منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر القصص والروايات والمسرح . (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=8)
-   -   حورية في باريس (قصة قصيرة) (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=24648)

حسين ليشوري 06-26-2018 12:36 PM

حورية في باريس (قصة قصيرة)
 
حورية في باريس
(قصة قصيرة)



[justify] كنت جالسا إلى طاولة في الرصيف المُشمَّس من مقهى "مارجوريد" (café Margeride) في "ساحة إيطاليا"، جنوب مدينة باريس الساحرة، أنتظر رفيقي في السفر حتى يعود من شغل خاص، وكنا قد تواعدنا على الالتقاء هنا لأن الفندق الذي ننزل فيه غير بعيد، هو في شارع "الغوبلين" (Avenue des Gobelins) القريب، وبناية السوق الكبرى "المجرة" (Galaxie) الفخمة والمرتفعة المهيبة، ولعل اسمها قد غُيِّر اليوم فقد مضى على هذه القصة ستة وثلاثون عاما، تنظر إليَّ بجلالها وجمالها وشموخها؛ وفي تلك الأمسية من أيام مارس الجميلة المعتدلة الطقس عام 1982 والشمس في الأصيل إلى الغروب رويدا رويدا تميل والربيع على الأبواب، السماء زرقاء صافية إلا من بعض السحب البيضاء الصغيرة كأنها نتف من القطن معلقة بين السماء والأرض ما تفتأ حتى تمضي، ومن حين إلى آخر تهب نسمات خفيفة من نسيم الأصيل؛ كنت منغمسا في تفحُّص خارطة المدينة المرفقة بدليل باريس المفصل أغتنم فسحة انتظار رفيقي، أخطط لمشواري ليوم الغد: أين أذهب؟ وماذا أزور؟ وكيف أذهب؟ بالحافلة أم بقطار الأنفاق؟

جاءتني النادلة الحسناء الأنيقة في لباسها المهني الجميل النظيف، الرشيقة في حركاتها، وسألتني بأدب جم وصوت لطيف هل أطلب شيئا؟ فطلبت قهوة وعدت إلى خارطتي أتفحصها وأقلبها باحثا مستقصيا.

عادت الحسناء بصينيتها اللّامعة، وضعت الفنجان الأبيض برفق وقبله الـ"سو طاس" (الصحن الصغير) ثم كشف الحساب، وما كادت تضع الفنجان حتى دغدغت بَنَّة القهوة الزكية أنفي فتشوَّفت إلى تذوق رشفة فورا لكنني تريثت حتى تنصرف النادلة؛ شكرتها وعادت إلى الداخل.

رفعت الفنجان لأرتشف منه رشفتي الأولى ومعها رفعت بصري أنظر أمامي، فرأيتها، ويا لهول ما رأيت: سيدة في منتصف العمر، هي إلى الخمسين أقرب منها إلى الأربعين، عوانٌ بيْن ذلك حسب تقديري السريع، لكنها تبدو أقل سنا، بارعة الجمال، أنيقة في هندامها، تشع منها هالة الوقار والاحترام والجد، تجلس منفردة تطالع كتابا تنظر فيه مرة ومرة ترفع رأسها المنحوت بتقاسيمه الرائعة كأنه صنع بطلب منها وعلى ذوقها هي، تلتفت يَمْنَة وشَأْمة كأنها تنتظر قادِما؛ كنت سمعت مقولة: "باريس مدينة الجن والملائكة"، لكنني لم أكن أعيرها كبير اهتمام، أما اليوم وهنا فأنا أصدِّقها وأبصم بالعشرة على صوابها؛ بقيتُ ثابتا هكذا برهة لم أرتشف القهوة ولم أستطع وضع الفنجان وكأنني أختبئ وراءه لأختلس النظر إلى تلك الفاتنة بل المبهرة.

نظرت إليها متمعنا متفحصا وأتممت حركة الارتشاف دون تذوق، فقد أذهلني المشهد عن القهوة وطعمها ورائحتها، قمت من مكاني متوجها إليها وكأن مغناطيسا قويا يجذبني إليها جذبا رغما عني، لم تكن طاولتها تبعد عن طاولتي إلا بثلاثة أمتار أو أقل لكنها بدت لي كأنها بطول نهر "السين" الذي يشق المدينة.

توقفت أمامها وبلغتي الفرنسية المتقنة قلت بلا مقدمة ولا تعارف متجاهلا الحاضرين غيرَها:
- "Bonjour, Madame vous êtes sublime" (ما ترجمته تقريبا:"طاب يومك، سيدتي أنت رائعة الجَمَال")
اعترتها أولا دهشة مشوبة بخوف ولعلها تتساءل:"من هذا الغريب المجنون الذي يكلمني هكذا دون سابق معرفة؟" ثم، وكأنها اطمأنت شيئا ما أو هكذا بدت لي، سألتني بصوت دافئ هادئ:
- هل تعرفني سيدي؟
قلت:
- لا ولكنني لم أستطع مقاومة رغبتي في مدح جمالك الأخّاذ، كأنك "حورية" ضلّت طريقها فانتهتْ إلى هنا.

ابتسمت "الحورية" باستحياء بادٍ ولكن وجهها الساحر كان ينبئ عن حيرة فيها اندهاش ووجل وسرور، في خليط عجيب مُعجِب أكثر وأكثر، وحدجتني بنظرة من عينيها الزرقاوين الساحرتين وكأنها تريد القضاء على ما فيَّ من صبر، وما زاد في إعجابي بها ودهشتي منها في الوقت نفسه أنها قالت لي وبهدوء تام:
- شكرا على الإطراء لكن تحدث بالعربية فأنا أتقنها وأظن أنك عربي، ألست جزائريا؟
قلت وعلامات التعجب تتطاير من رأسي تطاير النجوم من الكير:
- بلى، أنا كذلك كيف عرفت؟ ما هذا؟؟؟؟؟
قالت:
- الحديث يطول وأنا أنتظر زوجي ولا أريده أن يراني أحدِّث غريبا، فشكرا على الإطراء الجميل وأنا سعيدة جدا به لكن...، الوداع.

زاد إعجابي بها وفهمت أنها تصرفني بأدب فودعتها مع اعتذاري وعدت إلى طاولتي بسرعة وكان في لساني كلام وكلام منه، على سبيل المثال إمعانا في الإطراء:"الموج الأزرق في عينيك يناديني نحو الأعمق، وأنا ما عندي تجربة في العوم ولا عندي زورق" أستعيره من نزار قباني لكنها، للأسف، لم تُتِح لي فرصةَ إبدائه.

جلست لأنهي قهوتي التي بردت قليلا وإذا بي أرى زميلي يعود من مشواره فقمت وطويت الخارطة وأعدتها إلى مكانها ودفعت ثمن القهوة واتجهت نحو صديقي فأخذت بذراعه وتوجهت به بعيدا عن المقهى وهو يسألني:
- ما بك؟ ألا تدعوني إلى قهوة؟ لمَ هذه العجلة؟ أين تذهب بي؟
قلت:
- سأحكي لك مغامرتي وما جرى لي في غيابك، اصبر عليَّ حتى نعود إلى الفندق.

كانت تلك حكايتي مع "حورية باريس" أتذكرها كلما نظرت في مكتبتي ورأيت دليل باريس المفصل والذي لم أفتحه منذ وضعته في مكانه إلا نادرا، ونادرا جدا.
[/justify]

البُليْدة، مدينة الورود، صبيحة يوم الثلاثاء 05 شوال 1439 الموافق 19 جوان 2018.

اسماعيل آل رجب 06-27-2018 11:41 AM

حورية من باريس مذكرات شخصية باسلوب ممتع
دمت والالق- أ.حسين

ايوب صابر 06-27-2018 11:46 AM

نفس سردي رائع بحق. لا بد من عودة لهذه القصة.

حسين ليشوري 06-27-2018 11:41 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اسماعيل آل رجب (المشاركة 230204)
حورية من باريس مذكرات شخصية باسلوب ممتع
دمت والالق- أ.حسين

بارك الله فيك أخي إسماعيل وشكرا على التشجيع.
تحياتي.

حسين ليشوري 06-27-2018 11:44 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايوب صابر (المشاركة 230208)
نفس سردي رائع بحق. لا بد من عودة لهذه القصة.

شكرا أخي أيوب وشكرا على التشجيع وأنا أنتظر عودتك الكريمة لأستفيد من نقدك وقراءتك.
تحياتي.


الساعة الآن 11:23 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team