عرض مشاركة واحدة
قديم 08-18-2012, 10:27 AM
المشاركة 3
حسين العفنان
أديـب سعـودي
  • غير موجود
افتراضي
(3)
خيانة لغوية
***


مخطئٌ تمامًا من ظن أن اللغة مجرّد صوت خارج مع الزفير، يحمل المعاني المصطلح عليها، أو من ظن أنها حروف تُرقم في الأوراق وتُقرأ في المدارس والمكتبات، كلا.. إنها ليست كلامًا يصف ولا وسيلة للتواصل فحسب، إن اللغة وسيلة التفكير والبرمجة في العقل البشري الصغير، إنها هويِّة أيها الأوفياء، إن لغتنا هي نحن، هل نستطيع أن ننسلخ من أنفسنا لنصبح غيرنا!

مع أول استقراء يسير لما قدّمه العلماء العرب منذ عصر التدوين إلى نهاية القرن الخامس تقريبًا، يجد المتأمل أن ما قُدِّمَ في مجال خدمة علوم العربية كان جديرًا ببلورة هذه العلوم وانفصال فنونها عن بعضها، فبرز لنا علم النحو وعلم الصرف وعلوم البلاغة والعروض كذلك وغيرها.

لقد استغرق نضج هذه المصطلحات وفرز العلوم في مجالات متباينة إلى جهود متراكمة على مدى قرون متعاقبة؛ لأن الأدوات البحثية كانت متواضعة ووسائل الاتصال والربط بين الباحثين كانت شبه معدومة، هذا مع الغياب التام تقريبًا للدور المؤسسي في العمل والتطوير، هكذا كان أسلافنا خير بَرَرَة للغتهم.. أقول هذا لأننا نحب أن نتغنى بما قدّمه الأسلاف كثيرًا!

لكن المتأمل نفسه يُسقط في يده حين يرى أن معظم الجهود البحثية توقّفت تدريجيًا مع نهاية القرن الخامس، وبدأ بعدها مسلسل التكرار و اقتفاء الأثر، خلا بعض النماذج المتأخرة كابن خلدون وحازم القرطاجني مثلاً، ويجد صاحبنا الباحث نفسُهُ لأجداده عذرًا مع قلة القدرة وانتشار العجمة وغيرها من الأعذار.

حتى ننقل صاحبنا الباحث إلى عصرنا الحاضر، أسوق لك وله هذا النبأ على سبيل المثال: حدّثنا أحد أساتذتنا في مرحلة الدراسات العليا فقال: "دار بين أحد علماء العربية - ويعني بذلك حملة الدكتوراه في علوم اللغة العربية! - وبين أحد الباحثين الأجانب المهتمين بعلم الصوتيات حديث حول هذا العلم، وما أوجه اختلاف تناول علماء اللغات المختلفة له، وكان أن بادر صاحبنا الأعجمي بسؤال العالم عن كتاب عربي تناول علم الصوتيات ودرسه، فأجاب صاحبنا على الفور: كتاب ابن جني الموسوم بـ: الخصائص، لم يكن يظن هذا الباحث أن أهل العربية لم يستطيعوا أن يؤلفوا كتابًا يدفع بالجهد الجليل الذي قدمه ابن جني في كتابه إلى الأمام" لقد مات ابن جني -رحمه الله- عام 392هـ وما زلنا عالةً عليه.
أنا على يقين تامٍّ بأن هناك من ألَّف ودرس علم الصوت من العرب بعد ذلك، بل لعله قدَّم شيئًا لم يقدمه ابن جني وغيره، ولكن غياب هذه الجهود وتشتّتها في عصر لا يسير إلاّ بانتظام يُعدّ كارثة علمية.

ولنوضح الصورة في عصرنا الحاضر أكثر، هل يعلم القارئ العزيز أن أكبر اللغات الحية في عصرنا الحاضر هي خمس لغات، تقع العربية في المركز الخامس من سلم الترتيب بعد الإنجليزية والأسبانية والفرنسية والصينية، وأن كل اللغات السابقة لها مؤسسات وجهات موحدة الجهود في خدمة لغتها، ولها كذلك اختبارات دولية للدارسين كاختبار التوفل في الانجليزية والديلي في الأسبانية، لكن العربية التي يتكلم بها ما يُربي على (300,000,000) متحدث لا تزال بلا اختبار دولي، وبلا مركز قومي (فعَّال) لخدمة اللغة وتطويرها، بل ما زال بعض علمائها يقتتلون في مصير "حتى" و "ليس" أفعلان هما أم حرفان؟! هذه مسألة لم تُحسم بعد!

ولنا أن نتساءل حين نعلم أن طلاب قسم اللغة العربية في جامعة ما يدرسون في مادة النحو مثلاً كتابًا توفي مؤلفه سنة 761هـ، وفي البلاغة كتابًا توفي شارحه سنة 626هـ! هل عجزت الأقسام اللغوية المتخصصة والعلماء ذوو الرتب العلمية في جامعات المملكة، بله العالم العربي الزاخر بالعلماء الفضلاء أن تتفق على تأليف كتاب حديثٍ جامعٍ في النحو!

ولنعرف عمق الهوّة وعظم الكرب يكفي أن نطالع كشّافًا يجمع الرسائل العلمية لمرحلتي الماجستير والدكتوراه في قسم اللغة العربية في جامعة ما، وسنجد على سبيل المثال رسائل من مثل: فلان بن فلان حياته وشعره! وقد هلك هذا الفلان في الدهر وما أبرز ديوانه للناس إلاّ الباحث الذي لن يقرأ رسالته إلاّ المشرف والمناقشون، وسنجد مثلاً: أثر البصريين في لغة النحوي فلان! إن مثل هذه الدراسات تكلف الباحث جهدًا مضنيًا، وإن كانت نافعةً للباحث فقد لا تعود على الدرس اللغوي بالنفع الذي يُنتظر، لماذا يغرّد كثيرٌ من الباحثين والأدباء والمثقفين خارج السرب!

حتى أضرب مثلاً بشيء وقفت عليه أقول: إن في إسبانيا مركزًا يُسمّى: الأكاديمية الملكية الإسبانية، وهو مركز يضم نخبة من العلماء والباحثين في اللغة الأسبانية، يقوم هذا المركز برصد ومتابعة نمو اللغة الأسبانية، ويصدر كل عام معجمًا خاصًّا، إضافة إلى المعجم الرقمي في الموقع الشبكي الذي يبين لك فيه معنى الكلمة وأصلها، أعربية هي أم لاتينية، وهو مع ذلك يحظى بالتقدير والاحترام من كافة الجهات المعنية باللغة وغير المعنية.

إن أبرز جهة تُعنى باللغة العربية اليوم هي المجمع اللغوي بالقاهرة، وقد أصدر مشكورًا معاجمه، لكن الجهد والاهتمام والقدرة أقل من اسم العربية ومكانتها.
الأمثلة أكثر من أن أسردها، وإني لأجاهد قلمي ليكف عن السرد، لكنَّ سؤالاً ملحًّا يبرز لنا الآن: ما الحلّ لردم هذه الهوة ولتصحيح المسار؟

في ظني أنه لا غنى لنا عن القرار السياسي، فلا بد من إنشاء مركز قومي للغة العربية، يضم علماء من أرجاء العالم العربي المختلفة، ليصدر المعاجم وليطور اللغة، وليشرف على المشاريع البحثية طويلة المدى، فلا بد من توحيد الجهود في عالم لا يؤمن إلاّ بالجماعة.

لِمَ لا يسعى علماء العربية إلى توحيد الجهود؟! وإلى انتخاب لغة فصحى من لهجات العرب المسموعة؟! لقد ترك لنا أجدادنا إرثًا ضخمًا من الخلافات وفسحةً في الاختيار، حتى إنك لا تكاد تخطِّئُ متحدّثًا. إنها لغتنا كما كانت لغة أجدادنا، أليس لنا الحق في العمل على انتخاب لغة موحدة سالمة من الخلافات؟!

إن الله تعالى حفظ هذه اللغة بالقرآن الكريم، وقد نذر علماء عصر التدوين أنفسهم لجمع مادة هذه اللغة من أفواه الأعراب خدمة وحفظًا لكتاب الله تعالى في المقام الأول، لكن هذا لا يجعل اللغة العربية الفصحى لغةً دينية، إن أقصر الطرق لقتل اللغة العربية هو جعلها لغة دينية لا تُتلى إلاّ في المساجد وحلق العلم الشرعي، ولا يتعلمها إلاّ مسلم يريدها مطية لتعلم الفقه في الدين، إنها الهوية العربية كما قلنا قَبْلُ، لقد كان العربي الجاهلي يتكلم بها قبل الإسلام، ولقد خدمها في عصر النهضة من العرب من لم يكن مسلمًا، وما ضرّ هذا لغتنا وديننا.

لقد أكثر المعنيون بالفصحى الحديث عنها وعن مشكلات العامية، لكن الحديث وحده لا يكفي. إنّ الحاجة للغة -أي لغة- حاجة ماسَّة، ولا ألوم الناس إن أعرضوا عن العربية الفصحى، وولَّدوا لغة عامية جديدةً تشمل جميع الأقطار -وهو ما بدأ الآن بعفوية، وتتضح ملامح هذه العامية الجديدة في مسابقات الشعر العامي مثلاً، وفي بعض البرامج التلفزيونية والإذاعية غير الإقليمية- فهذه نتيجة طبيعية لتقاعس المعنيين بالعربية.
أيها الأوفياء.. إننا نرى اليوم من ملامح التغريب والانسلاخ من الهوية ما يدمي القلوب، وإن الوقوف موقف المتفرج لهو خيانة عظمى لثقافة الأمة وهويتها، وإنْ كنت ألوم علماء العربية فإني ألوم صنّاع القرار قبْلُ؛ إذ هم المؤتمنون على هوية الأمة وثقافتها، ولا سبيل إلى النهضة اليوم دون القيام على أساس راسخ وكيان متين. صان الله العربية من كل سوء.

إلى اللقاء..

.