منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   بقايا رجل رحل ( رواية ) (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=7247)

طارق الأحمدي 11-25-2011 01:19 AM

بقايا رجل رحل ( رواية )
 
- 1 -



أنا الحزين الآن.

أعتصر ضلوعي انكسارا, فيتقاطر قلبي بكاء صامتا مكتوما. أقلّب وجهي عكس عقارب الساعة ومعها فلا أحصل له على ملامح, وإن تمثّلت فهي غصّة وبقية تنهيدة أطلقتها روحي.

أنا الحزين.

بعض حلم كان, وصرخة ألم في قلب الساعات. يكبر حزني, يتعاظم حتى يصير غيمة تحجب شمسا تغيب. عاصفة تقتلع شجرة الصبار الوحيدة الصامدة في صحرائي نفسي الممتدّة.

أنا...

نقطة سوداء الآن تغلّفني, تحيطني بليل ممتدّ, منغرس ما بين القلب والروح. مصلوب على خشبة الإنكسار..ضيّعت كل شيء, وأضعت حتى خطواتي, ونسيت تاريخ ميلادي, مزّقت جميع دفاتري واغتلت عصفور الفرح النائم في صدري, بعد أن عشّشت فيه نسور الحزن.

أنا..قلب ضمىء, وعلى هذا القلب تركن بعض حجارة وأمنية مكتومة, وعصفور فزع.

داخل هذا الصدر تُطوى مسافات, ويسيل حبر قاتم, وتتمزّق كثير من الأوراق... بين هذه الضلوع تجمدت كثير من الأحلام وذبلت وردة قدمت يوما من وراء السنون.

وإني أتيه في ساعاتي المشوشة, تشدّني خطاي, تكبّلني, تجرّني إلى بقايا ذاكرة مشروخة سال منها كثير من فرح الطفولة وحلم ظلّ يراودني, ولم يبق غير هذا الحزن الذي أرسمه الآن على جنبات هذه النفس المثقلة بجراح الأمس, بخناجر اليوم, وببقاياي الآن.

تتوجّع ذاكرتي, تتألم, تتقيّأ على هذه الصفحات خطّا رديئا, شائكا يرسمك حروفا كانت لهبا اشتعلت زمنا في صدري المنهك.

" زهرين..!"
اليوم أخطك كما أنت مشوّهة, طيّبة وكريهة, أتفلك في شراييني ألف مرّة.



- يتبـــع -







طارق الأحمدي 11-25-2011 01:22 AM


ألف مرة يا زهرين أحبك, أبغضك. ألف مرة تمرقين في ذاكرتي, من بين طفولتي, وذكرى أمي التي خلّفتها ورائي. تعبرين على الشريط واضحة, ناصعة وصغيرة, حزينة, بيضاء, شهباء. والجبال من جهاتك الثلاث تحرسك, تلفّك, تمشّط حزنك الأبدي, وفقرك الأبدي.

زهرين...!

هذه القرية الفاجرة, ممتدة, منبطحة دوما وعارية, إلا من ديار مستطيلة, مربعة, ولا شكل لها. بيضاء كالكفن, صفراء كالمرض, رُمِيت هنا وهناك دون نظام أو تخطيط.

زهرين..غاصت في أعماقي المتعبة, وغصت في متناقضاتها بكل اندفاع بدائي. حضنتني لعدة سنين, وشردتني في دواخلي, قذفتني يوما في أحشائها لأكون فرعا منها, غصنا يحتمي بجذعها, شجرة تشدّ حزامها. فما كنت الفرع ولا الغصن ولا الشجرة, بل طائر مهاجر دوما, يموت لو نبت في مكان واحد, مسافر جلس يتلمّظ قطرة أمل, ويرحل.

أغرقتني فيها, فصرت ككلّ غريب يبحث عن جنون يرفعه عن خطاه, يسلّمه إلى المطلق.
زهرين.. بئر عميقة سقطت فيها, فغصت في أوحالها, شربت من قذاراتها, واحترقت بنارها. فمن ينقذني الآن؟! من يمدّني قشّة أتعلّق بها؟ من يطهّرني من نفسي؟





طارق الأحمدي 11-25-2011 01:27 AM


رمى فتحي منوّر القلم بين الأوراق المنتشرة أمامه فوق الطاولة بعصبية واضحة. تعطّل فكره, اغتالت عصبيته بنات صدره.

فوضى..كل شيء حوله يسير إلى الهاوية, يتحطّم على رهافة ضلوعه وتفاهة وجوده.

هذا المعلم الآتي من وراء أحلامه, من خلف الساعات. القادم من وسط خريف أكل جميع الأوراق والكلمات. خطّته الأقدار على صفحات زهرين.

قضى فيها بضع سنوات, كان فيها لحظة صمت, ثم صرخة في أعماق العاصفة التي تسكنه.

وكفى..!

بضع سنوات مرّت يحاول جمع شتاتها ويجد لها مكانا بين سطور أوراقه. ولكن الإعصار الذي يطوّح بأفكاره, الفوضى التي سكنت دواخله, وتسكن الآن غرفته, لم تسعفه ذلك.

حاول أكثر من مرة أن ينقل وحل زهرين وأثقالها إلى أوراقه, لكن الذكرى تبقى حبيسة صدره, كنبيذ سيّء غير مركّز. تقلقه, تسعد, تفرحه..فالأيام الحلوة الملائكيّة, والأيام العاصفة الحزينة تزعزعه في كيانه وتخنقه ألما, ترتجف في أعماقه, تحرقه, تزيد في ألمه, تؤلمه, تبعثره. نار تلهبه.

فتحي منوّر جرّب كل شيء في زهرين, وعرف كل شيء. نبش في كل ما صافه ومالم يصادفه. خبر ناسها المتناقضين, المتشابهين كرمال الصحراء, كحلمهم, السائرون دوما في صمت جنائزي. الضاحكين, الباكين, الرّاوين حكايات بعضهم لبعض. المتحدثين عن العمل والبطالة والجنس والمال وبنات ما وراء البحر.

وانتفضت الذكريات في نفسه.

وضاع معها.


يتبـــع











أحمد فؤاد صوفي 11-25-2011 10:31 PM

عزيزي . .

إني هنا معك وأتابع . .
أعزك الله ورفعك . .

تقبل تحيتي وسلامي . .

** أحمد فؤاد صوفي **

ريم بدر الدين 11-25-2011 11:03 PM

سعيدة أنك تعيد نشرها ثانية يا طارق
رواية من أجمل ما قرأت
تحيتي لك

أمل محمد 11-25-2011 11:09 PM

~ أ. طارق

بداية مشوّقة متمكـّنة

سـ أكون بالقرب مـُتابـِعة

لك َ التحيّة ~

طارق الأحمدي 11-25-2011 11:45 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أحمد فؤاد صوفي (المشاركة 96414)
عزيزي . .

إني هنا معك وأتابع . .
أعزك الله ورفعك . .

تقبل تحيتي وسلامي . .

** أحمد فؤاد صوفي **


ونعم الصديق أنت يا أحمد

رعاك الله وحفظك من كل سوء ..

وأتمنى أن أكون عند حسن ظنك بي دائما ..

ودمت بود .

طارق الأحمدي 11-25-2011 11:51 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريم بدر الدين (المشاركة 96434)
سعيدة أنك تعيد نشرها ثانية يا طارق
رواية من أجمل ما قرأت
تحيتي لك


مرحبا بـــريم صاحبة القلم الرائع ..

نعم إني أحاول أن أعيد نشرها بعد الهجوم البربري على منابر ..

سعدت جدا بوجودك ..

أنتظرك لتتوجي الرواية بقراءتك النقدية المتميزة ..

ودمت رائعة دوما .



طارق الأحمدي 11-25-2011 11:53 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أمل محمد (المشاركة 96436)
~ أ. طارق

بداية مشوّقة متمكـّنة

سـ أكون بالقرب مـُتابـِعة

لك َ التحيّة ~


أ . أمـــل

من القلب شكرا لتواجدك في متصفحي ..

تسعدني متابعتك ويهمني رأيك ..

تحية لروحك السمحة ..

ودمت بود .


طارق الأحمدي 11-26-2011 12:01 AM




كلّ شيء هنا في زهرين قابل للتفريخ. الحزن والفرح, الشرف والفضيحة, الحلم والألم.. وكل شيء هنا يتبع نفسه, فالرجال – برغم كل شيء- يبكون كثيرا. مرات على صدور نسائهم المترهّلة, ومرة حين يلدن ثمرة شهوتهم المنتصبة دوما. حتى كلاب زهرين رأوها مرة مجتمعة وهي تعوي عواء يشبه البكاء!!.

قيل:

- رفع واحد منها إحدى قائمتيه الخلفيتين وبال, فشمّت البقيّة بوله وتراجعت إلى الوراء وعلا عواؤها..!!

وقد قال - وقتئذ - بعض من رووا الواقعة أن الكلاب فعلت ذلك بتحريض من النوري.

- إنه يتصل بالشياطين ويحرضها على إفناء زهرين.

- سمعه " السيد العربي" مرة يهدد بإفناء القرية, وأظن أن الكلاب قد سكنها سحره, أو أنها تحذرنا من شياطينه. فالحيوانات ترى ما لانستطيع نحن رؤيته.

أهل زهرين يخافون من النوري ويقرؤون له ألف حساب. وفي مرات عديدة يخافونه أكثر من الله. تجدهم حين يمرّ صامتين مثل أصنام أسطورية, ينكمش كل واحد في مكانه, يلتفّ بالخوف وبكثير من الحزن. ويصمت.

يذكرني خوفكم يا رجال زهرين بأمي – تلك البعيدة عني الآن – وخوفها علينا حين يقتحم الشتاء بيتنا الصغير- حينها- ينبت الخوف بين جفونها وتتشعّب فروعه وتمتدّ حتى تصل إليَّ فترتسم دمامل رعب على قلبي. فألتصق بها لمّا يهبط الليل, فتخفض لي جناحيها, وتضمّني إليها بعد أن تغلق الباب وتضع وراءه بعض ما يصادفها من أشياء ثقيلة تزيد بها اطمئنانها.
وكنت أرهف معها السمع لنباح الريح, لوقع المطر.

وفي بعض الأحيان, لما ينطّ قطّ فوق سقف الغرفة تقفز مرعوبة من مكانها, تتثبّت من غلق الباب. وتدعو الله أن يرحمنا. وأكون لفعلها ذلك أعجز حتى عن الوقوف. تتملكني رعدة وتصطكّ أسناني. ولما تكتشف مصدر الصوت أكون قد أحسست بشيء ساخن يسيل بين فخذيّ, فيزيد خوفي ويزيد التصاقي.

فتحكي.



طارق الأحمدي 11-26-2011 12:03 AM



تلك الحبيبة كانت تحكي لي, لتذهب الصمت المحيط بنا, ولتبعد الوحشة التي تقتلنا. فتعيد عليّ حكاية " علي بن السلطان".


- "... وكان رجلا شهما, لا ترهبه صحراء ولا يعيقه البحر. صيده الأسود, وأسراه الغيلان. وكان شجاعا, نبيلا, غامر وأنقذ محبوبته من خاطف العرائس. .."



فأسألها وبصري مثبّت بها, وأصابعي الصغيرة تعبث بخصلات شعرها.


- ومن هو خاطف العرائس؟


تسكت لحظات. تلتفت جانبا لتسوّي غطاء أختي الرضيعة. ثم تجيبني وهي تعدّل من جلستها.


- إنه غول – بنيّ - يسكن جبلا وعرا تحرسه الوحوش, وله قصر قائم على جماجم البشر. وقد سمّي بخاطف العرائس لأنه يخطف كل عروس ذات جمال أو حظوة, ليلة زفافها. وتقول الخرافة. أنه ليحفظ حياته فقد كانت روحه مخفيّة في قلب جمل..!! وهذا الجمل يرعاه زنجي في وادي " الزنوج " يقع بين جبلين عظيمين.


فأقاطعها وأنا أدير ذقنها لتنظر في عينيَّ.


- أخبريني عن الروح.


- إنها معجزة الله يسكنها عبده كي يتحرك ويمشي ويسعى ويسرق ويقتل ويعمل ويجاهد. وحين يشاء الله يأمرها فتفارقه ليبقى جثة هامدة.


- ولم الله هو الذي يشاء وليس نحن؟


فتنهرني بشدة يدفعها خوف أزلي سكنها من زمن بعيد.


- استغفر ربك ولا تكفر – ثم وبلهجة متوسّلة ملؤها الرجاء – إن الروح ملك لله. وهو حرّ في ملكه, يتركه إذا أراد ويأخذه إذا شاء.


- وأبي؟ هل هو ملك له أيضا؟


- أجل. كلنا ملك له.


- لِمَ لَمْ يتركه لنا؟


فتبكي بصمت.


طارق الأحمدي 11-26-2011 12:05 AM


لم أدري وقتها أني أنبش جراحا مازالت طريّة, ولكنها تجيبني من بين دموعها وغصّة تخفيها عنّي.


- لقد أحبّه. لذلك أخذه لجواره.


- وهل يجد ما يأكله هناك؟


- نعم. فهو إن شاء الله في الجنّة.


- ألا نلحق به لنشبع معه؟


- لا تعترض على مشيئة الله.


- ما هي مشيئة الله؟


- إنها... إنها. كيف سأفهمك؟ اسمع..إننا نحن البشر لا نتدخّل في ما يريده الله, فإذا أتانا منه خير شكرناه, وإذا أتانا منه شر شكرناه. فنحن لا نستطيع إلا التسليم بقدرته والإيمان به.


- ......................


- يجب ألاّ تعترض على مشيئة الله. فقط, هذا ما أريدك أن تفهمه.


- وهل ربّي يحبّنا؟


- نعم. كثيرا.


- لِمَ لا يأخذنا عنده إذن؟


وتضمني إليها في حنان, وتقبلني, وتتضرّع إلى الله في ضعف أن يغفر لي ويرحم صغري.


ولما أضيق من صمتها ولا تجيبني, أخترع أسئلة أخرى أطرحها دون تفكير ودون تحسّب لردة فعل, وهي لشعورها بالوحدة تجاريني دونما اعتراض.


- متى أصبح رجلا يا أمي؟


- عندما تكبر حبيبي.


- سأصير قويّا وأعمل. وسأجلب لك كثير من الأشياء الجميلة.


- إن شاء الله – ( وتقبّلني في حنان).


- ولن أخاف أبدا.


- بلى. فالرجال لا يخافون.


ولكن يا أمي رجال زهرين يخافون, ويرضعون الخوف لأبنائهم. الخوف من الله, ومن انحباس المطر, ومن الفيضانات, ومن فقد الرغيف, ومن الشبع, ومن بعضهم, ومن النوري.





ريم بدر الدين 11-26-2011 02:13 PM

مساء الجوري
القراءةيا طارق سبقت الرواية منذ عادت منابر و هي موجودة في منبر الدراسات النقدية
على أي حال يلزمني بعد القراءة الثانية أن أعيد صياغة ما كتبت فيها
تحيتي لك دوما
دمت رائعا

طارق الأحمدي 11-26-2011 02:41 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريم بدر الدين (المشاركة 96529)
مساء الجوري
القراءةيا طارق سبقت الرواية منذ عادت منابر و هي موجودة في منبر الدراسات النقدية
على أي حال يلزمني بعد القراءة الثانية أن أعيد صياغة ما كتبت فيها
تحيتي لك دوما
دمت رائعا

مساء الخيرات يا ريم

قراءتك السابقة أضافت الكثير لي وللعمل نفسه ..

والأكيد أني طامع بقراءة ثانية ..

تحيتي لك دائما

ودمت رائعة .



طارق الأحمدي 11-26-2011 02:43 PM

هذا الرجل الذي وضع حياته داخل أسوار من الغموض, وهالة من الأسرار. ورفعه الناس إلى مرتبة الشياطين. وجعلوه أحجية ومضرب أمثالهم, ويهددون به صغارهم حين ينوون الخروج مغربا, أو يرفضون النوم.
قطع فتحي منوّر شريط الذكريات الذي يمرّ في رأسه مشوّشا, مرتجفا. لتبقى صورة النوري تطلّ عليه من بعيد. يتقدّم, يتقدم, يملأ طيفه رأسه الصغير, فيخيّل إليه أنه يتفرّس وجهه, يغرس بصره في بصره, يهدده, يتوعّده, يلومه.
أحسّ بنار تلتهم جسده المنهك فدسّ رأسه تحت الحنفية, رغم الشتاء الذي يغتصب زهرين في الخارج, ثم رفعه وترك الماء يسيل على عينيه, أذنيه, وجنتيه. وكل جزء فيه يمكن أن يصله الماء.
صب لنفسه فنجان قهوة , ثم زفر وتمتم.
- لن أعيش بعذابك كثيرا يا النوري. سأرمي بكل أحزان الدنيا إلى البالوعة.
مسكين أنت يا فتحي. سيجرفك هذا الذي تفكر فيه إلى القاع. لِمَ غصت في الوحل؟ توهّمت أن خيوط الشمس حبالا فتسلّقتها لتسقط وتتحطّم.. يوم قدمت زهرين لم تكن تعرف شيئا عنها, لا تعرف أحدا. لكن الدودة الراقدة فيك استيقظت, فغصت في الوحل حتى رأسك.
والنوري؟ النوري, أيها البائس. شغلت به فكرك كل هذه السنين, يدفعك خوف أهل زهرين منه لعشقه. وهروبهم منه لاكتشافه.
وتورّطت. وها أنت تبحث عن مسكّن ينسيك صورته. معجزة تبعده عن فكرك.
يكفي..هذا يكفي .
صاح فتحي دون صوت يسكت الألم النافر فيه, وضغط بعشره على رأسه.
وصمت.



عبدالله الفيفي 11-26-2011 07:38 PM

رائع ومبدع

تحياتي لك

طارق الأحمدي 11-26-2011 09:07 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالله الفيفي (المشاركة 96583)
رائع ومبدع

تحياتي لك


الأستاذ القدير : عبد الله الفيفي

سعدت جدا بمرورك من هنا ..

وسأكون أسعد لو أنهيت معنا المشوار ..

من القلب شكرا لحضورك .

ودمت بود .




طارق الأحمدي 11-26-2011 09:12 PM



وتراقصت أمامه صورة بعيدة, ولكنها واضحة.

مرّ في ذاكرته شريط يومه الأول من قدومه زهرين. ابتسم, تكلم دون صوت يحدّث الصورة المعلقة أمامه على الجدار.

لما قدمت زهرين, كانت بين جنبيّ أمان كثيرة تدفعني للسّير قدما نحو هذه القرية. هذا الإمتداد والإنعتاق الذي تبحث عنه روحي.

أنا...

الذي جرفتني الأقدار إلى هذا المكان, ودفعتني إليه دفعا, لتلهب جمرة كادت تخبو في قلي. وليتشتّت عصبي المنهوك دائما ببراكين حزن تتفجّر كلما صرت وحيدا. ولأشبع رغبة غجرية تتملكني لخوض كل ما هو مثير, وبلا نتائج. لأتعب عقلي, أقهره حتى لا يدمرني بأسئلته ويرديني في هوّة لا جوانب, ولا قاع لها من الحيرة. وقد وجدت ضالتي في هذا المكان. عند هؤلاء الناس الذين رحبوا بي واستقبلني العمدة بحفاوة مبالغ فيها وسط " ساحة الإجتماعات" - هكذا يسمونها - . وهي عبارة عن شجرة " أكاسيا" كبيرة, ضخمة تقف في صبر في قلب زهرين.

وقد أخبرني الحسين مؤذن الجامع الوحيد في القرية, أن هذه الشجرة ما كانت لتنمو وتصير هكذا لو لم "يَبُلْ" تحتها سيده " صاحب الجمل" !!.

تقزّزت لهذه المعلومة, دغدغت أنفي رائحة كريهة ضاربة في القدم. تخيلت الرجال وهم يتمرغون في البول صباحا وعشيا. وطفرت فكرة صغيرة في عقلي المتعب. بدأت تكبر وتعظم.

" مادام للبول هذه المنافع, فلِمَ ننتظر المطر؟ ونحفر الآبار, وننقّب عن الماء؟ لِمَ لا يبول كل واحد منا تحت شجرته, وإن كان له أكثر يخصّص لكل واحدة يوما, وستصير أشجار بلدي كلها بحجم هذه "الأكاسيا".
وكأن اللعبة استهوتني, فتغافلت عن العمدة الذي بدأ يحشو أذنيّ ترحيبا, وسألت الحسين بدهشة مصطنعة.




طارق الأحمدي 11-26-2011 09:15 PM

- أويمكن لإنسان أن يأتي بهذا؟
- إنه ليس إنسانا عاديا, إنه وليّ صالح.
ثم وبلهجة أقرب إلى التهجّد:
- ولتعلم يا ولدي أن الأولياء أحباب الله, الذين سبل عليهم رحمته وآتاهم بركاته.
وطفق يتحدث عن " صاحب الجمل" بإطناب حتى يخرج الزبد من فمه وينتشر رذاذا يبلّل القريبين منه.
ولما أحسّ بسخريتي منه, وعدم تصديقي له, اضطرب وأجفل واستنجد بالمحيطين به. وحرك يديه عاليا وفي كل اتجاه.
ولأول مرة منذ وصلت تأملت الحسين بكل دقة. كان مائلا إلى السمنة قليلا, اشتعل رأسه شيبا, ونبت فوق فمه شنب أبيض تتخلّله بعض صفرة. أما عينيه فضيقتين وحادتين, تنمّان عن بقية نار تتوقد, إما لذكاء أو لدهاء.
لم يعجبني كلامه. كذّبت ادعاءاته, فامتقع لونه, صار كغريق لوّحت به العاصفة في عرض اليمّ. التفت في جميع الإتجاهات, مسح الماء النازل من أنفه بكمّه, رمقني بنظرة كلها كره ولوم وعتاب.
أنقذني العمدة منه, انتشلني من تيار رميت نفسي فيه.
- ما هذا يا الحسين؟ إنه ضيفنا, لا يجوز أن تدخله في شؤون هو بعيد عنها.
ردّ وقد تقوقع في جبته, واتّكأ على جذع الشجرة:
- سرقنا الوقت يا سيد مصطفى. على كل حال صار الآن منا وأبناؤنا أبناؤه, وهو معلمنا مادام معلّم صغارنا.
وتغيّر الحديث, وشارك الجميع في الكلام, كل يدلو بدلوه ويريد أن يعبر بطريقته على طيبة أهل زهرين وعفويتهم واحتضانهم للضيف بكل ما لديهم من حب ورحابة.


طارق الأحمدي 11-26-2011 09:20 PM

نادى مصطفى صاحب الدكان القريبة من ساحة الإجتماعات.
- يا محمد.. هات مشروبا للسيد.
- حاضر.. من عيني.
علّق أحد الحاضرين:
- لا حاجة لنا بعينيك, هاتها من الدكان.
وغرق الجمع في ضحك مشوّش يفضح هشاشة صدورهم وتخوّخها من فعل السجائر الرخيصة.
تنحنح القادري, ذلك العجوز الهرم الذي عاصر الحربين, وفقد رجله اليمنى في حرب – الهند الصينية -. اعتمد على مرفقه وزحف إلى الحلقة دون أن يقف. وخاطب الناجي المعدم دوما, والمختصّ في طبخ الشاي.
- هــه.. ألم ينضج شايك بعد؟
فردّ عليه وهو يضرب يده على فخذه بعد أن أحرقه غطاء الإبريق لمّا رفعه.
- حاضر, حاضر..لحظة..اصبر.
صبّ رشفة في كأس وتذوّق, تلمّظ وهزّ رأسه علامة الإيجاب, وكأنه يقول " نعم استوى".
قدم لي كأسا أخذته شاكرا, وكدت أرجعه لولا خجلي لشدة سواده ومرارته. ولكي أداري تقزّزي وضعته بين قدميّ وسحبت علبة السجائر, أخذت منها واحدة ومكّنت بعض الحاضرين من عدة سجائر, وأعطيت الباقي للحسين فطبعت عليه بسمة طفولية, فاغتنمت الفرصة ودفعت له بالكأس عن طيب خاطر, وبرجاء صادق أن يخلّصني من تبعات شربه. فعلّق مصطفى مازحا وهو يحكّ مؤخّرة رأسه.
- ابن المدينة لا يقدر علينا.
عقّب الناجي:
- لو كان يعرف منافع تلك الكأس لما فرّط فيها.
فاستغلّ القادري الفرصة ليعرّي عن بذاءة لسانه ...
ثم انفجر ضحكا حتى غابت عيناه بين التجاعيد الكثيرة التي تملأ وجهه. وسَرَت عدوى الضحك بين الجميع, فاهتزّت هياكل بقايا بشر في تلك الثياب الرثّة البالية, وتعرّت الأسنان الصفراء المائلة إلى الزرقة.
فجأة صمت الجميع, سكنهم بعض خوف – ربما- أو اشمئزاز, ورفعوا رؤوسهم إلى الذي انبثق فجأة من خلف أشجار الصبّار الكثيرة...





طارق الأحمدي 11-27-2011 09:47 PM

وقف الرجل لحظات, ابتسم في هزء واضح مصبوغ ببعض حزن, ثم تفل وواصل سيره دون أن يلتفت.
لم أسأل عن هويته, انتظرت بصبر زوال غمامة الوجوم التي سيطرت على المكان.
غاب الرجل, فضرب مصطفى كفّا بكفّ وقال في حسرة واضحة.
- مسكين ابن زهرين, التهمته سنون البعد وضيّعته. أكلت منه كل شيء حتى عقله. ظلمته الأيام وأدارت له مؤخّرتها فلم يهنأ بساعة فرح. وعظم الحرمان في داخله ولفّه سواد قدره فظلم الناس معه واعتبرهم مصيبته العظمى, فلم يحبّ أحدا منذ عودته, فاعتزل كل شيء...مسكين أنت يا النوري.
وأضاف الحسين:
- بل نحن المساكين, الذين نشفق على هذا الزنديق, السكّير, الذي ترك طريق الله واتّبع الشيطان. فلم يترك حراما إلا ركبه, ولا سيّئة إلاّ أتاها. إضافة إلى ذلك فهو يسيء إلينا ويسمعنا كلّ نابية وكلّ قول بذيء. ما كان علينا أن نقبله حين عاد, كان من الأجدر أن نطرده ونعيده إلى المزبلة التي جاء منها.
تدخّل الناجي وهو يحكّ شعره الأشعث بكلتا يديه:
- وماذا كنتم تنتظرون من لقيط قذفته السماء فجأة بيننا, وأعادته الأيام ملوّثا بكلّ خبيث.
نهره مصطفى دونما غضب:
- عيب أن نعيّر من كان أصله منّا بمثل قولك, فمهما يكن فأمه بنت زهرين.
عقّب القادري:
- فلنطلب له الهداية, وأن يريحنا الله منه دونما ضرر يلحقه بقريتنا.
وتحدث الرجال. تكلموا عن النوري ولم يسكتوا.



طارق الأحمدي 11-27-2011 09:53 PM

نبت في رأسي أكثر من سؤال, وتحرك دود اللهفة الطامح إلى قرض كل شيء, وثارت الفوضى بين ضلوعي. الفوضى التي خلفتها ورائي تتفجر الآن براكين في أحشائي. ولكني بلعت لساني وأسئلتي وصمتّ.
وسأعرف فيما بعد – بعد شهور قليلة- قصته. رواها لي أكثر من واحد, في أكثر من مرة, مع اختلافات قليلة في الروايات.
ومن ضمن الراوين, العجوز القادري. وهو شيخ جاوز العقد السابع يحسبه الرائي منتهٍ, لا يقدر على شيء, ولكن حين تخالطه, تقترب منه, تكتشف فيه روحا مرحة تتشبّث بالحياة وبكل ماهو جميل فيها, برغم الخدود التي حفرتها أيام الشقاء التي عاناها. وبرغم فقده لرجله اليمنى في حرب " الأندوشين". وهو سليط اللسان بذيئه, لا يستلذّ الكلام إلا إذا تضمّن عبارات نابية. وحين يلام ويصدم بسنّه, يردّ ضاحكا.
- ذلك ملح الكلام, توابله. وهل تستلذّ طعاما دون ملح أو توابل؟
علّمته الأيام ألاّ يعير للبؤس والأحزان بالا. لهذا تجده يقاوم, يشدّ بابتسامته ومرحه ستارة الزمن كي لا تنزل. كالنبتة التي تشقّ الصخر وترتفع قليلا, قليلا لتعانق شمس الصباح.
قال لي مرة وهو يتحسّس سيجارة بين أصابعه:
- لو لم تكن هذه لمتّ من سنين. أتعرف أين اكتشفت سحرها وأدخلتها عالمي؟ في حرب " الأندوشين". هناك بين تلك الأدغال صارعت الموت ألف مرة في اليوم. عشت مع رفاقي أقسى اللحظات وأمرّها. وضعونا في الواجهة أمام نار المدافع وقنابل الطائرات. تصوّر شبابا يدافعون عن وطن غير وطنهم, ينامون على فقد العشرات منهم ويفيقون على فقد المزيد. كنا لا ننام إلا ساعة أو تزيد قليلا, نعاني الجوع والبرد والحرمان والبعد عن الوطن. وكنت وقتها شابا يافعا, أحضن أحلاما كثيرة وحبا أكبر. نعم كنت أحبّ بعنف, سحرتني ابنة خالتي. ماتت الآن رحمها الله وسامحها. كم كنت أعشقك يا سالمة.. أنت لا تعرف سالمة؟ كانت كالبدر, غزال شارد, عشت معها أياما حلوة واتفقت معها على الزواج لكن الحرب أزفت لتفرقنا.. أنت لا تقدّر طبعا ما يمكن أن يعانيه عاشقين تفرّق بينهما الحرب؟ بكت سالمة, حضنتني, ترجتني أن أهرب...أثّر فيّ حبها, وجهها الصغير وهو يتلوّن ويغرق في دموعها...وعند رحيلي مزّقت جانبا من ثوبها لفّت فيه خصلة من شعرها الليلي ودسّتها في يدي.
هناك لم أنسها. كنت حين تهدأ رحى الحرب قليلا أنزوي في مكان قصيّ تحت شجرة أو فوق صخرة وأسافر بخيالي إليها. أقطع بحارا وجبالا وأودية, فيصطدم خيالي بنار الحرب ونار البعد. وأذكر أني كنت في أيامي الأولى ألاحظ أن معظم رفاقي يتلهفون على السجائر في جنون. يشعلونها, يعبّون منها الدخان فتميل رؤوسهم وتذبل جفونهم وتنفرج أساريرهم. وكنت أرفض كل دعوة لأخذ أيّ نفس من أيّ كان. ولكن بمرور الأيام انجرفت إلى ما يتعاطونه. فكنت أحلّق في عوالم فسيحة خالية إلا مني وسالمة.. إنه " الحشيش" يا بنيّ, ولولاه لجننت في ذلك المكان الموحش.
سكت القادري ودخل في نوبة قويّة من السعال أنسته ماكان يتحدث فيه, أو ربما تناساه لما تجلبه تلك الذكرى من حزن وماض أليم. ولم ألحّ عليه في المواصلة لأني كنت عرفت قصته كاملة. إذ أفقدته الحرب حبيبته فلم تنتظره وزوّجها أهلها, وبترت رجله بعد أن داس على لغم, وانتابه مرض غريب بعد عودته بقليل لم يستطع بموجبه حتى الحراك, وغزت جسمه حبيبات سوداء مازالت آثارها إلى اليوم على وجهه ويديه.
مرّت النوبة بسلام, وأشرق وجهه من جديد تغلّفه آثار التعب في عينيه. دسّ السيجارة التي كان يتحسّسها في فمه وأشعلها, فسعل سعالا خفيفا كتمه في صدره وقال في تعب واضح.
- أهــه.. ماذا كنا نقول؟
أجبته في تودّد:
- جئتك لتخبرني عن النوري, وأظنني سأرحل خالي الوفاض.
تململ في مكانه. نظر إلى البعيد كأنه لم يسمعني. أمسك عودا بيده اليسرى وخطّ به على الأرض أشكالا هندسية مختلفة ومتداخلة. ثم تكلّم...






أمل محمد 11-27-2011 10:38 PM

سلاسة ٌ في السـّرد

ترابط ٌ رائع

ولغة ٌرصينة

تـُرى أيّ حديث عن النوري سـ يدور بينهما ؟؟

ما زلت ُ أتابع القادري ..

بانتظارك يا ~ أ. طارق

طارق الأحمدي 11-28-2011 05:20 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أمل محمد (المشاركة 97213)
سلاسة ٌ في السـّرد

ترابط ٌ رائع

ولغة ٌرصينة

تـُرى أيّ حديث عن النوري سـ يدور بينهما ؟؟

ما زلت ُ أتابع القادري ..

بانتظارك يا ~ أ. طارق



من القلب شكرا لتشجيعك المتواصل أ . أمل

تسعدني متابعتك للعمل وأحداثه ..

أتمنى أن ينال رض.اك في النهاية ..

ودمت بود .


طارق الأحمدي 11-28-2011 05:28 PM

تحدث القادري :
- منذ زمن بعيد تعرّفت زهرين على رجل طيّب بسيط انبثق فجأة من بين ركام الفقر الذي كان يحوّط الناس في ذلك الوقت. جاءنا الهادي يحمل قفّة جمع فيها بعض أدوات الزينة من " سواك" وأمشاط ومناديل... يبادلها لنساء القرية مقابل بعض قمح أو شعير أو كمية من الصوف. وكانت طيبة نفسه وطول صبره وابتسامته التي لا تفارقه سببا في حبّ الناس له.
كان نحيفا, وفقره مرسوم على ثيابه البالية وقدميه الحافيتين. كان يحبّ صغار القرية فيمنحهم بعض قطع من السكر أو الحلوى مجانا.
وبرغم آثار السنين المحفورة على جبينه, والتعب الذي يغلّف عينيه الواسعتين لم نسمع منه كلمة سخط أو ثورة على وضعه.
" تفّ " على الأيام كم تظلم وتطغى.
الهادي لم يظلم أحدا, لم يتعدّ حتى على حجارة زهرين. لذلك كنا نحبه فلم نمنع نساءنا عن مساومته وقضاء حوائجهن منه.
كنت تراه راضٍ إذا وضع قفته على الأرض وحوّطته النساء يسألنه عن كل شيء, ويقلّبن كل شيء.
- الهادي...
- عيوني.. تحت أمرك.
- عندك "سواك"؟
- عندي يا " لَلَّه".
- بكم هذا الفستان؟
- بكم يناسبك يا عروسة؟
- لا يعجبني. لونه داكن بعض الشيء.
- عندي غيره. انظري هذا إنه خيط ليناسب مقاسك.
- يا.. يا الهادي اهتمّ بي قليلا.
- يا.. سآخذ هذين الصحنين بإبريق قمح فقط.
- حاضر " لَـلَّه".
- سأشتري منك هذا الفستان على شرط أن تعطيني مشطا مجّانا.
- حاضر " لَـلَّه".
حاضر " لَـلَّه"... حاضر " لَـلَّه"... لم تكن تسمع منه إلا هذه العبارة. يُرضِي الكلّ ولا يغضب أحدا.
لكن بعض النساء تحدّثن عن أمر لم نصدّقه, ونلن جزاءه عقابا من أزواجهن.
تحدثن عن اهتمام الهادي بلطيفة بنت الكامل. كانت في غاية الحسن والدلال. صحيح أنها فتنت الشباب, صحيح أنها تقابل الهادي وتشري منه. لكن أن تنظر إليه, تعشقه. هذا محال, هو في الأربعين يجرّ الخصاصة جرّا, وهي يانعة لم تتخطّ عتبة العشرين, مازالت أزهارها تتفتّح وأريجها يفوح.
قالت العجوز عائشة:
- إن الهادي حين يلحظ لطيفة يترك كل شيء وينهشها بعينيه الفائضتين جوعا.
وتحدثت زينة خفية, وبعيدا عن سمع زوجها:
- إنه أهداها سراويلا صفراء فاقعة اللون. وأن لطيفة غمزته وهمست له بحديث لم يتبيّنوا كنهه.
ووشوشت الخامسة زوجة عمها في أذني عبد الملك أخوها:
- أختك انفرط عقد الحشمة منها وحلّت شعرها عن آخره وستفضحنا إن لم تشكمها وتردعها.
وثار أخوها وأزبد وأرعد وصبّ جام غضبه في لطيفة لولا رحمة الناس بها وتأكدهم من طهارة الهادي.
أشعل القادري سيجارة أخرى أخذ منها نفسا تبعه سعال عنيف يظنه غير العارف به أنه لن يتوقّف. ولما خفّت النوبة واصل حديثه يقرأ الأفق ويستحضر شريطا تراكم عليه غبار السنين...




طارق الأحمدي 11-28-2011 05:33 PM

- ذات خريف. وفي ليلة حزينة نشرت حزنها على زهرين سمع الناس صوتا غريبا يعلو وينخفض. أرهفوا السمع. ظنوه ذئبا, لكن الكلاب كانت هادئة. فتسلّح بعض الرجال وتبعوا مصدر الصوت, والتصقت النساء بصغارها وأعينهن ملؤها الخوف والترقّب. تبيّن الرجال الصوت, إنه لامرأة تنتحب. من تكون؟ قرّبوا مشاعلهم. إنها لطيفة. وجدوها منفوشة الشعر, ممزقة الثياب. فتّشوا المكان حولها فعثروا على قفّة الهادي مبعثرة تلعب الريح بمحتوياتها.
انفجرت زهرين ذلك الخريف بكل بذيء القول على لطيفة.
قالوا: إنها (.....) .
نبشوا في سيرتها داخل المسجد, عند شجرة الأكاسيا, في الطريق, وبين أشجار الزيتون, وحتى فوق السرير.
قال العيفة بائع الفول:
- بقرونا في عقر دارنا ونحن نسدّ أعيننا وآذاننا.
وزفر محسن " العاقر" – هكذا يكنّى- :
- " تفّ " عليك يا الكامل وعلى ذرّيتك.
ووقف الفاضل شيخ القرية أنذاك ونظر إلى الكامل نظرة كلها احتقار واستصغار, ثم ملأ وجهه ولحيته بصاقا ومرّ مواصلا طريقه.
وعيّره الحسين برجولته وانتزع منه طربوشه ورماه أرضا وعفّره بالتراب تحت قدميه وقال له وهو يشهر سبابته في وجهه.
- الأكرم لك أن تمشي هكذا مكشوف الرأس كالكلب. يا أقلّ من كلب.
ومنع عنه محمود صاحب الدكان التّزوّد بالمؤونة, وطرده مرددا:
- ما عندنا شاي ولا سكّر. الرجال فقط يشربونه.
وتحدّث إمام الجامع في خطبة الجمعة عن الفضيحة وعن لطيفة, ووصفها بالشيطان وبالكافرة والفاجرة ودعا إلى رجمها حتى الموت أو إلباسها الخشن من الثياب وربطها مع الحمير.
وتحدثت النساء وهن يطبخن الشاي, وهن يجمعن الحطب من الجبل القريب.
قالت مباركة وهي تدلي بدلوها إلى الماجل:
- أفعى بقرنين. فعلتها ثم تسلحت بالبكاء والصمت.
عقّبت فاطمة:
- عين "....." لا تنكسر.
وقالت العجوز " زليخة":
- لو كانت ابنتي لوجّهتها إلى الغرب وذبحتها وأكلت من لحمها.
وتمتمت " كلثوم":
- رحمتك ياسيدي " صاحب الجمل".
كل القرية تحدثت عن لطيفة, جميع الناس استشنعوا فعلتها, حقدوا عليها وتمنّوا موتها.
وفي المقابل بحثوا عن الهادي فلم يجدوه. أيام عديدة وهم يبحثون عنه, لكن لم يعثروا له على أثر.
ولطيفة...؟!!



أمل محمد 12-23-2011 01:24 PM

أظن لطيفة بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف ‏..

‏~‏ أ. طارق

مازلت متابعة ‏..

بانتظارك ~

طارق الأحمدي 05-11-2012 09:57 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أمل محمد (المشاركة 100304)
أظن لطيفة بريئة من هذه التهمة براءة الذئب من دم يوسف ‏..

‏~‏ أ. طارق

مازلت متابعة ‏..

بانتظارك ~


مساء الخير أ . أمل
شكرا لأنك تبحثين عن بقية للأحداث .. وشكرا لأنك تحاولين البحث عن إجابة للأحداث القادمة
سأواصل نشر بقية الفصول لعلّها تضفي جديدا ..
ودمت بود .

ايوب صابر 08-28-2016 11:57 AM

اين انت يا استاذ طارق هل رحلت انت ايضا؟


الساعة الآن 09:15 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team