منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   جحا (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28356)

ياسر علي 03-16-2021 09:15 PM

جحا
 
جحا

*

بالأمس دق رجل باب بيتي، كان يرتدي قميصا كأنه من حرير وسروالا طويلا مفصلا على المقاس، لحيته السوداء مهذبة على غرار لحي العصر التي اقتحمتها الرشاقة، فتى دهن شعره فأبرق حسنه، في رجليه زوج حذاء تلمع سوداويته، كنت أنظر إليه من خلال شاشة العدسة الكاشفة لما وراء الأسوار، سألته من خلف الباب: من الطارق؟ صدمني جوابه إذ قال: أنا جحا. قلت في نفسي لعل الناس تصالحوا مع تاريخهم وراحوا يسمون الخلف بأسماء السلف، لا أخفيكم أنني أحسست ببعض غرابة بين الاسم والمظهر، فلم أتخيل جحا على هذه الهيئة أبدا، وقد سكنت ذهني صورة رجل يفوق الخمسين يرتدي جلبابا يحزمه في الوسط وسروالا فضفاضا وعمامة تلف رأسه لفات عديدة، وفي قدميه نعلين أصفرين، هذه لن تكون إلا نسخة مطورة من جحا، أو مقلبا من مقالب هؤلاء المحتالين الذين ما تركوا حسنة من الحسنات إلا استقبحوها، فأصبح محسن الظن مجرد ساذج تقتنصه شباك عناكبهم. رغم حرصي الشديد فسذاجتي تغلبني، رحبت به وسألته إن كان يريد تمرا ولبنا، فتجهم وجهه قائلا: أريد عصير الأنناس مع البيتزا أوشطيرة هامبورغر وثليجة الأيس كريم. تعجبت من سرعة تأقلم جحا مع واقعه الجديد، ونكرانه السريع لذاته. قدمت له بعض ما تحتويه ثلاجتي من طلباته واعتذرت عن التي لم تطلها قدرتي. فاجأته: ما قصتك يا جحا: قال ألا تزالون تسألون عن الأحوال، حسبت أنكم لا تهتمون بخصوصية الناس بل تكتفون بجولان حول مواضيع الساعة. لكن يا أخي هذه قصتي: جاءت بي الأقدار إلى بلادكم الغالية، فاستضافتني امرأة حانية وزوجتي بنتها الغالية، *وفعلتا بي ما ترى، فلست جحا الذي كنت من قبل، لكن زوجتي البدوية بدأت تتقمص الأدوار وطلباتها في ازدياد مع توالي الأيام، تكلفني رغاباتها ما لا أطيق، وأصبح بيتنا موطن الخصام والأحزان. ولم أعد أفقه من حديثها لا الصدق ولا البهتان، قالت لي حماتي بجرأة: يا جحا إنك لا تهتم بزوجتك، فقد أصبحت ممسوسة، ولم تصاحبها إلى ضريح ولا إلى عيادة. غبت عنهما ساعة وكتبت على وريقات حروفا غير منقوطة وأرقاما غير مألوفة *كما لو رسمها فقيه في زمني القديم، أو دكتور في زمنكم هذا، وضحت لحماتي: الفقيه يقول أن هذه تحرق في المبخرة وتلك تستعمل مع الدهون، وعندها سينطق ساكن زوجتي، وسنعرف ما فديته. فور ما أنهت حماتي عملياتها، بدأ ساكن زوجتي في البوح: اسمع يا جحا أنا لن أخرج من هذا الجسد حتى أقضي في المدينة أربعين ليلة، وأستحم في شطآنها خمسا، وأجلس في حدائقها سبعا، وأزور مسارحها عشرا، وآكل البيتزا والهامبورغر وألعق الأيس كريم، وأشرب عصير الأنناس. هذه قصتي يا صاحبي فأنا الآن جئت إلى المدينة، أرى إن كان ممكنا تنفيد طلبات زوجتي، ولا أخفيك أنني أيضا مللت من جو البادية، فأنتم هنا ترفلون في النعيم، فهل أستطيع البقاء عندك حتى أتدبر أمري.*

ما كنت لأرفض لجحا طلبا وهو من ملأ قلب طفولتي طربا، رغم أنني أضحيت ثقيل الاستجابة وغادر التعاطف وجداني، واستوطن الهم كياني، لكنني قلت أغتنمها فرصة لأقهقه على أنغام جحا، فكم مرة قلت في نفسي، اضرب الدنيا بركلة يا صاحبي وسح في أرض الله الواسعة، لكن الجبن يخنقني، فأنا أغبط جحا على قدرته الجبارة على تجديد صفحته، وعلى رحلاته العجيبة. قال لي جحا ونحن في الشاطئ، هذا أعظم سوق نخاسة تكللت به عيناي، فيه من الجواري الحسان ما يملأ الآفاق و يبهج النفس، ومن الولدان ما يكفي ويزيد لتقديم الخدمات، قلت لجحا، لا تفقد رشدك يا جحا، إن هؤلاء من الأحرار، جاؤوا من كل حدب وصوب يعرضون أجسادهم للشمس ويتبركون بمياه البحر المالحة. قال جحا، واعجباه فزوجتي تريد أن تفعل مثلهم، دواء دائها غير مكلف، فسأملأ لها كيسا بالرمل وبرميلا بماء البحر ولحسن حظي فالشمس تشرق في قريتتنا، ولا أحتاج لاصطحابها معي. نبهت جحا: قد تفشل خطتك، فزوجتك تريد شيئا غير هذا، تريد أن تبدل الجو وتغير المكان، قال جحا هذا أغرب ما سمعت، وهل تحسبني أملك خاتم سليمان، لأصنع لها بدل الصيف شتاء وبدل الجبل سهولا، لقد ضاعت عقولكم وسرقت المدينة صفاءها، وتاهت أحلامكم، أليس هؤلاء مجرد حمقى، يركضون على الرمل كالأطفال ويستلقون عليها كالجمال، ويسبحون في البحر كالفقمات، أليس عندهم ما يفعلون، وما به ينتفعون. قلت له: لا تخطئ يا جحا فالذين تراهم أمام عينيك جلهم في عطلة، جاؤوا لتجديد طاقتهم والترويح عن أنفسهم، يصلون قرابة بالطبيعة قطعتها المدنية. قال جحا هذه والله شعوذة ما بعدها شعوذة، أنتم تتهمون الأقدمون بالجهل وتقتاتون بالوهم أكثر منهم.*

سرت وجحا نجوب المدينة، فسره أن يجد نفسه على خشبة المسرح، بلباسه العتيق وقنديله الزيتي، يمارس هوايته المفضلة*

والأطفال يقهقهون ويصرخون إعجابا، وبعد العرض يصفقون ويهتفون: *جحا، جحا، جحا... . قال جحا: يظهر لي أنكم لا تضحكون إلا في المناسبات، فهذا الانفجار دليل على احتقان مريب، وعطش للضحك غريب، وقد يكون هذا الجفاف ما طاف بجنان البهجة في أعماق زوجتي. مضينا قدما فوصلنا إلى عند قدم أطول برج في المدينة، وقف جحا متأملا واجهته الزجاجية، دنا منه قليلا رأى أفواجا تدخل وأخرى تخرج فقال: تالله إنكم إلى النمل أقرب، ضاقت بكم الأرض فرجوتم عمارة السماء، ختمنا جولتنا بالحديقة، التي كانت كزربية مزركشة مهندسة، فقال *جحا: هنا اجتمع الماضي بالحاضر، فإن قلت هذه طبيعة فأنت صادق وإن قلت هذه صناعة فما كذبت. الآن عرفت سركم وسر رغبات زوجتي.

سألته بعد الجولة: ماذا قررت يا جحا؟ أجاب بعد تنهيدة: مضى عهد القرار وفات، وهل يستطيع من دخل عالمكم أن يخرج منه، فهو مجدب مقفر، لكنه جذاب وآسر، لابد أن أستشير زوجتي التي أعرف سلفا مرادها.

ابتسام السيد 03-17-2021 06:48 PM

رد: جحا
 
إن كان حقاً يصطاد المفارقات ليضحك الناس فما عليه إلا المكوث
قصة جميلة بإسلوب سلس في قالب فكاهي ...أراها صالحة كحلقة من حلقات مرايا لياسر العظمة

تحيتي وتقديري

ياسر علي 03-17-2021 07:04 PM

رد: جحا
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابتسام السيد (المشاركة 289978)
إن كان حقاً يصطاد المفارقات ليضحك الناس فما عليه إلا المكوث
قصة جميلة بإسلوب سلس في قالب فكاهي ...أراها صالحة كحلقة من حلقات مرايا لياسر العظمة

تحيتي وتقديري

هو باق فينا ولن يغادر
فبحسه النقدي نباشر الواقع
وبملمح فكاهته نحلي الملمات
شخصية ستبقى رمزا من رموز حياتنا.

دمت راقية أستاذة ابتسام السيد.

تقديري

محمد أبو الفضل سحبان 03-18-2021 02:08 AM

رد: جحا
 
جحا شخصية خيالية لا يعرف لها زمان أو مكان...وجحا أيضا شخص حقيقي يوجد في كل زمان ومكان...ولعله جمع في القصة الطريفة بينهما ...
نص رائع بقلم أروع
مودتي

عبدالعزيز صلاح الظاهري 03-19-2021 11:38 PM

رد: جحا
 
كم انت مبدع اخي ياسر وانت منطلق الى هدفك ترمي الدرر بكرم لتجعلنا نتوقف نستمع نتفحص كنت وما زلت مميزا واستاذا
*
قلت في نفسي لعل الناس تصالحوا مع تاريخهم وراحوا يسمون الخلف بأسماء السلف"،"

"هذه لن تكون إلا نسخة مطورة من جحا، أو مقلبا من مقالب هؤلاء المحتالين الذين ما تركوا حسنة من الحسنات إلا استقبحوها، فأصبح محسن الظن مجرد ساذج تقتنصه شباك عناكبهم."

قال ألا تزالون تسألون عن الأحوال، حسبت أنكم لا تهتمون بخصوصية الناس بل تكتفون بجولان حول مواضيع الساعة". "

تكلفني رغاباتها ما لا أطيق، وأصبح بيتنا موطن الخصام والأحزان. ولم أعد أفقه من حديثها لا الصدق ولا البهتان،" "

"قلت في نفسي، اضرب الدنيا بركلة يا صاحبي وسح في أرض الله الواسعة، لكن الجبن يخنقني، فأنا أغبط جحا على قدرته الجبارة على تجديد صفحته، وعلى رحلاته العجيبة"
" قال جحا: يظهر لي أنكم لا تضحكون إلا في المناسبات، فهذا الانفجار دليل على احتقان مريب، وعطش للضحك غريب، وقد يكون هذا الجفاف ما طاف بجنان البهجة في أعماق زوجتي."



سألته بعد الجولة: ماذا قررت يا جحا؟ أجاب بعد تنهيدة: مضى عهد القرار وفات، وهل يستطيع من دخل عالمكم أن يخرج منه،


" فهو مجدب مقفر،"
لكنه جذاب وآسر، لابد أن أستشير زوجتي التي أعرف سلفا مرادها

عبد السلام بركات زريق 03-20-2021 06:36 AM

رد: جحا
 
أخي الأديب ياسر علي
سردٌ جميلٌ ومفارقاتٌ عجيبةٌ
بين الماضي والحاضر أجدتَ التعبيرَ عنها
تقديري

ياسر علي 03-21-2021 08:35 PM

رد: جحا
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 290054)
جحا شخصية خيالية لا يعرف لها زمان أو مكان...وجحا أيضا شخص حقيقي يوجد في كل زمان ومكان...ولعله جمع في القصة الطريفة بينهما ...
نص رائع بقلم أروع
مودتي

أحيانا يكون الرمز أجمل من الحقيقة
بل تحكي لنا الرموز عوالم الجمال.

مبدع كعادتك أستاذي

تقديري

ياسر علي 03-21-2021 08:41 PM

رد: جحا
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالعزيز صلاح الظاهري (المشاركة 290266)
كم انت مبدع اخي ياسر وانت منطلق الى هدفك ترمي الدرر بكرم لتجعلنا نتوقف نستمع نتفحص كنت وما زلت مميزا واستاذا
*
قلت في نفسي لعل الناس تصالحوا مع تاريخهم وراحوا يسمون الخلف بأسماء السلف"،"

"هذه لن تكون إلا نسخة مطورة من جحا، أو مقلبا من مقالب هؤلاء المحتالين الذين ما تركوا حسنة من الحسنات إلا استقبحوها، فأصبح محسن الظن مجرد ساذج تقتنصه شباك عناكبهم."

قال ألا تزالون تسألون عن الأحوال، حسبت أنكم لا تهتمون بخصوصية الناس بل تكتفون بجولان حول مواضيع الساعة". "

تكلفني رغاباتها ما لا أطيق، وأصبح بيتنا موطن الخصام والأحزان. ولم أعد أفقه من حديثها لا الصدق ولا البهتان،" "

"قلت في نفسي، اضرب الدنيا بركلة يا صاحبي وسح في أرض الله الواسعة، لكن الجبن يخنقني، فأنا أغبط جحا على قدرته الجبارة على تجديد صفحته، وعلى رحلاته العجيبة"
" قال جحا: يظهر لي أنكم لا تضحكون إلا في المناسبات، فهذا الانفجار دليل على احتقان مريب، وعطش للضحك غريب، وقد يكون هذا الجفاف ما طاف بجنان البهجة في أعماق زوجتي."



سألته بعد الجولة: ماذا قررت يا جحا؟ أجاب بعد تنهيدة: مضى عهد القرار وفات، وهل يستطيع من دخل عالمكم أن يخرج منه،


" فهو مجدب مقفر،"
لكنه جذاب وآسر، لابد أن أستشير زوجتي التي أعرف سلفا مرادها


أستاذ عبد العزيز

والمنابر مدرسة فيها نتعلم
هي نبع للثقافة والأدب الجميل.

من فيض عطائها نغترف ما تيسر.

احترامي صاحبي.

ياسر علي 03-21-2021 08:49 PM

رد: جحا
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد السلام بركات زريق (المشاركة 290279)
أخي الأديب ياسر علي
سردٌ جميلٌ ومفارقاتٌ عجيبةٌ
بين الماضي والحاضر أجدتَ التعبيرَ عنها
تقديري


ولمعت كلماتك على الصفحة أستاذي البهي عبد السلام بركات زريق، وكم أبهج حضورك النفس.
دمت متألقا ومنارا يشع منه الأدب.

تقديري واحترامي.


الساعة الآن 08:20 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team