عرض مشاركة واحدة
قديم 03-15-2016, 09:29 AM
المشاركة 11
عمرو مصطفى
من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي

(6)

اللجان الشعبية تحاصر شرق المدينة ...
كان لابد أن ينتهى إحكام السيطرة على شرق المدينة قبل غروب الشمس وحلول الظلام.. والعشرات والمئات من الفارين من غرب المدينة ينضمون لإخوانهم تلبية لنداء ذلك الشاب الذي بزغ نجمه فجأة في قلب الأحداث..
كان نادر يشعر أنه لم يغمض له جفن منذ عقود.. لكن بعض المشاهد جعلته رغماً عنه يبقى متيقظاً..
جر ساقيه ناحية الجموع ليتابع المشهد عن قرب ..
الضابط جلال عاكفاً على تدريب حشد من سكان شرق المدينة على القتال بالأسلحة النارية .. وشاعت ابتسامة أمل على وجه نادر المكفهر حينما لمح شلة المقهى في أول المتدربين .. صحيح أن المعلم فوزي كاد يفقأ عين جلال بأول طلقه لكنه يتعلم بسرعة.. لم يعد الشاب محسن يرتجف وكان فخوراً بنفسه وهو يحمل السلاح كالمحترفين .. أما الشيخ حسن الفقي فقد أذعن لأوامر نادر .. عليه أن يستغل موهبته في تلاوة القرآن بتذكير رجال اللجان الشعبية بفضل الجهاد والثبات بدلاً من تذكير الأموات بعد أن فاتهم أوان التذكرة ...
ـ " ألستم بحاجة إلى مقاتل تحت العشرين ..."
التفت نادر فرأى أخيه مدحت قادماً وهو يحمل في يده عكاز والده الراحل .. والمثير هنا أن والدته جاءت تحمل في يدها يد الهون الذي تدق به الثوم ولوحت بها قائله في جدية :
ـ " دعهم يجربوا ضربة واحدة من هون أمك ..."
حاول نادر أن يبتسم رغماً عنه.. بعد أن نست تقاسيم وجهه كيف ترسم الابتسام.. وقال برفق :
ـ " أمي .. مكانك مع بقية النساء .. في البيوت .. لو نجحوا في اختراقنا ستكونون أنتم خط دفاعنا الأخير عبر النوافذ والشرف .."
ثم نظر إلى أخيه مردفاً :
ـ " وأنت يا مدحت ..هل ما زلت مصر على كتابة اسمك ( متحت )؟.."
ضحك الأخير ولوح بعكاز والده قائلاً :
ـ " لقد تغيرت كثيراً يا أخي العزيز .. لقد كنت واحداً ممن شاركوا في هدم جهاز السلطة حامي الشعب .. ولابد أن أشارك معكم اليوم لعلى أكفر عن ذنبي القديم ..."
ـ " الكل سيشارك يا أخي العزيز .. لم يعد هناك خيار أخر .."
ثم التفت لأمه مردفاً :
ـ " وأنت يا أمي .. عودي مع النساء فالرجال بحاجة للتغذية قبيل المعركة.."
ـ " من حقنا الوقوف معكم جنباً إلى جنب.. دعك من تلك الأفكار الذكورية العنصرية.. التي ورثتها من أبيك"
تذكر نادر البرامج الإعلامية التي أدمنتها أمه على مدار عقود والتي تغذي فكرة أن المرأة مفيدة جداً في أي مكان يجمعها بالرجال .. لكنك إذا احتجت لها في مكانها فلن تجدها أبداً..
قال لها في صبر:
ـ " يا أمي.. الأفكار الذكورية لا تواجه أبداً بالأفكار الذكورية.."
نظرت له في غير فهم فابتسم هو في غموض..
لم تفهم أن أفكار التحرر والمساواة التي تلقفتها عبر الإعلام هي من بنات أفكار الرجال.. وتصب في صالح أهوائهم الردية..
هنا ارتفع صوت جلبه ونقاش حاد عند إحدى اللجان الشعبية ..ثم برز جلال وهو يلوح بكفه قائلاً :
ـ " أيها القائد .. إنه سمكة بلطجي شرق المدينة العتيد.. يريد أن يقابلك .. يقول أنه جاء متطوعاً ..."
صرف نادر أمه وأخيه برفق ثم التفت إلى جلال قائلاً :
ـ " دعوه يأتي ...."
ـ " لكنه يرفض التفتيش .. ومعه حقيبة سوداء مريبة .."
تقدم نادر إلى جوار جلال ناحية الجهة التي تتصاعد منها الجلبة ولمح سمكة وهو يحيط حقيبة جلدية سوداء بذراعه اليسرى ويلوح بمطواة في يده اليمنى صائحاً :
ـ " سمكة لا يفتش في منطقته .. إياكم أن تقتربوا .."
صاح نادر ليسمع سمكة وسط الصخب :
ـ " دعوه..."
التفت سمكة إلى نادر وتهلل وجهه صائحاً :
ـ " ألم تسمعوا كلمة كبيركم؟ .."
اقترب منه نادر مشيراً إلى المطواة التي بيده قائلاً :
ـ " لا مكان بيننا للبلطجة يا سمكة .."
اغلق سمكة المطواة باحترافية ثم دسها في جيب سرواله قائلاً :
ـ " لقد تبت من البلطجة يا كبير وجئت أعرض خدماتي .. و .."
ووضع الحقيبة على الأرض ثم انحنى ليفتحها مستطرداً :
ـ " وأموالي كذلك .."
تأمل نادر ومعه جلال وبقية رجال اللجان الشعبية الأوراق المالية التي تملأ الحقيبة الجلدية بدهشة كبيرة ... وغمغم جلال :
ـ " أموال مسروقة ..."
رفع سمكة طرفة إليه قائلاً في سخرية :
ـ " إنها مائة ألف ترللي .. ثمن رأس قائدكم ..."
عقد نادر ساعديه أمام صدره ونظر لسمكة مستفهماً :
ـ " من ؟"
ابتسم سمكة وهو ينهض مجيباً :
ـ " زبون قديم من بنى الأصفر ... لكن سمكة قرر ألا يستمر مع المعسكر الشرير..."
اقترب منه نادر هامساً في خفوت :
ـ " نوسام..."
صاح جلال وهو يحول بينه وبين سمكة :
ـ " حذار أيها القائد قد تكون خدعة ..."
نظر سمكة إليه بلا مبالاة على حين رتب نادر على ساعده مطمئننا قبل أن يقول لسمكة في هدوء :
ـ " ولماذا قررت ترك المعسكر الشرير؟.."
ـ " سمكة ليس خائناً بطبعة .. أنا استعمل قوتي لمن يدفع الثمن .. أنا فتوة مثل فتوات الزمن الغابر لكن المجتمع أساء فهمى ... وعلى رأسهم رجال السلطة .. لذا كنت سعيداً جداً وأنا أشعل النار من تحت أقدامهم ..ثم اكتشفت أن الجانب الذى استخدمني لهدم السلطة كان يهدف إلى إخراج كائنات الظلام مصاصة الدماء إلى السطح .. والتي لن تفرق بين دماء سمكة وأي دماء أخرى .. لقد خدعني ذلك الأصفر وقررت أن أخدعه أنا أيضاً .. وأنا هنا رهن إشارتك ويسعدني أن أكون سبباً في رجحان كفتكم ... أنا أضمن لكم عشرات البلطجية يمكنهم أن يثيروا الرعب في قلوب الظلاميين بمجرد رؤيتهم .."
وضع نادر كفه على عاتق سمكة ونظر في عينيه قائلاً :
ـ " قلت .. لا مكان للبلطجية بيننا يا سمكة .."
ابتسم سمكة في حرج ثم قال بلهجة صادقة :
ـ " أعذرني فمازال لساني يخونني.."
ثم صوب عبارته قائلاً :
ـ "هناك العشرات من الفتوات مستعدين لغسل ماضيهم القذر بالانضمام إليكم ..."
اعترض جلال قائلاً :
ـ " هل سنقاتل إلى جوار المجرمين و النوار .. ؟"
قال له نادر وهو يرمقه بنظرة باردة :
ـ " ومن منا لم يجرم ؟.."

***

ـ " كيف حالك يا دكتور؟"
ابتلع العوادلي ريقه وهو يتأمل العيون الجشعة تتأمله والأنياب الحادة التي تلتمع في ظلام الغرفة على الضوء المتسلل عبر نافذة حجرته..
لم يغادر بيته منذ استيلاء الظلاميون على غرب المدينة.. ظل يراقب المذبحة من وراء النافذة في الظلام.. وينتظر..
حتى فوجئ بتلك الزيارة المفاجئة من نوسام ومعه حشد من الظلاميين.. وقد بدا مظهر الأول المتأنق دائماً متناقضاً مع هيئة الظلاميين الرثة ناهيك عن رائحة الدماء الطازجة التي تفوح مع كل حركة وسكنة..
قال بصوت مبحوح وكأنه يخشى استثارتهم:
ـ " ببـ.. بخير.. هـ.. هل هناك ججـ.. جديد؟"
عقد نوسام ساعديه أمام صدره وقال في حزم :
ـ " أكيد يا دكتور.. دورك لن يتوقف عند الاختباء في بيتك وغلق هاتفك.. لعمري هذا خوف لا مبرر له يا دكتور.. هذا أمر قد دفناه سوياً كما تقولون .."
ـ أنا لست مخـ.. مخـتبئاً .. كما أنني حذر في استعمال وسائل الاتصال .."
ـ " وسائل الاتصال في أيدينا الأن.. يبدو أنك لا تشاهد الأخبار أيضاً.. على العموم كانت فرصة طيبة كي أزورك في بيتك.. ولأخبرك كذلك أنك سترحل فوراً لشرق المدينة؟"
زاغت عيناه بالطبع وجف حلقه.. وهو يتخيل نفسه بين براثن سكان شرق المدينة المتحمسين .. سيحولونه إلى شاورمة جزاء له على
جره لشعبنا الطيب إلى فخ الظلاميين..
ـ " شـشـ.. شرق المدينة!.. كـ.. كيف؟"
ـ " اطمئن يا دكتور الذي يحميك في غرب المدينة من الظلاميين قادر على حمايتك في شرق المدينة من فلول السلطة.."
ـ " صصـ..صحيح.. لكن.. مشكلتي ليست مع السلطة بقدر ما هي مع الشعب الأسمر ذاته.."
ابتسم نوسام في مكر.. وغمز بعينه قائلاً :
ـ " تنسى دائماً أنك واحد من الشعب الأسمر.. وأنك طيب مثلهم ويسهل التغرير بك.. كما غرر بهم .. "
ـ " وما هو دو..دو.. دوري بالضبط.."
ـ " هو دورك منذ البداية يا دكتور.. "
ثم جال ببصره في أرجاء بيت العوادلي تسائل :
ـ " لكن أين واجب الضيافة يا دكتور.. يبدو أنك قد تأثرت بنا لحد بعيد"
وضحك وخلفه تتابعت ضحكات الظلاميين ومن جديد فاحت رائحة الدماء وزهمها.. ارتبك العوادلي وهو يشير لهم كي يجلسوا قائلاً :
ـ " أنا أعـ.. أعرف شرابك يا سيد نوسام.. لحظة .. سأستدعي خادمي كي ... لكن.. بالنسبة للسادة الظلاميين...أأ.."
وصمت متحيراً .. لكن نوسام أنقذه من الحيرة حينما قال برقة :
ـ " لا عليك يا دكتور.. سيشربون الخادم! "

***

" سيل الجرذان الظلامية يجتاح غرب المدينة "
" ألا تفهم .. أنت تقترب منهم .. "
" ليس هذا من شأنك "
" أيها القائد .."
فتح نادر عينيه.. فرأى جلال قد جاء يوقظه وقد حل الظلام..
ـ " هناك سيارة تقترب .. تبدو فاخرة لعلها تابعة لبعض المسئولين غرب المدينة .. "
ونهض معه نادر ليرى القادم ..
كانت اللجان متحفزة بعضهم يحمل أسلحة نارية وبعضهم يحمل أسلحة بيضاء وجنازير وتنعكس على وجوههم المرهقة ظلال النيران التي أوقدوها ...
ـ " أخرج من السيارة ببطء وعرف نفسك.."
انفتح باب السيارة الفاخرة ونزل منها شيخ عجوز يتعثر .. رفع ذراعيه عالياً وتأمل الجمع بوجه ممتقع ..
ـ " أأ ..أنا منكم ..."
عقد نادر حاجبيه متمتماً :
ـ " الدكتور العوادلي .."
تقدم الدكتور العوادلي وهو يلهث من فرط الجهد المضنى الذى بذله منذ هبط من السيارة المكيفة وحتى وصل إلى حشد اللجان الشعبية المترقب ! ثم خر على ركبتيه ممسكاً صدره :
ـ " لـ .. لقد نجوت بـ .. بأعجوبه ..."
اقترب منه نادر قائلاً في اهتمام :
ـ " هل هم قريبون ؟.."
رفع العوادلي طرفه إليه قائلاً بصوته المتقطع :
ـ " إنهم سريعون جداً كادوا يلحقون بي رغم أنهم يعدون على أقدامهم و أنا في سيارتي ..."
صرخ جلال :
ـ " استعدوا ..."
تكهرب الجو وتحول الحشد إلى قنابل تنتظر من ينتزع فتيلها وتنفجر على حين مد نادر كفه للعوادلي ليعتمد عليها قائماً ... ذلك العوادلي المتهالك نجا من أنياب الظلاميين في حين هلك مئات وألوف الشباب اليافع والواعد ..
ـ " أ .. أنا معك يا .. يا سيد .. نادر ...وأضم صو .. صوتي إلى ..
صو .. صوتك .. في مواجهة الظا .. الظلاميين ..."
نظر إليه نادر في ثبات فازدرد ريقه وامتقع وجهه .. قال نادر في برود :
ـ " كنت أحد المنادين بخروج الظلاميين للنور .."
ـ " كـ .. كل الشعب كـ .. كان كذلك .."
ـ " الشعب يتبع من ينظر له.. وكنت أحد المنظرين الكبار المدافعين عن الظلاميين .."
عدل العوادلي من وضع منظاره الطبي وهو يقول مرتبكاً :
ـ " أ .. أسف لـ ..لقد .. غر.. غرر بي.. "
نظرة نارية لمعت في عيني نادر ارتعدت لها فرائص العوادلي قبل أن يصيح نادر منادياً أخيه مدحت .. طبعاً تصور العوادلي أن مدحت هذا يقوم بدور مسرور السياف هنا.. وأنه سيطير رأسه ويضعها في طست بين يدي نادر.. لكنه فوجئ بشاب أخضر العود من أولئك الشباب الذين يلقاهم في الندوات المسمومة.. كان ينظر إليه بانبهار وهو يصيح :
ـ " الدكتور العوادلي شخصياً ... أنا من المعجبين بك جداً .."
حاول العوادلي أن يبتسم لكن نادر قطع عليه ابتسامته وهو يقول لمدحت في صرامه :
ـ " خذ الدكتور العوادلي إلى مكان النساء .. سيكون هناك بأمان .."
ـ " هذا لطف منك .."
قالها العوادلي ثم تأبط ذراع مدحت الذى لم يصدق نفسه .. العوادلي يتأبط ذراعه شخصياً .. وقاده إلى حيث أمره نادر وهو لا يكف عن سكب عبارات المدح والثناء على أذني العجوز... وعاد نادر ليلتحم برجال المقاومة الشعبية المتحفزة وصاح ليسمع المعتلين لأسطح البنايات :
ـ " محسن .. هل ترى شيئاً ..؟"
برز وجه محسن من فوق سطح البناية وبرزت عروق رقبته وهو يهتف :
ـ " يتدفقون عبر الطريق السريع الذى يربط الشرق بالغرب ..."
ـ " أعدادهم ..؟"
بصق محسن في تقزز قبل أن يجيب:
ـ " كالنمل.."
وجاء جلال ومعه مجموعة من رجال السلطة القدامى يحملون بعض قاذفات اللهب وقد اكتست وجوههم بالجدية .
ـ " لا تتدخلوا إلا لو فشلنا نحن في صدهم ساعتها يمكنكم فتح النيران على الجميع ..."
قال جلال وهو يرمق الأفق :
ـ " هل سيغامرون بالهجوم رغم النيران التي أوقدناها ...."
ـ " لن يهاجموا.."
قالها نادر في بساطة فنظروا إليه في دهشة فاستطرد :
ـ " بل نحن من سيهاجم .."

***



الشمس أجمل في بلادي من سواها والظلام..
حتى الظلام.. هناك أجمل فهو يحتضن الكنانة..