منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   ورقة (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=12526)

ياسر علي 12-02-2013 03:03 AM

ورقة
 
يحب الأوراق ، هي وقوده ، هي حبه ، هي كل ما يسعى إليه ، يراها تفك عقد حياته ، تشق السبل أمامه غير آبهة بالعوائق ، تحول بينه و بين السقوط في ظلمات العوز و جحور الفقر . رفعت منزلته في هرم بلدته . تجعل زوجته راضية عن نفسها أمام نساء البلدة ، تنعم بآخر ما تفتقت به بصيرة الحرفيين من حلي و أقمشة و أحذية . تفتح أمام أبنائه أبواب المدرسة الحرة الباسمة في وجه براعم علية القوم ، الناطقة بأساليب الحداثة والحاضنة لطفولة اليسر ، تقيهم شر سباب أبناء الأحياء المكتظة ، وألعابهم العنيفة و خصوماتهم المتناسلة .
توقيع و طابع كاف ليتهاطل وابل الأوراق على روافد برصته ، قد لا يحتاج بريقا من عينيه و لا صوتا مدويا في وجه زبنائه ، فأغلبهم يدفعون وقلوبهم مطمئنة وراضية ، وآخرون يعرفون نهمه الشديد ، وعطشه الذي لا يرويه غير طوفان المال ، هو أيضا خبير بفنون الابتزاز ، تجاهل الزبون و رميه على كراسي الانتظار كاف لتطويع شدته و تأديب نشوزه ، فتراه يبحث يمينا وشمالا عن وسيلة لقضاء مأربه . بعضهم لا تنفع معه كل المحاولات ، لكن أخطاء تركت بلا معالجة منذ القدم في وثائقهم يكلفهم إصلاحها أضعاف ما يمكن أن يشتروا به غض الطرف عنها و توقيعها من السيد المحترم .
تقدم بدوي بجلبابه الرث إلى مكتب السيد راجيا أن يشفع له مظهره في توقيع أوراقه بلا ضريبة ، لكن السيد ما عاد يميز بين الأخضر واليابس ، فنار جشعه علا لهيبها . دمعت عيناه واستعطف الموظفين ليتوسطوا له عند السيد ، فأكدوا له أن ورقة واحدة تكفي لجبر كل أضراره ، تقدم قرب المكتب و أخرج محفظة جلدية متلاشية خيوطها من جيبه ، أخرج منها الورقة اليتيمة المطوية المتآكلة ، وضعها على المنضدة فانساب التوقيع على الورقة بنعومة . تقدمت أنامل السيد نحو الورقة النقدية يبسطها على المكتب في اشمئزاز ، فتراءت له حشرة ظنها انقرضت بأطرافها الستة تغادر مخدعها مسرعة باحثة على أقرب مخبإ تلوذ إليه . أمسكها بين أصابعه و الرعشة تعصف بهدوئه ، فطبق عليها ظفري إبهاميه كما كانت تفعل أمه و هي تطارد القمل في بدنه وشعر أخته قديما . سافر عقله أعواما إلى الوراء ، تذكر والده الذي تمت تصفيته من طرف عملاء الاستعمار ، لأنه أبى أن يسلم محصوله و أراضيه ، تذكر وصاياه : " يا بني ، إياك والظلم ، يا بني كن عونا للفقراء ." تذكر أمه التي هاجرت به إلى المدينة بعد موت أخته جراء الجوع والأوبئة ، تذكر كدها المتواصل كخادمة بيوت ، حتى بدأت ملامح رجولته تظهر مع بزوغ الاستقلال ، فودعت الحياة في أول يوم نال فيه مرتب وظيفته . فتح حصالته و قدم ما جمع من المال للفقير معتذرا عن فعلته .
خرج من مكتبه و توجه إلى شباك المصرف حيث يستقر أجره ، قدم له المصرفي بضعة أوراق ، تفحص لائحة مطالب أسرته و بدأ جولته عبر الدكاكين . عند العشاء صاحت ابنته الصغرى : " بابا ما أحلى أكلة اليوم ، فأنا لم أتذوق مثلها من قبل ، تستحق قبلة لأنك أحضرت أجود ما في السوق " .

نزهة الفلاح 12-02-2013 05:02 AM

ورقة تختصر شتاتا داخليا في مفهوم الحاجة والفقر
قصة مليئة بالمعاني..
بارك الله فيك أستاذي الفاضل وتقبل منك

صفاء الأحمد 12-02-2013 11:27 PM

ترجمة ممتازة لواقع مرير ..

شكرا للعميق ياسر علي ..
دائما تتحسس مواطن الوجع فتصيب ..

الى العلا سيدي ..

دمت بود ..

ياسر علي 12-04-2013 04:29 PM


الأستاذة نزهة الفلاح
شكرا على تفاعلك مع النص
كل التقدير والاحترام



ياسر علي 12-04-2013 04:34 PM



الأخت صفاء الشويات

شكرا على حضورك الراقي

تحياتي




الساعة الآن 08:25 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team