منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر مختارات من الشتات. (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=26)
-   -   أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28887)

حسام عبدالباسط 07-23-2021 09:03 PM

أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد
 
دفع الباب وقال أحس أنني سأختنق.. وقال افتح لنا النافذة.. وقال أين الهواء؟.. وقال طول الطريق كنت ألهث وأمسح عرقي وأنظر للناس فأجدهم لا يلهثون ولا يمسحون عرقهم.. هل أنا وحدي الذي...؟.. وقال لا أعرف ماذا أفعل.. أفكر أن أطلق امرأتي.. وأفكر ألا أطلق امرأتي.. وقال هل تصدق أنني كنت أغسل غيارات البنت الصغيرة, وهي تتدلى من الشباك تمضغ اللادن, وتشاغل الولد العازب الذي أمامنا.. وقال طول النهار ليس أمامها غير أكل التمر.. ماكينة لا تتوقف.. تلوك التمر وتلفظ النوى.. تصور أنها باعت حلة الغسيل من أجل أن تشتري لنفسها تمرًا.. وقال أنا مديون لكل إنسان في المصلحة.. لم يعد أحد يرضى أن يسلفني.. وقال سامحني هذا الشهر فلن أستطيع أن أسدد لك ما اتفقنا عليه.. وقال تحمّلني.. وقال من لي غيرك؟.. وقال أنت صديقي الوحيد ولا بد أن تتحمّلني.. وقال إنني سأختنق.. وقال أين الهواء؟.. وقال لم أنم طول الليل.. وقال أحس وخزًا في صدري وظهري.. وقال دقات قلبي تهز جسدي, فأخاف أن توقظ البنت من نومها.. وقال أنا أحب هذه البنت كثيرًا.. وقال البنت أشارت لي على العنب.. وقال أنا محتار.. وقال إنني آخذ البنت معي إلى الشغل.. وقال لن آخذها بعد الآن.. وقال تصور ضرغام أفندي يحتضن البنت بشبقٍ غريب.. وقال أين أذهب بها؟.. وقال البنت سخنة وتكح طول الليل.. وقال لا أستطيع أن أذهب بها للدكتور.. وقال المرتب لا يكفي لأكل التراب.. وقال المستشفيات قذرة.. وقال سأشتري لها وصفة من عند العطار.. وقال كان من المفروض أن أقبض مرتبي اليوم, لكنه حدث خطأ بالشيك فأعادوه ثانية للحسابات.. وقال ما ذنبنا نحن؟.. وقال ما ذنب البنت الصغيرة؟.. وقال ربما نقبض غدًا أو بعد غد.. وقال ماذا أفعل؟.. وقال أحس أن روحي مسحوبة.. وقال تصور أن الباشكاتب يريد أن يستغلني كل يوم في طلب واحد شاي له.. ويريد مني كل يوم سيجارة.. وقال زميلي في العمل يطلب له الشاي ويشتري له السجائر.. وقال تصور أن البنت كانت تكح طول النهار, وهي معي في الشغل, ودرجة حرارتها عالية.. وأقول له أستأذن ساعة لأجل البنت يا حضرة الباشكاتب, فيطوح يده رافضًا ويلوي بوزه في وجهي.. يا حضرة الباشكاتب البنت سخنة ولا بد من المرواح.. لكنه قال لو روّحت سأخصم لك يومًا.. تصور أنني فرشت للبنت بعض الملفات على أرضية الأرشيف لتنام عليها.. وكان يسمع سعالها بأذنيه ولا يبالي.. ماذا جرى للعالم؟.. ألا يكفي أني أمشي بما يرضي الله؟!.. تصور أن الباشكاتب لا يريدني أن أصلّي في العمل, لأنني لا أعطيه سيجارة, ولا أطلب له واحد شاي.. تصور أنني فكرت أن أترك العمل.. ولكن أين أذهب؟.. أنا لا أجيد غير تقييد الملفات التي تُسحب, ووضع الكروت مكانها.. ذلك عملي منذ عشرين عامًا.. أسافر؟!.. لا أستطيع.. أنا لم أسافر عمري.. أعرف أن زيدان أفندي قد سافر وعاد, فزوّج البنت وتزوج هو أيضًا.. لكنني لست مثله.. أنا لا أستطيع أن أسافر.. لو سافرت مت.. سافروا.. أعرف.. لكنني لست مثلهم.. إنني مرتبط.. متربط بماذا؟!.. مرتبط ربما بـ.. هل يمكن نقل تراب الأرشيف معي؟!..
تصور أنني لم أعد أستريح للضوء في الخارج.. اعتدت على الضوء الخافت في الأرشيف.. أعرف أن الأرشيف رطب كالقبر.. لكنني لا أستريح إلا في هذا القبر.. أعرف أنني لست كالآخرين.. الشرنوبي أفندي يبيع الشرابات والفانلات في الشغل, ويدور بحقيبته على الموظفين.. لكنني لا أستطيع أن أفعل مثله.. الشرنوبي أفندي رجل سالك.. لكنني.. ما علينا.. الله يسهل لعبيده.. هل معك بريزة؟.. هل تصنع لنا شايًا؟.. هل عندك أسبرين؟.. لماذا لم نقبض اليوم؟.. هل سنقبض في الغد؟.. وإذا لم نقبض في الغد فكيف إذن...؟!.. ربما أصالح زوجتي.. أعرف أن المرتب لا يكفي.. لكن البنت مريضة.. هل تعرف أنني أخاف من النوم وحدي؟.. تصور أنني أقوم من النوم مفزوعًا أصرخ.. لست أعرف.. تصور أن البنت لا تنام إلا على صدري.. تركب على صدري وتمسك في رقبتي.. تصور أن صدري يؤلمني.. تصور أن الصداع لا يفارقني.. تصور أن الشيك به خطأ.. هل يستطيع الموظف أن يعيش يومين بلا أكل؟.. هل تستطيع البنت الصغيرة؟.. هل معك بريزة؟.. أنا أعرف أنني لم أسدد الحساب القديم.. ماذا أفعل؟.. لم يعد أحد يرضى أن يسلفني.. لقد فكرت أن أقتل نفسي.. لكني عدت ففكرت ألا أقتل نفسي.. تصور أن البنت أشارت لي على العنب..
سأشتري لها وصفة من العطار للكحة.. سأذهب بها للمستشفى.. سأذهب بها للدكتور.. سأشتري لها العنب.. أين الهواء؟.. أكاد أختنق.. افتح لنا كل الشبابيك.. هل الضوء أصفر أم أنني الذي...؟!.. أحس بدوخة.. رائحة شياط في رأسي.. تصور أنني لم آكل منذ الأمس.. احضر لي أكلاً.. رغيف واحد يكفي.. رغيف وقطعة جبن.. سنقبض غدًا.. رغيف واحد.. لا.. لا.. لن آكل هنا.. البنت قد تصحو من نومها وأنا غائب.. سأخذ الرغيف معي وأذهب للبنت..

ثريا نبوي 07-24-2021 04:24 AM

رد: أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد
 
ظننتُها قصةً عن جورج فلويد الذي قتلتهُ العُنصريةُ خنقًا في أمريكا
قرأتُ فأحسستُ بأنني أيضًا أعاني الاختناق
نسيتُ التدقيقَ أو أجَّلتُهُ .. لا أدري
هي ورطةُ الإحساسِ بالآخرِ الذي اختنقَ بين السطور
وقد تكفَّل تفكيكُ كل أسبابِ المُعاناة بإقصاءِ فكرةِ المراجعة
فقد بَدَتْ ترفًا لا محلَّ له من الإعراب في خِضَمّ هذا القهرِ الهادر
ربما لا أستطيعُ أن أعود
حيَّاك الله

عبد الكريم الزين 07-24-2021 09:48 PM

رد: أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد
 
نقل موفق واختيار جميل

جزيل الشكر أستاذ حسام

تحياتي وتقديري

حسام عبدالباسط 07-29-2021 02:22 PM

رد: أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ثريا نبوي (المشاركة 307000)
ظننتُها قصةً عن جورج فلويد الذي قتلتهُ العُنصريةُ خنقًا في أمريكا
قرأتُ فأحسستُ بأنني أيضًا أعاني الاختناق
نسيتُ التدقيقَ أو أجَّلتُهُ .. لا أدري
هي ورطةُ الإحساسِ بالآخرِ الذي اختنقَ بين السطور
وقد تكفَّل تفكيكُ كل أسبابِ المُعاناة بإقصاءِ فكرةِ المراجعة
فقد بَدَتْ ترفًا لا محلَّ له من الإعراب في خِضَمّ هذا القهرِ الهادر
ربما لا أستطيعُ أن أعود
حيَّاك الله

تعليقك -في خضم الاختناق- أسعدني..
كنت أفكر أثناء نقل النص في براعة الكاتب في إيصال حالة الإختناق عن طريق سرد "الصوت الواحد", وكيف ساهم التكرار الملح لفعل "قال" في تكريسه..
ألف تحية..

حسام عبدالباسط 07-29-2021 02:23 PM

رد: أين الهواء؟/ قصة قصيرة: صلاح عبدالسيد
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الكريم الزين (المشاركة 307081)
نقل موفق واختيار جميل

جزيل الشكر أستاذ حسام

تحياتي وتقديري

الشكر لذوقك الجميل ومرورك الراقي..


الساعة الآن 05:25 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team