منتديات منابر ثقافية

ما إن وقع بصر بيتي Betty وابنة عمتها أبيغيل Abigail على تيتوبا Tituba حتى انطرحتا أرضا، وانخرطتا في صراخ غريب وهذيان بعبارات غير مفهومة. أثار صراخهما القس صامويل پاريس Samuel Parris فهرع إليهما ليستطلع الأمر.
كانت تيتوبا السوداء تقف مذهولة، مرتعشة كورقة خريف تائهة، بدا لها أن مساً شيطانيا قد تلبس الطفلتين الصغيرتين، أو أن تعويذة سحرية قد سرت في جسديهما الغضين.
كانت تؤمن بقدرة عالم الأرواح والقوى الخفية، ومنذ أن اشتراها القس لتقوم بخدمة عائلته، لم تكف عن حشو مخيلة ابنته بيتي وقريبتها بقصص السحر وحكايات الأشباح والعفاريت الإفريقية، فكان من السهل عليهما أن تصفاها بالساحرة أمام القس، كما أن التعذيب الذي تلقته منه كان كفيلا بجعلها تقر على نفسها بممارسة الشعوذة.
استمرت نوبات التشنج والهذيان في الأسابيع التالية، وانتقلت عدواها إلى فتيات أخريات، وتناسلت الإشاعات لتلقي ظلالا سوداء من الخوف على البلدة الصغيرة الهادئة، فألقي القبض على تيتوبا وزج بها في السجن، ولكي تنجو بحياتها اعترفت بممارستها للسحر وخدمتها للشيطان، بل إنها اختلقت قصصا وورطت أشخاصا آخرين لتفلت من حبل المشنقة الذي استمر رغم ذلك مسلطا على رقبتها، فتم سجن امرأتين أخريين، توفيت إحداهما بالسجن.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد اعترى البلدة هلع جماعي، ونسبت كل مصيبة كتلف المحاصيل الزراعية وموت الرضع إلى أعمال السحر، وغدت الاتهامات بممارسته شيئا مألوفًا حتى بين الأقارب والأزواج.
انطلقت حملة مسعورة لمطاردة الساحرات، استغلت لتصفية حسابات عائلية وللتخلص من المتشردين والبغايا، وطالت حتى أشخاصا عرفوا باستقامتهم، ولم تفلح إقامة الصلوات الكنسية والصيام في كبح حمى الذعر والبحث المهووس عن ضحايا جدد.
شكل حاكم البلدة محكمة خاصة تكونت من ستة قضاة اختيروا من الوجهاء والأعيان، وسيق إلى قفص الاتهام مائة وأربعة وأربعون شخصا، جرى اتهام أغلبهم بناء على شهادة فتيات صغيرات، أبرزهن أبيغيل التي أكدت أمام هيئة المحكمة أنها عاينت طقوسا شيطانية في منزل بالبلدة قدم خلالها دم ولحم بشري على شكل شراب وأرغفة حمراء، وحضرها مجموعة من السكان من بينهم تيتوبا.
اعتمدت المحاكمات على ثلاثة أنواع من الأدلة: الاعتراف والذي غالبا ما كان ينتزع تحت التعذيب، وشهادة الشهود الذين عاينوا المتهمين أثناء ممارستهم للسحر، وما يُسمى "الأدلة الطيفية"، في إشارة إلى الأحلام التي يراها الأفراد والظواهر التي تُعتبر خارقة للطبيعة. كما جرى فحص جسدي للنساء للبحث عن علامات مريبة، إذ ساد الاعتقاد أن الساحرات يرضعن ذرية الشيطان.
وبضغط متواصل من سكان البلدة المذعورين أصدر القضاة أحكاما قاسية على المتهمين، فتم شنق أربع عشرة امرأة وخمسة رجال، وجرى سحق متهم مسن عمره يزيد عن ثمانين سنة بحجارة ثقيلة، وضعت على صدره لمدة يومين لفظ خلالهما أنفاسه ببطء شديد، بعد أن رفض المثول أمام المحكمة.
بعد ستة أشهر من تشكيلها حلت المحكمة الخاصة، وأطلق سراح باقي المتهمين ومن ضمنهم تيتوبا، وقدم اعتذار علني لهم ولعائلات الضحايا، مع منح تعويضات مالية لبعضهم في فترة لاحقة.

حدث ذلك سنة 1691 في بلدة سالم Salem ( اسم مأخوذ من الإنجيل ومعناه باللغتين العبرية والعربية السلام وهو الاسم القديم لمدينة القدس ) بولاية ماساتشوستس Massachusetts في الولايات المتحدة الأمريكية.
اختلفت آراء الباحثين في أسباب هذه الفضحية التي ليس لها مثيل في التاريخ الأمريكي، حيث ذهب عدد منهم إلى محاولة تفسيرها كنتيجة لمرض في الدماغ أصاب الأطفال، أو تسمم بالأرغوت ( فطر ينمو على القمح والأغلال)، في حين رجح البعض رغبة الفتيات في التحرر من الصرامة التي طبعت التربية الدينية والتخلص من الأعباء المنزلية الثقيلة، وبررها آخرون بالصراعات المحتدة بين عائلات البلدة في جو من التزمت الديني puritanisme الذي ميز الكنيسة البروتستانتية الأمريكية.
كان لمحاكمات سالم تأثير عميق ومستمر على تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، إلى حد أن المؤرخ الأمريكي جورج لينكولن بير اعتبرها الصخرة التي تحطم عليها نظام الثيوقراطية.
ابتداءً من سنة 1982 دأبت مدينة سالم على تنظيم مهرجان سنوي للرعب والأرواح في شهر أكتوبر لجذب السياح، مع إقامة معرض لأدوات التنجيم والسحر.