منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   أيام النعمان (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28753)

عبد الكريم الزين 06-14-2021 12:56 PM

أيام النعمان
 
طرق سمعه دوي هتافات اهتزت لها الجدران المثقلة بسواد الألم والعذاب، ورددتها زوايا الزنزانة الطافحة حرارة ورطوبة. خيل إليه أن السلاسل المعلقة فوق رأسه تتمدد خلسة، لتطبق على عنقه المتيبس. سرت رعشة مفاجئة في يده اليمنى. ضم ذراعيه إلى بعضهما محاولا إيقافها، فتسللت إلى جسده النحيل، عابثة بتضاريسه المتداعية. تكور على الأرض الحجرية القاسية، وهوى رأسه بين كفيه، فتراءت له أصداء حياة ماضية بعيدة كالسراب.

نفس الهتافات الهادرة التي تمزق الآن سكون أذنيه، وترتعد لها أوصاله الضائعة، كانت تطرب لها قصوره بالحيرة عند زحف موكبه المهيب، تتقدمه الخيول المطهمة ويحفه الحرس المدجج، فيشع الزهو مكتسحا أسارير وجهه، وتتغشاه نشوة كبرياء عارمة يتهادى لها شعر لحيته المعطرة. جموع لخم والعرب تتسول وده ونياقه السود، ويتزاحم الشعراء على أبواب نعمته، فتتفجر عيون قريحتهم بدفق عطاياه.
ما كان مقدرا له أن يصبح الآمر الناهي في ملك المناذرة لولا أن للسماء حكمتها، فلم يكن أكبر إخوته وأقواهم، ولا أوسمهم وأغناهم، لكن الحياة التي منحته السلطان والمجد بدون حساب، سلبته كل ما وهبته، ولا زالت تصب سياط نقمتها عليه.
لسنوات لم تتداول مضارب العرب سيرة سوى حكاياته وأيام نعيمه وبؤسه. ولئن قتل الشاعر السيء الحظ عبيد بن الأبرص، فقد أكرم معاوية بن زيد الذبياني وجعله نديمه،
قبل أن يهيم شيطان شعره تغزلا بالمتجردة وغوصا في تفاصيل جسدها.
رغم التهتك الذي انجلى في صدرها وعجزها، لا ينكر أن أبيات القصيدة سحرته وأن حروفها أطربته. لكن الأقاويل تناسلت ولزوجة الملك حرمتها، وخيرا فعل الذبياني بالهرب قبل أن تناله سيوف بطشه.
ثم ينسى شرف زوجته ويعفو. الحقيقة أنه لم يصمد أمام روعة الكلمات وسنا المعاني، وثملت روحه بمدح الشاعر واعتذاره، وترنم ليالي طويلة بقوله:

فإنك شمس والملوك كواكب إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

لكن شمسه اليوم غاضت، واحتجب نورها، والظلام الدامس غمر حياته. من كان يصدق أن النعمان بن المنذر اللخمي ملك العرب وسيد الحيرة، يقبع مسلسلا في زنزانة ضيقة قذرة كصعلوك مغمور. وكل ذلك بسبب كلمة!

ما أخف الكلمات وما أثقلها!
كلمات رصعت ضوء نجمه، وشقائقها غَوَّرت ماء سمائه!
كم مجدته الكلمات، وهي اليوم سبب هلاكه!

ما زال يتذكر ذلك اليوم المشؤوم، وحتى تفاصيله الصغيرة لا تبرح تراود ذاكرته المنهكة.
كان رسول كسرى يجلس قبالته، يطلب يد ابنته هند لمولاه، رفض بأدب ومازحه بقوله:
"أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته!"
ويغضب كسرى ويسخط عليه، بعد أن حرف الوشاة كلامه، وترجموا بخبث لفظ المها بالبقر. وشتان ما بين الحسان الفاتنات كالظباء وقطعان البقر السائبة!

ارتج باب الزنزانة، فانقطع خيط ذكرياته، تطلع إلى الحارسين القادمين، كانا ضخمي الجثة، وأشد قساوة من أعمدة قصره السابق الخَوَرْنَق. فزع حين استحضره ذهنه المشتت، وتسمر بإلحاح شديد أمام مشهد الدهشة المتمخضة رعبا على وجه سِنِمَّار، حين أمر بإلقائه من شاهق القصر بعد أن أتم بناءه بإتقان يُحسد عليه.
جذبه الحارسان بفظاظة، ودفعاه خارجا، جر قيوده الحديدية الثقيلة، واتقى بذراعه ضوء الشمس الساطع. ساحة ضخمة، ومدرجات تئن بحشد هائج يهتف بجنون مسعور، شخص ببصره إليهم، فرس وأتراك، عرب وأجناس من كل بقاع الأرض، جلبها ذهب كسرى وسوطه، يتحرقون لمرأى انسكاب دماء حارة ضيعت مثلها قلوبهم المستكينة منذ أمد بعيد. غطى قرص الشمس أمامه جسم ضخم، يحدق بعينين جامدتين، تسلل صقيعهما القارس إلى نفس النعمان المرتجفة.
فيل عظيم، بظل أسود هائل، يبدو بلا نهاية أو حدود. يعتليه سائس ضئيل الجسم بذقن أملط ، وشارب كث يتسلق أخاديد وجنتين ناتئتين، يأمر فتتحرك آلة القتل العمياء. تتقدم نحو ضحيتها. يتراجع النعمان إلى الوراء. تتعثر ساقاه بقيوده فيسقط على الأرض. يتوقف الفيل، ويستدير السائس، بوجهه الموحش كترانيم الموتى، نحو منصة عظيمة تتوسط الساحة، يتلقى الإشارة القادمة منها، فيحني رأسه.
يرفع النعمان وجهه وينفض عنه الغبار، ينتصب واقفا، متعرقا يستحث شظايا شجاعة مترددة.
عاش مجيدا كالشمس بين الكواكب، وكذلك شامخا سيموت. الشموس لا تخالط ذرات الحصى والتراب، وإذا انطفأت، فمرتفعة في أديم السماء.
يطبق عليه صاحب الظل الأسود الهائل. يقذفه أرضا. يسحبه بخرطومه، ويرفعه إلى الأعلى ثم يفلته. تنغرس الأقدام الضخمة في الجسد المدمى، فتنسحق عظامه المرضوضة. ألمه لا يطاق وروحه تستجدي قبلة موت يتمنع.
ممددا على التراب المنتشي بدمائه، ينظر بتحد وكبرياء إلى المنصة، ثم يلفظ أنفاسه الأخيرة.

محمد أبو الفضل سحبان 06-14-2021 07:12 PM

رد: أيام النعمان
 
إذا كانت الرواية أو القصة التاريخية تاريخا متخيّلا داخل التاريخ الموضوعي ، فإن لنا أن نلتمس الخيط الذي يشدها إلى التاريخ عبر اشتراكهما بالعناصر الرئيسية وهي : الإنسان والزمان والمكان ، وأكثر من ذلك اشتراكهما بالقصّة أو الطابع القصصي. و من حسناتها أنها تهدف إلى إحياء التاريخ وأخذ العبرة منه للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل..و" أيام النعمان" مقتطف رائع من مأساة النعمان بن المنذر ملك الحيرة الذي انتهى به الأمر في سجن كسرى قبل أن يلقى حتفه بطريقة بشعة عن طريق الفيلة _كما جاء في بعض الروايات بينما تحكي روايات أخرى عن تجويعه حتى الموت _ بعد رفضه تزويجه ابنته هند الشاعرة ذات الجمال الباهر ...والقصة تعيدنا لذلك الزمن البعيد وترسم لنا صورة واضحة عن الانفة والشجاعة وعزة النفس التي كان يتمتع بها العرب في الجاهلية....ولكن المثير فيها حقا هو ما تلاها من توحد للقبائل العربية للثأر لدم النعمان في يوم " ذي قار " المشهود الذي تزامن مع ظهور الإسلام والذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام " ذاك يوم انتصفت فيه العرب من العجم"...ومن الحكم العظيمة التي يمكن استخلاصها من هذه الملحمة البطولية أن العرب إذا توحدوا تحت راية واحدة فلن تستطيع أي أمة ان تهزمهم أو تنال منهم...
شكرا جزيلا على القصة الرائعة التي تفيض بالعبر والحكم و على اللغة الجميلة التي كتبت بها..
يسرني أن أقرأ لك دوما أستاذنا القاص عبد الكريم الزين
تحياتي وتقديري .

عبدالعزيز صلاح الظاهري 06-14-2021 09:24 PM

رد: أيام النعمان
 
كم انت رائع اخي عبد الكريم الزين
قصة = 100 قصة
تخبرنا عن قاص متمكن
تقبل تحياتي وفقك الله ورعاك

عبد الكريم الزين 06-15-2021 08:55 PM

رد: أيام النعمان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 302042)
إذا كانت الرواية أو القصة التاريخية تاريخا متخيّلا داخل التاريخ الموضوعي ، فإن لنا أن نلتمس الخيط الذي يشدها إلى التاريخ عبر اشتراكهما بالعناصر الرئيسية وهي : الإنسان والزمان والمكان ، وأكثر من ذلك اشتراكهما بالقصّة أو الطابع القصصي. و من حسناتها أنها تهدف إلى إحياء التاريخ وأخذ العبرة منه للاستفادة منه في الحاضر والمستقبل..و" أيام النعمان" مقتطف رائع من مأساة النعمان بن المنذر ملك الحيرة الذي انتهى به الأمر في سجن كسرى قبل أن يلقى حتفه بطريقة بشعة عن طريق الفيلة _كما جاء في بعض الروايات بينما تحكي روايات أخرى عن تجويعه حتى الموت _ بعد رفضه تزويجه ابنته هند الشاعرة ذات الجمال الباهر ...والقصة تعيدنا لذلك الزمن البعيد وترسم لنا صورة واضحة عن الانفة والشجاعة وعزة النفس التي كان يتمتع بها العرب في الجاهلية....ولكن المثير فيها حقا هو ما تلاها من توحد للقبائل العربية للثأر لدم النعمان في يوم " ذي قار " المشهود الذي تزامن مع ظهور الإسلام والذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام " ذاك يوم انتصفت فيه العرب من العجم"...ومن الحكم العظيمة التي يمكن استخلاصها من هذه الملحمة البطولية أن العرب إذا توحدوا تحت راية واحدة فلن تستطيع أي أمة ان تهزمهم أو تنال منهم...
شكرا جزيلا على القصة الرائعة التي تفيض بالعبر والحكم و على اللغة الجميلة التي كتبت بها..
يسرني أن أقرأ لك دوما أستاذنا القاص عبد الكريم الزين
تحياتي وتقديري .

جزيل الشكر أخي محمد لمرورك
ولإضاءاتك النيرة
تحياتي وتقديري

عبد الكريم الزين 06-15-2021 08:56 PM

رد: أيام النعمان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالعزيز صلاح الظاهري (المشاركة 302047)
كم انت رائع اخي عبد الكريم الزين
قصة = 100 قصة
تخبرنا عن قاص متمكن
تقبل تحياتي وفقك الله ورعاك

تشرفني شهادة قاص مبدع مثلك أخي عبد العزيز
تحياتي وتقديري

ابتسام السيد 06-21-2021 01:26 PM

رد: أيام النعمان
 
استمتعت بالقصة وكذلك بمداخلة الاستاذ ابو الفضل
شكراً لكما
تقديري

عبد الكريم الزين 06-23-2021 06:52 PM

رد: أيام النعمان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابتسام السيد (المشاركة 302641)
استمتعت بالقصة وكذلك بمداخلة الاستاذ ابو الفضل
شكراً لكما
تقديري

يسرني مرورك أستاذة ابتسام
تحياتي وتقديري

ثريا نبوي 06-23-2021 08:43 PM

رد: أيام النعمان
 
قرأتُها مرتين.. فبكيتُ مرتين
مرةً إعجابًا مُذهِلًا من بلاغةِ السَّرد، ومرةً من ألَمِ الصدمة
فهذه أولُ معرفتي بهذا التاريخِ المُدمّمِ عن نهاية الملِكِ النعمانِ
لم أقرأ سوى عن سِنِمَّار وجزائهِ الظالِم، بل شديد التعسُّف
ثم عن النابغة وقصيدتِه التي مطلعُها (سَقَطَ النَّصيفُ)
وأنها كادتْ تُودِي بحياتِه، بعد وِشايةِ المُهلهل والمُغرضين.
كم أحببتُ شقائقَ النعمانِ رمزَ الجمال، وكم عجِبتُ لانتسابِها إليه
ولكنني الآن قد سكنَ الأسى خلايا قلبي يُزاحِمُ الدموع
فقد ذبحتني شاعريةُ التفاصيل!
هي قصةٌ أخرى شاهدةٌ على ظلم الإنسان لأخيهِ الإنسان
ولأنها واحدةٌ من روائع التاريخِ المكتوبِ أدبًا بمدادٍ عبقريّ القطرات
فسوف أعودُ لقراءتها مهما كلفني ذلك من ألم
فهذا بعضُ حقها، وبعضُ حقي في ارتشافِها:
مُعتَّقةً في أعماقِ خِلجانِ التاريخ
تعتليها لآلئُ حَبَبِ الإبداع

تحايايَ الطيباتُ والدعاء

ناريمان الشريف 06-24-2021 08:28 PM

رد: أيام النعمان
 
كتبتَ فأمتعت
أما أنا فقرأتُ واستمتعت

عبد الكريم الزين 06-27-2021 01:56 AM

رد: أيام النعمان
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثريا نبوي (المشاركة 302821)
قرأتُها مرتين.. فبكيتُ مرتين
مرةً إعجابًا مُذهِلًا من بلاغةِ السَّرد، ومرةً من ألَمِ الصدمة
فهذه أولُ معرفتي بهذا التاريخِ المُدمّمِ عن نهاية الملِكِ النعمانِ
لم أقرأ سوى عن سِنِمَّار وجزائهِ الظالِم، بل شديد التعسُّف
ثم عن النابغة وقصيدتِه التي مطلعُها (سَقَطَ النَّصيفُ)
وأنها كادتْ تُودِي بحياتِه، بعد وِشايةِ المُهلهل والمُغرضين.
كم أحببتُ شقائقَ النعمانِ رمزَ الجمال، وكم عجِبتُ لانتسابِها إليه
ولكنني الآن قد سكنَ الأسى خلايا قلبي يُزاحِمُ الدموع
فقد ذبحتني شاعريةُ التفاصيل!
هي قصةٌ أخرى شاهدةٌ على ظلم الإنسان لأخيهِ الإنسان
ولأنها واحدةٌ من روائع التاريخِ المكتوبِ أدبًا بمدادٍ عبقريّ القطرات
فسوف أعودُ لقراءتها مهما كلفني ذلك من ألم
فهذا بعضُ حقها، وبعضُ حقي في ارتشافِها:
مُعتَّقةً في أعماقِ خِلجانِ التاريخ
تعتليها لآلئُ حَبَبِ الإبداع

تحايايَ الطيباتُ والدعاء

يسرني حضورك الطيب ثريا المنابر
ويشرفني رأيك وذوقك الشاعري المرهف

ألف شكر .. وجنات ورد وود :31:


الساعة الآن 09:10 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team