|
|
|
الحفرة
يبتلعه الصمت الرهيب الجاثم على المكان، فيكاد يسمع خلفه نبضات قلوب قلقة، مضطربة، متشوقة.. يزحف ساحبا جسده المنحشر في الحفرة الضيقة، يتهاطل التراب من فوقه فيتنفسه غبارا خانقا يلسع صدره المتصبب عرقا، يتلمس طريقه بأصابع خشنتها ليالي حَفْر بيضاء، يصدم ذراعه نصل صخرة ناتئة، يزم شفتيه بشدة ويواصل التقدم في نفق يبدو بلا نهاية.
لا لحظة قابلة للتضييع ولا وقت للتردد أو النكوص، كل ثانية من الزمن لا تقدر بثمن. لا يزال غير مصدق أن الحلم يتحقق، وأن جليد قبة الفولاذ القاهر يتصدع. لن يسمح للفشل أن يعترض طريقه قبل أن يفضح عجز سجانيه، ويكسر قضبان تفوقهم المزعوم، المهمة مستحيلة، لكنه ورفاقه عقدوا العزم على تسلق المستحيل. كانوا خمسة وراءه، تتصاعد أصوات أنفاسهم مختلطة، تائقة إلى الضوء الخافت، المتسلل من نهاية الصراط الشاق. يطل برأسه من الحفرة، تعانقه نسمة هواء عذبة، وتستقبله وشوشة غراميات حشرات ليلية، يرفع بصره إلى السماء الرحبة الصافية، ثم يصوبه نحو عتمة أسوار السجن العالية وبرجه الشائك النائم. يصعد بتأن وينتصب على الأرض الصلبة، يراقبها بحذر ممزوج بفرحة عارمة، وهي تبعث من رحمها رفاقه الخمسة، ثم يبتعدون بخطى ثابتة. يتضاءل السجن ويضمحل خلف ظهورهم، ثم يفترقون على ثلاث مجموعات، يتخذ ورفيقه دربا بين الوديان والأشجار، بعيدا عن دفء أضواء المساكن المتناثرة على مدى البصر، يعلمان أنها ما كانت لتبخل عليهما بالضيافة والمساعدة، لكنهما قررا ألا يتورط أحد أو يعاقب بسببهما. تشرق شمس ناعمة تتدفق جداول أشعتها ضاحكة، تحضن جسمه المنهك، تنفض عنه القلق، يحس بحنانها الأمومي، ويشعر أنه يولد من جديد، فيستلقي ورفيقه تحت شجرة زيتون وارفة الظلال. فجأة يقتحم هدوء المكان نباح كلاب بوليسية هائجة، وزعيق صفارات سيارات شرطة مسرعة يصم الآذان، ثم هدير طائرات عمودية ترسم دوائر ضيقة ما تلبث أن تتسع وتختفي، ليحل محلها الطنين. أسراب مسيرات تجوب الحقول، تمشط كل شبر بأعينها الزجاجية السوداء. وتهز بتوتر قرون مجساتها الصلدة. يراقب ورفيقه من بين الغصون الخضراء حمى الصخب المجنون، فيبتسمان. تتلاشى الأصوات خائبة، فيسيران عبر قرى وبلدات صغيرة، متسترين يراوغان الرصد البشري والآلي الذي ضاقت به الأرض. يدرك أن الهلع أصاب السجانين المذهولين وجحافل المطارِدين المرتبكين، وأن الحفرة التي صنعها ورفاقه تتمدد وتتسع مهما حاولوا ردمها، سجنها، محوها بكل إعلامهم، وقوتهم الغاشمة. يبتسم حين يرى أطفالا يلعبون، ويناوله رفيقه ثمرة تين شوكي، يشمها ويقضمها بتلذذ. يهدهما التعب بعد أيام من المشي المضني، فيتكآن على شجرة غرقد على جانب الطريق، يغشاهما النعاس، فيبصرهما شرطي مار، يهرع مناديا ومستدعيا زملاءه، يتقاطرون عليهما من كل حدب، يطاردونهما، ويتكالبون عليهما. يضعون الأصفاد الحديدية في يديه من جديد، يحشرونه بارتباك وقسوة داخل سيارتهم العسكرية، لكنه يظل مرفوع الرأس، ينظر إليهم بصلابة وفخر، فقد أنجز المهمة. |
رد: الحفرة
نص أدبي باذخ يصور وقيعة الفرار البطولي للأسرى الفلسطينيين الستة من سجن جلبوع تصويرا بديعا وحيث ينبغي أن يكون الأدب..ونظرا لأهمية هذا الحدث التاريخي فالقصة تستحق التثبيت :
التثبيت في 21 شتنبر 2021 ولنا عودة إن شاء الله في قراءة معمقة لهذا الأثر الأدبي الهام. تحياتي وتقديري أديبنا المبدع عبد الكريم الزين.. :43: |
رد: الحفرة
القاصّ البديع صاحب الذوق الرفيع والقلب النابض بوطنيةٍ وإيمانٍ عميقين، أيها الكريم ابن الأكرمين، هذا نصُّ بحجم الوجع، بحجم الإنتصار الذي أفسدت فرحتنا به شجيرات الغرقد، نعم يا سيّدي عشنا في هذا النص اللذيذ مشهداً مهيباً أخذ بأيدينا وسار بنا من فوّهة الحفرة، إلى ظلّ الشجرة الخائنة،
فلا نامت أعين الجبناء.. نص يستحق التقدير غاية في الجمال تحياتي واحترامي |
رد: الحفرة
عمق في حرف حكاية
فيه الكثير يئن على وتر مؤلم يبقى الظالم في ظلمه حتى يبعث الله عليه من يسومه سوء العذاب في الحياة الدنيا وفي الآخرة له يكون من المخذولين والله وكيل المظلومين يستخلص منهم شهداء ويصطفيهم لنفسه ليكونوا في الدرجات العلى من الجنة .. أدعو الله أن يفك أسرهم هذا السرد القصصي كتب بالدم و من القلب حقاً يستحق.... نص بالغ الرمزية سلمت و سلم الفكر والحبر والنبض وشكرا بحجم السماء لهذا القلم النازف نورا:45: |
رد: الحفرة
اقتباس:
تحياتي وتقديري أخي محمد:31: |
رد: الحفرة
اقتباس:
مرورك أضاء النص وتعليقك أسعدني تحياتي وتقديري لوطنيتك وذوقك الرفيع |
رد: الحفرة
اقتباس:
أن تحدث شرخا في نظامه التقني المتطور أن تشعره بهشاشة أمنه وضعف إجراءاته وذلك ما أحدثته الحفرة ومدة الهروب وتبقى الأمور الأخرى مجرد تفاصيل يسعدني دوما حضور ياسمين المنابر ببهاء حروفها وروعة المعاني التي تثري بها النصوص كل الشكر والثناء لأديبتنا الرائعة تحياتي وودي:43: |
رد: الحفرة
حقا لا أعلم
أفي الألم ومرارته، والأمل وعذوبته، والصبر وجماله، والشجاعة وشموخها ... أُبحرُ أم في حنكة الكاتب وحرفيته وجمال سبكه ؟؟؟؟ نص عميق مؤلم موجع ومفرح أيضا نص مفعم بطاقة السرد الخلابة أحسنت أستاذ عبد الكريم تحياتي وإعجابي وتقديري |
رد: الحفرة
حُق لهم كل الفخر؛ فقد حفروا الصخر وتنسموا الحرية بصبرهم ومثابرتهم
وأضافوا صفحةً جديدةً وضَّاءةً إلى كتابِ المجدِ الخالدِ بامتدادِ التاريخ فهمُ الأحرارُ خلف القُضبانِ ونحن المُصفَّدونَ بالأغلال تصفيقٌ حادٌّ ليراعةٍ وطنيةٍ قاصَّةٍ بكل هذه الشاعريةِ المدهشة وبُستان وردٍ مُندّى |
رد: الحفرة
اقتباس:
تحياتي وتقديري |
| الساعة الآن 02:36 PM |
|
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.