عرض مشاركة واحدة
قديم 04-27-2013, 09:47 AM
المشاركة 34
احمد ابراهيم
من آل منابر ثقافية
  • غير موجود
افتراضي
نشا العقل الواعي على مرحلتين:
- مرحلة قانون الغابة.
- و مرحلة قانون العدل ..

قلنا ان الله تبارك و تعالى قد جعل الإنسان وسطا ، فهو لم يجعله قويا يستغنى عن الحيلة بقوة عضلاته ، و لم يجعله ضعيفا رخوا ، لا ينهض لاى من أعدائه ، و قلنا انه تبارك و تعالى ، بهذه الحكمة الحكيمة ، قد هداه طريق "الفكر و العمل" معا .. فهو يفكر و ينفذ ، و بذلك اصبح طريق تطوره يختلف ، فى ظاهره ، عن طريق تطور الحيوانات .. و هو فى مراحله الباكرة ، قد اهتدى إلى الدين ، و إلى المجتمع ، و هذان أمران ليس هناك ما هو أعظم منهما نفعا.

فى مرحلة قانون الغابة ، كان الخوف مسيطرا على المسرح ، سيطرة تامة .. فليس هناك غير الصيد و الصياد .. و الصياد نفسه هو صيد لصياد أكبر منه .. و قد رسخت هذه الفترة الخوف فى نفس الإنسان، و اضطرته ليبحث عن الأمان فى الكثرة من فصيلته، و التى من فصيلة الحيوانات المستضعفة التى تكون فى الغالب الأعم فريسة لذوات المخالب الحمر، و كذلك نشا المجتمع ..

وقد اقتضت معيشته فى الجماعة ان يتنازل ، طائعا أو مكرها، عن قسط كبير من حريته .. ذلك بانك لا تستطيع ان تعيش فى أية جماعة بشرية بغير ان تراعى حدودا معينة، تقيد تصرفاتك بفعل ما لا ينضر به الآخرون ..

و ليكون المجتمع ممكنا قام العرف، الذى هو القانون الأول، و لربما يكون اول عرف نشأ هو العرف الذى ينظم العلاقات الجنسية، فيحرم الأخت على الأخ، و البنت على الأب، و الأم على الابن الخ الخ ..

و أعان هذا العرف على تهدئة الغيرة الجنسية ، التى كانت تفرق الأسرة البشرية كلما بلغ الأبناء فيها مبلغ الرجال ، فقد اصبح بعد هذا العرف ، من الممكن ان يتعايش فى منزل واحد ، و فى منازل مجاورة ، الأب ، و الابن البالغ ، و الصهر ، و الابن المتزوج ، و كل منهم امن على زوجته من الآخرين.

و لربما يكون العرف الذى ينظم احترام الملكية الفردية قد نشأ مع هذا العرف ، من الوهلة الأولى، فانه فى المجتمعات البدائية ، لا فرق ، كبيرا ، بين ملكية الزوجة ، و ملكية الآلة ، أو الكهف ، وإذا كان لا بد للمجتمعات الصغيرة ان تعيش فى وئام ، تصيد معا ، و تحارب معا ، و تقابل صروف الأيام متحدة ، فانه لا بد من هذين العرفين الذين ينظمان السلوك فى الجماعة ، و يصونان كيانها ..

و ليس معنى هذا ان المجتمعات نشأت بصورة واحدة فى كل مكان ، و لكنه مما لا شك فيه ، ان المجتمع البشرى ، حيث نشأ ، فقد نشأ حول طائفة من العادات ، و العرف ، الذى ينظم علاقة الأفراد ببعضهم البعض ، و بهذا العرف دخلت إرادة الحرية فى صراع مع إرادة الحياة ..

و بتنازل الفرد عن قسط هائل من حريته ، بتنظيم المجتمع للعرف ، و ما تفرضه عليه أوضاع مجتمعه .. اصبح عليه ان يسيطر على نفسه ، و ان يمنعها مما يمنعها منه القانون ، الذى سنه مجتمعه ، و كلما انتصر الفرد فى هذا الصراع ، على غرائزه البدائية ، كلما قويت إرادته ، و انتقلت لذاته ، من اللذة الحسية العاجلة المحرمة ، إلى اللذة الحسية التى ينظمها العرف ، و يقرها ، بعد استيفاء قواعده ، أو قد تنتقل لذته من حسية عاجلة ، إلى معنوية آجلة ، كرضا المجتمع عنه ، و ثنائه عليه ، أو كرضا الآلهة عنه ، و مجازاتها إياه ، فى هذه الحياة ، أو فى الحياة المقبلة ..

و لما كان الفرد البشرى الأول غليظ الطبع ، قاسى القلب ، حيوانى النزعة ، فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه ، و كذلك كان العرف الاجتماعي ، شديدا ، عنيفا ، إلى الحدود التى تضحى بحياة الأفراد على مذابح معابد الجماعة ، استجلابا لرضا الآلهة ، أو دفعا لغضبها ، و هذا العنف العنيف اضطر الفرد البشرى ليسيطر على نزعاته ، و ليكبت فى صدره كثيرا من رغائبه التى لا يقره عليها العرف ، و لا ترضاها الآلهة ..

و نشأت فكرة الآلهة ، و فكرة الدين ، فى مطلع هذه المرحلة .. و مع فكرة الدين نشأت العقيدة فى الحياة الأخرى ، بصورة من الصور ، و ما يجرى فيها من خوف ، أو امن ينبنى على فعل الخير - رعاية العرف - ، أو فعل الشر - مخالفة العرف - فى هذه الحياة ، و وصفت الآلهة بكل الصفات التى تجعلها رهيبة ، و تجعلها قادرة ، مطلعة على أفعال الإنسان ، و قسمت إلى من يصادق و يعين و يرعى من يفعل الخير ، فيطعمه من جوع ، و يؤمنه من الخوف ..

و إلى من يستحوذ على من يفعل الشر ، فيخذله ، و يسلمه إلى متاهات الظلام .. و كانت عقوبات القتل الذريع توقع على اقل مخالفة من مخالفات العرف المعنى ، و لم يكن الفرد مهما فى بدء المجتمع ، إنما كانت الأهمية كلها للمجتمع ..

و ذلك فى وقته كان أمرا حكيما ، غاية الحكمة لأمرين ، اولهما ان المجتمع يومئذ كان ناشئا ، و حديثاً ، فهو قد كان فى اشد الحاجة إلى تمام الرعاية لقواعد نشأته .. و ثانيهما ، ان الفرد البشرى ، كان حيوانى النزعة ، غليظا كثيفا ، يحتاج العنف العنيف ، لتقوى سيطرته على نزواته و بداوته .

كان العرف الأول، بغير تدبير واع من آباء الأسر، و هم كانوا نواة الحكومة الأولى ، حكيما موزونا، يرعى مصلحة الفرد، و يرعى مصلحة الجماعة، فى ان معا ..

و فى هذا تظهر حكمة الحكيم الذى سير الحياة فى العهود السحيقة ، من بؤرة هوانها ، و ذلها ، إلى منازل شرفها و عزها .

و قد كان الفرد البشرى ، حتى فى هذه المرحلة ، يعيش وسط الخوف .. بيد ان أمرا هاما قد طرأ على حياته ، و هو انه قد اصبح يعيش فى امن ، بالقدر الذى يتفق مع تلك الفترة الرهيبة ، إذا ما اخلص للجماعة ، و اجتنب مخالفة العرف الذى ترعاه .. ليس فقط يعيش فى امن .. بل انه ينعم بصداقة الآلهة ، و صداقة الأرواح الخيرة ، التى ترف بأجنحتها عليه ، و صداقة الخيرين من أبناء ، و بنات ، الأسر التى تكون الجماعة ..

و هكذا بدافع من الرهبة و الرغبة ، أخذ يبرز الذكاء الذى يميز بين ما يليق، و ما لا يليق، و أخذت تبرز الإرادة التى تروض الشهوة الفطرية ، لتسوقها فى طريق الواجب .. فمن الاحتكاك بين اللذة الحاضرة و الواجب المرعى برز الذكاء للتمييز، و برزت الإرادة للتنفيذ ..

و هذه هى بداية العقل البشرى ، لان به دخلت القيمة فى حياة الإنسان ، و لانه به تجدد اعتبار المستقبل ، و بدا جولان الخيال فى شعابه ، و انسراحه فى غيوبه .

ان مرحلة بروز العقل البشرى فى البشر ، تؤرخ تحولا جوهريا فى طريقة نفخ الروح الالهى ، ذلك ان الطريق قد انفتح أمام الإنسان ، بفضل الله ، ثم بفضل العلم ، ليكون بمفازة من عذاب الخوف ان هو اتبع الواجب الذى ترسمه الحكمة .. و ذلك بمراغمة هوى نفسه ..

و هو لم يترك فى حيرة من أمر الواجب ، فقد تولى الله هدايته ، فارسل رسل الأنوار - الملائكة - لتمد بدائه العقول ، التى نشأت فى الظلام ، بأسباب القدرة على صحة الإدراك .. و هو تبارك و تعالى يقول ( و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) .

و من هذه السيطرة على رغائب النفس ، نشأ الكبت ، و انقسمت الشخصية ، إلى ظاهر و باطن ، ظاهر معلن للناس ، و باطن مخفى عن الناس ..

يتبع