منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   لقاء (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=28296)

ياسر علي 03-07-2021 07:43 PM

لقاء
 
لقاء


رأى الحياة تشع من ملامحها، تثيره كلما مرت أمام دكانه، يرشقها بابتسامة خفيفة، تميط خصلات شعرها الحاجبة لعينها اليسرى وتكمل طريقها، لا تمل عيناه من مرافقتها حتى تصطدما بالجدار الإسمنتي المحاذي للباب، يتمنى أن لا يشوش عليه أحد تلك اللحظات، في الغالب يحظى بتلك الفرصة فزبائنه يتقاطرون عليه مساء، يخرج وقد ملأ سطلا ماء يرش الرصيف المقابل لدكانه، يأسره طيفها إلى أن يفنى في الأفق أو تبتلعه انعطافة زقاق من الأزقة المطلة على الشارع الرئيسي حيث يرسو محله. شيء غريب يجعلها قريبة منه، مشيتها المرنة مناسبة بلا تكلف كحمامة بيضاء، قوامها المنتصب يمنحها هيئة أميرة تتناوب خطواتها على سجاد أحمر. في قرارة نفسه يريد أن يهديها باقة من الزهور، بل كاد يفعلها في أول لقاء لعينيهما حيث التهبت في نفسه شرارة حسب نفسه فاقدا لعذوبتها منذ بدأت الحرب التي أتت على ربيع بساتينه. *

كان ساهيا يحصي خسائر تلك الأيام العجاف، حين كان حيه لقمة سائغة لجحافل الموت، إذ بها تقف أمامه: "سيدي أريد باقة من الزهور" ملأه الارتباك وأحس ارتعاشة تدب في أنامله، لم يتوقع أن يكون اللقاء صادما إلى هذه الدرجة، يحس أنه صفحة خاوية لا يعرف ما يقدم وما يؤخر، يداه مترددتان في اختيارها كلما امتدتا إلى باقة تراجعتا كما رجلاه تخطوان الخطوة جهة هذه فتندفعان إلى تلك، عاد صوتها ليرن في أذنه: هل أستطيع اقتناء هذه أم وضعتها هنا لزبون خاص؟ تمتم بصعوبة: أجل، أجل، يمكنك أخذها. حاول أن يستعيد رباطة جأشه، حين غافلته بسؤال جديد: كم سأدفع؟ رد دون تفكير: مئة. فتحت محفظتها وقالت: ألا تكفي تسعون، هذا ما أحضرته معي. ردد مرة أخرى وحلقه جاف: تكفي،تكفي. وضعت النقود على المنضدة وحملت الباقة ونظرت نحوه نظرة ممتلئة وخرجت.*

أخذ منديله يمسح جبينه المتعرق، يتأفف بعمق لعله يطفئ ما أحرقه اللقاء من أعصابه، انقض على الصنبور معانقا برودة الماء. ما أن هدأت أحواله حتى رجع لنفسه يؤنبها، أهكذا الرجولة، يا حسرة عليك يا سليمان، لقد أفقدتك ويلات الحرب شجاعتك، لقد أنهكتك الغربة يا سليمان. لسنوات يهادن جرحا غائرا يأبى الالتئام، كان في مقر عمله حين أغار الجراد على بستانه، فور عودته وجد بيته أنقاضا، وجد زوجته اخترقها الرصاص، بحث عن ابنته الصغيرة فلم يظهر لها أثر. يجوب الحي جيئة وذهابا، فما وجد غير الصمت المعتق بالموت. لأيام وهو يحاول العثور على أخبار الناجين، تناهت إلى أسماعه الكثير من الألغاز والحكايات والأساطير، تسلل إلى ميادين القتال والمخيمات، أعطى مدخراته لأمراء الحرب، لكنه لم يحصد غير السراب. لم يجد حلا إلا الهجرة، ليترك تلك الفوضى وتلك الآلام وراء ظهره.*

هجرته مسلسل هجرات لا تنتهي، فاستقراره في هذه البلدة بلغ يومه الثلاثين، وتنتابه اللحظة رغبة في المغادرة، فبقدر الرهبة التي حفرها اللقاء في نفسه، زرع بذرة التحدي في أعماقه لاستكشاف لغز هذه الفتاة التي جعلته يرتشف من معين التعلق بالحياة وإن كانت لا تليق به وبعمره صبيانية العاشق المتيم. لا ينكر أن الفتاة تذكره بشيء أقبرته الحرب في ذاكرته، ولكنه ليس عشقا كالذي يتنفسه العشاق في حدائق السمر. يرى فيها بعضا من زوجته حين رآها لأول مرة، ويتخيل أنها ابنته الضائعة التي ما اهتدى لروضتها.*

وجد نفسه يسير في الشارع متعقبا الفتاة، انعطفت جهة المستشفى، كلما غادرت رواقا اقتحمه، التفت فجأة فتعرفت عليه، توقفت قائلة: يبدو أنك ستطلب المزيد، كنت أعرف أنك ستفعل. قال: "لا ليس هذا ما جئت من أجله، كنت وعدت نفسي أن أهديك تلك الباقة. وما كان علي أن *آخذ منك فلسا واحدا." نظرت نحوه باستغراب: بمناسبة ماذا سيدي. نظر نحوها نظرة مستقيمة قائلا: من تزورين في المستشفى؟ فقالت: أمي مريضة جدا. ردد لسانه: تقصدين أمك، أمك، أمك بشحمها ولحمها. ردت مبتسمة: *نعم، نعم، أمي، أمي بشحمها ولحمها. عندها قال: وهل يحتاج إهداء الزهور إلى*مناسبة.

عبدالعزيز صلاح الظاهري 03-07-2021 10:18 PM

رد: لقاء
 
قال: وهل يحتاج إهداء الزهور إلى*مناسبة.
لا، وألف لا
ما كان لذلك السؤال ان يطرح
لان عطاء المحب العاشق لمن يحب له لذة لا يمكن وصفها
اخي ياسر، قصة جميله تفاعلت معها لأنها عرضت مشهدا بكل حرفية لواقع رأيته وعايشته

ابتسام السيد 03-07-2021 10:27 PM

رد: لقاء
 
كأني به تائه يبحث في الغربة عن شيء أليف يذكره بأرضه
أو يخلق لذاته دافع لأن يتشبت بالأرض
..
قصة منطقية متوازنة مكللة بلغة طيبة
تحيتي وتقديري

محمد أبو الفضل سحبان 03-08-2021 02:58 AM

رد: لقاء
 
نص سلس جميل قرأته وكأنني عشته...
الحب لا يقدر بثمن..
تقديري واحترامي
أبو الفضل..

ياسَمِين الْحُمود 03-08-2021 08:23 AM

رد: لقاء
 
هكذا أنت أستاذ ياسر…
قصصك رغم بساطتها عملاقة
تحمل مضمونا وتمتاز فى المبنى والمعنى ..
دمت رائعاً:30:

ياسر علي 03-09-2021 09:43 PM

رد: لقاء
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبدالعزيز صلاح الظاهري (المشاركة 288731)
قال: وهل يحتاج إهداء الزهور إلى*مناسبة.
لا، وألف لا
ما كان لذلك السؤال ان يطرح
لان عطاء المحب العاشق لمن يحب له لذة لا يمكن وصفها
اخي ياسر، قصة جميله تفاعلت معها لأنها عرضت مشهدا بكل حرفية لواقع رأيته وعايشته

سعيد جدا بحضورك أخي عبد العزيز.
نعم صدقت أخي، هل يسأل المحب لماذا أحب!

تقديري

ياسر علي 03-09-2021 09:48 PM

رد: لقاء
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابتسام السيد (المشاركة 288732)
كأني به تائه يبحث في الغربة عن شيء أليف يذكره بأرضه
أو يخلق لذاته دافع لأن يتشبت بالأرض
..
قصة منطقية متوازنة مكللة بلغة طيبة
تحيتي وتقديري

نعم أستاذة ابتسام السيد.
في مواضع شتى رأيت كلامك يصيب كبد الحقيقة.

دمت بالقرب.

تقديري.

ياسر علي 03-09-2021 09:53 PM

رد: لقاء
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة محمد أبو الفضل سحبان (المشاركة 288763)
نص سلس جميل قرأته وكأنني عشته...
الحب لا يقدر بثمن..
تقديري واحترامي
أبو الفضل..

أخي محمد
الجمال في حضورك الراقي.
وكلماتك الصادقة.

تقديري.

ياسر علي 03-09-2021 10:00 PM

رد: لقاء
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ياسمين الحمود (المشاركة 288789)
هكذا أنت أستاذ ياسر…
قصصك رغم بساطتها عملاقة
تحمل مضمونا وتمتاز فى المبنى والمعنى ..
دمت رائعاً:30:

الأستاذة ياسمين الحمود.
وجودك هنا شرف لهذه الحروف
تحية تليق بمقامك.

تقديري.


الساعة الآن 11:38 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team