منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   اللوحة والغياب..قصة قصيرة (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=29772)

عبد الكريم الزين 03-13-2022 10:20 PM

اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
أناملها الرقيقة امتدت تزيح الستائر الخضراء، وشفتاها الورديتين همستا مترنمتين:

[ وأنا من قبلكِ لم أدخلْ مدنَ الأحزان
لم أعرف أبدًا أن الدمع هو الإنسان
أن الإنسان بلا حزنٍ ذكرى إنسانْ ]

تدفق دفء الشمس ونورها على الكراسي الخشبية الأربعة والطاولة المستديرة، تجاوز الكنبة الصفراء العتيقة، واستقر على الإطار المذهب اللامع لصورة المرحوم المثبتة وسط غرفة الاستقبال.

اتجهت إلى المطبخ بخفة.. صوت ارتطام قوي بدد صفحة صفائها.. علقت الحروف في حلقها، وانقبض قلبها.. هرولت إلى الغرفة، ووقفت مشدوهة أمام شظايا زجاج اللوحة المتناثر، وإطارها الخشبي المحطم.. ارتدت عباءتها، وأصلحت غطاء رأسها، تطلعت إلى نفسها في المرآة، ونزلت الدرج، سلمت اللوحة إلى العم محمود النجار، ورجته أن يصلحها في الحال، نظر إليها مليا، ثم قال:
- تحتاج لبعض الوقت.. يلزمها إطار جديد..
بعد إلحاح وعدها أن تكون جاهزة مساء يوم غد..
عادت إلى بيتها.. فتحت الباب، ونظرت إلى مكان الصورة، كان لون الأثر المربع الذي تركته مختلفا عن لون الجدار.. جلست على الكنبة وتنهدت.

…. …. ….

كانا في رحلة بمناسبة مرور عشر سنوات على عقد قرانهما، في قرية أثرية سياحية.. يداعبان بقدميهما رمال الشاطئ الناعمة.. يمر رسام بورتريه من قربه.. تصر على رسمه، يرفض بادىء الأمر، ثم يجلس صامتا والابتسامة لا تفارق شفتيه.. يتم الرسام عمله ويرسمه بزي تقليدي كما أوصاه.


ينظر إلى اللوحة ويقول باستغراب:
-لقد بالغ في إبراز أنفي في اللوحة!
تبتسم وتمس بإبهامها أرنبة أنفه وتقول:
-أنفك ما شدني في وجهك في أول لقاء بيننا.
يضحك بصوت مسموع ويحدق فيها مستغربا:
-ماذا أعجبك في الأنف الطويل! ألا تعرفين أنه لو كان أنف الحسناء المصرية كليوباترا أقصر طولا لتغير وجه العالم كله!
تشيح بوجهها عنه وتقول غاضبة:
-وهل كليوباترا أجمل مني؟
يقترب منها ويهمس في أذنها:
- لا شيء يضاهي جمالك..
تبتسم، فيشير إلى قرص الشمس المتسلل مختفيا:
-في طلعة شمسك التي لا تغرب ما يغنيني عن كل نساء الكون..
تتصاعدت خفقات قلبها، فتغمض عينيها.. تحس لحظتها أنها تمتلك الدنيا…

…. …. ….

صوت مواء قطها أعادها إلى الغرفة، ففتحت عينيها، ومررت يدها على جسده الطويل، مداعبة شعره الأصفر الناعم.. رفع الحيوان بصره إليها، وعاود المواء، ثم غادر المكان مسرعا.. تابعته بنظرها باستغراب.. كان من عادته أن يتمدد على الكنبة، مستقبلا اللوحة، ومستمتعا بدفء أشعة الصباح.

نظفت الأرضية، وتوجهت إلى المطبخ.. أعدت صحون الفطور، ورتبتها بتأن على مائدة غرفة الاستقبال، وجلست تنتظر قدوم ابنيها خالد وهيفاء.. أسندت رأسها على ذراعها فانسكبت خصلات من شعرها على أجفانها، أزاحتها برفق متأملة خيوط البياض الزاحفة على أطرافها.

…. …. ….

كان الخبر مفاجئا، صاعقا.. أن ينتزع الموت خلسة جزءا من روحها، أن ينقلب العالم حولها، مزعزعا ثقتها في حياتها وأفكارها، ثم في نفسها.. لم تصمد في البدء على فقدان حبيبها، فتسلل الشيب إلى شعرها الأسود، وتسرب اليأس مكبلا قلبها بالحزن والألم.. خلدت إلى الصمت والشرود، ثم طالعتها صورته من اللوحة مواسية ومعاتبة لها.
تجلس لساعات أمام اللوحة تحدثه، تلقي إليه بهمومها، تحدثه عن الأبناء، ترسم برفقته مستقبلهم وأمنياتها.. يخيل إليها بل تجزم أنه يستمع إليها.. يبتسم ويشجعها.. تعود إليها نضارتها ويتفتح قلبها مقبلا على الحياة...

…. …. ….

سمعت صوت أقدام تقترب، رفعت رأسها ومسحت دموعا ترقرقت على وجنتيها.. سرعان ما اختفت الابتسامة التي أعدتها لاستقبال ولديها القادمين.
حدجت ابنتها مستنكرة:
-لا يمكن أن تذهبي للمدرسة بهذه التنورة القصيرة!
هزت الفتاة وقالت:
-لكن ماما، أغلب زميلاتي يلبسن مثلها!
قاطعتها:
-أبوك ما كان ليرضى بذلك، و..
واستدارت إلى موضع اللوحة، ليستقبلها الفراغ..
كيف نسيت أنها سلمتها للنجار!
احتد صوتها:
-لا تناقشيني، اذهبي وغيريها!
حاولت البنت الاحتجاج، لكن صرامة ملامح وجه أمها أقنعتها بالتراجع.. طأطأت رأسها وانسحبت تدندن إلى غرفتها.
تابعها خالد ببصره وقهقه، فرمقته أمه بنظرة قاسية، ابتلع بقايا ضحكته.. خفض طرفه، وانكب على صحن الطعام.

ما إن انصرف الابنان إلى مدرستهما، حتى راودتها الهواجس، واستبد بها قلق غريب.
ما بال الولدين! ليست هاته التصرفات من عادتهما!
نظرت بعينين دامعتين إلى مكان اللوحة تستجدي سندها.. ظلت شاردة لمدة، ثم ضحكت.

…. …. ….

غمرها شريط الذين تسابقوا للزواج منها..هم أكثر من أن تتذكرهم.. يدخلون بخطوات واثقة، تفوح منها رائحة غناهم ومناصبهم.. يصطدمون بصورته تراقبهم وتطبق على الغرفة.. تتسلط عليهم ابتسامته الهازئة وأنفه الأشم، فيرتبكون وتضيع كلمات الغزل والمباهاة.. ينسحبون يجرون أقداما مهتزة.

…. …. ….

طرق خفيف على الباب انتزعها من ذكرياتها، فأسرعت تفتح الباب،
جاء أبو المرحوم وأمه.. أطرق الرجل ببصره إلى الأرض، وأجهشت زوجته بالبكاء.

تورد خداها باحمرار متوقد، تلعثمت الكلمات في لسانها، وهي تشرح كيف انزاحت الصورة عن مكانها، همست:
-تحركت من مكانها واصطدمت بالأرض.
هز حموها رأسه متأسفًا:
-لا عليك يا ابنتي، كل شيء يتغير عند غياب الأصالة…
ثم استأذن وغادر وزوجته مبكرا على غير عادتهما.

التحفت بعباءتها، وهرولت إلى الباب.. هبطت تعدو في الدرج، تفاجأت أنها مكشوفة الشعر، فهرعت عائدة أدراجها، ولقفت أول غطاء رأس صادفته في غرفتها.. أدركت العم محمود، وهو يغلق باب دكانه.. طلبت منه اللوحة.. أصرت على أخذها قبل إصلاحها.. ضمتها إلى صدرها ثم علقتها في مكانها الأصلي، واستلقت قبالتها على الكنبة.. جاء القط وجلس هادئا في حجرها.

محمد أبو الفضل سحبان 03-15-2022 02:01 AM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
تمر الأيام في حياتنا سريعة خاطفة .. غير أَنه في حياة كل منا يوم يقبع في الذكرى، يوم تتخلى فيه الشمس عن اشراقتها لتتركه رماديا كالحا لا دفء فيه ولا حياة .. يوم تفقد فيه صديقا أو قريبا
أوحبيبا .. وتبقى صورته معلقة على جدار الزمن .
قطعة فنية مؤثرة تفيض بالمشاعر الصادقة والصور الفنية العميقة ..
تقديري أستاذ عبد الكريم لقلمك المبدع و :20:

حمزه حسين 03-18-2022 08:40 PM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
لوجة فنية رائعة
أستاذ عبد الكريم
وكما عودتنا

أحسنت كثيرا

قلم مميز ونص جميل

وافر تحياتي

عبد الكريم الزين 04-11-2022 11:24 PM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 335836)
تمر الأيام في حياتنا سريعة خاطفة .. غير أَنه في حياة كل منا يوم يقبع في الذكرى، يوم تتخلى فيه الشمس عن اشراقتها لتتركه رماديا كالحا لا دفء فيه ولا حياة .. يوم تفقد فيه صديقا أو قريبا
أوحبيبا .. وتبقى صورته معلقة على جدار الزمن .
قطعة فنية مؤثرة تفيض بالمشاعر الصادقة والصور الفنية العميقة ..
تقديري أستاذ عبد الكريم لقلمك المبدع و :20:

سررت بمرورك الطيب العطر
وبعطائك الرائع في المنتدى أخي محمد

تحياتي وتقديري

موسى إبراهيم الثنيان 04-16-2022 12:00 AM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
قصة جميلة ومؤثرة مكتملة الأركان
حبكة محكمة فنيا ودراميا
رائع ربط اللوح ذلك الإطار بالغياب
ودلالته في النص
كرمز على وفاء المرأة وحبها لزوجها
وفقدانه القسري الذي جعل والدا الميت يحكمان على المرأة
بعدم وفائها.

عبد الكريم الزين 06-02-2022 05:20 PM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حمزه حسين (المشاركة 336203)
لوجة فنية رائعة
أستاذ عبد الكريم
وكما عودتنا

أحسنت كثيرا

قلم مميز ونص جميل

وافر تحياتي

ممتن لمرورك الجميل شاعرنا المبدع المتميز حمزه حسين

تحياتي وتقديري

عبد الكريم الزين 06-02-2022 05:27 PM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة موسى إبراهيم الثنيان (المشاركة 338337)
قصة جميلة ومؤثرة مكتملة الأركان
حبكة محكمة فنيا ودراميا
رائع ربط اللوح ذلك الإطار بالغياب
ودلالته في النص
كرمز على وفاء المرأة وحبها لزوجها
وفقدانه القسري الذي جعل والدا الميت يحكمان على المرأة
بعدم وفائها.

قراءة فنية متمكنة أخي الأديب موسى
اللوحة ترمز إلى الأصالة العربية
وغيابها ينعكس على البيت والمجتمع

تحياتي وتقديري

ياسَمِين الْحُمود 06-03-2022 12:27 AM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
أسلوب السرد شيق ولاحظت تناسق كامل بين الأحداث .
فترجمة أفعال وسلوكيات الشخصيات يظهر بشكل جلي في القصة ونجاح السرد إنما يغود لتقنية
استخدمتها أخي القاص لإبراز هذه القضية الإجتماعية بصورة واضحة وتسليط الضوء على ما تُعانيه الأنثى بعد الفراق ….
سلم القلم واليراع مبدعنا \ عبدالكريم الزين ..
مودتي والياسمين:31:

حسام عبدالباسط 06-04-2022 01:19 AM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
جذبني العنوان فدخلت..
النص به لمسة حزن محببة.. لغتك قوية.. والفكرة جيدة..
استمتعت..
ألف تحية..

عبد الكريم الزين 06-05-2022 08:10 PM

رد: اللوحة والغياب..قصة قصيرة
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسَمِين الْحُمود (المشاركة 342804)
أسلوب السرد شيق ولاحظت تناسق كامل بين الأحداث .
فترجمة أفعال وسلوكيات الشخصيات يظهر بشكل جلي في القصة ونجاح السرد إنما يغود لتقنية
استخدمتها أخي القاص لإبراز هذه القضية الإجتماعية بصورة واضحة وتسليط الضوء على ما تُعانيه الأنثى بعد الفراق ….
سلم القلم واليراع مبدعنا \ عبدالكريم الزين ..
مودتي والياسمين:31:

قراءة فنية متمكنة بعين أديبة مبدعة
تضيء النص وتؤطره بأبعاد جمالية جديدة

حضورك يضفي دوما بهاء على النص أستاذة ياسمين
تحياتي و:31:


الساعة الآن 07:49 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team