منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   نساء (مجموعة قصصيّة) (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28964)

موسى المحمود 08-16-2021 09:20 AM

نساء (مجموعة قصصيّة)
 
"نساء"

هي مجموعة قصصية ومحاولة أدبية متواضعة قمت بتوظيفها لعرض مشاهد من واقع حياة بعض من قابلت من النساء أو من سمعت قصصهنّ من أصدقائي ومعارفي،



القصة الأولى

مساءً قبل دخول الليل حجرة النهار بنبضة، سماء رمادية ومطر يتمدّد على كل الأشياء، ريح تهمس كنايٍ مذبوح، طريق طويل تمتد على جانبيه أعمدة الضوء الخافت، شجر كثير كثيف يلوّح بأغصانه، رصيفٌ يحمل غبار أحذية من مرّوا، قمرٌ خافت يقترب من بعيد يكبر يكبر يكبر.. هو بقامةٍ كالنخل، جسدٍ متوسط، هندام أنيق بسيط تلتسق به قطرات المطر الكثيفة، عينان تملأهما قصص كثيرة نساء على مد البصر بجمالهن وظلمهن وقسوة أريجهن، يمشي ببطء كأنه على موعدٍ بفتاة قلبه، هو لم يكن على موعدٍ مع أحد، كان اسمه أحمد، مضى .. أشعل بخطواته حبات المطر الباردة، مضى أكثر .. أيقظ ورق الشجر الحالم على أغصانٍ لا تهدأ، وجد مقعداً، جلس، توضّأ قلبه بالمطر واقترف تنهيدةً ثمّ أخذ من سيجارته قبلةً غاضبة وصمت. لم تأتِ بعد، كانت هي في شرفتها، في ذات اللحظة، تعدّ واجبها المدرسيّ، الشرفة باردة، ما الذي يجبرها على هذا! ربما تنتظره؟ ربما تنتظر أحداً سواه، رجلاً سواه، مطراً سواه، حلماً سواه، تتابع واجبها المدرسيّ، تفقد التركيز في كلّ شيء، ضوء خافتٌ يتسلّق شرفة منزلهم، نام الناس جميعاً، وقفت هي تترقب قدومه، كان هو جالساً يدخّن، إشتعلت غيرتها، كيف يُقبِّلُ غيري؟ قررت أن تبتاع أملاً جديداً من سمائها الرمادية، جاء الحلم ميتاً، فاستفاقت على صرخات والدها:"حان موعد العشاء.." قالت:"وماذا عنه..؟" خطفت نظرة، كان قد رحل.



القصّة الثانية

في الصباح كانت الزهور الشتوية تقف استعدادا لاستقبال أنوثتها، مرّت أمامَ الزهور ولم تسلّم، حلّت عليها لعنة الصباح، مدخل البيت يشبه إلى حدٍ كبير بستان ورد في فصل الخريف، كلّ ما عليه ذهب مع الريح، قطّة في زاويةٍ لا تبعد خطوتين، تضمّ نفسها بحذر، تفتحُ عيناً وتغمضٌ أخرى، كأنها تنتظر، من تنتظر..؟ هي أنثى جميلة، وجهها في الصباح تفّاحة، عيناها عصفوران أخضران يحاولان النوم، شعرها مسدول على كتفيها يمتد حتى عمق أنوثتها، تتسلّقه ذرّات الماء، تداعبه الريح. مرّت ولم تلقِ التحية على أي شيءٍ حولها ما عدا جوريةً أهداها لها هو ذات يوم، إنها تكبر وتصبح أجمل، تتفتّح من أجلها كلّ صباح وتوزّع لها الشذى، هو قال هذا قبل أن يمضي، لم تكن تدرك معنى أن يرحل هو هكذا دون سابق إنذار، لكنه فعلها .. هو الآن في آخر الطريق، يراقبها من بعيد، يعلم أنها بحاجة إلى جوريةٍ أجمل، قد تكون بحاجةٍ إليه، هو لا أحد سواه، ولكنه رحل، فقط كي تكون هي بخير، أخرجت منديلها ومسحت على الجورية برفق، قبّلت منديلها، ومضت إلى العمل... هو لم يرحل بعد.



القصّة الثالثة

في حديقةٍ عامّة، يلتقي العشّاق، هو فقط من لا يلتقي بأحد، وهي في جهةٍ مقابلةٍ تنتظره منذ ثلاثين عام، لم يعد لديها شيئاً لتقوله عن الحب، المقعد الخشبيّ يمتصّ ذاكرتها بصمت، رغبتها في أن ترحل من هنا سكنت، هُنا لا أحد لتلتقي به إلاه، تنهي عملها، تمرّ بالدكّان، تشتري بعض الفستق وصندوق سجائر نسائية وبضع حبات لبان، تمضي إلى هُنا، بخطواتٍ يشبه وقعها خطوات القلب المسرعة إلى حياةٍ ما، تتأكد من عطرها، هل ما يزال غافياً في معطفها الأسود ..؟ ترتاحُ على المقعد تقضم بعض الفستق، تنهش ذاكرتها بحزن، ترمق عاشقين فتبكي، لم تتقدم بالسن كثيراً، لكن قلبها يشيخ أكثر وأكثر.
هو جالسٌ أيضاً لكنه يدرك أنها بانتظار سواه، فرّ من نفسه إليها كان خياله قد مضى إليها، جلس خياله بجانبها، ألقى التحية لم تجب! بالتأكيد لن تجيبه، هي الآن جسد وروح، وهو خيال، ترك جسده على المقعد الآخر، قرر أن يسألها: "سيّدتي.. كم الوقت..؟" إبتسمت وقالت: "ثلاثون عام".. مضى يتمتم.




القصّة الرابعة

لم تنم بعد، حجرتها الصغيرة المليئة بألوان الزهور، ستائرٌ كبساتين الورد، سقفٌ يتوسطه مصباحٌ بلونٍ أحمرٍ خافت، سريرٌ ورديّ الشراشف، ناعم الملمس، يفصلها عن الأرض بمسافة قصيرة، نافذة يطل منها البدر من خلف قطرات الماء الفضولية كأنه ينتظرها حتى تنام ليطفئ النور، هي لا تعرف النوم منذ أن غادر، تحاول النوم الآن، يربكها الماضي، تؤرقها الذكرى، هل كانت هي فتيلا أضاء الدنيا من أجله؟ أم كان هو زجاجة المصباح..؟ لم تعد قراءة الذكرى، وثبت إلى ذكرى أجمل، في فصل الشتاء يملأ المطر طرقات الحيّ، ليرسم برك الماء الصغيرة ترتوي قطرات مطر غزير لا يعرف الرحمة، كانت عائدة الى المنزل، تحمل كتب الجامعة ومراجعها الثقيلة، مظلة المطر تحاول أن تكف عنها قطرات مسرعة قاسية صلبة، تنظر قرب قدميها وتمشي مسرعة، كان هو عائدا من عمله يجرجر جسده المنهك تحت وقع المطر، بنطاله مبلل من الأسفل، كفتاه يرتشفان بعض الماء السماوي، يفكّر بكوب شاي ساخن يمنحه بعض الدفء، ارتطم جسده المنهك بكتلة أنوثة، شعر بها حين تسلل عطرها الى أنفه، عرفها .. إنها هي.
هي رفعت رأسها لتقابل بعينيها عينيه، كانت أول مره ترى فيها الشمس في عيني رجل، سقطت بين ذراعيه، سندها واعتذر، هي أيضاً حاولت لكن الصمت ألجمها، قلبها الصغير كان يردد: "أعتذر.."، لكنه لم يسمع قلبها فالمطرُ لا يهدأ وعزفه ينفرد ويعلو أكثر، غادر دون أن يترك لها عنوانه كي ترسل الإعتذار بعد أن يهدأ هذا المطر!!



القصّة الخامسة

قاعة كبيرة، تشبه المسرح، "بيانو" يتوسط المكان، وهدوءٌ يخيّم، صمت صمت صمت، هي تجلس أما البيانو، ترتدي ثوباً يرتاح على جسدها الورديّ، شعرها المنثور يغطّي كتفيها، حزنٌ يسكن عينيها، يستمر الصمت ولا يشقّه سوى أنفاسها الناعمة وتنهيدة بين الفينة والأخرى، قال لها: "سنلتقي في هذا المكان.." ومضى، هي منذ الصباح هنا، تنتظر قدومه ولم تبدأ العزف بعد، كانت تفكّر فيما لو حضر أن تبدأ العزف عند بدء اقترابه، تتخيّله - فيما لو حضر - يدخل من الباب، يرسم ابتسامةً كأنها تحية صباحية، كانت تتخيّل - فيما لو حضر - أن يمسك يدها الصغيرة، يقبّلها ثمّ يجلس قربها، ويطلب منها معزوفة أحبها، كانت تتنمى - فيما لو حضر- أن يضمّها إليه ويُنسيها عناء الإنتظار، ووجع أنين الدقائق، كانت تبتسم، وحدها، لم يحضر بعد. هو يمرّ بالمكان، لم يدخل، لا أحد بانتظاره هُنا، لماذا عليه أن يُقحم نفسه في شيءٍ لا يعنيه، أثاره هدوء المكان، أطلّ عليها، رمقها بنظرةٍ وابتسم، لم يكن هو من حضر ولم تكن هي بانتظاره.. غادر.


القصّة السادسة

هو يمرّ في المكان، الطريق ينصت لعزف الريح، يرتاح الشتاء قليلاً قبل عاصفة أخرى، جميع الأشياء مبللة بالمطر، الشمس تختفي خلف السحب، كانت السحب تعدّ لاحفتالِ مطرٍ غزير، قطة تجثو في مكان قريب، تُرْضِعُ صغارها، تموء، هو ما زال يمشي، تثيرة أجواء الشتاء، يحبّ إغفاءة المطر في السماء، تربكه الريح التي تشي بالمطر، صادفها تتكوّم باقة أنوثة على سلّم البيت، كانت تنظر إلى البعيد، تسندُ وجهها الملائكيّ على قبضة يدها الصغيرة، ترفعُ على إحدى درجات السلّم ساقاً، وتريح ساقها الثانية على الأرض، هي تعشق هذه الأرض، تحبها، تموتُ اختناقاً كلّما ابتعدت عنها، هي تحبّ الزهر والشجر والعصافير ورائحة التراب الممزوج بالمطر. إبتسم لها، صافحت عيناهُ عينيها، أخذت تحدّثه عن الأرض، كان ينصت لها ويبكي، هو ابن هذي الأرض، لكنهم في المنفى لا يسمحون بأكثر من مرور عليها، تسّربت حبات المطر من جيب السماء، عرف أنه قد حان موعد الذهاب، قالت: "إلى أين..؟" أجابها :"إلى السماء... ألا تأتين معي.؟" قالت:"أحبّ الأرض.. هذه الأرض"، نزل المطر .. ترك في قلبها قلبه، تركت في قلبهِ قلبها .. ومضى..

القصّة السابعة

كانت كثيراً ما تتحدث له عن "جودي أبوت" الفتاة الإنكليزية الحالمة بصاحب الظل الطويل، كثيراً ما تغني له:"من أنت .. يا صاحب الظل الطويل .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحياة .. حلمت بالسعادة .. حلمت بالحيـاة..وسدت الدروب .. واشتدت الخطوط .. فجئت من سراب .. فتحت لي الأبواب .. حملت لي العطايا .. لتزهر الأحـــــــــــــلام..وتضحك الأيام .. ياااااااااااا .. يا صاحب الظل الطويل .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون أشعلت بدربي الشمعة..حتى مسحت الدمعة .. فمن تكـــــــــــــــون .. من تكــــــــــــــــــــون .. أجبني من تكون .. من أنت من تكون آآآآه..يا صاحب الظل الطويل .. يا صاحب الظل الطويل"
كان ينصت لها باستغراب، لكن كلمات الأغنية تشدّه، وكأنها تتحدث عنه هو، وهي فعلاً تشبه "جودي" في جمالها وشقاوتها ومغامراتها ولطفها وأنوثتها البريئة، عندما سافر، توسّلت إليه أن يعود قريباً ليأخذها معه. بعد أعوام طويلة، هاتفها وأخبرها بأنه عائد، فاتفقا على اللقاء في ذات المكان على ذات المقعد الخشبي في ظلّ أغصان الصفصافة العجوز، وصل إلى المكان وأخذ يتخيّل شكلها، شعرها الكستنائيّ ذو الجديلتين، وجهها الملائكي المليء بالحيوية، عيونها الخضر، شقاوتها، أناقتها، عذوبة حضورها وسحر حديثها، هل يا ترى ما تزال تذكر "جودي"..؟ هل ما زالت تشبه "جودي" .. كانت تحب أن يناديها باسم "جودي"، جلس يتخيل المشهد اللحظي حين تهم بالخروج من البيت للقائه، تمشّط شعرها، ترتدي أجمل ثيابها، تلفّ وشاحها حول عنقها، تمشي مسرعةً إليه، تمشي سعيدة إليه، تداعب أوراق الشجر، تلهو مع القط العجوز، تضحك تضحك تضحك .. تسرع الخطى، تهدي الدنيا ابتسامات بريئة، تصل إلى المكان وكالعادة تتسلّق قامته الطويلة، تتعلّق بكتفيه وتصيح: "اشتقت لك كثيراً.... أيها المجنون...!". أفاق من حلمه على صوت نسائي يقول: "مرحبا .. حمداً لله على سلامتك" كانت هي لكنها كبرت، صارت أنثى هادئة، ثيابها هادئة، وقفتها هادئة، صوتها هادئ، شعرها هادئ، حديثها هادئ، شوقها .. حبها .. لهفتها .. كل شيء هادئ .. كبرت هي .. ولكن "جودي أبوت" ما زالت تنتظره في عينيها الجميلتين.

القصّة الثامنة

كانت تمرّ عبر مدخل الجامعة، كانت تسرع المشي متوجهة إلى قاعة المحاضرات، أجواء خريفية تحيط بها، أوراق الشجر منها ما يزال متمسكاً بأغصان الشجر ومنها ما سقط واستراح على الأرض، يزعجها التفكير في ردة فعله عندما تستأذنه بالدخول إلى القاعة، "ماذا سيقول اليوم يا ترى؟ قد يأمرني بالخروج وانتظاره في مكتبه كالعادة، ثم ينهال علي بالنصائح والمواعظ التي تسبب لي الصداع، قد يوبّخني أمام الطلبة، وليكن! ليته يضربني ولكن لا يحرمني من فرصة جديدة لتأمّل وجهه الجذّاب وهو يلقي محاضرته علينا، كأنه يؤدّي أغنية تطربني، بل وكأنه يتلو قصيدة حبٍ نزارية، هذا ما أشعر به فعلاً حين يبدأ هو بالحديث، ليته لا يطردني .. يا رب.." تقرأ تعاويذها الصباحية المعتادة وهي تسرع إلى القاعة، ثم عندما وصلت كان الباب موصداً، طرقته مرّة واحدة ثمّ انتظرت أن يأتي صوته من الداخل، لم تسمع شيئاً بعد، طرقت الباب مرّة أخرى أقوى بقليل، وانتظرت لتسمع صوته، لم تسمع شيئاً، همّت بفتح الباب، لتفاجأ به خلفها:"صباح الخير يا آنسة، أنتِ متأخّرة إذن؟" كان هو.. لم يعطها فرصة للرد وأردف قائلاً:"لا عليكِ .. فأنا أيضاً تأخرت .. ولهذا لن أعاقبك بالطرد .. تفضّلي .." كان لبقاً، مبتسماً، أنيقاً.. كأنه يدعوها لاحتساء فنجان قهوة في إحدى مقاهي المدينة الهادئة، لم تصدق نفسها، قالت:"شكراً لك أستاذي .. أوافق" نظر إليها مستغرباً وقال:"موافقة على ماذا يا آنسة..؟" وقتها فقط استيقظت من حلمها القصير .. "أرجوك اعذرني فقد اختلطت عليّ الأمور..!" دخل القاعة .. وهي تتبعُه بابتسامة عريضة .. وقلبٍ يخفق...

القصّة التاسعة

في حانة صغيرة، تعوّد هو أن يقضي ليله الطويل فيها، يحتسي الخمر مع رفاقه، ثمّ يستمعون إلى الغانيات يؤدّين حفلات غنائية متتابعة لا تنتهي أبداً إلا عندما يشقشق الصبح، اليوم كان ثملاً لدرجة كبيرة، رقص كثيراً، لعب كثيراً، غنّى كثيراً، بعادته لا يقترب من النساء، يحب أن يقضي ليلته بعيداً عن الفاحشة، كان في غاية السعادة، يضحك بصوتٍ عالٍ، ويخبر الرفاق عن أحداث الأسبوع الكثيرة التي مرّت به. كانت هي تعدّ الكؤوس لهم، تقف صامتة، تسكب الخمر، ولكنها لا تطلق ضحكات عاهرة كالأخريات، لا تكشف الكثير من تضاريس جسدها الأبيض، ولا تنحني أكثر من حاجتها لسكب الخمر في الكؤوس، شدّه حضورها اللطيف الهادئ، كأنها ليست من هذا المكان، كأنها ضيفة عابرة، كأنها لا تعمل هنا أو أن هذه أولى ساعات عملها في عالم الحانات، نهض وانتصب، أطلق سهام عينيه نحوها، قال:"يا حلوه .. هل تعملين هُنا..؟" تفاجأ رفاقه منه، فهذه هي المرة الأولى التي يتحرش فيها بفتاة في الحانة! قالوا: "ما بك ..؟ إنها فتاة عادية ..! ما الذي أعجبك فيها لتكسر قاعدتك!" لم يعرهم انتباهه، ثمّ كرّر السؤال عليها .. لم تجب والتزمت الصمت، ثمّ ابتعدت عنهم، لحق بها حتى استقرّا في مكان هادئ، ثم سألها من جديد: "يا آنسة .. هل أنتِ تعملين هنا من مدة طويلة؟" قالت: "وماذا يهمّك..؟" قال: "دفعني فضولي لأستفسر منكِ، فأنتِ لستِ مثل الأخريات!" قالت: "نعم أنا لستُ مثلهنّ..صدقت" قال: "ولكن كيف..؟" قالت: "هنّ عاهرات .. وأنا طالبة في كلية الطب!"


القصّة العاشرة

"أمّي .. لا أريد الذهاب إلى عيادة الأسنان، أرجوكِ يا أمّي فأنا أخاف من ذلك الكرسيّ المتحرّك ومن صوت جهاز نخر الأسنان المرعب! ولن أذهب وحدي، أرجوكِ اذهبي معي" كانت هي تردد هذه العبارة، تتوسل لوالدتها بأن لا تأخذها معها إلى طبيب الأسنان.. قالت الأم: "حبيبتي .. هذا طبيب آخر، يقولون أنه ماهر جداً، جرّبي فقط هذه المرّة، عليكِ أن تعالجي ضرسك وإلا تفاقمت المشكلة ..!" عندما دخلتا إلى الطبيب، كان شاباً وسيماً، عيناه جميلتان، عميقتان، وجههُ يشعّ نوراً، يرتدي "لابكوت" ناصع البياض، على وجهه ارتسمت ابتسامة عذبة حانية، ظلّت هي تنظر إليه، نسيت وجع ضرسها، وتوجّهت إلى الكرسي الكهربائي بكامل إرادتها، جلست أمّها على مقعد قريب منها، وبدأ هو بسؤال:"صغيرتي.. هل لكِ أن تخبريني عن مكان الألم..؟" .. صمتت قليلاً وهي تفكّر: "كيف ينعتني بالصغيرة ..؟ هل عميت عيناه عن تضاريس جسدي الجميل؟؟" أجابته: هُنا .. وهي تشير بإصبعها إلى الضرس.. هزّ رأسه وابتسم ثمّ أمرها أن تسترخي حتى لا يشتد الألم أكثر بسبب التوتر .. أمسك آلة النخر، وأدخلها في فمها، وبدأ يتحدث معها أثناء عملية المعالجة، كان صوت الآلة مزعج جداً، لكنها لم تسمع سوى صوته هو، سألها عن جامعتها، عن تخصصها، عن أحلامها، عن كل شيء ولم يسألها عن عمرها ولم يسألها عن سرّ جمال عينيها، كانت تستمع إليه وتجيب كالتلميذة النجيبة، ولم تشعر بالوقت الذي مرّ ولم تشعر بألم آلة النخر، أنهى العملية، قال لها : "حمداً لله على سلامتك صغيرتي.. الآن أنتِ جاهزة للمرحلة الثانية من العلاج .." تنهّدت أمّها وقالت: "أتمنى أن تحضر المره القادمة .. لن أعدك!" ابتسم الطبيب وقال: "بلى .. سوف تحضر .. لنكمل الحديث .." ثمّ التفت إليها وقال: "أليس كذلك ..؟" فأومأت بالقبول. بعد أيام عادت هي وحدها إلى العيادة، كانت تضع أحمر شفاه، وبعض الكحل يزيّن عينيها، ترتدي أجمل الملابس، وتبرز أنوثتها أكثر .. دخلت عليه، ألقت التحية، ردّ عليها وأمرها بالجلوس على الكرسيّ الكهربائي، أطاعته، أمسك آلة النخر من جديد، وبدأ عمله بصمت، لم يتحدث معها، بقي صامتاً طوال وقت العملية، وبعد أن أنهى عمله ابتسم لها وقال: "آنستي .. انتهت العملية ..."
همّت بالخروج، فاجأها بسؤاله قائلاً: "بالمناسبة عيناكِ جميلتان .. كم عمرك ..؟"

القصّة الحادية عشر

هذه المدينة جميلة وهادئة في الصباح الباكر، منظر البحر الأزرق من بعيد يمنحني شعوراً بالإرتياح، هنا أتنفس بعمق، أخطو برشاقة وأبحث بعيوني عن أشياء فريدة، أدخل محال بيع التحف التراثية، ولكنني لا أشتري شيئا لأن الأسعار سياحية بل جنونية.

تجلس على كرسي خشبي، أمامها مباشرة طاولة خشبية وعلى الطاولة تستقر أوعية فخارية مملوءة بالرمل، كل وعاء مملوء بكمية كبيرة من الرمل وبلون يختلف عن الرمال في الأوعية الأخرى، وهنالك الكثير من القوارير الزجاجيه المملوءة بالرمال ولكن بشكل جميل وكأن الرمال شكلت ملامح لوحات فنية تراثية رائعة، ألقيت التحية على الفتاة صاحبة المحل وطفقت أتأمل هذه اللوحات الجمالية الآسرة، لفت انتباهي أن بعض القوارير تحوي حروف لأسماء أشخاص، أسماء نساء ورجال أيضا، منقوشة باللغة الأجنبية، لفت انتباهي أيضا صندوق كرتوني مليء بالقوارير التي تحمل أسماء ولكنها تحمل نفس الإسم.."شادي".

دفعني فضولي لأن أسألها:"عفواً يا آنسة! هل هذه القوارير لشخص واحد فقط؟؟! ولماذا طلب منك صنع الكثير منها؟ هل هو أحد المترشحين للبرلمان ؟" أضفت مازحا.. هزت رأسها وقالت: "لا..هي ليست للبيع..ولكنني أصنع كل يوم قارورة لحبيبي الغائب وأضعها هنا..أحاول التخلص من هذه العادة ولكن دون جدوى" سألتها:"ولكن ما هي قصته؟" قالت: "تعرفت عليه في الجامعة، كنا زملاء دراسة في قسم فنون جميلة، أحببته كثيرا وهو أيضاً أحبني أكثر، كنا كل يوم نجلس في المرسم ونتشارك في رسم الرمال داخل القوارير الزجاجية ونهديها للزملاء والزميلات، ننقش بالرمل أسماءهم أو رسومات يقومون هم باختيارها..بعد أن تخرجنا سافر هو إلى روما ليكمل تعليمه العالي وأنا أنتظره هنا وقد امتهنت هذه المهنة منذ أن انقطعت رسائله قبل ثلاثة أعوام." بدت لي قصة خرافية أو شيء يشابه دراما تركية رومنسية! قلت لها:"ولكن..هو سافر..ولم يعد إليك..تركك للإنتظار ولهذا الحنين..ألا تحاولين نسيانه؟!!!" قالت: "بلى..إنني أحاول نسيانه منذ زمن..حتى أنني قررت اليوم أن لا أصنع له قارورة رمل..سأرسم لك واحدة باسمك .." ضحكتُ كثيراً حتى أن المارّة لاحظوا ضحكاتي الجنونية، أردفتْ:"وما الذي يضحكك يا أستاذ؟" أجبتها ضاحكاً:"آنستي الجميلة هل تعتقدين أن التوقّف عن محبّة شخص ما يكون بالتوقف عن انتظاره والحنين إليه؟؟!" قالت:"أجل! سأنساه..يجب أن أنساه.. لقت تعبت منه..إن حبه يلاحقني دائما..لم أعد أستطيع الصمود أكثر..على أن ألتفت إلى مستقبلي وحياتي والأمل القادم..سأنساه..سأنساه ..أجل أجل..." أخذت تحرك ذراعيها وكأنها تبحث عن شيء ما، بدت متوترة، بل غاضبة، ثم أمسكت بأنبوب طويل في قمته شكل مخروطي وأمسكت بإحدى القوارير وقالت:"ما اسمك؟" أجبتها:"مروان" بدأت تعمل بشكل ملفت جميل وسريع، تملأ القارورة بالقليل من الرمل الأزرق، ثم تدخل شيء يشبه الإبرة .. ثم تعاود سكب بعض الرمل الأحمر .. والأبيض .. وهكذا.. أخذت تحدثني وكأنها تبرر لي سبب تعلقها بشادي..
: "إن الفتاة يا سيد مروان لا تمنح قلبها بسهولة، ولكنها إن فعلت فاعلم أنها منحت روحها وعقلها لمن تحب.. إن المرأة الوفية قد تمضي العمر كله تنتظر حبيبها الغائب حتى يعود..إنها ترسم في خيالها عالماً مزهراً يجمعهما معاً رغمَ ما يحيط بها هي من ظروف قاسية، إن المرأة حين تحب تعطي كل ما تملك لحبيبها، وتسعى جاهدة للبقاء قربه، كيف لي أن أفسر حالتي لك؟ أنا لا أملك تفسيرا منطقيا لها..!
الغريب بالأمر أنني قد أنسى صديقة، زميل، زبون أو حتى قريب.. ولكن شادي ما زال يستحوذ على قلبي وتفكيري..أتعبني غيابه اللامبرر..لهذا قررت أن أنساه ولن أرسم اسمه بعد اليوم.."
أنهت الرسم في القارورة الزجاجية ثمّ قدمتها لي ..
لم يكن اسمي ما قرأته داخلها..ضحكتُ .. بكيتُ .. غصّت روحي
ومضيت..


القصّة الثانية عشر

أوصلوها إلى الشرفة، ترتدي فستاناً أحمراً، عِطرُها يجولُ في المكان، وجهها الأبيض المتلألئ يعكسُ ضوء الشمس فيمنح لأواني الورد بعض الدفء والكثير من النور، على زنّار الشرفة تمتدّ أواني الورود تشاركها المكان، وتنتظر معها قدومه. هو في طريقه إليها، يرتدي شوقه ويتنفّسُ حنينه وكلماتٍ يردّدها مع مطربه المفضّل المنبعث صوته من سمّاعات المركبة، توقّف عند آخر إشارة ضوئية تفصله عن بيتها، أقبلت إليه فتاة صغيرة، وجهها شاحب، وعيناها جميلتان، تسوّلت بعض نقوده، ومضت. هي تحتسي قهوة الصباح وتناغي عصفورها الملوّن، أطفال الحيّ يلعبون في الأسفل، يطلقون البراءة إلى الأعلى بأصوات ناعمة مفعمة بالأمل. وصل إلى بيتها، سمعت صوت هدير مركبته، إشرأبّ عنقها تحاول أن تراه على الطبيعة، عامان وهذا الحلم يراودها، علاقتهما الإفتراضية ستتحول بعد قليل إلى علاقة واقعية، وهذا الحبّ الساكن قلبها سيرتوي من عينيه الحياة والديمومة. رنّ جرس هاتفها، أخذته عن حافة الشرفة، أخبرته برقم الشقة، وغابت في الإنتظار. صعد إلى الشقة رقم ... طرق الباب، تأخّرت قبل فتح الباب، لكنها أخيراً أشرعته لينظر إليها على كرسيّها المتحرّك، حدّق بها، تفاجأ بها، صُدِمَ بها، فُجِعَ بها، ألقى تحيّة الوداع .. ثمَّ رحل.

القصّة الثالثة عشر

أنهت كتابة مذكراتها لهذا اليوم ثمّ أغلقت الدفتر، يتسلل ضوء الشمس إلى حجرتها من خلال نافذة صغيرة، ستائر بيضاء تحاول حجب ضوء الشمس، مكتب خشبي يستقر في الزاوية، تجلس هي خلفه على كرسيّ خشبي بنيّ اللون، بدأت الشمس تغيب، ومع غيابها يتحوّل لون الحجرة من الأصفر الفاقع إلى البرتقاليّ الداكن، شيئاً فشيئاً يحتلّ الظلام هذا النهار، وضعت ذراعيها خلف رأسها، ثمّ أراحت ظهرها على الكرسيّ، تنفّست بعمق.. مرّ في مخيّلتها، تذكر ملامحه بدقّة، أسمر البشرة، ممشوق القامة، أنيق، مهذّب الملامح، دافئ الصوت، عميق العينين، جنونيّ الحب، في البقالة صادفته يبتاعُ تبغاً ويتحدّث للبائع عن أحوال البلد، كانت تقف خلفه تتظاهرُ بانتظار أن ينهي حديثه، إلا أنها وفي قرارة نفسها تتمنى أن يطيل الحديث، وأن يطيل الوقفة، وأن لا يرحل، صوته يملأ روحها بالدفء، وحضوره يرهق قلبها الشغوف المنتظر.. إلتفت إليها واعتذر عن تأخيرها، شكرته بابتسامة ومضى، ظلّت تذهب إلى البقالة فقط من أجل أن تنعم بفرصة لقائه، لكنه لم يأتِ، كانت بأمس الحاجة إلى صوته وحضوره، رغم أنها لا تعرفه ولا تعرف اسمه حتى! لكن شيئاً ما جذبها إليه. أعادت ذراعيها مشبّكةً أصابع كفّيها وواضعة إياهما على الدفتر .. أقسمت لنفسها أنها سوف تلتقي به اليوم .. أقسمت لنفسها أن الصدفة لا بد أن تتكرر، إرتدت ملابسها، أغلقت حجرتها، هبطت إلى الطابق السفلي من المنزل بخطوات بطيئة، تتخيّل مشاهد الصدفة التي لم تأتِ بعد، فتحت الباب، كان بانتظارها، شهقت : أنت...؟

موسى المحمود 08-16-2021 09:25 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
القصّة الرابعة عشر

في طريقها إلى موقف الحافلات، كانت السماء تلملم الغمام من هنا وهناك وكأنها تحضّر لاحتفالٍ مطريّ، شوارع المدينة متعطشة للمطر، جلست على مقعد تعلوه مظلة، أخرجت من حقيبتها زجاجة عطر، خرج العطر زفيراً من الزجاجة فاستقرّ في ثيابها، وضعت ساقاً على ساقٍ، وانتظرت قدوم الحافلة، أسندت رأسها على كفّها اليمنى، واستقرّ كوعُها الأيمن على ساقها، تنظر في آخر الطريق، علّها تلمح الحافلة. كان هو يمشي مسرعاً، كي لا تفوته الحافلة، وصل إلى المكان، جلس على المقعد ومارس الإنتظار مثلها تماماً، شعرت به، بدأت تفكر: "ماذا لو القى التحية..؟ أليس من الذوق أن يلقي التحية!" بدأ يفكر: "هذه فتاة غريبة، علمت بقدومي ولم تلتفت إليّ، هل ألقي التحية عليها..؟" هي: "عليّ أن لا أعيره انتباهاً، حين تصل الحافلة، سأصعد إليها ولن ألتفت إليه، سأتجاهل وجوده، سأعاقبه على فعلته هذه.." هو: "عندما تصل الحافلة، سألقي عليها التحية بسرعة، ثمّ أصعد، لالا سأنتظرها حتى تصعد، ثم أصعد أنا" هي: " في الحافلة .. سيحاول إلقاء التحية بعينيه، لن أردّ عليه التحية، لقد أضاع الفرصة هُنا .. نحن هُنا وحدنا، آآآآه ما هذا!!!" هو: "سأجلسُ قربها، لا .. سأجلس بعيداً عنها، قد يخطر ببالها أنني أكترث بأمرها!" هي: "ولكن لماذا لا أبادره أنا .. وألقي عليه تحية الصباح.. سأقول له مثلا صباح الخير .. يبتسم هو ويقول صباح النور .. ثم نبدأ الحديث .. ؟ لالا .. لن أمنحه هذه الفرصة .. هو الرجل وعليه أن يبادر! يا الله ماذا أفعل..؟" هو: "كان عليّ أن ألقي التحية عليها فور وصولي إلى المكان، عليّ أن أفعلها الآن .. تبدو فتاة جميلة، هادئة، عطرها يأسرني .. " تململ قليلاً في مكانه، ثم قال مبتسماً: "صباح الخير ...." إلتفتَتْ إليه مبتسمة أيضاً: "صباح النور ..."
وصلت الحافلات جميعها، توقفت عند المكان، أخذت تتلفت هنا وهناك تبحث عن الحافلة المناسبة، هو أيضاً فعل ذلك .. كان يراقبها وكانت تراقبه بسرية تامة، هي صعدت إلى الحافلة، وهو صعد إلى حافلة أخرى ... إفترقا.

القصّة الخامسة عشر

"أدخِلوه إلى هُنا" هكذا صرخت آمرةً جنود الحراسة، ترتدي ثياباً عسكرية، شاراتها الكثيرة تملأ صدرها وكتفيها، عيناها الجميلتان تلتهب شراً وحقداً على من تسميهم (مخرّبين)، تجلس خلف مكتبها المغطى برماد السجائر المتناثر كالثلج، منفضة تمتلئ بأعقاب السجائر، وفضاء الغرفة ضباب كثيف تشوبه زرقة ضوء تسلل من نافذةٍ عالية تسمح لبعض خيوط الشمس بالتسلل إلى الداخل، أدخَلوه إليها، في الثلاثين من العمر، طويل القامة، حنطيّ البشرة، آسرُ الحضورِ، هادئ. نظرت إليه، تأمّلت وجهه، تأمّلت وشاحاً يلفّ عنقه، ثيابه المتسخة بآثار أحذية حرّاسها، أمرته أن يجلس، ثمّ أمرت حراسها بالإنصراف، كانا معاً هي وهو في غرفة التحقيق، هي بجمال عينيها، وتضاريس جسدها الذي يكاد ينفجر أنوثةً داخل ملابسها، وهو بصمته المستفزّ، وهدوئه اللامبالي، قالت : "أنت فلسطيني..؟" هزّ رأسه مقرّاً. إنتصبت فجأةً وأمسكت بسوطها، رفعته إلى الأعلى وهوت بهِ على الطاولة غاضبة: "سألتك .. فأجبني ولا تومئ ...!".. إبتسم ثمّ قال: "عيناكِ جميلتان .. رغم جنونك .. هل أنتِ غاضبة..؟" وثبت إليه، قبضت بكفّيها الناعمتين على عنقه:"هل تغازلني أيها الأبله!" أمسك يديها وأزالهما عن عنقه: "لا .. إنما أسخر من نفسي .. فبعد عشرة أعوام من النضال .. تعتقلني إمرأة بهذا الحسن والرقة!" هدأت ثورتها .. عادت إلى مكانها، تنهّدت بعمق، أرخت جسدها الطريّ على المقعد .. حدّقت في السقف .. همس لها: "أنتِ عربية .. أليس كذلك ..؟" قالت مرتبكةً: "أنا إسرائيلية .." فاجأها وأمسك يدها التي تحمل السياط ثمّ قال: "أنتِ عربية تعمل في جيش إسرائيل..!" كان وقعُ كلماته كجلدات السياط على قلبها، شعرت بتلك الجلدات .. وانهارت تبكي : " ماذا تريد منّي..! كل شيء تغيّر .. قتلوا أبي وأمّي وإخوتي وزوجي .. لم يبقَ لي سوى أبنائي .. فهل تريدني أن أفرّط بهم ..؟؟؟" سحب السياط من كفّها، نظر في عينيها، صرخ : "خائنة إذاً ..؟" صرخت : "نعم .. خائنة ... خائنة .. خائنة ..." فانهال عليها جالداً .. بلا شفقة .. وهي تغتسلُ بالجلدات من جنابة خيانتها منتشيةً صامتة.

القصّة السادسة عشر

بدأت الثلوج بالتساقط، كانت هي واقفة خلف النافذة، تتكئ على حافّتها، وأنفاسها تصنع طبقة بخار على زجاج النافذة، تارةً تزيله بكمّ ردائها، وتارةً تزيله بيدها، خلف الزجاج كانت الأرض تتلوّن بالأبيض شيئاً فشيئاً حتى غطّاها البياض، غطّى الأعشاب، الحجارة الصغيرة، التراب، نزل أولاد الحيّ إلى الشارع، يرتدون قبّعات الصوف على رؤوسهم، يلفّون أعناقهم ووجوهَهُم بالأوشحة الصوفية، يلعبون هنا وهناك، ما زالت واقفة، تراقب هذا المشهد الشتويّ الدافئ! دعاها الجميع لأن تشاركهم اللعب، كانت خائفة منهم، تعلم أنهم ينتظرون هذه الفرصة للإنقضاض عليها ورشقها بكريات الثلج البيضاء الباردة، بينما هم يلعبون، أتى هو من بعيد يشقّ الثلج بساقيه، يلوّح لها ويبتسم، أشرق وجهها بابتسامةٍ أذابت من حرارتها كلّ الثلوج، وأزهرت لبراءة قلبها كلّ ورود الحيّ، أقبلَ الربيع لحظةً في عينيها، خرجت طيور الدنيا من أعشاشها تغرّد، إنتفضت الأشجار ونفضت عنها الثلج، عاد الدفء إلى قلبها، كانت أطراف أصابعها تنبض إحتفاءً بمصافحةٍ مرتقبة، فتحت النافذة، لوّحت له بيدها، نسيت البرد، والخوف، والجميع .. ثمَّ وثبت مسرعةً إليه.

القصّة السابعة عشر

في ذلك اليوم الربيعيّ البعيد، صادفتهُ في المكتبة، كان يلتهمُ ديوانَ شعرٍ نزاريّ، يرتاحُ بينَ أبياته الورديّة، يدعو في كلّ شهقةٍ جزيئات الهواء، ويبتسم. جلست قربه، كانت حذرة، لا يشبه الآخرين أبداً، قصّة شعرهِ تقليديّة، هندامه بسيطٌ جذّاب، عطرهُ من عصور الياسمين القديمة، أشرعت أمامها روايةً لأغاثا كريستي، جريمة أخرى من جرائمها الغامضة، في قطار الشرق تقرأ ملامح أحد أبطالها، ثمّ ترفعُ عينيها برفقٍ وخفية وتقارن، كان هو يشبه ذاك البطل .. بطل الرواية، صارت تُكثرُ النظر إليهِ صفحةً بعد صفحة، تقلبُ صفحةً ثمّ تنظرُ إليهِ دقيقة، لم يكُ هو يشعر بما يدور حوله، كان غارقاً في بحرٍ ياسمينيّ دمشقيّ، أصبح يُداعب الهواء بسبّابته، كأنّه يؤلّفُ لحناً جديداً لقصيدةٍ يلتهمها، أصابها الإحباط، كيفَ لم يلتفت بعدُ إليها؟ ربّما لم تكن كميّة العطر كافيةً لأن يشمّ رائحتها الساحرة من مقعده البعيد، أو ربّما عطرهُ القديمُ يطغى على عِطرها الحديث، لا شكّ أنّ القديم دائماً ينتصر، حتى هذا العطر ... إنتصر. أرادت أن تلفت انتباهه، فأسقطت الكتاب على الأرض، ثمّ همست بصوتٍ مسموعٍ:"أفففففففف .. يا الله!" لم يلتفت إليها، كان ما يزال غارقاً في بحره الممتدّ من قلب نزار قبّاني إلى آخر خلاياه العاشقة، كرّرت إسقاط الكتاب، لم يلتفت.. أثارها وجرح كبريائها، وقفت ومشت إليهِ تحملُ روايتها .. وعتاباً في عينيها قد يشعل المكان، مرّت من أمامِهِ فمرّ عِطرُها مصاحِباً ظلّها، واستقرّ في أنفه، إلتفتَ أخيراً ثمّ ابتسمت .. فابتسمت .. وتوقّفت إلى جانبه، سألته: "هل أنتَ مهووسٌ بقصائد نزار ..؟" تلاشت ابتسامته، تناثرت أبياتُ نزارٍ من حوله وابتعدت كعصافيرٍ جفلت وحلّقت بعيداً بعيداً .. ثمّ أومأَ : "إنّني .. أصمٌ .. أبكم!" سقطت الرواية من يدها .. ولحقت بها دمعة أشعلت المكان ...


القصّة الثامنة عشر

على الغصنِ الغضّ، كانَ يقف، تؤرجِحُهُ نسمات الهواء، ينفش ريشه ثم ينتفض بخفّة، ويُعيدُ لملمةَ ريشه كما كان، ليظهر أجمل وأكثر رتابةً، ريشهُ الأخضر الداكن كمعطفٍ جميل يلفّ جسمه النحيل .. رأسهُ أخضرٌ أيضاً لولا بقعتين بلونٍ أحمر فاتح تزيّن خدّيه. هي تجلسُ كعادتها على كرسيّها المقصّب، ترتاحُ في ظلّ هذه الشجرة المعمّرة، وتتأمّل صباحاً جديداً تعيشه في هذا القصر الكبير، كان ينظرُ إليها بحذر وريبة، يحاولُ حفظ ملامح وجهها الجميل كي يحكي لرفيقهِ الأحمر عن جمالها الأخّاذ الآسر، ثمّ إنه ومنذ أيّامٍ قليلة يفكّرُ في البقاء هنا بجانبها، يشعر أنّها وحيدة .. لحمته من بعيدٍ فأعجبها لون ريشه الجميل، وجذبتها إليه ظرافته وهو يحدّق بها كأنّه يعرفها، يُديرُ رأسه فوق عنقه كي يتمكن من رؤيتها من خلف الأغصان المتشابكة، أرادت أن تُبقيه معها، أمامها، كي تتأمّل منظره الجميل كلّ صباح، أمرت بإحضار قفص بلون ريشه، ثمّ فكّرت لو أنها تدعوه غداً لتناول الإفطار معها، ستبذر له بعض حبّات عبّاد الشمس.. سمع العصفورُ الأخضر ما كانت تهمس به لنفسها، فطار سعادةً وحلّق عائداً إلى دياره كي يودّع صديقه الأحمر ويعود إليها، في اليوم التالي جاء يرافقه الأحمر، كان صديقه متشوّقا لرؤية هذه الحسناء التي أفقدت الأخضر عقله فقرر أن يعيش حياته في قفص ليستغني بهذا عن حريته وجمال دياره، وقفا على الغصنّ الغضّ .. نفشا ريشيهما .. غرّدا قليلاً .. دعتهما إليها .. قالت: "هيتا لكما .. " أمسكت بالأحمر .. فقد أعجبها أكثر.. أسكنتهُ القفص الأخضر .. وظلّ الأخضرُ يصلّي قربها.. أملاً بأن يموت الأحمر يوماً ما .. ليحظى هو بالقفص .. ونظرة إعجابٍ منها تخصّه بها وحده.

القصّة التاسعة عشر

في شارعٍ معتم، لا يُرى الظلُّ فيهِ، ولا يُسمَعُ إلا عواء ذئابٍ بشريّة تبحثُ عن ملاذٍ لشهواتِها المتعطّشة، في تلك العتمة، عيونٌ فقط. كانت تخطو هيَ مثلَ فراشة ليل، لا تدري كيف زُجَّ بأنوثتها الصارخة في هذا الشارع. تشقّ عواء الذئاب، بصوت نقرات كعبِ حذائها على الأسفلت البارد، وتشدّ ذاك الوشاح أكثر فأكثر .. علّه يسترُ بياضَ قلبها الخائف. بدأ العواء يقترب أكثر، والعيون تتكاثر من حولها، ظلّت تمشي، تنقرُ الأسفلت البارد، وتشدّ الوشاح أكثر، وتبكي أنوثتها المصلوبة على هذا الشارع المقيّدة بأقدامهم والمنتظرة وجه الله في السماء! إقترب الخوفُ من حافّة القلب وكادَ ينسكبُ شلالَ رعبٍ غزيرٍ ساقطْ .. ساقط..تنسابُ في الشارعِ أكثر .. تُسرعُ الخطى إلى حتفها .. لا لشيء .. ولكن لأنها في الموتِ أيضاً تكره الإنتظار ...كادَ الليلُ أن يُمسكَ حبلَ ستائر الفجر، لكنّ العتمة تشدّه أكثر .. فيفشل .. كان هو عائداً من معركةٍ قتل فيها ذئاباً كثيرةً، متعباً كانَ وغاضباً.. فاستراحَ على أحد أكتافِ الشارع .. كانَ بعيداً، بعيداً، لكنّ رائحة الدمّ تفوحُ منه، وتتسلل إلى كل شيء .. أسندَ الرشّاشَ، واستراحَ يفكّر، حتى سمع خطاها .. فاستفاقَ وانتصب..غزى بعينيه عيون الذئاب، عرفوهُ، أسرعوا إليها، أسرعوا إليها أكثر .. أمسكوا بخيطٍ يتدلّى من وشاحها، أسرع إليها، أسرع أكثر، مدّ يده، جاء حتفُه غدراً، سقطَ الليلُ في أحضانِ العتمة، أسلمَ الليلُ فجرهُ لشهوة العتمة، وانهارت هي.

القصّة العشرون

على قارعة الطريق، نُبِذَت هي ورضيعتها، تبيعُ المناديل كي تحصل على قوت يومها، فتملأ ثدييها بعض الحليب لإسكات جوع الرضيعة التي لا تتوقّف عن البكاء إلا حينَ تُلقمها أمُّها هذا الصغير المتشقق من صقيع المدينة وبرد قلوبهم القارص. تتكوّر على طفلتها لتمنحها بعض الدفء والقليل القليل مما خبّأته من الحليب في صدرها. باغتها هدير المركبة التي توقّفت بمحاذاتها، نظرت إلى عجلاتها اللامعة، فعرفت أنها صاحبة الوجه الذي انعكست صورته على العجلة السوداء، منذ زمن لم ترَ وجهها الجميل ولا حتى انعكاسة صورته. ما زالت تتمتّع ببعض الجمال، عيناها الغارقتان في تعبٍ شديد، شعرها الأشقر المتقصّف، وشفتاها البارزتان على سطح وجهٍ نحتت الأيّام القاسية عليه بصماتها. رفعت عيناها ليظهر خياله من خلف زجاجٍ معتم، إشرأبّ عنقها تحاول قنص ملامحه، حدّقت أكثر، أرخت ذراعيها فانكشفت الرضيعة للعراء، مدّت يدها ونبّهته كما تفعل مع باقي الزبائن حين تعرض مناديلها للبيع، لكنّها في هذه المرّة كانت تنظر إلى زبونها وتمعن النظر، هبط الزجاج الأسود المعتم، هبطَ تدريجياً، ببطء، بغرور وكِبْر، إلتفت إليها الزبون الجديد، ونهرها قائلا: "الله يبعث لك .. روحي من هون .. بدي أمشي" عرفت الصوت، كان هو، تغيّر لون وجهها، وتغيّر لون الإشارة الضوئية إلى الأخضر، إرتفع صوت هدير المركبة، تحرّكت العجلات، رحل وجهها مع العجلات، صعد الزجاجُ الأسود المعتم من جديد بسرعة وخوف، ظلّت تجري وراء المركبة، تصرخ وهي تنادي عليه وقد ابتعد : "هذه أنا .. وهذه ابنتك .. أين تذهب ولمن تتركنا......؟؟؟؟؟"

القصّة الحادية والعشرون

صباحٌ جديد، صباحٌ آخر يُشرِعُ بوّابة الدنيا المظلمة، ويشقّ بنوره العتمة في كلّ مكان، تستيقظ العصافير على قِمَمِ شجر السرو الشاهق الذي يتوسّط شارع هذا الحيّ الراقي الهادئ، فيفصلُ مسربيّ الشارع عن بعضهما، ما زالت الستائر مسدلة خلف شبابيك تلك البيوت المترامية على جانبي الشارع، البيوت التي ترتدي قبعات القرميد الأحمر وتنعم بالسلام والنِعَم. كانت هي تدفعُ عربةً خشبيّة محمّلة بالخضار والفواكه، فتاة في مقتبل العمر، لم تغطِّ أتربةٌ الطرقاتِ الكثيرة جمال وجهها الملس، بيد أنّ أناملها بدأت تخشن جرّاء احتكاكها بالخشب الجافّ، تُنادي بصوتها الفيروزيّ على بضاعتها، تسمّي كل صنفٍ باسمه وتُتْبِعُـهُ بصفةٍ جاذبة، يغطّي جسدها ثوبٌ أسود، وعلى جدائلها الشقر يرتاحُ شالٌ أبيض كاد ينزلق من شدّة نعومة شعرها. مرّ بها، فالتهبت مشاعرهُ وانتفضت حواسّه واتّجهت جوارحهُ إليها، أوقفها وبدأ يتأمّل بضاعتها، كانَت شفاهُها أشهى من ذاك التفّاح الأحمر الممدّد بدلالٍ على ظهر العربة، وأندى من قطوف العنب المبللة بندى الصباح، كانت تعلم أنّ جسدها الجميل هو أيضاً أحد أسباب اجتذاب الزبائن لشراء بضاعتها، وأنّ لكلّ زبونٍ نصيبٌ من هذا الجسد، حتى أناملها المتشقق جلدها لم تنجُ من نظراتهم. سألها: "بكم كيلو الموز..؟" فأجابته وانتظرت السؤال التالي، ولكنه فاجأها حينَ أمسك يدها وكرّر السؤال ذاته، فعرفت حينئذ أنهُ أحد الزبائن، سحبت يدها من يده، وانحنت لتجلب شيئاً من بطن العربة، فخاف وارتعد، وهمّ بالرحيل مسرعاً، لكنها نادتهُ : "هذا الكرت .. عليهِ عنوان الشقة .. أنتظرك اليوم بعد الثامنة .. لا تتأخّر"


القصّة الثانية والعشرون

تكالبت الهموم على صدره حتى بات لا يفكّر بشيءٍ إلا فيها، فمنذ أن غادرته والحنين يحاصره من كلّ الإتجاهات، تارةً يخرجُ له من كتاب الشعر، وتارةً أخرى يتربّع على سطح مكتبه فوق معاملات المواطنين المتكدّسة، وتارةً يقتحم عليه خلوته وهو جالسٌ في بيت الخلاء، وتارةً ينزل عليهِ مع حبّات المطر الباردة في ليلةٍ ماطرة، وتارةً يستقرّ تحت أذنه وهو يحاول الخلود إلى النوم، حاول بشتّى الوسائل أن يتخلّص من الحنين إليها، وأن يتحرّر من حبّها العَلِقِ بقلبهِ، وأن يحرق جميع رسائلها الحميمية التي لا تخلو من أبيات الشعر الغزلية وكلمات الأغاني العاطفية، لكنه كان دائماً يفشل ويفشل ويفشل، حتى صار فشل نسيانها عائق أمام طموحاته، كأنّ حبّها طفلٌ لقيط أيقظ ضميره فتورّط هو بالبقيّة، وكأن حبّها مساميرٌ دُقّت في جسده فانغرست حتى مرّت تقطّع شرايينه واحداً تلو الآخر حتى استقرّت على جدار الذكريات وثبّتته فيه. وفي لحظةٍ مجنونة قرّر أن يتخلّص من قلبه، فشقّ صدرهُ بسكّين النسيان، وأخرج قلبهُ ثمّ أودعه صندوق الثلاجة في المطبخ، ومضى إلى عمله في ذلك اليوم بلا قلب، مرّ على الأزهار التي كان دائماً يلقي عليها تحية الصباح ولم يلتفت لها، مرّ على متسوّل ضيّعته السنين على أرصفة الجوع ولم يلقِ لهُ قطعة نقود واحدة ولا حتى فلس، أدار محرّك السيّارة ولم يشعل المذياع لسماع صوت فيروز الذي ينتظره في كلّ صباحٍ عبر الأثير القادم من البعيد، مرّ في طريقه إلى العمل بطفلة تقف على إشارة المرور ولم يرقّ لها قلبه، فقد تخلّص منه هذا الصباح، وقلبه الآن في صندوق الثلاجة، أشرع باب مكتبه وانتظر قهوة الصباح وطفق يتصفّح الصحف اليومية، قلب صفحة الوفيّات دون أن يتلو آية الفاتحة على أرواح من غابوا إلى عالمٍ آخر، قلب صفحة الشعر والقصص القصيرة ولم يتوقّف ولو لثانيةٍ فقط كي يتلو على نفسه بعض الحب والحنين، أشعل لفافة التبغ، وباشر العمل، معاملات كثيرة كانت متكدّسة على سطح مكتبه تلاشت خلال ساعات وانتهت، عند المساء، جاءت هي .. هي ذاتها .. من غادرته فنُفيَ قلبهُ بعدها إلى صندوق الثلاجة، ألقت عليه تحية المساء، فالتفت إليها ببرود وردّ عليها التحية، تفاجأت بردّة فعله، صرخت متسائلة : "أين ذهبتَ بقلبك؟" تحسّس صدره كان فارغاً، موحشاً ومُعتِماً.

محمد أبو الفضل سحبان 08-17-2021 12:14 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
مجموعة قصصية ماتعة تغري بالمتابعة ..
لغة جميلة لا تكلف فيها وأسلوب رشيق وآسر..
ولنا عودة إن شاء الله للقراءة والتقييم اللذين تستحقهما هذه النصوص الرائعة مبنى ومعنى..
مرحبا بك أخي موسى أستاذا ناقدا وقاصا مبدعا وبحرفك الوضاح الذي أنار المنبر..
محبتي.

موسى المحمود 08-17-2021 09:35 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 309566)
مجموعة قصصية ماتعة تغري بالمتابعة ..
لغة جميلة لا تكلف فيها وأسلوب رشيق وآسر..
ولنا عودة إن شاء الله للقراءة والتقييم اللذين تستحقهما هذه النصوص الرائعة مبنى ومعنى..
مرحبا بك أخي موسى أستاذا ناقدا وقاصا مبدعا وبحرفك الوضاح الذي أنار المنبر..
محبتي.

الأستاذ الفاضل محمد، أسعد الله صباحك
أسعدني حضورك، أمّا ما يخص النقد والتقييم فهذه كبيرة عليّ،
ما زلنا نتعلم منكم

تحياتي

موسى المحمود 08-17-2021 12:18 PM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
القصّة الثالثة والعشرون

أسلمت لنسائم الصباح جدائلها حين أطلّت من نافذة بيتها مشرعةً إياها تستقبلُ خيوط الشمس التي تكوّمت أمام النافذة تنتظر الحسناء لتطلّ على الدنيا هذا الصباح، في حديقة المنزل تطاولت شجيرات الورد بقبّعاتها مختلفة الألوان وعطورها الشهية مستقبلةً وجه الحسناء المتلألئ وعينيها الجميلتين الناعستين القابعتين في جفونها.
مرّ هو في طريقه إلى العمل، كان مسرعاً، ينجز الخطوتين بخطوة، أنيق الهندام، يحمل حقيبةً صغيرة، وبين شفتيه تهتزّ لفافة تبغ ملأت محيطه بالدخان، وعبقه مختلطاً برائحة عطره الفرنسيّ.

كان الآخرُ، يجلسُ أمام منزلها، ينتظرُ إشراقتها المعتادة كلّ صباح، يقرأ كتاباً عن الحبّ، كان منغمساً في حنينهِ إليها، يتلو على مسامع المارّة ما جاء في كتاب الحب، تارةً تبتسم له الحروف، وتارةً أخرى تصفعه بقوّة، يضع أمامه تماماً قبّعة سوداء فيها تجمّعت نقود معدنية، ألقاها المارّة من ابتسموا لحروف الحبّ في تلاوته أو من تلذّذوا بصفعات الحبّ أيضاً، متسوّلٌ هذا الآخرُ وترانيمه حروف كتاب حب.

لمحهُ الأنيقُ على هذه الهيئة فتوقّف، وابتاع منه ابتسامةً، همّ بإلقاء قطعة نقدية في القبّعة، إلا أنّ الحسناء وصلت في تلك اللحظة هابطةً من منزلها الجميل، مارّة بالورود والزهور والعصافير، تعلّق في جدائل شعرها خيوط الشمس، تمسك في يدها وردة، كادت تذوب من نعومة يدها، ألقت تحية الصباح.

إلتفت الأنيق نحوها، وما تزال قطعة النقود في يدهِ تتدلّى قبل لحظة السقوط في قبّعة الأخر، أسرّ لنفسه: "قبلة من حسناء .. تغني عن ابتسامة حب" أسرّ الآخر لنفسه : "وردة من حسنائي .. قد تكفيني العمر ابتساماً" أسرّت الحسناءُ لنفسها: "وردة للمتسوّل المقيم الـ ينتظرني في كلّ صباح.. تساوي ملايين القبل من شفاه أنيقٍ مارق"
منحت وردتها للآخر المتسوّل .. ثمّ مَضت

القصّة الرابعة والعشرون

كانتْ تحبّه قبل أن يموت، حتى أنها عند موته رفضت دفنه، وصنعت منه مومياء، ثمّ أسكنت جسده صندوقَ زجاج، سكتَ الرجلُ المومياء أعواماً كثيرةً، قبل أن يخرج عن صمتهِ، ويبدأ العزف، لماذا بدأ العزف..؟ ربما لأن الشيطان دخل حجرتها، وبدأ يراودها عن نفسها، فانتفض الحبّ في جسد الرجل المومياء، وبدأ العزف، ربما لأنها بدأت تتعوّد غيابه الحاضر في مومياء صنعتها، ربما لأنه اشتاق القبر، عندما قتلته، لم تفكّر إلا بكرامتها، ولكنها لم تحرق جسده، بل أبقته أمامها في هذا الصندوق الزجاجي، فقط كي تبتسم كلّما رأته يعزف ويبكي! في غمرة ابتسامتها الصفراء، غمز لها الشيطان بعينه فاشتعلت أنوثتها، أخرجت علبة الثقاب من جيب حقيبتها، سحبتْ عوداً .. ومرّرته على قلبها الحارّ، فاشتعل المكانُ أنوثه، هو ما زال يعزف على أوتار القماش، مومياء، الموتُ سبق الحب منذ زمن، اشتعل المكان، اشتعلت الأرض والسماء والهواء والعطر، اشتعلت أنفاسها، قبّلت هواء المكان، لم يرحل الشيطان، أمطرت المكان بالدموع، لم تنطفئ النار، جلس الشيطانُ بجانبها، وابتسم، فانتفضت أنوثتها وارتعدت خصلات شعرها، فقأ عينها .. توقّف الرجلُ المومياء عن العزف .. حملت شيطاناً .. وأسمتهُ "مومياء" انتقاماً.

القصّة الخامسة والعشرون

كان الفرح يغمر قلبها، تخطو برشاقةٍ مثل الفراشة، عائدةً إلى المنزل، تحمل في يدها الناعمة ورقة بيضاء طُبِعَتْ عليها نتائج اختبار الثانوية العامة، تقديرها الممتاز سيؤهلها لدخول كلية الطب في أكبر وأعرق الجامعات في بلدها، في طريقها إلى المنزل تتراقص جديلتان شقراوتان فوق رأسها، ويعبّ ثوبها المرقّع من الهواء البارد ما يكفي جسدها كي يتجمّد، لكنّ فرحتها ولهفتها للقاء الحب والسعادة في عيون والدها تمنحها الكثير من الدفء، صارت تتخيّل لحظة لقائه، سيكون واقفاً على عبتة المنزل، لا يأبه بمن يمرّ أمامه من الناس، يفكّر بها ويتشوّق للقاء طبيبة العائلة الفقيرة، قد يهوي مغشياً عليه من فرحته، ربّما يكون الآن قد حضّر باقات كثيرة من الورد الأحمر الذي يبيعه في السوق على باب المنزل، وربما رشّ الكثير من العطر في هواء المنزل احتفالاً بطفلته الصغيرة، لن يتمكّن حزنه على زوجته التي توفّت العام الماضي من إفساد هذه الفرحة، لن يتمكّن الفقر المضقع من سلب سعادته بهذا اليوم الرائع، ما زالت تتخيّل تلك اللحظة وتبتسم وهي تخطو، ماذا ستفعل عندما تلقاه .. ؟ ربّما عليها أن تترك نفسها في أحضانه الدافئة لبضعة دقائق، أو ربما لن تكفيها قُبَلُ الدنيا على يديه ووجنتيه. وصلت إلى المنزل، لم تجد والدها، ولم تجد باقات الورد الأحمر، ولم يتسلل أيّ عطرٍ عبر أنفها، سألت عنه المارّة، لم يجبها أحد، ترقرق الدمعُ في عينيها، أسرعت الخطة نحو السوق، وجدته يبيع الورد الأحمر لفتيات الأحياء الراقية، وينادي على الورد كأنّه يغنّي، وتغمره السعادة لما حققه من ربح في "عيد الحب" متجاهلاً فتاته الصغيرة، وفرحتها الموؤودة.

القصّة السادسة والعشرون

في هذه الصالة الكبيرة، وحدها هي تقبع خلف مكتبها، تستقرّ على الكرسيّ الأسود، وعيناها تحدّقان في شاشة أمامها، أخبرتها زميلتها في الطابق العلويّ أنّه يخفي سراً عنهم، خبراً سعيداً،لم يتوقّف قلبها عن الخفقان منذ ليلة البارحة، كانت تعلم أنّ هذه اللحظة آتيةٌ لا محال، وأنّ نظراته الحانية، وهمساته الدافئة لم تكن مجرّد إيماءات زائفة، بل حقيقة تقول أنه يحبّها،تنتظر أن يخطو إليها، كعادته، يخطو إليها كالفرسان، وينحني لها، ثمّ يمسك بيدها ويقبّلها راجياً أن تقبل به زوجاً لها ..هبط من الطابق العلويّ، يحمل أوراقاً كثيرة، والجميع حوله يدفعون به وكانّهم يشجّعونه لأمرٍ ما، خفق قلبها أكثر،واقترب منها، ظلّه يسبق جسده، وعطره يتشبّث بالهواء، ويحبط محاولات الياسمين الغارق في الإناء. وصل إليها، فاستقرّت عيناها في عينيه..أمسك يدها، قبّل يدها، جلس ..قال: سوفَ أشتاقُ لكِ .. في بلاد الغربة .. ودّعها .. ثمّ غاب

القصّة السابعة والعشرون

على حافة الجدار العلويّة، تُرِكَتْ عصفورةٌ جميلة للإنتظار، لم يعد عصفورها من رحلته، بدأت السماءُ تمطر، تبلّل الجدار، تبلّل ريشها، لم تخطُ خطوةً واحدة، ما زالت تنتظره، تتلفّت يمنةً ويسرةً باحثةً عنه في الأفق البعيد، أمّا هي، فكانت تُمسكُ كوباً من الشّاي الساخن، وتنتظرُ معها عودتهُ، عودة العصفور، تُسنِدُ ذراعاً على حافة النافذة من الداخل، وترفعُ كوب الشّاي إلى فهمها حيناً بعد حين. لماذا تذكّرها هذه العصفورة بما حدث لها قبل أن يسافر هو في رحلةٍ طويلة، ظنّت أن غيبته لن تطول، لكن ها هو العام العاشر ينقضي منذ رحيله، ولم يعد بعد، الفرق بينها وبين هذه العصفورة أنّها ليست حرّه، والفرق بينه وبين العصفور أنه ليس وفياً لعشّه، حتى العصافيرُ المهاجرة تتحلّى ببعض الوفاء تجاه أعشاشها، أمّا هو فعشرة أعوامٍ دون خبر أو مكتوب يطمئنُ قلبها الذي يتجمّد في برد الإنتظار، لم يغمض لها جفن منذ أن رحل، لم تتوقف دموعها عن الإنهمار منذ أن رحل، لماذا لا يتعلّم الرجال من العصافير فنّ الوفاء والحب..؟ نظرت من جديد إلى العصفورة المبللة بالمطر، ربّما كانت تستحم، تُسلّي نفسها، قطرات الماء الهاطلة تتفجّر فوق ريشها فتنثر الماء نثراً، لماذا لا تحتمي هذه العصفورة بغصنِ شجرة، أو بسقفِ عش..؟ مثلي ..؟ هل تحاولُ الإنتحار في غيابه..؟ أم أنها تزيدُ من رصيد العتاب..؟ عليها أن تختبئ قبل أن تموت برداً، ربما عليّ أنا أن أنبّهها .. هل يستحق الذكورُ كل هذا الوفاء ..؟ خرجت من المنزل، تحمل مظلّة المطر، تخطو نحو الجدار، وتلوّح بيدها للعصفورة كي ترحل وتبحث لها عن مكانٍ تختبئ فيه، همّت بالإقتراب لولا أنّها رأت ما صعقها! كان العصفورُ جريحاً على الأرض، ينتفضُ من البرد، والقطّ الشرير يقتربُ بحذر من العصفورة التي تضحّي بنفسها كي لا يلتفت القطّ الشرير نحو عصفورها الجريح .. ظلّت هي تحت المطر .. تبكي والدموعُ تنهمر.

القصّة الثامنة والعشرون

كعادتها، تخرجُ من بيتها متأنّقة، تحيطُ جسدها الجميل سحابة من العطر الفرنسيّ، تقف على ناصية الطريق، تنتظره ليقلّها إلى المستشفى الذي يقيم فيه زوجها المريض، توقّف سائق التاكسي بمحاذاتها، أولج القرص الدائري في مكانه المخصص، ثمّ أشعل المسجل، كانت فيروز تغنّي للصباح، يفعل هذا تلبية لطلبها، فهي تحب سماع فيروز في طريقها إلى زوجها، أدار المحرك، ومضى يشق طريقه إلى المستشفى في الإزدحام. قالت له: "اليوم قد يكون لقائي الآخير به" ثمّ أطرقت تفكر، إستلّت من علبة السجائر لفافة، أشعلتها وتابعت: "وعدته بأن يرى وجهي الجميل في كل صباح، وها أنا ذا أفي بوعدي وأقطع هذه المسافة من أجله، فقط كي يبقى سعيداً، أعلم أنه سيموت اليوم، فالتقارير الطبية لا تخطئ، والأطباء أخبروني بذلك أمس، لكنني وعدته ولن أخذله.." ظلّ السائق صامتاً، لم ينبس ببنت شفه، كل ما فعله أنه أخفض صوت المسجل قليلاً، وزاد من سرعة المركبة. أضافت: "أتعلم.. أنا أحسدك على حياتك، رغم الفقر والعوز، إلا أنّك سعيد، لديك زوجة وأطفال، تعود إلى منزلك آخر النهار، تحمل لهم شوقاً كبيراً، ربما لم تستطع أن تدخلهم أرقى المدارس، أو أنك حتى لم تشترِ لزوجتك فستان سهرة منذ سنوات، لكنكم سعداء، تخرج ضحكاتكم من قلوبكم قبل أن تمر من أفواهكم، تجتمعون يوم العطلة حول مائدة واحدة، تتبادلون الأحاديث، تشاركون بعضكم البعض الفرح والحزن" أومأ السائق برأسه موافقاً، ولكنه لم ينبس ببنت شفه، أكملت: "كنت أتمنى أن ألتقي بأبنائي وبناتي يوم العطلة، وأن نتبادل الأحاديث، لكنهم لا يحضرون إلا في الإجازات السنوية، كل واحد منهم يقطن في سكنٍ داخليّ، ولا يتذكروننا إلا حين يحتاجون لأقساط المدارس والجامعات... سحقاً لهذا الواقع.. إنها ضريبة الحياة الكريمة، حتى أنت .. تدفع ضريبة السعادة .. الفقر... أما أنا وزوجي فندفع ضريبة الحياة الكريمة .. القطيعة والوحدة" أومأ برأسه مرة ثانية، وظل متلزماً بالصمت حتى وصلوا إلى المستشفى، توقف وأشارها لها بأنهم وصلوا، ودّعته وغادرت متجهةً إلى البوابة، همّت بالدخول إلا أنها تذكرت شيئاً نسيته في التاكسي، ذهبت لتحضره، وجدت السائق يهم بالنزول من مركبته، كأنه سيدخل معها إلى المستشفى، يحمل بعض الأطعمة، سألته : "إلى أين ..؟" أجابها : "زوجتي تقيم هنا منذ سنتين، وأنا أواظب على زيارتها يومياً كي لا تشعر بالوحدة..."

القصّة التاسعة والعشرون

أسندَ ظهرهُ إلى الحائط، ريثما تمرّ، حضرت هذا الصباح تجرّ خلفها أريج جميع أزهار الحي الذي تسكنُ فيه، جدائلُ شعرها الكستنائيّ تُلوّحُ لهُ وتلقي عليهِ تحية الصباح، "صباح الخير .." قالتها بدلال، ردّ عليها التحية بصوته الرجوليّ ذي البحّة الصباحية، عيناهُ ما تزالان تمارسان الخجل والوقار، كلّ الأشياء من حولهم كانت تدرك أن مشاعر الحب التي تنمو بينهما لن تموت، أكملت في طريقها إلى المكتب، وأكمل هو في طريقه إلى غرفة الطعام، عاد يحمل كوب القهوة في يده، جلس خلف مكتبه المجاور لمكتبها، وباشر العمل، كانت تُزاحم الهواء الذي يمرّ إليه، تلتفت إليه، تخطف نظرةً، ثمّ تعود إلى العمل، خيّم الصمت، كانت تنهيداتها ترسل برقياتِ عتابٍ له، وكان صمته يبرّرُ خجله، يقضيان يومهما هكذا .. تنهيدات ثم صمت .. صمت .. صمت ..

رن جرس هاتفه النقّال، فالتفتت هي إليه .. كأنه هاتفها وليس هاتفه، أجاب على المكالمة، بدأت تحدّث نفسها: "لا بد أنها والدته، دائماً تتصل به في مثل هذا الوقت، ماذا تريد يا ترى؟ وما شأني أنا؟؟؟ يا ربي هذا الرجل سوف يذهب عقلي.." هو: "أمي .. قلت لكِ اليوم يعني اليوم .. لن أقبل بالتأجيل من جديد .. أرجوكِ يا أمّي .. حسناً .. حسناً .." أنهى المكالمة، إرتسمت على محيّاه السعادة والغبطة، كان سعيداً جداً على غير عوائده، والتفت إليها ثمّ قال: "اليوم سأذهب مع أمي .. لنرى زوجة المستقبل .. " كان يخاطبها والسعادة تكاد تقفز من عينيه لتبدأ الرقص!! صعقها هذا الخبر، وما صعقها أكثر، أنه آثر الصمت طيلة هذه الأشهر، وعندما نطق .. قال كفراً!! "يريد الذهاب ليرى زوجة المستقبل.. سيخطب فتاة غيري .. آه يا ربي .. هذا الرجل بدون إحساس .."
بعد انتهاء ساعات العمل، عبست في وجهه، خرجت ولم تودّعه كعادتها، لحق بها منادياً: "انتظري .. لماذا لم تقولي حتى مبروك؟؟" كان متجهماً عابساً أيضاً.. أجابته ببرود : "مبروك .."

في المساء، كانت غاضبة، بل ثورة من الغضب، ترتّب المنزل بعصبية، تنثر الأشياء هنا وهناك، قررت أن تنام علّ النوم ينسيها همّها، حضرت أمّها، أخبرتها بأن تجهّز نفسها .. سيأتيهم ضيوف هذه الليلة، تململت .. ولكنها في النهاية خضعت للأمر وبدأت بتجهيز نفسها. بعد ساعة رن جرس الباب، ذهبت هي لفتح الباب، كانت سيّدة يرافقها هو مبتسماً...

موسى المحمود 08-17-2021 12:33 PM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
القصّة الثلاثون

شَعَرَتْ بالفرحِ حين جلس إلى جانبها، دسّت جَسَدها النحيلَ في المقعد، وانزلقت قليلا للأسفل كي تراقبه بصورة أوضح، لا يشبه ذلك الذي غادرها منذ عامٍ مخلفاً وراءَه فتاةً عاشقةً مفجوعةً بحبِّها المزيّف..بعد أن غادرها..فسقت عن أمر الحب..وانحرفت في عقلها الباطن عن فكرة العيب والحرام..كسرت في عقلها الباطن حاجز التعرّي أمام الرجل..وسمحت للشهوة بأن تمر عبر عقلها الباطن إلى حيث تشاء...وقتما تشاء..ما زالت تظهر العفة للمحيط الخارجي..أراح على المقعد وغرق في نوم عميق ..هي تراقب وهو يصفر شخيرا ..مال رأسه نحوها..إنجذبت أنوثتها نحوه..قررت أن تنام كي تلاحقه في أحلامه..عله يراها..غفت..رأت حلماً .. سريراً وشرشفاً أبيضاً..هي وهو .. والشيطان ينتظر.. حملت منه ثم استيقظت عندما وصلت الحافله..استيقظت بكامل رونقها..لا تشعر بتأنيب الضمير ولا ذنب الشرف..كان قد غادر .. إكتأبت..أصيبت بالحيرة..
قالت في عقلها الباطن: "الحمد لله على نعمة الأحلام"



القصّة الحادية والثلاثون

تكوّمت فوقَ سريرها، كأنّها سربُ حمامٍ أبيضٍ سقط في شِبَاكٍ ضيّق، تنتفضُ غضباً وحزناً، ذاك الرجل الأهوج، اقترب منها وظلّ يحدّق فيها حتى ذابت خجلاً، فانزلقت قدمها وجُرِحَتْ. غداً لن أنظر إليهِ أبداً، سأتجاهل نظراته الشهوانية إلى عباءتي السوداء! في اليوم التالي خرجت من مصلّى النساء بعد صلاة العشاء، تبحث عن السيارة بين أكوام من السيارات، صادفته في طريقها إلى السيارة، مصادفة كانت سيارته متوقفة إلى جانب سيارتها، اقترب منها بهدوء ثمّ لمس جسدها بيده، فاستشاطت غضباً وسخطاً عليه، وركلته بساقها ثم صرخت فيه ووبّخته كثيراً، لم يعر المصلّون اهتماماً لهذا الموقف! ذهبت في اليوم التالي إلى شيخ الحارة تسأله: يا شيخ .. هل يجوز أن أصلّي في بيتي..؟ فأنا أخشى على نفسي من الزنا. فأجابها بالرفض، كيف تترك الصلاة وهي فريضة! خرجت ليلتها إلى صلاة العشاء كعادتها، أوقفت سيارتها، همّت بالخروج منها، لولا أن تداركها فما أن انتبهت حتى كان جالساً بجانبها في السيارة، خافت على نفسها، حاولت الخروج من السيارة أقفل الأبواب وأمسك بها بين ذراعيه. في صباح اليوم التالي، أصدر شيخ الحارة فتوى تسمح للنساء الحسناوات اللاتي يخفن على عفّتهن وشرفهنّ من الوحل أن يقرنَ في بيوتهنّ.



القصّة الثانية والثلاثون

قذفتهُ الحياةُ إلى قارعةِ الحظّ السيء، فالتهمهُ الضياعُ ولاكَ أحلامَهُ حُلُماً حُلُماً، كانتْ أحلامه تُهرَسُ بينَ فكّي حظّهِ السيّء حُلُماً يتلوهُ حلمٌ حتّى فقدها كلّها. هي متسوّلة، ترتدي عباءةَ الحزنِ والفقرِ والهمّ والجوعِ ومسؤوليّة إطعام إخوتها السبعة، تغرِقُها الشّمسُ كلّ يومٍ بشلّالاتها الحارقة، صيفٌ كافِرٌ لا يعرف الرحمة، تماماً مثل هؤلاءِ الذين يمرّونَ بجانبها بسياراتهم الفارهة ولا يتنازل أحدهم لإلقاءِ نظرة شفقة أو قرشاً واحداً حتى. جمالها الربّانيّ لم يشفع لها أمامَ الحياة والقدر، لأنّ الحياةَ لا تعيرُ انتباهاً لجمالِ امرأة، ولا لجيبِ رجل. مرّ بسيارتهِ القديمة وتوقّف مصادفةً أمامَ إشارة المرور الحمراء، نظرَ إليها، نظرت إليه، إبتسمَ ابتسامةَ من يعرفها منذ زمن، خافت وانتظرت يدهُ حتى تخرجَ من النافذة، من نظرةٍ أولى ظنّت أنّه مختلفٌ عنهم، هو أدنى وأخطر، هو أشرّ من مرّوا بها مذ أن اتخذت هذا المكانَ محراباً لصلواتها اليومية بين يديّ الحياة، هذا هو الجزاء، ذَكَرٌ يشتهي جَسَدها المُنهَك بالتعبِ والحرّ والعرقِ وفحش الخذلان. أنزلَ نافذة السيارة، ومدّ إليها يدهُ، مضمومةً كانت، كأنّه يخبّئ لها صَدَقة. أقبَلَتْ تزحفُ عباءتها خلفها وكأنّها تجرّها للخلف، خوفاً عليها وخوفاً منه، أو حرصاً على غبار الرصيف الذي اعتاد خيوطها وانتشى بسوادها. مدّت يدها تنتظرُ الهدية، فُتِحَتْ يدهُ السمراء، كانت رسالة .. كُتِبَ فيها: "هل تَقبَلينَ الزواجَ من رجلٍ لا يملكُ في هذه الدنيا إلا صوراً لكِ يلتقطها في كلّ صباحٍ ؟ يخبّئ الحنين لكِ خوفاً من رائحة التسوّل وحرصاً على سمعةِ العائلة وذِكرى حبيبةٍ خائنة"



القصّة الثالثة والثلاثون

العيد يأتي كالمطر، لا يفرّق بين فقيرٍ وغنيّ، إنه كرم الله على عباده، ربّما كانت هي الطفلة الوحيدة في هذا الحيّ المزدحم بالأطفال السعداء بقدوم العيد، كانت الطفلة الوحيدة التي لم يهدها العيدُ الفرح كما أهداه للجميع. صباح يوم العيد، استيقظت على أصوات المصلين في المساجد يكبرون ويهللون، اللهُ أكبرُ كبيراً .. والحمدُ للهِ كثيراً .. تساءلت هي بطفولتها البريئة: "كيف يكون الله أكبر ..؟" لم تجد إجابة، خرجت إلى الشارع، ثيابها ليست جديدة، لم يوقظها والدها ويقبّلها ويهديها شيئاً في العيد، لم توقظها والدتها وتهديها قبلة العيد، إنها الطفلة اليتيمة، التي لم ترَ والديها منذ وُلِدَت. في الشارع حيث يسكن فرح الجميع وعلى وقع صوت المفرقعات وأغاني الأطفال ترحيباً بالعيد، في الشارع حيث يتسارع البشر إلى عيد ربّ البشر، كانت تقف وحدها، تُسنِدُ ظَهرها للاشيء، تهرول روحُها خلف ضحكاتهم، تكاد تلتقط فرحة، لكنها دائماً تفشل، حزنها يقف لها بالمرصاد، يُتمها الكافر يتربّص بها، جلست القرفصاء، أسلمت لكفّيها وجهَهَا وأنصتت لفرح من بعيد، ما زالت تسمع "اللهُ أكبرُ كبيراً"، مرّت السيّدة الثريّة بجانبها، لم تكترث لها، غابت خلف باب منزلها الكبير، وأغلقته. إعتدلت الطفلة، همّت بالرحيل، ودّعت الفرح من بعيد، شتمت العيد، تفلت في وجه الصباح، لعنت اليُتم، ومضت إلى مخدعها أسفل الجسر، تعثّرت قدمها بورقة زرقاء، نقود بقيمة لم تحلم بها يوماً، إلتقطتها والتفتت يمنة ويُسرةً لم ترَ أحداً، ضمّتها إلى صدرها، أخفتها في جيبها، وأكملت طريقها .. أوقفها الفرح : "كلّ عامٍ وأنتِ بخير .." إعتذر لها اليُتم، تجمّعت السعادة إحتفاءً بها، هتف العيدُ : "اللهُ أكبَرُ كبيراً"

منى الحريزي 08-21-2021 02:19 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
زخم من الإبداع .. لي عودة للقراءة المتأنية إن شاء الله ...
لاحظت اهتمامك بالأرقام دون العناوين أخي الكريم موسى...
والعنوان كـ البوستر أو الملصق للقصة ولايمكنك تقرير قراءة هذه القصة أم لا دون الحصول على نبذة خاطفة من خلال جملة أو كلمة عابرة ....

تحياتي وتقديري ...

موسى المحمود 08-22-2021 08:27 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منى (المشاركة 310047)
زخم من الإبداع .. لي عودة للقراءة المتأنية إن شاء الله ...
لاحظت اهتمامك بالأرقام دون العناوين أخي الكريم موسى...
والعنوان كـ البوستر أو الملصق للقصة ولايمكنك تقرير قراءة هذه القصة أم لا دون الحصول على نبذة خاطفة من خلال جملة أو كلمة عابرة ....

تحياتي وتقديري ...

صباح الخير أستاذة منى،
يسعدني حضورك وبالتأكيد عنوان النص دليل على مضمونه،
سأحاول وضع عناوين للنصوص بإذن الله
كل الإحترام.

موسى المحمود 01-11-2023 01:36 AM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
بَرْدُ الانتظار

#نساء

مساءً قبل دخول الليل حجرة النهار بنبضة، سماء رمادية ومطر يتمدّد على كل الأشياء، ريح تهمس كنايٍ مذبوح، طريق طويل تمتد على جانبيه أعمدة الضوء الخافت، شجر كثير كثيف يلوّح بأغصانه، رصيفٌ يحمل غبار أحذية من مرّوا، قمرٌ خافت يقترب من بعيد يكبر يكبر يكبر.. هو بقامةٍ كالنخل وجسدٍ متوسط، وهندام أنيق بسيط تلتسق به قطرات المطر الكثيفة، عينان تملأهما قصص كثيرة، نساء على مد البصر بجمالهن وظلمهن وقسوة أريجهن، يمشي ببطء كأنه على موعدٍ بفتاة قلبه، هو لم يكن على موعدٍ مع أحد، مضى .. أشعل بخطواته حبات المطر الباردة، مضى أكثر .. أيقظ ورق الشجر الحالم على أغصانٍ لا تهدأ، وجد مقعداً، جلس، توضّأ قلبه بالمطر واقترف تنهيدةً ثمّ أخذ من سيجارته قبلةً غاضبة وصمت. لم تأتِ بعد، كانت هي في شرفتها، في ذات اللحظة، تعدّ واجبها المدرسيّ، الشرفة باردة، ما الذي يجبرها على هذا! ربما تنتظره؟ ربما تنتظر أحداً سواه، رجلاً سواه، مطراً سواه، حلماً سواه، تتابع واجبها المدرسيّ، تفقد التركيز في كلّ شيء، ضوء خافتٌ يتسلّق شرفة منزلهم، نام الناس جميعاً، وقفت هي تترقب قدومه، كان هو جالساً يدخّن، إشتعلت غيرتها، كيف يُقبِّلُ غيري؟ قررت أن تبتاع أملاً جديداً من سمائها الرمادية، جاء الحلم ميتاً، فاستفاقت على صرخات والدها:"حان موعد العشاء.." قالت:"وماذا عنه..؟" خطفت نظرةً، كان قد رحل.

موسى المحمود 01-12-2023 05:43 PM

رد: نساء (مجموعة قصصيّة)
 
حنين

#نساء

في الصّباح كانت الزّهور الشّتويّة تقف استعدادًا لاستقبال أنوثتها، مرّت أمامَ الزّهور ولم تُسَلِّم، حلّت عليها لعنة الصباح. مدخل البيت يشبه إلى حدٍ كبير بستان ورد في فصل الخريف، كلّ ما عليه ذهب مع الريح، قطّة في زاويةٍ لا تبعد خطوتين، تضمّ نفسها بحذر، تفتحُ عيناً وتغمضٌ أخرى، كأنها تنتظر، من تنتظر..؟ هي أنثى جميلة، وجهها في الصباح تفّاحة، عيناها عصفوران أخضران يحاولان النوم، شعرها مسدول على كتفيها يمتد حتى عمق أنوثتها، تتسلّقه ذرّات الماء، تداعبه الريح. مرّت ولم تلقِ التحية على أي شيءٍ حولها ما عدا جوريةً أهداها لها هو ذات يوم، إنها تكبر وتصبح أجمل، تتفتّح من أجلها كلّ صباح وتوزّع لها الشذى، هو قال هذا قبل أن يمضي، لم تكن تدرك معنى أن يرحل هو هكذا دون سابق إنذار، لكنه فعلها .. هو الآن في آخر الطريق، يراقبها من بعيد، يعلم أنها بحاجة إلى جوريةٍ أجمل، قد تكون بحاجةٍ إليه، هو لا أحد سواه، ولكنه رحل، فقط كي تكون هي بخير، أخرجت منديلها ومسحت على الجورية برفق، قبّلت منديلها، ومضت إلى العمل... هو لم يرحل بعد.


الساعة الآن 02:43 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team