارات الدراجة النارية ....
وصاح في مجموعته أن استمروا في مطاردة الشياطين ...
ـ " مجموعة تطلق الزجاجات ومجموعة تطلق الخرطوش ..."
هنا أخرج بعضهم بنادق الخرطوش التي حصلوا عليها من مراكز السلطة إبان الفوضى التي سبقت خروج الظلاميين.. واليوم يحملونها تحت سمع وبصر فلول رجال السلطة.. و بتوجيههم .. كم تتبدل الأمور..
صوبوا البنادق تجاه الجحافل الفارة على أضواء كشافات الدراجات النارية ، وتصاعدت صرخات الكائنات الظلامية وكرات البلي الحارقة تمزق لحومهم ... هنا فوجئ أحد راكبي الدراجات بمن يثب عليه من خلف فأطلق سبه وأسنان الظلامي تنشب في عنقه .. هناك من توارى في الظلام وطوق راكبي الدراجات.
ـ " تباً ..لقد نالوا مني .."
ـ " أصمد يا وزة .."
قالها سمكة وهو يصوب خرطوشه ناحية الكائن الذى تعلق بالسيد وزة والذى انتابته حالة من الهياج وهو يحاول انتزاع الكائن من وراء ظهره لكن الأخير غرس أنيابه في عنقه كالكلابات..
ودوت طلقة.. وتبعتها طلقات...
وتهاوى الكائن ووزة يصرخ في رفاقه :
ـ " ستقتلونني معه يا حمقى .."
ـ " هل أنت بخير يا وزة ..؟"
تحسس وزة عنقه وهو يسحب زجاجة مولوتوف من جراب خلفه على الدراجة :
ـ " لقد سحب مني لتر دم كامل ..."
وأشعل زجاجة حارقة وألقاها بغل ناحية فلول الفارين الذين تفرقوا على جانبي الطريق السريع الذى افترش بالجثث التي اشتعلت بها النيران واخترقها الخرطوش ... مشهد مروع لم يخطر حتى على بال هؤلاء الذين كانوا يوماً ما بلطجية ..ورفع سمكة هاتفه وطلب جلال :
ـ " ريس جلال ..."
ـ " الضابط جلال..."
بصق سمكة بصوت مسموع قبل أن يقول :
ـ " لا مؤاخذة يا جلال باشا... الفئران تبتعد بشكل كافي ..."
لحظات من الصمت ثم جاء صوت جلال عبر الهاتف يأمره بأن يتوقف عن مطاردة الظلاميين .. لكن يظل يحوم حول المكان ليتأكد من عدم تجمعهم مرة أخرى ..
هنا صرخ وزة في جزع :
ـ" أريد نقل دم بسرعة .. سأموت يا حمقى .."
زجره سمكة قائلاً :
ـ " اخرس يا وزة .. ليعطيه أحدكم لفافة حشيش كي يخرس قليلاً .."
تردد صوت جلال منزعجاً عبر الهاتف :
ـ "حشيش ..! هذا مخالف للقانون يا سمكة .. الويل لك ...!"
ـ " أي حشيش يا باشا .. أنا أقول أعطوه (بقشيييش!!).. "

***

المكان هنا لا يطاق ...
هاته النسوة لا يعرفن التقاليد الراقية ولا يتعاملن كنساء الطبقات الراقية ... بالنسبة إلى العوادلي الذى تربي ونشأ في مجتمع بني الأصفر هؤلاء النسوة أقرب للرجال منهم للنساء ... لذا فقد قرر أن يجلس بينهم ولا ينطق بحرف مع بعض هز الرأس بين الحين والحين حتى لا يتهم بقلة الذوق .. لقد تصور في البداية أن نادر قد أحسن ضيافته ورفق به بإلحاقه بالنساء ثم تأكد لديه أن هذه أشنع عقوبة لم يتخيلها وهو يقطع المسافة من غرب المدينة إلى شرقها ...
ـ " لماذا لا تدخل معنا في الحديث يا دكتور .؟"
قالتها والدة نادر على طريقة النساء (العشريات) كما يقال عندنا فأجفل العوادلي واصفر وجهه ... ماذا يقول لهاته النسوة الرجال .. أبعد الجلوس مع صفوة المجتمع وأكابر الرؤساء والزعماء يجلسه نادر مع هؤلاء الساحرات الشريرات ..
ـ " ما .. ماذا أقول بالـ .. بالضبط .."
(مصمصت) إحدى النساء بشفتيها قبل أن تقول مشفقة :
ـ " لماذا يتتعتع يبدو أنه ممسوس يا أم نادر ... تعال يا (ضنايا) لأرقيك.."
وقامت إليه فذهل العوادلي وهو يتأمل حجمها عاجزاً عن النطق .. من الأحمق الذي أيقظ ذلك الديناصور الأنثوي.. وتصور للحظة أنها ستجلس على أنفاسه وينتهى أمره للأبد .. لقد فعلها فيه نادر ..
ـ " لـ .. لحظة يا (مسز)...."
ـ " (مسز) !!!"
قالتها كأنها تلقت إهانة جارحة.. وبدا للعوادلي لحظة أنها ازدادت انتفاخاً وأنها موشكة على الانفجار في وجهه.. العوادلي لم يفهم طبعاً أنها ظنت به الظنون لأن وقع كلمة (مسز) على أذنها قريبة من كلمة ( مزة ) والتي يستعملها الرعاع للتعبير عن الجمال الأنثوي.. وطبعاً انهالت على رأسه باللعنات والاتهامات بأنه رجل (عجوز وناقص) الخ ...
هنا دوى صوت هاتفه المحمول لينقذه من الكارثة التي تورط فيها.. انتحى جانباً ورفع الهاتف إلى أذنيه متجاهلاً سيل السباب المنتقى..
ـ " ألو... سيد نوسام .."
جائه صوت نوسام بنبرة لا تخلو من القلق :
ـ " تأخرت جداً يا دكتور .. ولم تتصل حسب الموعد .."
ـ " سامحني يا سيد نوسام .. أنا هنا في سيرك حقيقي .."
ـ " المهم يا دكتور ... ما هو الوضع لديك ؟..."
ـ " الوضع فريد من نوعه .. الشعب هنا في شرق المدينة متحمس جداً للمواجهة ... ملتف حول قيادته .. و ..."
جائه صوت نوسام محنقاً :
ـ " كفى شعراً... أريد أن أعرف مصير يسرم الأحمق ورجاله الظلاميين ..."
ـ " الحقيقة أنا هنا جالس مع بعض النسوة لطيفي المعشر وبعيد عن ميدان الحدث.."
كان يتكلم في خفوت .. لكن نوسام كان ثائراً ..
ـ " جالس مع بعض النسوة ... هل أرسلتك لشرق المدينة كي تجلس مع بعض النسوة يا دكتور ... ألم تشبع من مجالسة النساء في محافلنا بالخارج .."
رمق العوادلي رفقة النساء وأزدرد لعابه قائلاً :
ـ " لا تذهب .. بـ .. بعيداً يا سيد نوسام أنا شبه محتجز هنا .."
ـ " هل كشف أمرك .؟"
ـ " إنه لا يطيق رؤية ظلي .. لأنه لم ينس دعاياتي السابقة المؤيدة للظلاميين.
ـ " هذا لا شيء .. تحرك يا دكتور وكن مفيداً ...."
هنا دوى صوت التهليل والتكبير من الخارج وانتفضت بعض النسوة وفزعن إلى النوافذ وعدن بالتهليل والتكبير والزغاريد..
واضح أن الكفة تميل لرجال شرق المدينة.. وعاد العوادلي إلى نوسام الذى سأله بانزعاج عن سر الأصوات لديه...
ـ " إنهم يتقدمون على الظلاميين .. ألم أقل لك أنهم متحمسون ..."
ـ " أريد منك وصفاً دقيقاً لدفاعاتهم يا دكتور.. تحرك فشعبنا لا يطعم الكسالى ."
ـ " سـ .. سأفعل ..."
هنا سمع الصوت الحازم من خلفه يتساءل :
ـ " ستفعل ماذا يا دكتور ؟"
استدار وقلبه يخفق ليرى نادر و بجواره جلال ومعه عدد من رجال شعبنا يتأملونه في شك.. متى دخلوا؟
خر على ركبتيه عند قدمي نادر ورفع كفه مستجدياً :
ـ " سأفعل كل ما.. ما تريده مني .. فـ.. فقط لا تتركني مع هؤلاء النسوة.."
نظر إليه نادر ملياً ثم التفت للنساء متسائلاً :
ـ " ماذا فعلتم بالرجل؟"

***

أخيراً توقفت الكتل الظلامية الفارة ... صوت اللهاث الغاضب ورائحة اللحم المشوي تفعم الأنوف الحساسة وتثير في نفوسهم الرعب والفزع من عدوتهم اللدود .. النار .. وهتف يسرم وهو يرفع عقيرته إلى السماء :
ـ " من جديد تعود التنانين النارية ...."
وتحسس ظهره في ألم مستطرداً :
ـ " بعد أن ظننا أنها توارت إلى الأبد ..."
صرح أحدهم وهو يطفئ النار التي اشتعلت بكاحله بضربها بالأرض عدة مرات :
ـ " لقد صار الشعب كله تنانين نارية.. أي جحيم ألقيتنا فيه يا رجل"
التفت يسرم في ثورة إلى المتكلم فانكمش في مكانه والدخان الأسود كريه الرائحة يتصاعد من كاحله..
ـ " لماذا لم يصل الدعم من السيد نوسام .؟"
هكذا تساءل ظلامي أخر احترق نصف وجهه وذابت معالمه وبقى نصفه الأخر متحمساً للكلام... لكن قبضة يسرم أطبقت على عنقه وجعلته يبتلع لسانه..
ـ " يسرم ليس بحاجة إلى أحد... لقد صرنا ملوكاً على هذا الشعب ... ولن يعود الزمن للوراء .. لقد ولى عهد السلطة وتنانين النار .... وجاء عهد الظلاميين .."
قال أخر قد احترق شعر رأسه بالكامل وبدا رأسه مثل ثمرة القلقاس :
ـ " وما هي الخطة التي سنقتحم بها النيران يا يسرم ؟.."
لعق يسرم شفتيه ولمعت عيناه في جشع ..
ـ " لن نحاصرهم .. سنقلد أعدائنا ونباغتهم بالهجوم .."
ـ " والنيران التي تحيط بهم .؟."
تشمم يسرم الهواء كأنما هو ذئب يبحث عن فريسه .. ودارت عينيه في المكان بحثاً عن شيء ما ... كان الطريق السريع ممتد إلى ما لا نهاية لكن يوجد مبنى على مسافة قريبة من تلك المباني التي يضعها شعب السطح على امتداد الطريق السريع لتمد سياراتهم بذلك السائل النفاذ .. محطة وقود هناك قابعة في الظلام وقد فر عامليها أو ماتوا .. لكن ليس هذا هو المهم .. المهم هو تلك الحافلة الواقفة بجوار المحطة .. حافلة ضخمة خالية من الركاب .. ولعق يسرم كفيه متمتماً :
ـ " حلمت يوماً وأنا طفل بركوب حافلة مثل تلك...."
ثم التفت إلى الكائنات المترقبة صارخاً :
ـ " الملوك لا يهاجمون على الأقدام يا سادة الظلام ..."
لم يكن يسرم ولا أحد من الظلاميين يجيد قيادة مثل تلك الحافلات .. لكن القرد قد يكتب يوماً شعراً لو مكنته من ألة كاتبة كما يدعي بعضهم... وهكذا اندفعت الحافلة للوراء أولاً فاصطدمت بجدار المحطة .. وتصايحت كائنات الظلام المتكدسة بالداخل وما زال بعضهم بالخارج يحاول الولوج فبرز وجه يسرم من النافذة المجاورة لمقعد القيادة وهتف :
ـ " لن نركب جميعاً يا حمقى .. كفوا عن العبث واتبعوا يسرم على الأقدام .."
واندفعت الحافلة وورائها جحافل الكائنات الظلامية التي لم تجد لها مكاناً وكان مشهداً فريداً من نوعه ....
ومن بعيد لمح سمكة وشركاه وهم على الدراجات النارية المشهد من بعيد..
ـ" ما هذا بالضبط ؟.."
قالها وزة وهو يحاول إشعال سيجارة وزجاجة مولوتوف في نفس
الوقت :
ـ " أحد عاثري الحظ .. قرر أن يمر الأن من الطريق السريع ... ليجد الهول ذاته يطارده ."
حشى سمكة سلاحه بالخرطوش قائلاً :
ـ " لقد عملت أعمالاً طيبة أكثر مما تحتمل أعصابي .. لكن لابأس لنضيف إليها عملاً أخر .."
قالها ثم انطلق على دراجته وخلفه بقية الفريق ... كان أملهم إنقاذ سائق الحافلة ومن معه ... كان أملهم أن يمنعوا كائنات الظلام من الوصول إليه .. فانقسموا إلى فريقين ميمنة وميسرة كي يتفرقوا على جانبي الحافلة كي يسهل التعامل مع الكائنات المطاردة للحافلة بحسب ما يظنون.. ومع ظلمة الليل لم يلحظ أحدهم ماهية قائد الحافلة الذى اقترب منهم وهو يضغط على أسنانه الحادة وعلى دواسة الوقود أكثر لتندفع الحافلة بسرعة أكبر ..
وتمتم في نشوة :
ـ " حلم الطفولة يتحقق ..."
وعلى مسافة قريبة من الدراجات البخارية القادمة من الاتجاه المعاكس أدار يسرم المقود ..
وكان الصدام مروعاً... وصوت تهشم الدراجات والعظام بشعاً من تحت إطارات الحافلة الضخمة ... سمكة كان من المحظوظين فقد زحف بدراجته بعيداً عن إطارات الحافلة عدة أمتار وهو يسب قائد الحافلة الأحمق ويترحم على رفاقه الذين تحولوا لعجين .. وحينما اعتدل من سقطته وكل عظمه في جسده تئن والرضوض والخدوش و السحجات رسمت لوحة سرياليه على جسده .. ساعتها أدرك أنه لم يكن محظوظاً .. كان هناك عشرات العيون المتسعة تتطلع إليه في جشع ... وكان الموت تحت عجلات الحافلة بالنسبة له أرحم من الموت بأسنان الظلاميين ....

***

الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..