عرض مشاركة واحدة
قديم 12-29-2013, 02:38 PM
المشاركة 24
روان عبد الكريم
كاتبـة مصـريّـة
  • غير موجود
افتراضي
كان يرج باب بيتها بقوة، ويصرخ، وتعالى صراخ النسوة من قلب البيت، وارتاعوا، وفتحت شرفات المنازل الفضولية، وتجمع الأطفال والكبار..واهتاج رجال عائلة الكردي بعد أن بلغهم النبأ من كل صوب، وأطلقوا أعنة الجياد، وحاصروا "زرد " من كل صوب...

كانت ليلة ليلاء... فقد عجز عشرات الرجال عن التغلب على زرد العملاق – فأوسعوه ضربا بالكرابيج من كل صوب، حتى انهار المارد الغاضب وتغلبوا عليه وسط صرخات ابنته، زرد الصغيرة، وربطوه للشجرة أمام بيت بدر ثم أثخنوه ضربا – حتى تعبوا وناموا وإذا لفحت شمس الظهيرة وجوههم العكرة قاموا لضربه مرة أخرى وسط صرخات زرد الصغيرة التي استماتت في الدفاع عن أبيها العاجز، فكانوا يجذبوها من شعرها بعنف، ويركلوها فى بطنها بأعنف ما ليدهم، ويلقوها بعيداً.

ظل زرد معلقاً يومين كاملين، والصغيرة تنام اسفل قدميه...فى الليلة الثانية وجدت زرد الصغيرة قربة ماء وبعض الطعام، ولا تعرف من أحضرهم وهى نائمة – أعطت لأبيها بعض الماء فتقبله بنهم- إلا انه رفض الطعام ..


وفى الصباح اضطروا لفك وثاقه ناقمين تجنبا للمشاكل...لان خبر زرد وصل لنقطة الشرطة، اتكئ على ابنته التي صار شعرها الممزق من جذب الرجال كخرقة باليه مهللة على وجهها الباكي الذي امتلأ بالسجحات والجروح التي لا تقارن بحال أبيها وسط سخرية ورشق الأطفال لهمها بالحجارة...

لم تكن فاجعة زرد الكبرى في أهانته، وضربه، وسحله هو وابنته فحسب، بل في بيته الذي أكلته النيران أكلا، ومروجه الغناء التي صارت هباء منثورا انكسر وطنه الجديد واحترق بيته وانكسر فؤاده وجلس على حافة النهر يلهو بالطين الندى يملئ به يديه وينظر إليه ثم يبكى ويغرق به وجهه ثم يبكى وينتحب في أنين وتوجع ظل على حاله هذا أسبوع يهذى والصغيرة تنظر إليه وهى تسند ظهرها على شجرة التوت على مقربة منه تقتات منها كلما عضها الجوع، وحين تحاول وضع بضع ثمرات منها في فمه كان يزجرها ويأمرها بالابتعاد ويعاود غمس وجهه في الطين وهو يصرخ بكلمات بلغته الأم .

في اليوم السابع اتخذ قراره اتجه للبيت المحروق...لمكان محدد دفن فيه كتره الذهبي... احضر الصندوق وصار يلقى القطع الذهبية عبر النهر وهو يرقص كانون حتى توقف عند تمثال صغير نادى زرد الصغيرة... ومازال يهذى والزبد يتطاير من فمه...لم تفهم سوى ساحرة كوش- لقد دفن الأجداد سحرها الأسود منذ زمن بعيد- تعاهدنا أن نطمسها عبر الزمان – هي سيدة النبؤات السبع – من يفتح أسرارها يكتوي بنارها ثم صار يهذى لساعات وساعات...

زرد عاجز...زرد طيب...زرد غبي...زرد أهوج...زرد لا وطن له...زرد لا بيت له، كان يردد تعويذة ما كتبت على ظهر التمثال تعويذة بلغة قديمة – لغة من جوف فترة سحيقة من التاريخ حينما استحال التمثال في يده لنار. لم يلقه زرد... بل ترك النار تحرقه... اشتعل زرد وهو يصرخ دنست ارث الأجداد... أنا زرد آخر سلاسة أبناء كوش...مات زرد بعدها و وجدوا جثته متفحمة على ضفاف النهر وقد غطاها الكثير من الطمي...إلا أن عيناه ظلت كما هي رافضة الارتخاء محدقة في الفراغ كما لو أن شئا رهيبا يرعبها... شيئا رأته زرد الصغيرة في تلك الليلة، ورفضت الإفصاح عنه...

لم تروى زرد الصغيرة الكثير في تلك الليلة سوى أنها هامت في الطرقات بعدها جائعة – شريدة – مهلهلة الملابس – حينما امتدت لها -يد بالطعام لم يكن شفقة بل لتغتال براءتها في الطرقات المظلمة...لقد دافعت عن نفسها حتى خارت قواها...تمزقت...وضربت بقسوة حتى تشققت شفاها وانكسرت ذراعها.. ولم يهرع احد لاستغاثتها.

سالت دماء شرفها ولم يبك احد من اجلها، استباحوها ولمَ لا؟ أليست عبده القرية؟ كانت تفلت مرات ومرات من الأيدي ألدنسه التي تتربص بها نهاراً وليلا وترقد فوق الأشجار حتى لا يطالها احد...ولكن في أيام الشتاء القاسية والبرد الشديد، والجوع الأشد...لم تكن لديها القوة على القتال...بل كانت تستسلم مجبرة خائرة القوى، وهى تجذب بقسوة من شعرها وتسحل عبر الطرقات لمنطقة خاوية وهى ترغب أن يأتيها الموت في لحظة...حتى ظهرت جريمتهم على جسدها، وتكور بطنها الصغير...وهبت نساء البلدة، واجتمعن عليها بلا شفقة... يركلن بطنها بأرجلهن ... ويبصقن على وجهها الجميل الحزين حتى إذا غابت عن الوعي وهى تترف بغزارة توجسن الشر ولفوها في رداء غليظ وأمروا احدهم أن يلقيها خارج البلدة على مفارق الطرق...

كانت ليلة حالكة السواد ، وداخلها يمتزق، ويتقطع، حتى لمحته وهى في اللاوعي عملاقا اسود- تضئ أسنانه سواد الليل وهو يقف معلقا في الهواء فوق رأسها ... همست بضعف-:
- اذهب
- ألست زرد؟

ثم غابت مرة أخرى حتى أتى الصباح ليجدها رجالا يمتطون جياداً قوية يمضون في اثر عربة تجرها ستة خيول وتركبها امرأة سمينة شديدة البياض – شديدة القسوة –جهورة الصوت– ضاقت عينيها على الصبية الملقاة عبر الطرقات والدماء المنهمرة بين فخذيها يخبرها الرجال ما زال بها نبض الحياة فتأمرهم بحملها معهم وهى تجلدجيادها بعنف وتجذب الأعنة لتنطلق إلى بلدة أخرى بلدة الهانم ...