عرض مشاركة واحدة
قديم 09-03-2010, 02:03 PM
المشاركة 19
ايوب صابر
مراقب عام سابقا

اوسمتي

  • موجود
افتراضي
فلسفة أبي الطيّب
هل كانَ المتنبّي فيلسُوفًا


بقلم الأستاذ أحمد أمين

يخطئ من يظن أن لأبي الطيب فلسفة تشمل العالم، وتحل مشاكل الكون، فتلك بالفيلسوف أشبه، وربما قارب هذه المنزلة أبو العلاء لا أبو الطيب، فلئن كان أبو العلاء فيلسوفًا يتشاعر فإن أبا الطيب شاعر يتفلسف، إنما لأبي الطيب خطرات في الحياة منهنا ومن هنا لا يجمعها جامعة إلا نفس أبي الطيب والمحيط الذي يسبح فيه ويتشرب منه.
كذلك يخطئ من ظن أن أبا الطيب عمد إلى ما أثر من الحكم عن أفلاطون وأرسطو وأبيقوروأمثالهم من فلاسفة اليونان، فأخذها ونظمها، ولم يكن له في ذلك إلا أن حولالنثر شعرًا، كما رأى ذلك من تتبعوا سرقات المتنبي وأفرطوا في اتهامه، فأخذوا يبحثون في كل حكمة نطق بها ويردونها إلى قائلها من هؤلاء الفلاسفة. فلسنا نرى هذا الرأي، فإن كان قد وصل إلى أبي الطيب قليل من حكم اليونان ونظمها فإن أكثر حكمه منبعها نفسه وتجاربه وإلهامه لا الفلسفة اليونانية وحكمها، ذلك لأن الحكم ليستوقفًا على الفلاسفة ولا على من تبحروا في العلوم والمعارف، إنما هي قدر مشاع بين الناس يستطيعها العامة كما يستطيعها الخاصة، ونحن نرى فيما بيننا أن بعض العامة ومن لم يأخذوا بحظ من علم قد يستطيعون من ضرب الأمثال والنطق بالحكم الصائبة ما لايستطيعه الفيلسوف والعالم المتبحر وهذا الذي بين أيدينا من أمثال إنما هو من نتاج عامة الشعب أكثر مما هو من نتاج الفلاسفة. وكلنا رأى بعض عجائز النساء ممن لم تقرأ في كتاب أو تخط بيمينها حرفًا تنطق بالحكمة تلو الحكمة، فيقف أمامها الفيلسوف حائرًا دهشًا يعجز عن مثلها ويحار في تفسيرها، ومرجع ذلك إلى ينبوعين وهما التجربة والإلهام، فإذا اجتمعا في امرئ تفجرت منه الحكمة ولو لم يتعلم ويتفلسف، فكيف إذا اجتمعا لامرئ كأبي الطيب ملئ قلبه شعورًا وملئت حياته تجارب وكان أمير البيان وملك الفصاحة؟ فنحن إذا التمسنا له مثالاً في حكمه فلسنا نجده في أفلاطونوأرسطو وأبيقور، وإنما نجده في زهيربن أبي سلمى، وقد نطق في الجاهلية بالحكم الرائعة مما دلته عليه تجاربه وأوحى إليها إلهامه، كما نجده في شعر أبي العتاهية وقد ملأ عالمه حكما وأمثالا خالدة على الدهر. وكل ما بين أبي الطيب وهؤلاء الحكماء من فروق يرجع إلى أشياء: المحيط الذي يحيط بكل شاعر، وقدرة نفس الشاعر على تشرب محيطه، والقدرة البيانية على أداء مشاعره.
لقد ألم زهير من الحرب ورأى ويلاتها فشعر فيها ونطق بالحكم الرائعة يصف شرورها ومصائبها، وفشل أبو العتاهية في الحياة فزهدوملك الزهد عليه نفسه فملأ به ديوانه، وكان لأبي الطيب موقف غير هذين فاختلفت حكمه عنهما وإن نبعت من منبعهما، كما سنبينه.
ودليلنا على ذلك أن أبا الطيب - فيما نعلم - لم يثقف ثقافة فلسفية إنما تثقف ثقافة عربية خالصة، قرأ بعض دواوين الشعراء ولقى كثيرًا من علماء الأدب واللغة كالزجاج وابن السراج والأخفش وابن دريد، وكل هؤلاء لا شأن له بالفلسفة ومناحيها.
وما لنا ولهذا كله، فإننا لو رجعنا إلى حكمه لوجدناها منطبقة تمام الانطباق على محيطه ونفسه ليس فيها أثر من تقليد ولاشية من تصنع، فهو ينظم ما يجول في نفسه وما دلته عليه تجاربه لا ما نقل إليه من حكم غيره إلا في القليل النادر.
ونحن إذا أردنا أن نجعل نفسه ومحيطه قلنا: إنه بدأ حياته حياة فتوة وفروسية، تعرفه الخيل والليل والبيداء، ويحب الحرب والنزال، ويشتهي الطعن والقتال. قيل له وهو في المكتب ما أحسن وفرتك؟ فقال:
لا تحسن الوفرة حتى ترى منشورة الضفرين يوم القتال
على فتى معتقل صعدة يعلها من كل وافي السبال
كما نشأ طموحًا إلى أقصى حد في الطموح، يعتد بنفسه كل الاعتداد، ولا يرى له فيالوجود ندًا ولا مثيلاً. قال في صباه:
أمط عنك تشبيهي بما وكأنه فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
قومه من خير العرب بيتًا ومع هذا يجب أن يعتز قومه به لا أن يعتز هو بقومهوبيته:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي
وبهم فخر كل من نطق الضا د وعوذ الجاني وغوث الطريد
إلى جانب هذا الاعتزاز بالنفس استصغار للناس ونفوسهم وشئونهم:
ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم جثث ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام