عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 07:34 PM
المشاركة 65
أمل محمد
مشرفة سابقة من آل منابر ثقافية

اوسمتي

  • غير موجود
افتراضي
(لماذا يكون الأمر على هذه الشاكلة؟)


فإذا كان القرآن قد ميز السمع والبصر على ما عداهما من حواس فإنه كذلك قد ميز السمع على البصر تقريبًا في كل آية ذكرا فيها معًا، ولا بد من وجود سبب مقنع لذلك. وبينما يتوجب علينا اعتبار الاثنين هبتين وهبهما الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإنسان، فإن علينا أن نؤكد بأنَّا لسنا قادرين على المبالغة في تقويم مزية السمع والبصر في التعلم.

فإذا كان القـرآن الكريم قد ألقى الضوء على هبة نعمتي السمع والبصر اللتين أنعـم الله بهمـا على البشـر ـ فلا بد أن للترتيب الذي ورد بهما في القرآن الكريم مدلولات نظرية وعملية. فقد دعا القرآن البشر للإيمان بالمنظـور من الأشـياء وغير المنظور منها. وأمـر القـرآن البشر بالتأمل في آيات الله الكبرى وبالنظر في الطبيعة وفي أنفسهم بوسائل الاستبطان والاسترجاع.

ولهذا لا بد من التفكير فيما توصل إليه علم النفس التجريبي في مجال إدراك الكلام المتعلق بالمعلومات السمعية والبصرية وذلك للبحث عن بعض من المدلولات النظرية والعملية في هذا الخصوص.

تطور السمع والبصر


رغم أن الجهاز السمعي والجهاز البصري لدى الإنسان تنشأ بدايتهما في ذات الوقت وذلك في الأسبوع الثالث بعد حضانة الخلايا الأولى للجنين في بطان الرحم، إلا أن جهاز السمع يصبح فاعلاً وظيفيٌّا أثناء فترة الحمل. وتبدأ مُقلتا العين في التحرك فقط مع بداية الأسبوع الثاني عشر بينما تفتقد حركات العين إلى الإدراك، في حين أن الأذن قادرة على ممارسة وظيفتها السمعية طول أثناء المرحلة الحملية رغم امتلائها بالسوائل التي تجعلها صماء جزئيٌّا. وهذا الصمم الجزئي يقوم في واقع الأمر بحماية الجنين من التعرض للإزعاج من الأصوات الخارجية غير أن هذه الحماية لا تشمل الأصوات العالية بجوار بطن الأم (Moore, 1983). ويوضح لنا هذا أن جهاز السمع يبدأ في القيام بوظيفته قبل الجهاز البصري، في مراحل مبكرة فضلاً عن جزئية هذه الوظيفة. حاسة السمع، من منظ تفاعل اجتماعي، هي أول ما يستخدمه الرضيع للتواصل مع العالم الخارجي خلال المرحلة الجنينية. ولهذا فإن هذه الحقيقة لا بد أن تعلي من شأن حاسة السمع وتمنحها مزايا واضحة على ما عداها من حواس.

يكون الطفل مهيئًا عند وقت الولادة بجهاز سمعي مكتمل نسبيٌّا وجهاز بصري أقل اكتمالاً. وهذا يعني أن حساسية شبكية العين تجاه مختلف أنواع الضوء ضعيفة. بينما الأذن قادرة على التجاوب مع الصوت فهي تحدد بداية مقدرة الطفل على تحديد اتجاه الصوت
(As-Sayid, 1968: 108). إضافة لهذا فإن الأبحاث في علم النفس التجريبي تشير إلى أن
زمن الارتداد السمعي Auditory Time-Back) أقصر من (
زمن الارتداد البصري Visual Time-Back) مما يعني أن السمع يلعب دورًا حاسمًا في المواقف الحرجة بينما البصر غالبًا ما يكون أقل أهمية من ناحية تسلسل الأهمية
(Voss, 1972: 40).

وللحواس الإدراكية خاصية مهمة تكمن في المقدرة على التوقع والتبصر والسبق، غير أن حاسة السمع، مثلها مثل عدد من الحواس الأخرى، هي الأقل اعتمادًا على العالم المادي المباشر وذلك يعود لاستخدامها كثيرًا من الرموز المجردة والإشارات السيمية. إن الرموز التي تنحو لأن تكون أكثر تحررًا من الارتباط مع الموضوع الفيزيائي هي الرموز اللسانية وما وراء اللسانية وهي التي تلعب فيها حاسة السمع دورًا هامٌّا في تطور الملكات اللغوية عند البشر (As Sayid1968:206).

وتقع منطقة التفسير اللغوي داخل قشرة الدماغ بجوار منطقة السمع وهي الأكثر ارتباطًا بها من منطقة البصر، وهذا التقارب في المواقع يساعد منطقة التفسير اللغوي على النمو وعلى اكتمال وظائفها قبل زمن طويل من نظيرها البصري، وهذا ما يفسر السبب الذي يتيح للأطفال اكتساب اللغة المنطوقة وفهمها قبل فهمهم للأشياء المرئية (Guyton, 1981: 688). وهنا يتضح الإعجاز القرآني في تقديم السمع على البصر وبهذا التتابع.

السمع والبصر يكمل كل منهما الآخر في إدراك الكلام:

وأوضحت تجربة أخرى (أو بالأحرى سلسلة من التجارب) أجراها دود Dodd عام 1977م مرة ثانية باستحالة تجاهل المعلومات البصرية وأنها تتساوى مع المعلومات السمعية في عملية إدراك الكلام. فقد قدمت قوائم كلمات (حرف صامت ـ صائت ـ حرف صامت) إلى أفراد البحث في خمسة ظروف تجريبية مختلفة. وكان هناك نفس المستوى من الضجيج يغطي على الإشارة السمعية في كل الظروف. وأوضحت النتائج أن الأخطاء المرتكبة عند تقديم الكلمات في ظرف بصري فقط (دون وجود معلومات سمعية) لم تكن حقيقة مختلفة عن الأخطاء التي ارتكبت عندما تعرض الأفراد إلى الصوت فقط (مع إخفاء وجه المتحدث). ولهذا تساوت المعلومات الناتجة من رؤية المتحدث ومن سماع إشارة سمعية ضعيفة. فعندما رأى أفراد البحث كلمة مختلفة من تلك التي يسمعونها، كان ناتج معلومات البصر أكبر من ناتج معلومات السمع. وفي ظرف آخر عندما منح الأفراد معلومات بصرية فقط تم إدراك الحروف الصامتة الأمامية بشكل أسهل من تلك الخلفية ونحا أفراد عينة البحث إلى استبدال الحروف الصامتة من نفس مكان النطق، وهنا يتضح إعجاز القرآن في تلازم السمع والبصر عند ذكرهما مجتمعين.

يمتزج السمع والبصر ليكونا أكثر القنوات أهمية وعطاء لاكتساب المعرفة بشكل عام واللغة بشكل خاص وهاتان القناتان المتلقيتان تمكنان الإنسان من معالجة المعرفة التي يتحصل عليها من بيئته وتستقر في عقله وتلعب حاستا السمع والبصر دورهما كركيزة نستطيع من خلالها بناء حضارة إنسانية ونظم تعليمية متوازنة وعادلة. فإن أخفقنا في استخدامهما فقد يؤديان بنا إلى الفشل الكامل ـ بل أحيانًا إلى دمار مجتمعات بأكملها ـ فالسمع والبصر لا يمكـن الاســتغناء عنهمـا في التعلـم الهـادف، ويشــمل ذلك تعلـم اللغـات التي يكمن هدفها في تحقيق التواصل الفاعل والمجدي بين البشر ودونها لا يمكن لعمليـة التعلم لأي فـرع من فـروع المعرفة أن تتم على الوجه الأكمل ولهذا السبب تعجز عن تحقيق الاستقرار والتجانس للإنسانية في أي من الأشكال المنظورة.

يتضح من أعلاه أن المعلومات السمعية البصرية تلعب دورًا مهمٌّا في تفعيل التواصل مع العالم الخارجي، ففي حالة فقدان البصر يمثل الإدراك السمعي قناة الأعمى للتواصل مع الأفراد المتحدثين بكلام جماعته أو الناطقين بلغته وقد يمتد هذا التواصل مع الأشخاص المنتمين للأصول الثقافية واللسانية الأخرى، إن كان يعرف لغاتهم.

البصر جزء مركزي من عملية السمع


يقوم الرضيع، منذ بلوغ الأسبوع الثامن عشر في المرحلة قبل الكلامية، بمحاكاة حركات الفم عند الكبار وذلك بربطه لحركات نطقية محددة للكبار مع أصوات كلامهم، ويزعم دود (Dodd, 1987) بأن الرضع يطورون إدراكهم الكلامي اعتمادًا على كل من المعلومات السمعية والبصرية. فإن كان هذا صحيحًا فإننا نتوقع أن يواجه الأشخاص المولودون عميًا الذين يعجزون عن رؤية طريقة نطق الأصوات، مصاعبَ في كل من التمييز النطقي وفي التطور الفونولوجي، وفي حقيقة الأمر فقد وجد ميلز (Mills,1987) أن الأطفال المعاقين بصريٌّا تكون استجاباتهم الصحيحة للأصوات التي أماكن نطقها مرئية مثل (/b,/p/,/m/,/f/, >/) أقل بكثير من الأطفال المبصرين. إن عجزهم عن ملاحظة حركة الشفاه يؤدي إلى تقليل اكتساب الأصوات، علاوة على هذا فإن الأخطاء التي يرتكبها الأطفال المبصرون وتلك التي يرتكبها العمى تتباين في طبيعتها، تكثر أخطاء الأطفال العمى أحيانًا عند الأصوات التي تزداد فيها أهمية مكان النطق، بينما الأصوات التي تزداد فيها أهمية طريقة النطق ـ وبالتالي تكون أكثر سهولة لأن تسمع ـ تبدو أقل صعوبة على الاستيعاب عند الأطفال العمى. وبذا فإن فقدان البصر يجعل بعض الأصوات ـ تلك المتعلقة بمكان النطق ـ أكثر صعوبة لأن تدرك. وعلينا وضع هذه النتيجة في اعتبارنا في حالة متعلمي اللغة واكتسابهم الفونولوجي فالمعلومات البصرية مهمة بنفس القدر عند الاستماع.

كذلك أجريت الأبحاث على كل من الصم وعلى من يتمتعون بحاسة السمع (المبصرين). وأتت النتائج لصالح المعلومات البصرية ودورها في إدراك الكلام. وقد زعمت نظرية إدراك الكلام أن الجهاز البصري يأتي إما كجهاز مساند يكون قيد الاستخدام عندما تتدهور الإشارات السمعية بشكل ما ـ كما في حالة الصم أو من يعانون مصاعب في السمع ـ أو أن البصر يمثل جزءًا مركزيٌّا في إدراك الكلام تحت أي ظرف كان. وقد أورد ماكقورك وماكدونالد (McGurk & MacDonad 1976) في دراستهما الذائعة الصيت لتأثير البصر على إدراك الكلام ـ أوردا ظاهرة الخداعات السمعية البصرية. وعند عرض فيلم على مجموعة يقوم فيه المتحدث بحركات شفاه لـ (ga] بينما كان التسجيل الصوتي Sound Track يحتوي على مقطع (ba] الذي أعيد تسجيله على الشريط، ذكر 95% من أعضاء المجموعة البالغين سماع مقطع (da]. قد نستطيع جزئيٌّا توضيح الاندماج الحادث بين (ga] و(ba] و(da] من حقيقة أن حركة الشفاه في (ga] و(da] متناغمة بينما كلاهما مختلف عن الإغلاق الشفوي البين لمقطع (ba] إضافة لهذا فقد ذكروا ردود أفعال مختلطة فإن كانوا سمعوا (ga] ـ (ga] وشاهدوا (ba] ـ (ba] فإنهم يوردون سماع (gabga] (gaba] وهما الخليطان المحتملان للعناصر المذكورة. ما يهمنا في هذا المقام ملاحظة استحالة تجاهل المعلومة البصرية الآتية من (ba] الشفوية.

قام رايزبرق وماكلين وقولد فيلد (Reisberg, Mclean, Gold Field, 1987) بالتحقق من النظرية القائلة بأن البصر جزء مركزي لإدراك الكلام وليس مجرد جزء مساعد للسمع، وافترضوا أن المعلومات البصرية تستخدم حتى مع وضوح وسلامة الإشارات السمعية، وقد أدخلوا عامل السمع في بحثهم من منطلق أن التجارب المشتركة للسامع تسهل عليه فهم واستيعاب المواقف التي تتم وجهًا لوجه، وفي تجربة يخفى فيها الصوت (Shadowing task) باستخدام نص فرنسي استطاع متعلمو اللغة الفرنسية الجدد تحسين أدائهم في الظروف المرئية أفضل من الظروف غير المرئية (حيث يوجد صوت فقط). كما اتضح أيضًا أن حركات الشفاه خاصة ذات أهمية في إدراك الكلام، وقد كانت الخلاصة التي توصل إليها الباحثون في نهاية الأمر إلى أن فوائد البصر تتضح أكثر عندما يصعب إدراك الكلام بشكل ما (مثلاً تقديم مدخل من لغة أجنبية).



يتبــع ~ ~