منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر رواق الكُتب. (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=27)
-   -   كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=31226)

محمد جاد الزغبي 02-17-2024 02:29 AM

كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

كتاب
فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان

هذه فصول من كتابنا ( فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان), رأيت نشر بعضها للفائدة العامة.
والكتاب صدر عن (مركز تبصير لرد الشبهات) بمصر.
وهو يعالج قسما مهما من أحاديث الفتن والملاحم, فهو لا يعالجها كلها وإنما جمعت فيه الأحاديث التي وقعت أحداثها بالفعل, ومعها شرح مفصل لكيفية التعامل مع تلك الأحداث.

https://i.suar.me/dO03l/l

ومحتوى الكتاب في العناصر التالية:

• كيفية النجاة من جزاء الخلود في النار
• أعمال الطاعات التي تعصم الإنسان من النار وكيف يعصمه الله منها ولو كان العبد مستحقا لها
• شرح الكبائر المُفْضية إلى تحريم الإنسان على الجنة وكيفية تجنب هذه الكبائر
• الوصايا العامة للنبي عليه الصلاة والسلام في زمن الفتن وأحداث آخر الزمان
• الفارق الضخم بين الندم والتوبة وبين اليأس من رحمة الله

محمد جاد الزغبي 02-17-2024 02:33 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

المقدمة

الحمد لله تعالي حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، على نعمة الحق الظاهر، والباطل الزاهق، وعلى نعمة الإسلام وكفى بها نعمة، والصلاة والسلام على مؤدي الرسالة ومُبلغ الأمانة سيدنا محمد صلي الله عليه وآله وصحبه وسلم.

يقول الله عز وجل.
[إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] {فصِّلت:40}
والمتأمل في الآية الكريمة سيجد (تقريرا)، ثم (تساؤلا)، ثم (حقيقة).
اما التقرير فهو أن الله عز وجل يخبرنا بأنه يعلم من يُلحدون في آياته لأنهم لا يخفون عليه (والإلحاد في الآيات معناه تحريف معناها ومُرادها)
و(التساؤل) فهو استفهام من رب العالمين لخلقه، أيهما أفضل، من يُلْقي في النار، أم من يأتي آمنا يوم القيامة، وانظروا إلى عظمة التعبير القرآني (يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ القِيَامَةِ)، فمن ذا الذي يمكن أن يطمح لشيء أكثر من أن يأتي يوم القيامة آمنا؟!
ولا شك أن طريق الأمن يوم القيامة مرهون بوجود (الطريق الآمن) في الدنيا.
ثم اشتملت الآية أيضا على (حقيقة)، وهي أن أعمال الدنيا متروكة لاختيارنا، لكنه ليس اختيار الإهمال أو الأمان من العواقب، لأننا كلنا راجعون إلى الله ذات يوم وعندها سيحين الحساب.

وكأني بالآية الكريمة اشتملت على معالجة كاملة لما نجده اليوم في عالمنا من حيرة، وتخبط، وعبث، حيث صارت المفاهيم كلها مختلطة المعاني، حتى في الثوابت والأخلاق!
فالمجتمع الآن في حالة غريبة من الثقة بما يفعل، رغم اختلاف الناس جميعا حول المفاهيم، ومع ذلك تجد التطرف في الأفهام من أقصي اليمين لأقصي اليسار وكلهم بلا استثناء يقول بأنه على طريق الحق!
العقلاء، والعقلاء فقط هم الذين تستبد بهم الحيرة اليوم، لأن العقل المتأمل اليوم إذا أراد أن يعرف الحق في أي قضية ــ أيا كانت ــ في الدين أو الدنيا، فسيجد أمامه آلاف الآراء ووجهات النظر كلها يدعي أصحابها أنهم على الحق المطلق حتى الذين ينادون بالإلحاد والشذوذ!
وهذه الحالة من الفوضى لم تمر بعالمنا قبل اليوم.
لأنه حتى مائة عام فقط مضت، كان المجتمع ــ رغم ضعفه ـــ متمسك بالحد الأدنى من الثوابت الدينية والأخلاقية التي كفلت له اختيار رموزه وقادته من أهل العلم والفكر.
وكانت القيمة محفوظة ومُصَانة، حيث كان الاعتزاز والفخر المجتمعي مُوَجّها إلى الرموز العلمية والدينية والأدبية الحقيقية التي تقود المجتمع وتحدد له المفاهيم.
بالإضافة إلى وجود قوة معنوية هائلة في المجتمع تمنع ظهور وإعلان أصحاب التهتك، والانحلال، بحيث أن هذه المظاهر لم يكن صاحبها يجرؤ على ممارستها علنا خشية المجتمع قبل خشية القانون.

ثم فجأة.
وفي السنوات الأخيرة انقلبت أساسيات المجتمع في العالم العربي والإسلامي انقلابا أخلاقيا رهيبا بحيث أصبح الانحلال ــ ليس مسموحا به فقط ــ بل هو القاعدة التي اكتسبت المشروعية، بينما أصبح الحفاظ على أقل الثوابت هو الشيء الذي يعيبه المجتمع وينكر على صاحبه
فصدق فينا قول القائل:
(ليأتين على الناس زمانٌ، يُعَيّر فيه المؤمن بإيمانه، كما يُعَيّر الفاجر بفجوره اليوم!)

وما دام هذا الأمر قد تحقق فينا، وما دام هناك من يعيش اليوم وهو يعاني الحيرة ويريد بلوغ الطريق الآمن الذي حدده الله عز وجل لعباده كي يكتسبوا الأمن يوم القيامة.
وما دام هذا الطريق سهل ومتاح وميسور لكل طالب.
لهذا كله كان الواجب أن نحاول معرفة الطريق إلى الله في زمن الفتن وأحداث آخر الزمان، من خلال أوثق مصادره، وهو القرآن والسنة المشرفة.
فإن الذي ينبغي على كل مسلم أن يعرفه معرفة يقينية، أن الحيرة التي تستبد بنا اليوم لها أجوبة واضحة وخريطة دقيقة مكتوبة ومُدّونة منذ أربعة عشر قرنا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام شرح لنا حال مجتمعاتنا اليوم، في أحاديث (الفتن وأشراط الساعة)، وحدد بطريقة واضحة كيفية النجاة إذا أدركنا الزمن الذي يصبح فيه المرء أشبه بالسائر في طريق ملغوم وهو معصوب العينين، هذا الطريق النبوي وهذا البرنامج المعصوم هو الذي ينبغي أن يكون أمام عقل وقلب المسلم، قبل أن تجرفه الحياة وسط دواماتها دون أن يدري.
والأمر بسيط، لأن الله عز وجل يقول.
[مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] {الشُّورى:20}
ومن كان يتمتع بالحد الأدنى من العقل سيعرف أن حرث الدنيا عبارة عن دوامة قصيرة الزمن ستنتهي في أي وقت إلى زوال مؤكد عندما تحين لحظة الأجل.
والعاقل أيضا هو الذي سيدرك أننا في عالمنا اليوم، وسط هذه الأوبئة المنتشرة، لا يمكن أن نطمئن أو نغامر باختيار الدنيا على الآخرة لأنه سيكون اختيارا بالغ الحماقة بعد أن صار الموت حدثا يوميا بكثرة أسبابه.

وقد جاءنا العلماء السابقون بوصية النبي عليه الصلاة والسلام في أهمية التمسك بالسنة في زمن الفتن تحديدا، حيث تكون السنة ووصاياها وأوامرها هي الطريق الوحيد المعصوم كما قلنا.
وقد قيل للإمام (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه:
(أحياك الله على الإسلام.)
فقال: (والسنة)
كما أن النبي عليه الصلاة والسلام حدد لنا علامات أزمنة الفتنة، وحدد لنا سبيل التعامل معها، أما العلامات فقد وردت في عدد كبير من المظاهر التي أخبر عنها النبي عليه السلام، ومنها ما تحقق في عالمنا المعاصر بالفعل.
من ذلك انتشار الزنا والخمر وانتشار الهرج والقتل وموت الفجأة، وانتشار الأمراض المعقدة، وكثرة المال في أيدي السفاء، ورفع العلم، وانتشار الجهل .... الخ
وهي العلامات التي وردت في الأحاديث الخاصة بفتن آخر الزمان ومنها:
قوله عليه الصلاة والسلام:
((لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَكْثُرَ الهَرْجُ قالوا: وما الهَرْجُ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: القَتْلُ القَتْلُ)
وقوله أيضا عليه السلام:
(ليشرَبنَّ ناسٌ من أمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسمِها، يُعزَفُ علَى رءوسِهِم بالمعازفِ، والمغنِّياتِ، يخسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الأرضَ، ويجعَلُ منهمُ القِرَدةَ والخَنازيرَ)
وفي قوله أيضا عليه السلام:
(والذي نفسي بيده لا تفنى هذه الأمة حتى يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو واريتها وراء هذا الحائط)" "
ولا شك أن هذه النبوءة قد تحققت اليوم، بل وتحقق ما هو أفدح منها، حيث صارت ممارسات الزنا والدعوة إليه تتخذ عشرات الأشكال والأساليب ويتم وصفها بأوصاف الممارسات الحضارية التي ينبغي أن نتبعها حتى نصبح من العالم المتحضر!
كما جاء عن النبي عليه السلام قوله:
(لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يتسافدَ النَّاسُ في الطُّرقِ تسافُدَ الحميرِ)
أيضا من تلك العلامات قوله عليه الصلاة والسلام:
(كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم قالوا وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه يا رسول الله؟
قال: كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر قالوا وكائن ذلك يا رسول الله؟
قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه؟
قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا قالوا وكائن ذلك يا رسول الله؟
قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا وما أشد منه؟ قال: كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟!
قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، يقول الله تعالى: بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران)" "

وإذا كانت هذه هي العلامات الدالة على ظهور أزمنة الفتن، فأين الدليل أو الطريق الذي يحدد للمسلم طريق نجاته؟!
هذا الدليل هو مجموع وصايا النبي عليه الصلاة والسلام وأحاديثه التي حدد فيها سبيل الرشاد، وقد أوردت ما أمكنني من تلك الأحاديث المُشَرفة الصحيحة، مع ربط كل منها بأحداث عالمنا اليوم وحوادثه.

وذلك عن طريق تقسيم أسلوب مواجهة الفتن لأربعة محاور:
الأول:
هو كيفية نجاة الإنسان من جزاء الخلود في النار
الثاني:
أعمال الطاعات التي تعصم الإنسان من النار وكيف يعصمه الله منها ولو كان العبد مستحقا لها
الثالث:
شرح الكبائر المفضية إلى تحريم الإنسان على الجنة وكيفية تجنب هذه الكبائر
الرابع:
الوصايا العامة للنبي عليه الصلاة والسلام في زمن الفتن وأحداث آخر الزمان
لعلها تكون دليلا يكفل لنا النجاة كما وعد الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.


محمد جاد الزغبي 02-17-2024 02:41 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

فصل تمهيدي
العودة إلى الله.

العودة إلى الله. !!!
وهل نحن نرحل بعيدا عنه حتى نعود يا ترى. ؟!
نعم، كثيرا ما يحدث للأسف.
كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إلا من أبيْ)
فهل هناك من يأبى العودة إلى الله وإلى غفرانه وجنته؟!
الجواب نعم، وفي الحديث الشريف:
(كُلُّ أُمَّتي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَن أَبَى، قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَن يَأْبَى؟ قالَ: مَن أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَن عَصَانِي فقَدْ أَبَى)
كلٌ يدخل الجنة إلا من أبي، وما يأبى إلا الخاسرون

• الرحيل
تأخذنا الحوادث وثِقَال الأمور في الدنيا، فنلهو عن حقيقة أننا أمة أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام، تلك الأمة التي خَصّها الله تعالى، بميزات تمناها كل المرسلين، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}
صدق الله العظيم

خَصّنا الله تعالى بأننا الأمة التي نالت شرف البعث المحمدي، وخَصّنا بأننا الأقرب إلى رحمته، وغفرانه، وجعلنا نِصْف أهل الجنة من سائر الأمم كما ثبت بالحديث الشريف
(عن ابنِ مسعودٍ قال:
كُنَّا مَعَ رسولِ اللَّهِ ï·؛ في قُبَّةٍ نَحوًا مِنْ أَرْبَعِينَ،
فَقَالَ: أَتَرضَونَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَم، قَالَ: أَتَرْضَونَ أَن تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَم، قَالَ: وَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لأَرجُو أَنْ تَكُونُوا نِصفَ أَهْلِ الجَنَّة، وَذَلِك أَنَّ الجَنَّةَ لا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنتُمْ في أَهْلِ الشِّركِ إِلَّا كَالشَّعرَةِ البَيضَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَسْودِ، أَوْ كَالشَّعَرَةِ السَّودَاءِ في جلدِ الثَّورِ الأَحْمَر)

فقد جعل الله للجنة آلاف الأبواب نصل بها إليها، وأغلق النار أمامنا إلا من باب واحد،
الشرك به والعياذ بالله تعالى.
أفرد لنا من أبواب الجزاء ما لا يحصي عددا ولا يفنى بددا، وجعل لنا من سبل النجاة والقرب منه، عشرات ومئات السبل.
كلها أهون من بعضها البعض في جهد العمل، وكلها أثقل من بعضها البعض في الثواب والأجر.
ويكفي أن نعلم أن الله جعل لعباده الضعفاء طريقا ذهبيا ليكونوا في صفوف المجاهدين والمتفردين، وبأبسط عمل ممكن في المشقة، وأعظمها ثوابا في الأجر ألا وهو ذكر الله" ":
يقول النبي عليه السلام:
( أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟!،
قالوا: بَلَى، قال: ذِكْرُ اللهِ)

وجعل لنا التوحيد سبيلا للنجاة من النار ونَيْل المغفرة مهما عظمت الذنوب،
ففي الحديث القدسي:
(يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً)
وجعل لنا حُب رسوله عليه الصلاة والسلام أقرب الطاعات وأقرب طريق لعلو الدرجات:
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(مَن صلَّى على النبيِّ صلاةً واحدةً؛ صلَّى اللهُ عليه عَشْرَ صَلواتٍ، وحَطَّ عَنْهُ عَشْرَ خَطيئاتٍ، ورَفَعَ له عَشْرَ دَرَجاتٍ)" "
كل هذا الجزاء وهذه الرفعة بصلاة واحدة يصليها المسلم علي النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، فما بالنا من اتخذ له وِرْدَا يوميا بالذكر والصلاة علي النبي عليه الصلاة والسلام؟!
وما بالنا بمن استخدم الذكاء الإيماني فَصَلّي علي النبي عليه السلام وذكر الله بصيغة الإكثار وهي:
(اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آل بيته وصحابته بعدد خلقك ومداد كلماتك ورضاء نفسك وزنة عرشك)
فترديد ذكر الله بهذه الصيغة لا يُحْتسب مرة واحدة بل يكون العدد لا نهائي وفق هذه الصيغة النبوية.
وقد جاء في الحديث النبوي:
(عن جويرية أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها، ثم رجع بعدما أضحى وهي جالسة،
فقال ما زلت على الحال التي فارقتك عليها؟
قالت: نعم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وُزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضاء نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته)

وجعل لنا القرآن شفاء من كل داء، والصلاة دعاء، وجعل الدعاء ذاته عبادة لله ــــ وهو مصلحة للعبد في الأصل ــ جعله الله أيضا من أقرب الطاعات بل أعظمها.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(ما مِنْ مُسلِمٍ يَدْعو بدعوةٍ ليسَ فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رَحِمٍ إلَّا أعطاهُ اللهُ إِحْدى ثلاثٍ: إمَّا أنْ يُعَجِّلَ لهُ دعوتَهُ، وإمَّا أنْ يدَّخِرَها لهُ في الآخِرةِ، وإمَّا أنْ يصرِفَ عنهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَها.)" "
فتأملوا العظمة!
إنك دعاء العبد لربه هو مصلحة للعبد في الأصل، ورغم هذا جعلها الله له ثوابت فكلما أكثر في الدعاء كلما تتابعت عليه الخيرات، فإما أن يجيبه الله لدعائه فيأخذ به نعمة الدنيا، وإما يدفع به عنه بلاء قادما، وإما أن يدخرها له الله في الآخرة فيجدها العبد في ميزان حسناته وهو لم يحسب لها حسابا!
فأين هو الذي يجزيك من البشر على كثرة طلباتك منه، ولو كان أباك أو أمك؟!
بل العكس،
فإن كثرة الطلب والإلحاح هي مدعاة الضيق والكمد للمطلوب منه، وَذُلٌ للطالب!
وبالمثل.
إن المسلم إذا قضي شهوته بالزواج ارتفع ميزان حسناته رغم أنه في الأساس يقوم بتفريغ شهوته كرغبة ومتعة له، وليس فيها أدني عبادة، لكن الله احتسبها له عبادة ما دام قد وضعها في الحلال!
يقول النبي عليه السلام من حديث طويل:
(وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ!
قالوا: يا رسولَ اللهِ! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟!
قال: أرأيتم لو وضعها في حرامٍ أكان عليه فيها وزرٌ؟
قالوا: بلى،
قال: فكذلك إذا وضعها في الحلالِ كان له [فيها] أجرٌ، وذكر أشياءَ: صدقةً، صدقةً، ثم قال: ويُجْزِئُ من هذا كلِّه ركعتا الضُّحَى)" "

وينال المسلم أجر الصدقة على ذلك ولكن بشرط (النية)، بمعني أنه يحتسب عمله ذلك لله فيوفيه الله الجزاء عليه وتُحتسب له صدقة
ومسألة النية المسبقة على نَيْل الأجر أمر شديد الأهمية يغفله الكثيرون، لأنك إذا فعلت الفعل من الخير أو المباح ــ كالشهوة وتربية الأطفال والإنفاق على بيتك ــ ولم تكن تحتسب هذا الفعل لمرضاة الله يسقط عنك الأجر،
بل إنك لو جلست في بيتك بنية كف أذاك عن الناس وكف أذى الناس عنك جعلها الله في ميزان حسناتك.
لهذا فإنه من الذكاء الإيماني أن يجدد المسلم نيته كل يوم باحتساب مرضاة الله في كل عمل خير يعمله سواء قصده أو فعله بالصدفة.
وهذا الاحتساب المُسَبّق للنية يكفل له ذلك كله
والنية أساس في قبول الأعمال، ومعناها أن ينتوي المرء احتساب العمل لله تعالى، وهو ما أجمع عليه علماء الأصول وفقا لما نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام:
(الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)

فالأعمال مهما عظمت، يضيع أجرها إذا غابت النية، والنية وحدها تكفل لك الأجر حتى دون عمل، فلو أن الإنسان أخلص النية لله أنه إذا أتاه الله المال سيتصدق منه وينفقه في الخير نال الأجر ولو لم يأته المال أصلا
وهذا ثابت من خلال حديث (طبقات الناس الأربعة)
يقول النبي عليه السلام:
(مثلُ هذه الأُمَّةِ كمثلِ أربعةِ نفرٍ:
رجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وعلمًا فهو يعملُ بعلمِه في مالِه يُنفقُه في حقِّهِ
ورجلٌ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالًا فهو يقولُ لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ
قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ:
فهما في الأجرِ سواءٌ
ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا ولم يُؤْتِه علمًا فهو يخبطُ في مالِه يُنفقُه في غيرِ حقِّهِ،
ورجلٌ لم يُؤْتِه اللهُ علمًا ولا مالًا فهو يقولُ لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فهما في الوِزْرِ سواءٌ)" "

فتأملوا مدى خطورة القاعدة التي أرساها الحديث الشريف حيث جعل الذي ينوي من قلبه أن يُقَلّد صاحب المال في البذل والإنفاق في الخير، جعل الله نيته تلك مساوية لعمل صاحب المال نفسه وتساوي معه في الأجر أيضا
وبالمقابل فإن الله جعل الذي يتمني تقليد أهل البغي في إنفاقهم على الملذات، سببا في حمل أوزار مساوية لهم رغم أنه لم يستمتع بالمال الحرام كما فعلوا!
فما أحوجنا للوقوف إلى النفس، ومحاولة العودة إلي الله وتصحيح المسار
فسبحانه من تفرد في صفاته تفردا مطلقا.
من دعانا لقرب منه، فطوبي لمن أجاب الدعاء

محمد جاد الزغبي 02-17-2024 02:57 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

الفصل الأول
كيف نعود إلى الله؟


عندما يفقد الإنسان الطريق الحقيقي لهدفه في الدنيا أو يجهل قيمتها الدنيا، والهدف منها في الأساس، تحت مختلف الدوافع.
ثم تأتيه كلمة، أو عبارة أو حادثة فردية، أو شخص ما، تكون الإشارة هنا دافعا للحيرة والتفكير
والحيرة وعلى الرغم من قسوتها البالغة.
إلا أنها بداية طريق العودة ... لكن كيف نعود ؟!.
الحيرة في إجابة السؤال يغلفها الخوف الرهيب من أن نخطئ طريق النجاة، فالمسالك متشابكة، والأكمة غير واضحة المعالم
ونحن سائرون يأخذنا الاضطراب، ولا طريق هنا إلا البحث عن العلم الصحيح، والعلم الصحيح لا يكون إلا بدليل صحيح، والدليل الصحيح لا يحقق الفائدة إلا إذا كان معه الفهم الصحيح.
العلم، لأنه لا هُدَى بسواه، والدليل الصحيح والفهم الصحيح لا يكون إلا بما نسمعه من العلماء الربانيين الملتزمين بالقرآن وصحيح السنة بعيدا عن هلاوس البدع والخرافات والجماعات والتحزبات

العلم والبحث هو الضرورة
في ظل عالم من حولنا يكاد يُـفصح علانية عن ضلاله بعد أن تفرق البشر أشتاتا وجماعات، مصداقا لقول الرسول عليه والسلام:
(افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
قيل: من هي يا رسول الله؟
قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي. وفي بعض الروايات: هي الجماعة.)

وقد رأينا مئات الفرق والجماعات التي استغلت هذا الحديث فَكَوّنت لها فريقا مختلفا عن عموم المسلمين واتخذوا لأنفسهم مظهرا ومنهجا يتميزون به عن عوام الناس، ووصفوا أنفسهم بالفرقة الناجية!
بينما الفرقة الناجية في صُلب الحديث مرهونة بعموم المسلمين والبسطاء الذين يعبدون الله على عقيدة العوام، دون إفراط أو تفريط متبعين في ذلك ما اتفقت عليه كلمة علماء وفقهاء العصور الأولي في العقيدة السُنّية، وهم السَوَاد الأعظم الذين جمعهم الله على الهدى في العصور الأولى وكل من يتبعهم ممن جاء بعدهم فله مفهوم (الجماعة) وله مفهوم (السواد الأعظم) ولو كان وحده.
يقول الإمام (ابن القيم):
(وكان "محمد بن أسلم الطوسي" الإمام المتفق على إمامته مع رتبته أتبع الناس للسنة في زمانه حتى قال:
"ما بلغني سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت بها ولقد حرصت على أن أطوف بالبيت راكبا فما مكنت من ذلك"
فسُئل بعض أهل العلم في زمانه عن السواد الأعظم الذين جاء فيهم الحديث إذا اختلف الناس فعليكم بالسواد الأعظم فقالوا عنه:
"محمد بن أسلم الطوسي هو السواد الأعظم، وصدق والله فإن العصر إذا كان فيه عارف بالسنة، داع إليها، فهو الحجة، وهو الإجماع، وهو السواد الأعظم، وهو سبيل المؤمنين، التي من فارقها واتبع سواها ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا.")
وقول العلماء عن (محمد بن أسلم) أنه وحده يمكن اعتباره السواد الأعظم جاء نتيجة لما عُرِف عنه من شدة اتباعه للسنة، ووقوفه عليها.

هؤلاء هُم الجماعة، وهؤلاء جميعا هم أهل السنة الذين وصفهم الإمام (ابن تيمية) بأنهم لا يتخذون لأنفسهم سَمْتا معينا أو طريقة مخالفة
الجماعة ببساطة هي المفهوم الذي يشمل كل مسلم شهد الشهادتين وآمن بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأقر بصفات الله تعالى كما وردت في القرآن والسنة دون تحريف أو تأويل، وأحَل الحلال وحَرّم الحرام، وأحب الصحابة وآل البيت معا وأخذ العلم بالدليل لا بالرجال، وابتعد عن كافة الأحزاب والجماعات التي تتخذ لنفسها أسماء وأوصاف عديدة، والتزم فقط بالوصف الصحيح وهو (المسلم السُني)
بلا أي ألقاب إضافية، أو مسميات إضافية سواء كانت مسميات دينية أو علمانية، .... الخ
يدل على ذلك أقوال الصحابة وما اتفق عليه أهل العلم، ومنه قول ابن (ابن حزم) رحمه الله:
(وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ـــ ومَن عداهم فأهل البدعة ــ فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكلُّ مَن سَلَكَ نهجهم من خيار التابعين رحمهم الله تعالى، ثم أصحاب الحديث، ومَن اتَّبعهم من الفقهاء، جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومَن اقتدى بهم من العوامِّ في شرق الأرض وغربها)
وقال الإمام (الترمذي):
(وتفسير الجماعة عند أهل العلم هُم أهل الفقه والعلم والحديث)،
وقال (عبد الله بن مسعود) رضي الله عنه:
(الجماعة ما وافق الحق ولو كنت وحدك)
ومختصر النتيجة التي نفهمها من تلك النصوص أن الجماعة هو ما كان عليه الصحابة عليه السلام في الاعتقاد وأركان الإيمان والثوابت، ومجموع أقوال علماء أهل السنة عبر القرون في شأن الفقه والأحكام، ومعهم من سار على دربهم من المعاصرين.

وقد جاء حديث نبوي شريف جامع، احتوي على القاعدة العامة لنجاة أي مسلم واشتمل على استراتيجية نبوية تكفل وصايا النجاة وتشرح أفعالها ونواهيها،
فقال النبي عليه الصلاة والسلام:
(إنَّ اللَّهَ أمرَ يحيى بنَ زَكَريَّا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بِها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعمَلوا بِها، وإنَّهُ كادَ أن يُبْطِئَ بِها فقال عيسى:
إنَّ اللهَ أمَرَك بخَمسِ كلماتٍ؛ لِتَعمَلَ بها وتَأمُرَ بَني إسرائيلَ أن يَعمَلوا بها، فإمَّا أن تَأمُرَهم، وإمَّا أنْ آمُرَهم،
فقال يحيى:
أخشى إن سبَقتَني بها أن يُخسَفَ بي أو أُعذَّبَ.
فجمَع النَّاسَ في بيتِ المقدِسِ، فامتَلَأ المسجدُ وقعَدوا على الشُّرُفِ، فقال:
"إنَّ اللهَ أمَرني بخَمسِ كلماتٍ أن أَعمَلَ بِهنَّ، وآمرُكم أن تَعمَلوا بهنَّ: أوَّلُهنَّ أن تَعبُدوا اللهَ ولا تُشرِكوا به شيئًا، وإنَّ مَثلَ مَن أشرَك باللهِ كمثَلِ رجلٍ اشترى عبدًا مِن خالصِ مالِه بذهَبٍ أو ورِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عمَلي، فاعمَلْ وأدِّ إليَّ، فكان يعمَلُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سيِّدِه، فأيُّكم يَرضى أن يكونَ عبدُه كذلك؟!
وإنَّ الله أمركم بالصَّلاة، فإذا صَلَّيتُم فلا تَلتَفِتوا؛ فإنَّ اللهَ يَنصُبُ وجهَه لوجهِ عبدِه في صلاتِه ما لم يَلتفِتْ، وآمرُكم بالصِّيامِ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمثَلِ رجلٍ في عِصابةٍ معَه صُرَّةٌ فيها مِسكٌ، فكلَّهم يَعجَبُ أو يُعجِبُه ريحُها، وإنَّ ريحَ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ،
وآمرُكم بالصَّدقةِ؛ فإنَّ مثَلَ ذلك كمثَلِ رجلٍ أسَره العدوُّ، فأوثَقوا يدَه إلى عنُقِه، وقدَّموه لِيَضرِبوا عُنقَه، فقال: أنا أَفْديه منكم بالقليلِ والكثيرِ، ففدَى نفسَه منهم،
وآمُركم أن تَذكُروا اللهَ؛ فإنَّ مَثلَ ذلك كمَثلِ رجلٍ خرَج العدوُّ في أثَرِه سِراعًا حتَّى إذا أتى على حِصنٍ حَصينٍ، فأحرَز نفسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحرِزُ نفسَه مِن الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ".
قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم:
وأَنا آمرُكُم بخَمسٍ اللَّهُ أمرَني بِهِنَّ، السَّمعُ والطَّاعةُ والجِهادُ والهجرةُ والجمَاعةُ، فإنَّهُ مَن فارقَ الجماعةَ قيدَ شبرٍ فقد خلَعَ رِبقةَ الإسلامِ من عُنقِهِ إلَّا أن يراجِعَ، ومن ادَّعى دَعوى الجاهليَّةِ فإنَّهُ من جُثى جَهَنَّم، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ وإن صلَّى وصامَ؟ فقالَ: وإن صلَّى وصامَ، فادعوا بدَعوى اللَّهِ الَّذي سمَّاكمُ المسلِمينَ المؤمنينَ، عبادَ اللَّهِ)

والحديث السابق ــ كما رأينا ــ يمثل دستورا واضح الملامح لكل من أراد النجاة سواء في عصر الفتن أو غيره، ونلاحظ فيه أن وصايا النبي عليه السلام شَدّدَت على عدم اتباع (دعوى الجاهلية)
ودعوي الجاهلية تعني كل دعوة تدعو الناس إلى التفرقة أو التميز أو إلى الفتنة، أو إلى الصراع والاقتتال في نصرة المذاهب والأشخاص لا نصرة الحق، ودعوى الجاهلية لما بها من فتنة جعلها النبي عليه السلام في قمة أوامر النهي
وأكدها في حديث آخر حيث قال:
(مَن خرج من الطاعةِ، وفارق الجماعةَ، فمات، مات مِيتةً جاهليةً،
ومن قاتل تحت رايةٍ عَمِيَّةٍ، يغضبُ لعَصَبِيةٍ، أو يَدْعُو إلى عَصَبِيَّةٍ، أو ينصرُ عَصَبِيَّةً، فقُتِلَ، فقَتْلُه جاهليةٌ، ومَن خرج على أمتي يَضْرِبُ بَرَّها وفاجرَها، ولا يَتَحاشَا من مؤمنِها، ولا يَفِي لِذِي عُهْدَةٍ عَهْدَه، فليس مِنِّي، ولستُ منه)

ولا شك أن فحوى الحديث الشريف قد تحقق في زماننا بوضوح كامل، فخرجت تلك الجماعات التي ادعت أنها تمثل جماعة المسلمين ورفعوا السلاح على عوام المسلمين في كل أرض, وتعددوا في مسمياتهم وبلغوا عشرات الفرق بمسميات ومظاهر مختلفة, لا يدعون إلا لأنفسهم، ولا يغضبون إلا لجماعتهم، وكانوا سببا مباشرا في زيادة التحريض على الثوابت والقرآن والسنة، بعد أن منحوا الفرصة لكل متربص بالدين أن يتهم الإسلام بالإرهاب ويستدل بأفعالهم، بعد أن أعادوا تاريخ فرقة (الخوارج)، والتي كانت أول فرقة خرجت في الإسلام، وانتشر شَرّها قرونا طويلة وكان هذا الشر موجها فقط ناحية المسلمين كنتيجة مباشرة لكونهم كَفّروا الصحابة وسائر المسلمين منذ زمن (عثمان) رضي الله عنه، وكانوا هم الذين قتلوا الإمام (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه.

كذلك شَدّد النبي عليه السلام في حديث الوصايا السابق ذكره، على التزام جماعة المسلمين، وعدم المفارقة، وهذا بالطبع إن كان للمسلمين إمامٌ وجماعة، لأنه في حالة افتراق الأمة فقد شرع الله الاعتزال وحض عليه، وذلك بموجب الأحاديث والوصايا التي وردت عن النبي عليه السلام فيما يخص كيفية تعامل المسلم مع زمان الفتنة والفرقة.

ومنها وصية النبي عليه الصلاة والسلام عندما سأله الصحابي الجليل (حذيفة بن اليمان) ماذا يفعل إذا لم يكن للمسلمين إمام ولا جماعة وانتشرت الفرق والتحزبات؟
فقال النبي عليه السلام:
(تلزم جماعة المسلمين وإمامهم
فقال حذيفة:
فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)

ولذلك قال (نعيم ابن حماد) مقولة عَـبّرت عن هذه الوصية وتُغني كل مسلم، عندما قال:
(إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة)
وهي مقولة بالغة العمق والدلالة، لأنه في زمن الفتنة والفرقة لا يكون الاحتجاج بما صارت عليه جماعة الناس في زمن الفتنة، وما انتشر فيه من أنواع التفرق والمعاصي.
بل العبرة بمفهوم (الجماعة) في زمن الفساد هو ما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وما كان عليه المجتمع قبل أن ينتشر هدم الثوابت.
فإذا التزم أي إنسان بما كان عليه الناس وقت صلاحهم واجتماعهم على إنكار المنكر، فهو عندئذ يستحق وصف (الجماعة) ولو كان منفردا بنفسه عن سائر المجتمع.
وهذه المقولة ذاتها هي التي طبقها الإمام (أحمد بن حنبل) في فتنة (خلق القرآن) عندما نشر الخليفة العباسي (المأمون) أقوال فلاسفة اليونان التي ترجمتها فرقة (المعتزلة)، وفرضوها على الناس وجعلوها في مقام الأحاديث النبوية بالإجبار والقوة، ومن رفض منهم كان مصيره الحبس أو القتل.
فاستسلم معظم العلماء وعامة الناس للمنهج المعتزلي الجديد المخالف لأصول السنة الصحيحة تحت قهر الخوف ولم يبق أحدٌ على منهج السنة الصحيحة إلا (أحمد بن حنبل) وعدد محدود من الأشخاص منهم العلامة (أحمد بن نصر الخزاعي) الذي قتله الخليفة العباسي (الواثق) في نفس الفتنة
وأصر الإمام (أحمد بن حنبل) على القول بمنهج السنة رغم أنهم حبسوه، وعذبوه، وكان عوام الناس ينتظرون رأي ابن حنبل في القضية كي يتبعوه.
وعندما مات (المأمون) وجاء (المعتصم) فَعَذّب الإمام (أحمد) لكي يستسلم لأقوال المعتزلة واحتج عليه بأنه الوحيد الباقي الذي لا يقول بقول المعتزلة وأنه يجب عليه الرضوخ لرأي الجماعة.
هنا رفض ابن حنبل هذا المنطق، وقال بمقولة (نعيم بن حماد) وهي أن مفهوم (الجماعة) إنما ينصرف إلى اجتماع الناس علي الحق لا عندما يجتمعون على الباطل.

فالأمر واضح وصريح وبالغ البساطة،
فطالما أننا عشنا زمن الفتن، ورأينا التشرذم والتفرق، فليس أمام المسلم الصادق إلا أن ينفذ ما أوصي به النبي عليه السلام في اعتزال كافة الفرق دون استثناء
خاصة وأن النبي عليه السلام أنذرنا بوعيد شديد، من عواقب اتباع الأهواء والتفرق، فقال:
(إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم الحجارة، فإن دُخِل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم)

وخير ابنيْ آدم هو هابيل الذي رفض أن يبسط يده لقتل أخيه، رغم أن أخاه بسط يده لقتله، فنجا هابيل وتقبل الله قربانه وكان أول شهيد على الأرض.
ومعني الأمر النبوي أن يحرص الإنسان في زمن الفتن على السلامة والعافية ما استطاع، ولا يتدخل في الصراعات اللامنطقية الزاعقة من حوله، ولا يتقدم لحرب ليس له بها شأن مباشر، لأن صراعات المجتمع في آخر الزمان وفي الفتن ستكون في مجملها إما منافسة في الباطل أو صراعات بين باطل وباطل، لا باطل وحق
ولولا ذلك ما قال النبي عليه السلام في الحديث السابق (فإن دُخِل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم).
وليست هذه دعوى للخنوع أو للوقوف السلبي في مواجهة الظلم مثلا،
فإن المُدافع عن حقه المُغتصب هو في حُكْم المجاهد، ولو مات في سبيل الدفاع عن حقه وماله فهو شهيد بموجب حديث النبي عليه الصلاة والسلام.
(منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ)
لذلك فإن مقتضي الحديث لا يدعو للخنوع أو الوقوف السلبي في مواجهة الاعتداء على الحق الشخصي.

بل للحديث موضوع آخر تماما وهو مسألة إقحام الإنسان نفسه في المنافسة والصراع على الدنيا في أزمنة الفتن، فإذا كان الطموح في زمان الخير كان يتطلب من المرء أن يبذل جهده، وينافس أقرانه ويسعى لحصد المكاسب المشروعة لتحسين حياته.
فإن هذا الطموح نفسه في أزمنة الفتن لا يصبح مشروعا أو مضمونا، لأن اختلاف مقاييس المكاسب في زمان الفتن يكون مختلفا اختلافا تاما.
فالطموح في زمان كزماننا لم يعد هو الوصول للدرجات العلمية العليا، ولم يعد الطموح مرُكَزا على بلوغ مرتبة أهل الفكر والأدب، ولم يعد من الطموح بلوغ درجة الأخلاق الحسنة ونحوها
بل أصبحت الشهرة والمكاسب والمكانة في المجتمعات مرهونة بفعل الموبقات في أغلبها، وانقلب الصراع على الدنيا إلى صراع مرير في بلوغ الباطل لا بلوغ الحق
وفي مثل هذه الصراعات لا يوجد فائز، فالكل مهزوم، فالذي يستطيع مزاحمة المجتمع لبلوغ قمة التميز يكون هو الخاسر الأكبر بوصوله للتميز بعد انقلاب مفاهيمه.
والذي خاض صراع التميز وخسر ولم يبلغه، يكون أكثر خسارة من الفائز لأن خاض الصراع وخسر دينه في سبيل الوصول لمكاسب محرمة ومع هذا لم يبلغها،
فلا هو ظل في متمتعا بالعفو والعافية في دينه، ولا نجح في بلوغ هدفه فبلغ المكسب الذي طمح إليه، فأصبح حاله كحال الذي خسر الدنيا والآخرة وهذا هو الخسران المبين.
لأجل ذلك نصح النبي عليه السلام بترك الصراعات في زمن الفتن على الأهداف التي تنتشر رغبة بلوغها بين الناس، فَأَمَرنا أن نكون كَخَيْر ابنَيْ آدم، (هابيل) الذي اختار سلامة دينه بفساد دنياه لا العكس.
ويؤكد هذا المعني ويعضده حديث آخر، ورغم أنه حديث ضعيف الإسناد إلا أنه يُعَضّد المعني الأساسي الوارد في الحديث السابق.
ونص هذا الحديث يقول.
(يأتي عليكُم زمانٌ يُخيَّرُ فيهِ الرَّجلُ بينَ العَجزِ والفُجورِ، فمن أدرَكَ ذلِكَ الزَّمانَ، فليختَرِ العجزَ على الفُجورِ)
والحديث له شاهد قوي في واقع الحياة اليوم، بدليل أننا إذا نظرنا للمُثُل العليا اليوم التي يطمح الشباب لتقليدها ويتخذون من حياتهم هدفا يقصدون إليه، سنكتشف أنهم اتخذوا القدوة والمثل في كل من بلغ الشهرة في عالم اليوم بغض النظر عن طبيعة هذه الشهرة ومضمونها، فالمهم أن اشتهر بشيء أو بعمل جلب له المكاسب الضخمة بغض النظر عن مشروعية هذا العمل!
وأصبحت نداءات الطموح التي يشجع عليها الآباء أبناءهم، والزوجات أزواجهن، هي الحث والتشجيع على تقليد هؤلاء الناس، فإن رفض العاقل مثل هذا التشجيع الإجرامي اتهموه بالعجز والفشل والخيبة!
بمعنى أن المجتمع الآن لا ينظر لمن اعتصم بدينه وأخلاقه ورفض التقليد، على أنه رجل تَقِيْ أو وَرِعْ، بل أصبحوا ينظرون إليه على أنه عاجز عن بلوغ الفجور الذي يدعونه إليه!
وأنه لو كان يستطيع هذا لَفَعَل، ولا يدركون أنه يستطيع لكنه لا يريد.
لذلك قلت إن الحديث الشريف يصف واقعا فعليا في الحياة، حيث تم تخيير الإنسان اليوم بين العجز والفجور، والعاقل المتمسك بدينه حقا هو من ينفذ وصية النبي عليه السلام فيختار العجز على الفجور.
فإن عجز الإنسان عن تقليد الفاجر ليس عجزا بل هو قمة القدرة والتقوى وإن زعم الناس غير ذلك، ورغم صعوبة الصمود في وجه معايرة المجتمع بالعجز، إلا أن تنفيذ وصية النبي عليه السلام فيه العافية وفيه النجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون.
ونظرا لهذه الصعوبة التي يعانيها المتمسك بدينه في مجتمع الفتن، وصفه النبي عليه الصلاة والسلام بأنه سيكون كمن يقبض على الجمر بقبضته أو يمشي على الشوك حافيا، وذلك وفق نص الحديث:
(ويل للعرب من شر قد اقترب، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل، المتمسك يومئذ بدينه كالقابض على الجمر أو قال على الشوك)

فهنيئا لمن قَسَم الله له ذلك، والقبض على الجمر في الدنيا والمشي على أشواكها أرحم كثيرا من المغامرة بالقبض على جمر الآخرة.
وكل الصعوبات والشقاء التي قد يلاقيها الإنسان في الدنيا ستنمحي في لحظة واحدة مع أول غمسه في نهر الجنة، حتى أن الإنسان ساعتها سينسي أصلا أنه قد مر يوما بالشقاء ولو لساعة واحدة.
وفي المقابل سيؤتي بأشد الناس تنعما ومتعة في الحياة الدنيا، فيغمس غمسه واحدة لكن في النار لينسي ساعتها كل ما مر به من سنوات طويلة من المتعة.
وهذا بنص الحديث النبوي الجامع لهذا المعني الرهيب.
(يؤتَى يومَ القيامةِ بأنعَمِ أَهْلِ الدُّنيا منَ الكفَّارِ، فيُقالُ: اغمِسوهُ في النَّارِ غمسه، فيُغمَسُ فيها، ثمَّ يقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ نعيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا، ما أصابَني نعيمٌ قطُّ، ويؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضرًّا، وبلاءً، فيقالُ: اغمِسوهُ غمسه في الجنَّةِ، فيُغمَسُ فيها غمسه، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ، أو بلاءٌ، فيقولُ: ما أصابَني قطُّ ضرٌّ، ولا بلاءٌ)" "
وتكمن الحقيقة الرهيبة في هذا الحديث أن متعة الدنيا كلها بسنواتها الطوال، وشقائها بأعوامه الثِقَال، لن ينمحي بدخول الجنة أو النار، بل سينمحي بمجرد غمسه، غمسه واحدة فقط في بداية الجزاء العظيم المنتظر بعد ذلك!
وجزاء الجنة لا يمكن أن يتخيله بشر، فيكفي أن أقل الناس ثوابا يوم القيامة، وأقلهم أجرا، سيكون له في الجنة ما يساوي مقداره عشرة أضعاف الدنيا بما حوت!
وهذا بنص حديث النبي عليه السلام:
(إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب فادخل الجنة فيأتيها، فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يا رب، وجدتها ملأى، فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا، وعشرة أمثالها أو إن لك مثل عشرة أمثال الدنيا، فيقول: أتسخر بي – أو أتضحك بي – وأنت الملك؟ قال: فلقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ضحك حتى بدت نواجذه، فكان يُقال: ذلك أدنى أهل الجنة منزلة)

أي أن هذا الجزاء سيكون لرجل دخل النار بمعاصيه، لكنه كان مُسلما مُوَحدا، فأخرجه الله من النار بعد استيفاء ذنوبه، فيكون دخوله الجنة بمثل هذا الجزاء الرهيب حتى أنه لا يصدق!
فما بالنا بجزاء المتقين؟!
فهل هناك عاقل على استعداد للمغامرة يا تري باختيار شيء إلا اختيار فئة القابضين على الجمر ما استطاع!
وإن أكثر ما يلفت نظري في غباء الملحدين وكفار الجحود، وكفار النعمة، أنهم يقبلون بهذه المغامرة تحت تأثير كفرهم وإنكارهم لهذا الجزاء وإنكار اليوم الآخر والبعث والحساب.
وهؤلاء حتى لو خاطبناهم بمنطقهم الدنيوي البحت فلن يكونوا على صواب فيما اختاروه لأنفسهم، لأن الإنسان مهما امتد به العمر فهو بلا شك صائر إلى الموت.
وهم يراهنون على أنهم لن يبعثوا للحساب، ونقول لهم أنه عدم البعث للحساب ــ حتى بمنطقكم الدنيوي ــ يظل مجرد احتمال غير مؤكد، فهل يقبل العقل والمنطق أن تغامروا بوجود البعث والحساب فعلا، لمجرد الإصرار والكبر والغرور؟!
خاصة وأن التمتع بِنِعَم الدنيا وملذاتها من الحرام، هو تمتع نسبي غير دائم، لأن الرفاهية ــ مهما بلغ مستواها ــ فهي رفاهية دنيوية قابلة للاعتياد وشغفها ومتعتها لا يستمران إلا فترة من الوقت ثم تصبح أمرا تقليديا لا يبعث بهجة، ولا يجلب سرورا.
بالإضافة إلى أن المنطق العقلي نفسه يرفض هذا الإصرار العجيب على الإلحاد أو الكفر أو الجحود أو التماس الحرام، لأن متع الدنيا وطيباتها متاحة بالرزق الحلال دون شك، ولو لم يقدر الله لعبده الطيبات، فهذا أيضا ليس مبررا عقليا للمغامرة بالجمع بين شقاء الدنيا والآخرة!

يتبع ان شاء الله

محمد جاد الزغبي 02-24-2024 08:11 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 
وهناك ملحوظة هامة ننبه لها القارئ الكريم وهي بالغة الخطورة.
لأنه ليس معنى هذا الكلام أن الله تعالي يمكن أن يقبل من الإنسان إيمانا مُرتابا بالشك، فيأتي من يريد أن يتذاكى على رب العالمين فيشهد بأنه يؤمن بالله وبالبعث والحساب احتياطا منه لوجودهما، وإن لم يكونا موجودان فهو هنا يظن نفسه لم يخسر شيئا!
ولا شك أن غباء هذا الشخص يفوق غباء الملحد ذاته، لأنه يريد أن يتذاكى على رب العالمين الذي يعلم مكنون الصدور ويطلع على خافية الأعين، ولا شك أنه يعلم يقينا من الذي آمن من قلبه حقا وصدقا، ومن هذا الذي يريد أن يجعل إيمانه لعبة حظ كالنرد وألعاب القمار!
فالله عز وجل لا يقبل من الإيمان إلا ما كان إيمانا حقيقيا في مكنون القلب، وكلما بلغ الإيمان مرتبة الصدق واليقين كلما كان جزاؤه يوم القيامة عظيما،
أما الذي يجعل دينه عُرْضة للشك والارتياب، فهذا قد وقع في أكبر فعل ذمه الله تعالي في القرآن وهو الارتياب، فالله تعالي ذم المرتابين والمترددين ووصفهم بأن في قلوبهم مرض بقوله:
[أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمَ الظَّالِمُونَ] {النور:50}
كما أن الله تعالى لا يهدي المسرف المرتاب، بل جعل هدايته فقط للموقنين.
يقول تعالى:
[الم(1) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4)].
أي أن الهُدي والاطمئنان والجزاء إنما جعله الله للمتقين المؤمنين باليقين.
ومن آمن بالله يقينا ولقي الله بكل ذنوب الأرض، غفرها الله بيقين إيمانه بشرط ألا يكون إيمانه مرتابا بالشك، وذلك وفق قول الله تعالى في الحديث القدسي:
(يا ابنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تشرك بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً.)

الخلاصة أن العاقل في زماننا هذا من يتأمل ويعرف حقيقة الفتن التي نعيشها ويدرك أن لقاء الله تعالى قريب بلا شك مهما طال العمر.
واتباع وصايا النبي عليه السلام في التمسك بالدين ومقاومة إغراء المجتمع للإنسان بالانسياق خلف صراعات أصبحت بلا معنى ولا هدف.
ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أن الصحابة أنفسهم أثناء اشتعال الفتنة الكبري، اعتزل الغالبية العظمي منهم ولم ينحازوا لأي طرف مستندين إلى رخصة الاعتزال التي قررها النبي عليه السلام في حال الفتنة وعدم اتضاح الحق المطلق الذي ينبغي الانحياز إليه!
وذلك لأن الفئتان المتصارعتان لم يكن بينهما فئة على الحق التام، ولا فرقة على الباطل التام، لأن الإمام (علي) رضي الله عنه كان هو الأقرب للحق باعتباره الإمام الواجب طاعته وبيعته، لكن (معاوية) رضي الله عنه، كان له بعض الحق أيضا من حيث أنه لم يكن ينازع سلطة الإمام علي وشرعية حكمه، لكنه كان يطالب بحقه كولي دم عثمان رضي الله الذي قتل مظلوما
فلك أن تتخيل أيها القارئ الكريم أن الصحابة طبقوا هذا الحديث في زمنهم هُم!
زمن الصحابة وزمن أصالة الإسلام والمسلمين، فما بالنا بزمننا نحن الذي نعيش فيه أسوأ انحدار مر عليه المسلمون في تاريخهم؟!
وهل يوجد عاقل يستطيع أن يقول بمشروعية إدخال نفسه في صراعات اليوم أيا كانت ويزعم أنه يعرف أين الحق من الباطل فيها؟!

فحديث النبي عليه السلام باعتزال الفرق المتصارعة في زمن الفتن، يوصي بالاعتزال التام عن كافة الصراعات وعدم التورط فيها، والفتنة كما قلنا هي الصراع الذي لا يظهر فيه الحق الواضح والباطل الواضح
والحديث واضح وصريح في وعيده ونهيه عن التورط في الفتن بالجدل والمناقشات والصراعات والانحياز لطرف ضد طرف في معارك جدلية لا يتضح فيها الحق من الباطل
مع استثناء هام وضابط أهم.
وهو أن يكون التدخل واجبا للتصدي بهدف رد الشبهات وإظهار الحق أمام الأقوال الباطلة التي تلحق بالدين، فهنا يجب التدخل ــ لمن امتلك العلم ــــ بالرد بشرط أن تكون الشبهة منتشرة أصلا ويُخشى على الناس أن يضلوا بها, لأن الرد على شبهة غير منتشرة من جاهل مجهول يزيدها انتشارا, ويحقق غرض صاحب الشبهة من الشهرة لهذا وجب تركه.
أما غير ذلك فالسكوت أسلم.

وفي ظل هذا الوعيد الرهيب والذي تحققت خطواته في عالمنا اليوم، يكون الفزع أمرا هينا إلى جوار ما يشعر به كل باحث عن الحق في ظلمات فتنة ضربت بجذورها في الأعماق.
وليس هناك فتنة أشد من المشاركة في فرقة أو جماعة أو أي تكتل من أي نوع، طالما أنهم انفردوا بأنفسهم عن عامة الناس واتخذوا لأنفسهم أفكارا محددة ومظهرا معينا وأطلقوا على أنفسهم ألقاب الانتساب لشيخ أو عالم حتى لو كان اجتماعهم على قراءة القرآن.
لماذا؟!
درءً للمفاسد كما تقرر القاعدة الشرعية
فالشريعة مثلا حَرّمت اختلاء الرجل بالمرأة ولو كان يُعَلّمها القرآن، درء للمفسدة المتوقعة من الاختلاء، ونحن بعصرنا الحالي، وفي ظل هذه الصراعات الرهيبة بين فئات المجتمع أصبحنا أحوج لتطبيق قاعدة درء التحزب لأي جماعة بعد أن عانى المجتمع وعاني المسلمون من آثار مبدأ التفرقة والانحياز لشخص أو أشخاص بعينهم والأخذ بأقوالهم وحدهم ورفض باقي العلماء أو الدعاة
وللإمام (ابن تيمية) قاعدة ذهبية أوضح فيها مدى خطورة الانتساب لعَالِمٍ معين لا يأخذ من غيره، أو منهج محدد بأشخاص بأعيانهم ورفض ما سواهم أو تفضيلهم حيث قال:
(وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصا يدعو إلى طريقته، ويوالي عليها ويعادي غير النبي صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الأمة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصا أو كلاما يفرقون به بين الأمة، يوالون على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون)

ونكرر أن اتباع طريقة التحزب لشخص أو جماعة بعينها، باطل ولو كان تدعي أن منهجها منهج قائم على القرآن والسنة، لأن مبدأ التَحَزّب نفسه مرفوض رفضا باتا في الدين في الأحوال العادية، فما بالنا في زمن الفتن والفرقة؟!
لأن التحزب لجماعة معناه أن من ينتسب إليها سيدافع عنها وعن أقوالها، في سائر الأحوال ويبرر لها المخالفة ولو كانت المخالفة واضحة للقرآن والسنة أنفسهم
وليس المقصود هنا بالتحريم هو الانتساب العلمي، أو اتباع أقوال العلماء الصحيحة في القضايا الحياتية والعقائدية، فهذا لا يقول به عاقل.
إنما المقصود بالاعتزال هو اعتزال أي جماعة نَصّبَت لنفسها شخصا بعينه وأبطلت ما سواه أو عَظّمَته ووضعته على قمة الإتباع، واتبعوا أقواله ولو خلت من الدليل، هذا هو (المرفوض)،
أما (المفروض) فهو أن يأخذ المسلم العلم من كافة العلماء المعتمدين على الجُملة، ويتبع أقوالهم المقرونة بأدلة القرآن والسنة.
وأنت كمسلم إن طبقت قاعدة الاعتزال الواردة في الحديث الشريف، سيكون لك يوم القيامة دليل على ما فعلت، أما إن تورطت بلسانك أو فعلك في المناصرة أو الهجوم في أي صراع دائر فمن أين لك السلامة؟!
ولو اتخذت لنفسك رمزا أو شيخا أو قائد فرقة تنفذ ما يقوله وتقبله بلا تمحيص، فمن أين لك الحصانة ؟!

فالثقة أصبحت مستحيلة بأي قولٍ وبكل قائل، بعد أن أصبحت قِـبلة العلم والممثلة في العلماء غير مستقرة في مكانها المعهود في السعي خلف الحق المجرد. !
العلماء الحقيقيون أنفسهم انتهي عصرهم أو كاد،
فالعلماء والمتخصصون الكبار اعتزل معظمهم ولم يعد المجال أمامهم مسموحا للظهور، وأغلبية من يتقدمون مقاعد العلم اليوم، انتفت عنهم صفة العلم بعد أن ضربت فتنة القول أقوالهم، وفوجئنا بتلك الوجوه التي تهاجم ثوابت القرآن والسنة وتزعم أن أقوالهم هي الفهم الصحيح للدين!
وأن الإسلام الذي كان عليه المسلمون منذ عهد الصحابة ليس هو الإسلام الصحيح؟!" "
يقولون هذا بينما الله عز وجل يقول في القرآن موجها الخطاب إلي الصحابة عن أجيال المسلمين التي ستأتي بعدهم:
[فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ] {البقرة:137}
فهذا قول الله تعالي للصحابة، أننا لو آمنا بِمِثل إيمانهم فهذه هي الهداية، وإن اتبعنا غيرهم فنحن في الشقاق والشقاء لا محالة!

وهؤلاء يقولون إن الصحابة ليسوا مُثُلا عليا، وأنهم كانوا يتصارعون على الحكم" "، وامتلأت الفضائيات والروايات والصحف بالخرافات التي يرويها هؤلاء عن أشرف جيل في تاريخ الإسلام،
فمن نصدق؟!
هل نصدق ما يقوله هؤلاء أم نصدق قول الله تعالي عنهم:
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران:110}
فإن لم يكن جيل الصحابة هم أصدق مثال لأمة الإسلام في كونها خير أمة، فمتي كنا خير أمة إذن؟!

لقد انتهي ـــ أو كاد ــــ عصر العلم والعلماء بعد أن اعتزل كل صاحب كلمة حقيقية، وتَصَدّر المشهد من ليسوا أهلا لوصف العلم حتى لو كان من بينهم من حاز الدرجات العلمية الكبري،
لأنه مع الأسف في ظل التحزبات والرغبة في لفت الأنظار أصبح الكل يتاجر بكل شيء وأي شيء حتى بالعلم الصحيح؟!
وبغض النظر عن حالة الجهل العام والشديد حتى بالمبادئ الرئيسية لعلوم الشريعة، وخروج الكثيرين من مُروجي الخرافات من الذين لا يفقهون حتى مبادئ اللغة العربية
فإن المصيبة الأكبر ليست في هؤلاء، بل الكارثة تتمثل في الدارسين والمتخصصين من الذين يتعمدون التدليس ونشر الخرافات بينما الواحد منهم يعلم يقينا أنه يكذب ــ لأنه دارس ـــ ويُفْسد العقول عامدا، وهؤلاء انتفت عنهم صفة العلم، بتخليهم عن آداب تلقي العلم المتمثلة في أربعة محاذير تحققت كلها الآن.
فقد ورد في الحديث:
(مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ)

فهم ينشرون الكذب ويدخلون في القضايا التافهة أو الجدلية إما بقصد الظهور والشهرة، وإما بقصد خدمة الأغراض السياسية، أو بقصد صنع الشعبية لدى العوام!
وكل هذه المقاصد تورد العالم النار إن تعمدها وفقا لنص الحديث.
فضلا على مصيبتهم الأكبر في أنهم يشغلون العلماء الحقيقيين والباحثين من الأزهر الشريف وغيره عن التصدي لدعاة الانحلال ودعاة الإرهاب ومُروجي الشبهات، فيضطر العلماء إلى المحاربة في جبهتين.
جبهة المدلسين وطلاب الشهرة، وجبهة التيارات المتصارعة بين الانحلال والتكفير!

فكيف يستدل العامة على الحق في العودة إلى الله، وأهل الإشارة المنوط بهم التوجيه في حاجة إلى من يُـقِيل ضيعتهم ؟!
وقد كثرت المعارك والجدليات بين الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي التي تذبذب أفكار الناس وتنشر بينهم التشكيك في القرآن والسنة بمسميات مختلفة،
فتارة تظهر جماعات منكري السُنة الذين أطلقوا على أنفسهم اسم " القرآنيون" في تناقض غريب ليس له مثيل بين المسمى الذي يدعى الانتساب للقرآن وبين النشاط الذي يخالف ـــ أول ما يخالف ــــ القرآن الكريم في تقريره:
[وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الحشر:7}

وتارة تظهر أقوال العلمانية ودعاة الإلحاد بإنكار القرآن والسنة معا!
هذا بخلاف فرق الشيعة المختلفة التي انتشرت كالنار في الهشيم بين الفضائيات والإنترنت، ولا زلنا نرى من عجائبها الكثير بين ادعائهم الانتساب لما أسموه " مذهب أهل البيت " والقول بتحريف القرآن وتكفير الصحابة وأمهات المؤمنين!
لكن أقوال أهل البدع مثل الشيعة والملاحدة ونحوهم، لا تترك أثرا في المسلم المُتعلم، كالأثر الذي تتركه شبهات الدارسين ومُثيري القضايا الجدلية منعدمة الفائدة
وهذا الأمر الذي انتشر انتشارا رهيبا اليوم، بدأ في الأصل كظاهرة غير صحية في التسعينيات، وجاءت من بعض كبار العلماء للأسف!
فقد رأينا زلات بعض أكابر العلماء في أنشطة أطلقوا عليها اسم الاجتهاد المشروع وهي أبعد ما يكون عن هذا الوصف بخوضها في مسائل ثابتة في العقيدة بدون أي مبرر ولا داع لا سيما في ظل عصر الفتن الذي نعيشه مثل الذين خاضوا في غيبيات يعتبر الحديث فيها أمام عوام الناس، وبالشكل الذي انتشرت به، داعيا للفتنة لا داعيا للتدبر القرآني.
وقد بدأت إثارة هذه القضايا منذ أواخر التسعينات بما فعله الدكتور (عبد الصبور شاهين) أستاذ اللغة العربية وأحد فقهائها المعروفين رحمه الله، والرجل الذي أفنى عمره في الذود عن الشريعة والفكر الإسلامي وكانت معاركه ضد الأفكار العلمانية والتغريب مجال فخر الكثيرين لا سيما معركته ضد (نصر أبو زيد) في منتصف التسعينيات والتي تعد من علامات فكره.
رأيناه يخرج علينا بكتاب أسماه (أبي آدم) وهو كتاب لا محل له من الإعراب ولا المنطق حوى من المغالطات العلمية والتشريعية ما يجعله محض تخريف أتى من عقل له تاريخه المعروف في الفكر. !
وخاض في مسألة خلق آدم عليه السلام وكيف أنه ليس أول البشر وأن البشر تختلف عن الإنسان حيث سبق آدم خلق البشر ومن البشر تم اصطفاء آدم عليه السلام ودلل على هذا بأدلة أقرب إلى ترهات وشطحات الفلاسفة القدماء في الغرب والذين قامت أسس أفكارهم على محاولة تبرير وجود الخلق والتي ظلت مسألة مغلقة الفهم على عقولهم الملحدة في غيبة الإيمان بخالق.

فجاء (عبد الصبور شاهين) ليثير تلك المسألة التي تُعد من الغيبيات في القرآن والسنة ولا مجال لأي فائدة من إثارتها، لا سيما وأنه أخذ بنفس وجهة النظر الغربية في التطور والتي حاول من خلالها مفكرو الغرب إيجاد بداية منطقية للخلق مخالفا بذلك ما هو ثابت في عشرات الآيات والأحاديث زاعما أن هذا جاء نتاج بحث ربع قرن بينما كانت تلك الأفكار مطروحة من مائتي عام في الأقل وليست جديدة، بل وتراجع عنها بعض مؤيديها من القائلين بها من الفلاسفة
وغاب عنا أي تبرير منطقي لما فعله هذا الرجل بكل تاريخه العتيق في الدفاع عن صحيح الفكر والعقيدة!
والكارثة التي تزيد الأمر تعقيدا أننا لا نتحدث هنا عن اعتداءات جاءت من هواة الشهرة أو أصحاب المذاهب المعادية للعقيدة الاسلامية بل نتحدث عمن هم من رجال الفكر الإسلامي وكباره وعلمائه.

وهذا بالطبع كان في نهاية التسعينيات، أما في عالمنا اليوم فَحَدّث ولا حرج، فقد خرج علينا أشخاص من المفترض أنهم من العلماء وأثاروا بعض القضايا الجدلية التي تليق بعنبر الحالات الخطرة في مستشفيات الأمراض العقلية!
دون أن ندرى سببا واحدا منطقيا يجعلهم يفعلون ذلك ؟!
وبالذات في هذا العصر الذي أصبح عصر الدعوة لترك كل قيمة وكل فضيلة وكل ثابت من ثوابت الدين.
فكيف بنا نستدل الطريق وسط ضباب الاختلاف المرير الذي أصبح اختلافا في الثوابت لا في الفروع كما عهدناه في قدماء المفكرين والفقهاء
ليس أمامنا إلا البحث والتقصي والدراسة واستفتاء القلب بغض النظر عن شخصيات القائلين بالحق حتى يستبين هذا الحق واضحا، كما في الحديث:
(استفت قلبك وان أفتوك)
ولكن يا ترى.
هل كل القلوب تمتلك الحياد الكافي كي تطبق هذه القاعدة لتصل إلى الحق المجرد؟ !!

محمد جاد الزغبي 02-24-2024 08:19 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 
أزمة قلب أم أزمة عقل

حديثي هنا موجه فقط لمن أراد الوسيلة لكيفية معرفة الحق، لا لمن أراد البحث عن أدلة لما يريده ويهواه.
لأنه من البلايا المزمنة التي تعانيها الأجيال الحالية من الحائرين اللاهثين خلف الإجابة، هي رَهْنهم الهداية والحق بالأشخاص لا بالعلم، ورهنهم للحق بالرجال
فوقعوا في أكبر فخ يقع فيه أي إنسان، ألا وهو ارتباطه بأقوال الأشخاص لا بالأدلة والبراهين
وتلك كارثة كبري.
بسببها رأينا من أسلم نفسه لدعاة الإفراط تارة، ودعاة التفريط تارة أخرى مع أن جوهر العقيدة الإسلامية بسيط الإدراك على الرغم من تعقيده البالغ وتلك هي معجزة الإسلام الحقيقية.
فالعقيدة الإسلامية جاءت موسوعة شاملة لما يخص البشر
[مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ] {الأنعام:38}
صدق الله العظيم.

من بداية إدراك وجود الخالق، وحتى تسيير شئون الحياة، فلا حاجة بنا إلى تعقيد ولا إلى تجهيل أو إفراط أو تعصب.
فالإسلام معياره الحقيقي هو الوسطية وتعبر عن جوهره الآيات والأحاديث العملاقة التي اعتدنا سماعها لكن القليل منا من أنصت إليها
يقول تعالي:
[قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] {القصص:72}
وما تبصرنا.
ويقول عز وجل:
[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا] {النساء:82}
وما تدبرنا

جاء لنا الرسول عليه الصلاة والسلام بتلك الآيات التي تدعو لإعمال العقل بشكل محايد وبضرورة البحث عن الدليل أولا، وعند الاختلاف يكون الفيصل هو دليل القرآن والسنة بمقتضي نص قوله تعالي:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] {النساء:59}

أي أن الحل عند الاختلاف هو رد الأمر للدليل من القرآن والسُنة، والإتباع يكون للدليل لا للأشخاص، والقاعدة الأصولية تقول:
(أقوال العلماء يُسْتدل لها، ولا يُستدل بها)
أي أن العالم ــ رغم أنه عالم ــ إلا أنه إذا تحدث فلابد أن يكون حديثه مبنيا على الدليل الصريح والاستنباط الصحيح، أما إن كان قوله مجرد قول بلا إثبات فهو كعدمه
أما أن نسلم الآذان والقلوب والأهواء لشخص فلان أو علان مهما كانت قيمته أو قامته التي بلغها ونأخذ عنه دون رد أو سؤال فهذا هو الضلال المبين.
تماما كما يحدث للعامة إذا فُـتنت بشخص فقيه أو عالم أو داعية أو حتى نَصّاب يجيد الحديث والتلاعب بالكلمات، تجده عندهم قد بلغ الدرجة العليا من العصمة فكل ما يقوله حق حتى ولو كان محض خرافة.
وما أبعد هذه الأمور عن الإسلام وجوهره المتين، فالفارق ضخم بين الاحترام الواجب للعلماء ــ كما أوصانا الرسول عليه الصلاة والسلام ــــ وبين السؤال الواجب عن دليل القول بالذات عند الالتباس.

فلا غرو مطلقا في سؤال العالم عن فتواه أو رأيه ولا مجال للقول بعدم الاحترام عند مناقشة العالم في أمر من الأمور طالما أنها تُطرح بالأسلوب الواجب للحوار،
فالحق كائنٌ بمكانه المستقل والناس تقصده أو تهدف إليه أو تحيد عنه لأنه لا يأتى إلى أحد قط ولا يُرهن بشخص أحد قط إلا من عصم الله في رسالاته، والناس لا تكون حجة على الحق بل الحق هو الحجة على سائر الناس
لكن الأهواء ـــ والتي تروق للناس في مجملها ـــ وتمنحهم التصريح المطلوب لفض القلق والاقتناع النسبي بما يُقال لهم دون زيادة وعى أو إدراك، هذه الطباع هي السبب الرئيسي للضياع وللمظاهر الغريبة التي نراها بين الحين والآخر وتكون إما سببا في الاتكالية أو الفتنة في الدين.

مثال ذلك ما انتشر من ثقافة خطيرة ضربت الكثيرين اليوم،
وهم أولئك الذين يمتهنون أعمالا غير مشروعة أو بها شبهة أو أولئك المواظبين على الكبائر المحرمة في أعمالهم التي يتكسبون منها أو في حياتهم الشخصية، حيث وجد هؤلاء حلا زينه لهم شياطين الإنس والجن، عندما خدعوهم فقالوا إن تركهم للحرام ليس ضروريا ما دمت تُكّفّر عنه بصفة منتظمة بالأذكار النبوية والصدقات والأعمال الصالحة!
وكأني بهؤلاء المعاتيه يريدون خداع الله عز وجل أو يتصورون أنه يقبل الرشوة وحاشاه سبحانه؟!
وقد جاء في الحديث الشريف ردٌ جامع مانع على هؤلاء،
حيث قال النبي عليه السلام:
(أيها الناس! إنَّ الله طيب لا يقبل إلاّ طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:
{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم} (المؤمنون:51)، وقال:
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} (البقرة:172)،
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ، يمدُّ يدَيه إلى السماء يا ربِّ يا ربِّ! ومطعمُه حرامٌ، ومشربُه حرامٌ، وملبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُستجابُ لذلك)

وقد ورد عن (مالك بن دينار) قوله لأمثال هؤلاء:
(لأن يترك الرجل درهما واحدا من حرام، خير له من أن يتصدق بمائة ألف درهم)
وهي المعادلة التي غابت عن هؤلاء ــ رغم بساطتها الشديدة ـــ فلو أنك تركت درهما واحدا حراما، فليس معنى هذا أنك لن تؤجر عليه عند الله، بل له أجر أعظم مما تتصور من أجر الصدقة بأضعافه.
لأن ترك الحرام من الواجبات، والصدقات من النوافل التي تسقط عن الفقير، وبالتالي فإن الزكاة والصدقات لا تكفر الأموال الحرام أو تنفي عنها صفتها، فالزكاة والصدقات إنما جُعِلت من الحلال وحده.

والأحاديث المشرفة والأدعية المأثورة من السلف الصالح ويراها البعض هي المُنْجية بذاتها ـــ مع إهمال العمل بمضمونها ــــ ستكون حُجّة عليهم لا لهم!، فإن أبسط وأهم شروط التوبة وقبول الاستغفار هو الإقلاع عن الذنب والإقرار بحرمته
فنقول نعم،
أذكار الصباح والمساء وكثرة الاستغفار هي أعظم الطاعات، لكن الحرص عليها يجب أن يقترن بالعمل بها، أما الحرص عليها دون الاهتمام بالأوامر والنواهي في الفرائض والمحرمات كارثة محققة.
والصدقات لا شك أنها من أفضل الطاعات، لكن أهم شروطها أن تكون من مال حلال وإلا ما قُبلت قطعا.
فالنبي عليه السلام لخص هذه القضية في الحديث الصحيح:
(عن أبي عمرو سفيان بن عبد الله الثقفي، رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا غيرك، قال: قل آمنت بالله، ثم استقم)

فالإيمان قولٌ وعمل كما قال الأصوليون، والحديث وَرَدَ فيه الجانبان باختصار مدهش
فالقول، هو أن تؤمن بالله، والعمل هو الاستقامة علي أمر الله، أما الفصل بين القول وبين العمل أو الفصل بين العبادة والعمل، فهذه دعوي لا علاقة لها بحقيقة الدين ومقاصد الشريعة
فتجد من يحرص على الصلاة والأذكار بل والحج والعمرة وكثرة الصدقات وهو في نفس الوقت لا يترك كبيرة من الكبائر لا يتورط بها، والمشكلة أنه يفعلها بأريحية غريبة وكأن أعمال عبادته تلك تمثل له حصانة أو أنها تُكَفّر عنه كل الموبقات تلقائيا!
وأي نعم أن الأعمال الصالحة تُكَفّر السيئات، لكن ليس بهذا التطبيق الساذج، فإن الله يغفر لمن وقع في المعاصي بجهالة ـــ أي بفتنة ودون تعمد أو إصرار ــــ والأهم أن يقع فيها وهو يعلم حرمتها لا أن يقع فيها ويدافع عنها باعتبارها من المباحات،
يقول تعالي:
[إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] {النساء:17}

فالله عز وجل لا يقبل الرشوة، واستمرارك في العبادات وحرصك عليها لن يعطيك تصريحا بالموبقات والكبائر تفعلها كل يوم دون أدني تأنيب من الضمير! بل ودون توبة!
تحت تأثير هذا الأمر يركن العشرات إلى ما رددوه ويظنون بأنفسهم بلوغ النجاة دون أن يعطى الواحد منهم لنفسه فرصة التدبر قليلا.
فالآيات الكريمات والأحاديث المشرفة والأدعية الثابتة والتي حاز إجماع العلماء في آثارها وفضلها هي حقيقة دون شك، ولكن حقيقتها تبرز لمن، هل تتحقق للجميع. ؟!
كلا بالطبع.
فكيف يمكن أن نتصور لحظة أن أشهد بلساني لله عز وجل بالوحدانية وأشهد لرسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بأداء الرسالة والأمانة، ثم أكتفي من هذا بالنطق المجرد منصرفا بقية عمري إلى ما شئت من موبقات طالما اكتسبت الحصانة اللازمة بمجرد ترديد الشهادة. ؟!
وكيف يمكن أن نتصور دعاء كريما ردده السلف واكتسب أسبقية الأفضلية يمكن أن يفيد معنا بمجرد اتباع ألفاظه في القراءة والسمع، ثم ننتظر إجابته بعد ذلك ؟!
لو أننا سلمنا بهذا فسنكون قد وضعنا الإسلام بعقيدته البالغة العمق في دائرة بالغة السطحية لا تنتهي إلا إلى ضلال مؤكد لأن الإسلام بلا صكوك غفران ولا وجود فيه لالتماس الضمان على الله عز وجل.

و(أبو بكر الصديق) و(عمر بن الخطاب) وباقي العشرة المبشرين وكبار الصحابة، رغم مكانتهم الهائلة، وعطائهم المُكَرّم من الله تعالي ووعد الله لهم بالجنة إلا أنهم ما كانوا يأمنون على أنفسهم أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، ولأنه لا يجوز لمؤمن أن يأمن على نفسه في الدنيا مصداقا لقوله تعالي:
[أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الخَاسِرُونَ] {الأعراف:99}
وقد جاء في (صحيح البخاري):
(قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل
ويُذكر عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق)


فكيف يأمن من يردد بلسانه وهو في التفريط قائم مقيم. ؟!
إن الشهادة لله بالإسلام والتسليم له ما لم يصدقها القلب ويصدقها العمل فهي والعدم سواء بسواء.

فإذا انفصل القول عن العمل، أو ارتكن الإنسان للحرام، وظن أنه بإنفاقه بعض هذا الحرام في الخير سيكون له حصن من المحاسبة، فلا شك أنه في الضالين.
وقد مرَّ الإمام (إبراهيم بن أدهم)، رحمه الله بسوق البصرة يوماً، فالتف الناس حوله يسألونه، وقالوا:
(يا أبا إسحاق! يرحمك الله، ما لنا ندعو الله فلا يُستجاب لنا؟)
فقال إبراهيم:
(لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله، فلم تؤدوا حقوقه، وزعمتم حب رسوله، ولم تعملوا بسنته، وقرأتم القرآن، ولم تعملوا به، وأكلتم نِعَم الله، ولم تؤدوا شكرها، وقلتم بأن الشيطان لكم عدو، ولم تخالفوه، وقلتم بأن الجنة حق، ولم تعملوا لها، وقلتم بأن النار حق، ولم تهربوا منها، وقلتم بأن الموت حق، ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم، وانتبهتم من نومكم، فانشغلتم بعيوب الناس، ونسيتم عيوبكم)

وقد لخص الإمام (إبراهيم بن أدهم) بمقولته تلك كافة الأسباب التي تورطنا فيها نحن في زمننا وزدنا عليها أضعافا مضاعفة، لأن ابن أدهم وصف أهل زمانه نفسه بهذه الأوصاف، فما بالنا نحن بزمننا الحالي؟!
والعمل الصالح والأدعية بناء كامل لا يستوي قائما إلا على أساس متين وما لم يتوافر هذا الأساس فلن يبقي البناء مهما علا وبلغ من القوة لحظة واحدة من دون أساسه الساند
ولذلك وتحت تأثير التسطيح رأينا من يستخدم أدعية السلف ويرجو منها الفائدة وهو لا يصلي أو يزكى أو يصوم!
ورأينا أيضا من يصلي ويزكي ويصوم ويتصدق، بينما عمله في حرام ومكسبه من حرام صريح وليس لديه أدني نية للتوبة منه أو اعتزاله؟!
ورأينا من يردد الأدعية وقلبه ملئٌ بالوجد على أصحابه عامرٌ بالحقد على إخوانه أو يرددها وهو عاقٌ لوالديه ناكر لهما!
إن الأدعية وأقوال السلف والمأثور المحمود منها، هي كالسلاح بيد الجندي المحترف، لو لم يكن جنديا مُدَرّبا مؤهلا لحمله واستخدامه فلا فائدة من السلاح ــ رغم قوة هذا السلاح ــ فضلا على كونه ـــ مع الاستخدام الخاطئ ـــ قد يؤدى إلى التهلكة وهو ما رأيناه بالفعل عندما ظن هؤلاء بالله أنه يُخدع كما يُخدع البشر أو يقبل الرشوة كما يقبلها البشر وحاشا لله
فالقرآن يصف المؤمنين فيمزج بين الإيمان القولي بالإيمان العملي فيقول:
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)]. {الأنفال}.

والقرآن في الآيات السابقة وصف المؤمنين بصفات الإيمان والذكر والطاعات وفي موطن آخر وصفهم أيضا بحدود التقوى وترك الرذائل والفواحش وذلك في قوله تعالي:
[قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ(1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ العَادُونَ(7)]. {المؤمنون}.
وبالتالي فالإيمان الكامل ترتبط فيه أفعال الطاعات بترك المعاصي والموبقات، بنص كلام الله عز وجل.
فالإسلام له أساس وبناء، بهما معا يقوم الدين
أما الأساس فهو العقيدة المُسَماه في الشهادة والفرائض،
وأما المبنى يرتكز إلى النية الحاكمة لكل تصرف يبرهن على وجود الله عز وجل في قلب كل مسلم وعند كل وقت، والإسلام الحنيف أعمق مما نظن ملايين المرات وهو العقيدة الأسمى وأمته خير أمة أخرجت للناس وما أكثر ما حوى من فكر وعمق.
فتعالوا نتأمل ونستبصر في قول النبي عليه السلام
(بُنَي الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان)
وهذا الحديث أشهر الأحاديث النبوية قاطبة، كُلنا سمع بالحديث ودرسه، ولكن كم ممن سمعوه تدبروا في معانيه ؟!
بُــنى الإسلام على خمس.
إذا فالمعنى واضح، فهذه هي أركان الإسلام وأساسه، فأين الإسلام، أين مبناه إذا. ؟!
وان كان الإسلام لا يصح إلا بالأركان الخمسة.
فهل تكفي تلك الأركان وحدها ومنفردة لاكتساب النجاة. ؟
كلا بالطبع
وإلا لما سمعنا عشرات الأدلة التي تشرح لنا بناء الإسلام ومنها من آيات القرآن، ومن أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام
قول رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)" "
والقتات هو صاحب النميمة أو محترف النميمة، وأيضا قوله عليه السلام:
(ثلاثة لا يدخلون الجنة مُدْمِنُ خمر، وقاطع الرحم، ومُصَدِّق بالسِّحْر)" "
وليس معنى (مصدق بالسحر) أنه المصدق بوجود السحر ذاته، فالسحر موجود وثابت بنص القرآن والسنة، وله حكم واضح في الفقه ومن ينكر وجوده يكون منكرا لثابت من ثوابت القرآن والسنة،
ولكن معني (مصدق بالسحر) في الحديث، أنه يأتي الساحر فيطلب منه النفع أو دفع الضرر ويكون مصدقا أن فعل الساحر سيفيده أو يضره أو يحقق له مطلوبه، مع أن الله وحده هو الذي بيده الأمر، وهذا ما أكد عليه حديث النبي عليه السلام في قوله في الحديث الصحيح:
(من أتي عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد)" "
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبرِ ولا يدخلُ النَّارَ مَن كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ فقال رجلٌ يا رسولَ اللَّهِ الرَّجلُ يحبُّ أن يَكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ إنَّ الكبرَ مَن بَطْر الحقِّ وغمَط النَّاسَ)

إلى غير ذلك من الأحاديث المؤسسة التي تشرح في وضوح مبني الإسلام وحقيقته العملية وهي (الدين المعاملة) المكملة للحقيقة العقائدية وهي (التوحيد)
فالحديث الشريف الذي تحدث عن الأركان، أتمه الحديث الذي تحدث عن النية، وبه أتاح لنا الرسول عليه الصلاة والسلام معرفة الإسلام بدون لبس أو غموض فحديث النية الذي ورد فيه (ولكل امرئ ما نوى)، رد أمر أنفسنا إلى أنفسنا، وأن الإسلام يعتمد على النية، والنية صلاحها في الإخلاص، والإخلاص سِرٌ غير مُدرك بين العبد وربه.

وطريقة أداء الأركان، إن كانت قياما وقعودا دون خشوع ودون أن ينسحب تأثيرها النفسي على الإنسان، فقد أصبحت بلا نفع أو أجر، وتعبر عن ذلك الأحاديث النبوية الشريفة في إعجاز مبهر منها قوله عليه السلام.
(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)

يتبع ان شاء الله
صدق رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام

محمد جاد الزغبي 03-17-2024 04:14 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

الفصل الثاني:
كيف ينجو المسلم إذا أراد النجاة؟!

رغم أننا نعيش بالفعل في عصر آخر الزمان وفي زمن الفتن والتفرق والتفكك، وتحققت بالفعل عشرات العلامات التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام عن علامات الساعة الصغرى
ورغم أن عصر الفتن هو عصر الهلاك والضياع وقل من يبلغ فيه درجة النجاة بنفسه،
إلا أن الله عز وجل برحمته المطلقة حدد لنا طُرقا ميسورة لمن أن ينجو بنفسه من الفتن، ويحافظ على الحد الأدنى من التقوى، خاصة وأن الأوبئة وانتشار موت الفجأة قد تحقق بالفعل.
ومن الذكاء الإيماني أن يحدد الإنسان هدفه وفق طبيعة عصره.
فالطموحات في زمان الخير تختلف عن الطموحات في أزمنة الفتن، والذكاء الإيماني يقتضي منا أولا أن نبحث عن سبيل النجاة من النار، قبل أن نبحث عن السبيل إلى الجنة
لأن الله تعالي سَيُخرج من النار كل من كان في قلبه ذرة من إيمان، وهذا معناه أن هؤلاء المؤمنون العصاة سيدخلون النار أولا قبل أن تدركهم رحمة الله تعالي فيخرجون منها ولا يبقي فيها إلا أهل الشرك والنفاق.
لهذا فالتركيز والاهتمام الأكبر لأي إنسان ينبغي أن يَنْصَب ويتركز على الطرق التي تجعله ينجو من النار حتى لو كان حسابه يوم القيامة قد أفضي به إليها؟!

ولكن هل فعلا من الممكن أن ينجو الإنسان من النار ولا يدخلها، حتى لو جاءت نتيجة الحساب بأن موازين سيئاته تعلو على موازين حسناته؟!
والجواب نعم بالطبع.
فهناك من ستعلو موازينه من السيئات ويذهبوا به للنار ولكنه سيكون ضمن الزمرة التي حَرّم الله عليها النار، لأنه تحققت فيه شروط العتق من النار وبالتالي لن يدخلها
والكارثة أيضا أنه هناك من ستعلو موازين حسناته ويذهبون به الجنة ولكن لن تقبله الجنة لأنه مُحَرّم عليها بعد أن تحققت فيه شروط التحريم ــ نسأل الله النجاة لنا ولكم ــ وبالتالي لن يدخلها.

لهذا فالخطوات المنطقية التي ينبغي أن يتبعها المرء يجب أن تكون مرتبة ترتيبا دقيقا كالتالي:
أولا: بالبحث عن سبيل النجاة من الخلود في النار
ثانيا: بالبحث عن سبيل العتق من النار بأن يكون ضمن السعداء الذين حَرّم الله عليهم النار
ثالثا: بأن يسلك سبيل النجاة من الأفعال التي تُحَرّم عليه دخول الجنة
رابعا: بأن يطبق وصايا النبي عليه السلام للنجاة بدينه في عصر الفتن


وتفصيل العناصر الأربعة كالتالي:
العنصر الأول:
وهو النجاة من الخلود في النار فيكون بالابتعاد عن طريق الشرك بكافة أنواعه، سواء كان الشرك الأكبر المعروف أو الشرك الأصغر المتمثل في الرياء
وذلك مصداقا لقوله تعالي:
[إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا]
والآية الكريمة واضحة لكل ذي عينين.
وعلى كل عاقل أن يبحث ويجتهد في أن يتعلم الحد الأدنى من علم العقيدة كي يدرك مفهوم الشرك وأنواعه وكيف يقع، كما عليه أن يكثر من الدعاء ألا يشرك بالله شيئا مما يعلم أو لا يعلم
وهذا أمر منطقي لكل عاقل كما قلنا لأن سبيل للخلود في النار فليس هناك ما هو أكثر ضرورة من ضرورة العلم بأبعاد الشرك وأنواعه
والشرك الأكبر معروف ونادرا ما يقع فيه المسلم العاقل ألا وهو إشراك العبادة لأحد مع الله تعالي، وهو أمر واضح جلي لا يقع فيه إلا من طمس الله بصيرته، وقد وقعت بعض طوائف الأمة في الشرك الأكبر، لكنه بشكل عام فإن العامة والغالبية من المسلمين لم يقعوا فيه نظرا لوضوحه
وهذا هو الشرك الذي عناه النبي عليه السلام في حديثه:
(وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا)
وكما قلنا،
ليس معني الحديث أن أمة الإسلام بأكملها معصومة من الشرك الأكبر، لكن معناه أن الشرك الأكبر لن يكون عَامّا في الأمة كلها، وهو ما أوضحه النبي عليه السلام في أحاديث أخري مثل قوله عليه السلام:
(عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ)
و(دوس) إحدى قبائل العرب، و(ذي الخلصة) كان اسم الصنم الذي يعبدونه في الجاهلية، ومعنى الحديث أن هذه القبيلة ستعود لعبادة الأصنام في زمن ما قبل يوم القيامة.
كذلك قوله عليه السلام:
(لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ:
"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"
أَنَّ ذَلِكَ تَامًّا؟
قَالَ إِنَّهُ سَيَكُونُ مِنْ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَوَفَّى كُلَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَيَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ فَيَرْجِعُونَ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ
)
ومعنى الحديث أنه بعض قبائل العرب ستعود لعبادة الأصنام نفسها التي عبدها مشركو مكة قديما!

وبناء عليه فإن الشرك الأكبر بعبادة الأصنام، والذبح لغير الله والنذر لغير الله وطلب الاستعانة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وإن كان متحققا إلا أنه ليس طريقا عاما للأمة، وليس هذا النوع من الشرك خافيا على الإدراك حتى يحتاج شرحا وإيضاحا
لكن الخوف الحقيقي من نوعين من الشرك كلاهما يُعتبر شركا خفيا يمكن للإنسان الوقوع فيه تحت مختلف المؤثرات
النوع الأول وهو شرك مُلْحق بالشرك الأكبر وهو (القول على الله بغير علم) ونَصّت عليه آيات القرآن الكريم صراحة:
[قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:33}
ولنتأمل الآية الكريمة السابقة بتدبر شديد.
فالله عز وجل حذرنا من جُملة الفواحش والمعاصي وذكرها، ثم ختم بِأَشَدّها وهو الشرك بغيره، وألحق به القول على الله بغير علم!
وعندما يعلم القارئ أن القول على الله بغير علم، معناه أن تتدخل فتفتي الناس وتفسر القرآن أو تشرح أحاديث النبي عليه السلام على غير حقيقتها، فهذا معناه أنك قد تَقَوَلت علي الله ونسبت له ما لم يشرعه.
وهذا الأمر منتشر انتشارا رهيبا في أيامنا هذه ووقع فيه ــ ليس الجهلة فقط ــ بل وقع فيه أكاديميون ومتخصصون خرجوا على الناس ونسبوا للقرآن والسنة ما لم يقل به عز وجل، بل قالوا بعكس ما قال الله، تحت زعم الاجتهاد والتجديد وتحققت على أيديهم نبوءة النبي عليه السلام عندما قال:
(إنَّ اللهَ لا يقبضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ منَ النَّاسِ، ولَكن يقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماءِ، حتَّى إذا لم يترُك عالمًا اتَّخذَ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا، فسُئلوا فأفتوا بغيرِ عِلمٍ فضلُّوا وأضلُّوا)

فهؤلاء الرؤوس الذين يُفتون بغير العلم الصحيح ويُحَرّفون كلام الله عن مواضعه جعل الله فعلهم هذا من أشد أنواع الشرك الأكبر!
لأنهم يخرجون وبمنتهي الجرأة فيغيروا ثوابت القرآن وينكرون السنة المشرفة بأكملها، أو ينكرون بعض الفرائض مثل الصيام والصلاة، ثم يقولون إنهم يقدمون الفهم الصحيح للقرآن تحت زعم الاجتهاد والتجديد!
يقولون هذا رغم أن أبا بكر الصديق نفسه قال:
(أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللهِ مَا لاَ أَعْلَمُ)
والعاقل من يستبصر الطريق لنفسه، لأنه إن اتبع هواه، واتبع أقوال هؤلاء لن ينفعوه يوم القيامة، ولن ينفعوه يوم تجادل كل نفس عن نفسها، ولن تكون له حجة أمام الله أنه اتبع أقوالهم فأضلوه، مصداقا لقوله تعالي:
[وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا(67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)]. {الأحزاب}.
وهكذا كان الرد الإلهي عليهم وعلى سابق الأمم ممن اتبعوا كبراءهم في قوله تعالي في موضع آخر:
[رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ] {الأعراف:38}

والنوع الثاني وهو الشرك الأصغر الخفي (الرياء) وهو الذي ورد فيه حديث النبي عليه السلام:
(عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ذات يوم فقال: (أيها الناس اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيبِ النمل)
والرياء اعتبره العلماء من الشرك الأصغر، لأنه يحتوي على عدم إخلاص النية في العمل لوجه الله، وطلب السمعة والشهرة بما يفعله المرء من الصالحة، والله عز وجل لا يقبل من العمل إلا خالصا، كما ورد في الحديث القدسي
(أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)
وكذلك ورد في الموسوعة العقائدية تفصيل هذا الأمر:
(عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال،
فقال: ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟
قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الشرك الخفي
)
أما كونه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، فلما قال (عبد الله بن مسعود) – رضي الله عنه -:
"لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً"
ووجه الاستدلال:
أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-لأن يقول مثل هذا القول الذي فيه إقدام على ارتكاب الكبائر، والله أعلم

ولسنا بحاجة إلى القول إن الرياء والشرك الخفي هو أشد أنواع الشرك انتشارا بين الناس، في كافة أعمال الطاعات بالذات في الصدقات ومعاونة الفقراء والمحتاجين الذين يتم إذلالهم وتصويرهم بالصوت والصورة لصنع سمعة لمن يؤدي إليهم حقوقهم في الزكاة والصدقات!
هذا بخلاف ما تسببت فيه مواقع التواصل الاجتماعي من البحث الحثيث عن الشهرة والسمعة بأعمال الفرائض من الحج أو العمرة وغيرها إلا من رحم ربي!

ويلتحق بالشرك أيضا كل أفعال السحر والشعوذة، وتعليق الأحجبة والتمائم والتولة، واللجوء للمنجمين والسحرة لمعرفة الطالع والمستقبل!
كل هذه الأفعال ــ بنصوص القرآن والسُنة وإجماع العلماء ــ هي من الشرك وأفعال الكفر.
فقد جاء في الحديث الشريف.
(من أتى عَرّافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما)
وفي قوله عليه الصلاة والسلام:
(من أتى عرافًا أو كاهنًا، فصدقه بما يقولُ؛ فقد كفر بما أُنزل على محمدٍ)
وقوله عليه الصلاة والسلام:
(ليس منا من تَطَيّر أو تُطِيّر له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له؛ ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ)
والتَطَيّر هو التشاؤم من أمر ما وربط ظاهرة معينة أو حدث معين بالفشل في عمل مستقبلي أو نحوه، والتكهن هو اللجوء للعرافين في استشارتهم بشأن أمر معين وتصديقهم في منعه أو المضي فيه، والسحر والكهانة معروفان.
وأما عن التمائم والأحجبة فقد جاء فيها قول النبي عليه السلام:
(من تعلَّقَ تميمةً فلا أتمَّ اللهُ له ومن تعلقَ ودعةً فلا ودعَ اللهُ له وفي روايةٍ أخرى: من تعلَّقَ تميمةً فقد أشرك)
وهذه دعوة نبي مرسل، ولا شك أنها مستجابة، وبالتالي فكل من لجأ إلى التمائم والودع، لتحقيق الحماية أو بلوغ هدف ما، فلن يبلغ هدفه قط فضلا على أنه سيكون قد وقع في الشرك بفعلته!
ومن الغريب أن البعض يعلق التمائم والأحجبة ويحتج بأنه يلجأ للأحجبة التي بها آيات القرآن الكريم، وهذا من التلبيس، لأن التمائم والأحجبة المصنوعة من لغات السحرة، وأيضا تلك التمائم والأحجبة المحتوية على القرآن الكريم كلها لها نفس الحكم
لأن القرآن الكريم أنزله الله للحفظ عن طريق التلاوة والتدبر والتعبد به وليس عن طريق كتابته في ورقة مطوية يتم تعليقها في الجسد أو الأشياء المملوكة للإنسان بنية الحفظ!
فالقرآن الكريم أنزله الله تعالي وشرع التحصن به من أفعال الشيطان والحسد والسحر عن طريق قراءة سورة (البقرة) في المنزل فتحفظ البيت وأهله لثلاثة أيام لا يدخله شيطان بنص الحديث الشريف.
(إن لكل شيء سنامًا، وإن سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته ليلًا، لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليالٍ)
هذا فضلا على (الرقية الشرعية) بقراءة المعوذتين والإخلاص وآية الكرسي وخواتيم البقرة وآل عمران، والأذكار النبوية الصحيحة الثابتة عن النبي عليه الصلاة والسلام

فهذا هو ما شرعه الله لتحقيق الحماية والتحصين، من كل الآفات والشرور، أما اللجوء لأعمال السحرة والمشعوذين والتمائم والرُقَي غير المشروعة فكلها من البدع القادحة في صحيح الإيمان، ولا يمكن أن يلجأ إليها مسلم فتنفعه مصداقا لقوله تعالى:
[وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {البقرة:102}

وهذه الأمور منتشرة انتشارا رهيبا ــ بالذات في المجتمعات القروية ــ كما ينتشر اللجوء للسحرة وقراء الطالع في مجتمعات المدن بل وحتى في الإعلام والفضائيات!
ففي أول كل عام ميلادي تتنافس القنوات الفضائية في استضافة الدجالين والمشعوذين لقراءة الحظ في العام الجديد، والمثير للسخرية أن من يقومون باستضافتهم إعلاميون يُفْترض فيهم أنهم من كبار الصحفيين ودعاة التنوير!
فتخيلوا المسخرة عندما يخرج هؤلاء على الناس فينكرون أحاديث النبي عليه السلام وينتقدونها تحت مبرر التجديد واستخدام العقل، وفي نفس الوقت يجالسون أصحاب قراءة الطالع والحظ!
وكل هذه الأمور حُكْمُها واضح لكل مسلم عاقل قرأ القرآن ولو مرة واحدة في حياته، وهي من الشرك قطعا لأنها لجوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله وهو المستقبل والأقدار
ولسنا في حاجة إلى أن نقول بأن الأقدار والمستقبل بيد الله وحده، ومجرد الاعتقاد أو الظن بأن هناك من السحرة والمنجمين من يستطيعون معرفتها أو تغييرها فهو شرك صريح وتكذيب للقرآن الكريم الذي نَصّت آياته على أن المستقبل والقدر بيد الله وحده
يقول تعالى:
[وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ] {الأنعام:59}
ويقول عز وجل:
[وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ للهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ] {يونس:20}
فهل هناك بعد قول الله تعالى قول؟!
وعندما يقول الله عز وجل (إنما الغيب لله)، فهل هناك مؤمن بالقرآن يستطيع أن يقول العكس؟!


محمد جاد الزغبي 05-18-2024 04:22 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

والعنصر الثاني من عناصر طريق النجاة:
وهو البحث عن سبيل العتق من النار بأن يكون ضمن السعداء الذين حَرّم الله عليهم النار، ولا يمكن للمسلم أن يرجو شيئا أكبر من أن يكون مُحَرّما على النار، بكل ما تحويه هذه الكلمة من معانٍ سامية يوم الحساب.
فهي أشبه بجواز سفر دبلوماسي يمتنع به عن دخول النار ولو كان مُسْتحقا لها بعمله وميزان سيئاته، وهذه الكرامة جعلها الله تعالي لأعمال بعينها ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام.
فالأحاديث التي ورد فيها تعبير (حُرّم على النار....)، تستحق أن نضعها أمام أعيننا ليل نهار، لأن كلام النبي عليه السلام ليس كلاما عاديا، وتعبيراته وحيٌ مُنزل وتشريع مُرْسَل، فإذا وصف هذا الوصف فلا شك أنه وصف دقيق مقصود، وبشارة متحققة بإذن الله.
وقد أحسن فريق العلماء بموقع (الإسلام سؤال وجواب) عندما جمعوا هذه الأحاديث في صفحة واحدة مختصرة تتضمن الأعمال التي وردت فيها هذه البشارة ومنها.
قوله عليه الصلاة والسلام.
(عن أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لمعاذ رضي الله عنه: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)
ولا شك أن شهادة التوحيد ــ بصدق القلب ــ هي الأساس والأصل لكل رسائل الرسل قاطبة، والسبيل الاسمي الذي لا يدانيه سبيل هو إخلاص التوحيد لله تعالي.
وهذا الحديث متمم للآية الكريمة التي شرحت لنا عاقبة الشرك، فإذا كان الله يغفر لعبده الذنوب جميعا إلا أن يُشرك به، فلا شك أن نقيض الشرك وهو (التوحيد) يجعل العبد مُحَرّما على ناره وعذابه.
والحرص على قول (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) و (لا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)
هي خير ما ينبغي أن يحرص المسلم على ترديدها في كل أحيانه، وأن يكون ترديدها مقرونا بإيمان القلب وتصديقه فهي حصن المسلم الحصين في الدنيا والآخرة، وقد ثبت عن النبي عليه السلام قوله:
(من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له المُلْكُ وله الحمْدُ، وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ. في يومٍ مائةَ مرَّةٍ، كانت له عِدلُ عشرِ رِقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنةٍ، ومُحِيَتْ عنه مائةُ سيِّئةٍ، وكانت له حِرزًا من الشَّيطانِ يومَه ذلك حتَّى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاء به إلَّا رجلٌ عمِل أكثرَ منه)

ومن أحاديث النجاة من النار أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:
(حُرّم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ)
وهذا الحديث علامة والله من علامات الإسلام، وسمو شريعته، ودلالة علي صدق قائله ونبوته، صلي الله عليه وسلم.
لأن الحديث من الإعجاز الاجتماعي عندما يجعل هذا الجزاء الأسمى لحُسْن الخلق، والتي قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أنها أقرب الطاعات التي تجعل المرء في الجنة قريبا منه هو شخصيا عليه السلام وذلك في الحديث الصحيح:
(إن من أحبكم إلىّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلىّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)

فالمجتمع الذي يلتزم فيه المسلمون بهذه النصوص، لا يقتصر جزاؤهم فقط على النجاة من النار، بل يجدون جزاءهم في الدنيا في مجتمع أصيل متماسك متعاضد لا يضيع فيه الضعيف ولا يفتري فيه القوي، ومن هنا جاء إعجازه الاجتماعي.
ونعود للحديث الأساسي في هذه النقطة وهو أن الله تعالى حَرّم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس، وهذه الصفات كلها لو تأملناها سنعرف أي مصيبة نقع فيها الآن في مجتمعنا.
فالهين السهل القريب المتواضع من الناس دوما ما يصفه الناس بالضعف، بالذات إذا كان يمتلك أسباب القوة من نفوذ أو مال أو جاه أو علم.
وتكون الكلمة الأثيرة للمجتمع له في هذه الحالة هي نصيحته بأن يغتر بنفسه قليلا أو يحفظ مكانته ولا يخالط الناس ــ حسب قولهم ــ أو يتعامل بوضعه ـــ كما يقول البعض الآخر ـــ وأن يجعل بينه وبين الناس مسافة ـــ كما يتشدق آخرون ــ وألا يجعل معاملته للناس من منطلق البساطة!
فأين هؤلاء من أخلاق الإسلام التي فرض الله فيها التواضع، وأين هم من أفعال النبي عليه السلام الذي جاءه صحابي يبايعه لأول مرة، وكان يرتعد ويتلجلج وهو في حضرة خير خلق الله قاطبة،
فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟!
دعونا نطالع الحديث.
(أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ رجلٌ، فَكَلَّمَهُ، فجَعلَ ترعدُ فرائصُهُ، فقالَ لَهُ: هوِّن عليكَ، فإنِّي لستُ بملِكٍ، إنَّما أَنا ابنُ امرأةٍ تأكُلُ القَديدَ)
وبالنظر إلى الحديث نجد أن النبي عليه السلام أرسي قاعدة هامة جدا، وهي أنه رغم مكانته التي لا تدانيها مكانة إلا أنه شدد على أصحابه ألا يُمَيزوه ويبالغوا في إطرائه وألا يعاملوه معاملة الملوك، وبالفعل تعامل النبي عليه السلام بنفسه مع أصحابه كأحدهم، فكان يعمل معهم كما يعلمون، ويتقدمهم في كل عمل أو جهاد، وكان يجوع معهم إذا جاعوا، ويجتهد قبلهم في مواقع الجهد، بل ويتصدى للمشقة التي قد تقف عرضة أمام أصحابه في الأداء

وبلغ من شدة تَحَرّيه عليه السلام وحرصه على عدم التميز عنهم أن رجلا من خارج المدينة جاء إلى مجلسه في المسجد كي يلقاه ويسأله عن دعوته ويبايعه.
ودخل إلى المسجد وتأمل في الجالسين جميعا وقال:
(أيكم محمد؟!)
وكان هذا التساؤل درسا أخلاقيا رهيبا يندر أن تجد مثله في وضوحه، فالرجل الغريب لم يستطع أن يميز شخص النبي عليه السلام بين أصحابه لأنه كان مخالطا لهم، لم يميز نفسه بمقعد أو بعرش أو حتى بحلقة أو ثياب أو عمامة تختلف عن الجالسين!

ولذلك يُعتبر من أشد أنواع الكبر، أن يطلب الإنسان التميز على غيره والمعاملة الخاصة له، اعتمادا على ما وهبه الله من النعمة أو العلم أو المنصب، فهذا كله من الكبر المحرم.
فإذا جاء التمييز وجاءت المعاملة الخاصة من الناس لأحد رموز المجتمع ـــ دون أن يتعمدها أو يطلبها ــ فهي عندئذ جائزة ولا شيء عليه منها، لأن الواجب على المجتمع تقدير أهل السن والخبرة والعلم والمكانة، أما الشخص المميز نفسه فلا يجوز له مطلقا أن يطلب التميز في شيء، حتى لو كان في مسألة شكلية مثل وقوف الناس له تعظيما أو اجلالا عند دخوله أو خروجه.
فهذه المسألة قد تكون شكلية عند الناس، أما حُكْمها في الشريعة فكارثي، لأن النبي عليه السلام يقول:
(من أحبَّ أن يتمثَّلَ له النَّاسُ قيامًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النَّارِ)
فتخيلوا أي كارثة نغفل عنها إذا كان مجرد حب الإنسان لوقوف الناس تكريما له تجعله من أهل النار بنص الحديث، فما بالنا بالمصائب التي نجدها منتشرة بين المجتمع وتدعو آحاد الناس للتميز لثروة من المال، أو بعضٍ من العلم؟!
ونقول لهؤلاء الذين ينصحون الناس بالكبر والتكبر، يكفي أن نصائحكم يمكن أن تورد النار كل من استمع إليها وظن أنها قواعد اجتماعية عادية ومباحة وذلك وفقا لحديث النبي عليه السلام.
(لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر)
وأحيانا كثيرة يغيب معني ومفهوم (الكبر) عن الناس، فيأتون من التصرفات الموروثة من الأعمال التليفزيونية طباعا هي من أشد أنواع الكبر لكنهم لا يدركون ذلك،
لهذا يكفي أن نقول بأن الكبر هو كل تصرف يصدر منك ويكون فيه فصل بينك وبين فئة البسطاء من الناس أو الفقراء، بمعنى أن تتعمد التميز عنهم وعدم مخالطتهم، تحت تأثير المقولة الشهيرة عن تباين الطبقات!

أما من يدعون لهذه الطباع ويتعمدون الكبر على من دونهم مالا أو نفوذا، فيكفيهم أن نقول بأن الهين السهل البسيط المتواضع إذا امتلك أسباب القهوة والعنجهية وأصَرّ على البقاء كما هو بفطرته فجزاؤه عند الله هو أن يُحَرّم الله عليه النار، وكفي بها فضيلة.
وينضم إلى جملة أصحاب الفطرة، هؤلاء الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأن قلوبهم رقيقة كأفئدة الطير من شدة رقتها، فهؤلاء يلتحقون أيضا بكل هين لين سهل قريب من الناس، وينعم الله عليهم بالتحريم على النار وذلك مصداقا لقوله عليه السلام:
(يدخلُ الجنَّةَ أقوامٌ أفئِدَتُهُم مثْلَ أفئِدَةِ الطيرِ)
وهؤلاء هم من نعرفهم في المجتمع بعدة صفات، جميعها يشملهم الحديث الشريف، وهم أصحاب القلوب الرقيقة التي ترضي لأقل شيء وتسامح لأقل اعتذار، وتبكي لأقل موقف، فقلوبهم لا تحتمل القسوة حتى في العداء، ولا يستطيعون تغيير طباعهم تلك مهما واجهوا من عنت الدنيا والناس.
وكذلك منهم أصحاب القلوب الخاشعة لله، شديدة الخوف من الله عز وجل، فإذا ذُكّرَ أحدهم بالله وجدته يرتعد خوفا ويندم على أقل تقصير.
كذلك منهم أصحاب القلوب التي تتوكل على الله كالطير تغدو خماصا وتعود بطانا، وهم هنا أصحاب التوكل الصحيح الذين يبذلون من العمل ما يستطيعون ثم يتركون الأمر لله واثقين بأنه لن يضيعهم، وترى الواحد منهم شديد الثقة بتوفيق الله كما لو كان قد أدرك المستقبل ورآه بعينه.
فهؤلاء الفئات جميعا يدخلون في معنى الحديث السابق.
وهؤلاء جميعا هم على العكس من أولئك الذين يتميزون بالتكبر على الناس، أو يشعرون بأفضليتهم على الناس أو الذين يتعالون على قبول النصيحة أو الحق إذا جاء من غيرهم
لأن أخطر أنواع الكبر إثما، التكبر في شأن العلم، سواء كان تكبرا من الإنسان بما أنعم الله عليه من علم فيغتر به على من دونه، أو تكبرا عن قبول الحق ممن يراهم أصغر منه شأنا، لأن الحق كبير بذاته، متى ظهر أمام المسلم فيلزمه أخذه والاعتراف به بغض النظر عن القائل به.
كذلك التكبر عن النصيحة، فهذه آفة كبرى حيث يرفضها البعض استنادا إلى أنها جاءت ممن هو أقل منه عبادة أو علما، فيجد في نفسه غرورا أن يتم توجيهها إليه، فهذه مهلكة كبرى وجب توقيها، والقبول بالنصح الحق ولو جاءك ممن لا يعمل به.

ومن الأحاديث الشريفة في هذا الجانب أيضا قوله عليه الصلاة والسلام:
(مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ فَهُمَا حَرَامٌ عَلَى النَّارِ)
وهذا باب بالغ الاتساع وميسور للناس جميعا، فالمقصود من تعبير (اغبرت قدماه) أي مشي في سبيل الله تعالي ولو ساعة واحدة من نهار.
ولا يوجد إنسان على وجه الأرض لا يتيسر له ذلك بشتى الطرق، بداية من الجهاد في سبيل الله، وهي متاحة للأغلبية من الشباب في فترات التجنيد وأعمال الحروب أو حتى في فترات السلم ما دام تجنيده تم لهذا الغرض، فليس شرطا أن يخوض المرء قتالا كي يعتبر من أهل الجهاد، فالرباط من الجهاد قطعا، والرباط هو الحراسة والقيام بأمر الحماية على الحدود والثغور.
ووصولا إلى السعي في سبيل الله على الأرملة والمسكين وعوام الفقراء في قضاء مصالحهم، فهذه الأعمال عند الله كالجهاد في سبيل الله
(السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوْ: كالَّذِي يَصُومُ النَّهارَ ويقومُ اللَّيْلَ)

ويدخل فيه أيضا السعي وبذل الجهد في مصالح عموم الناس، أو في مصالح أفراد الناس عند من يمتلك القدرة على معاونة غيره، ويدخل فيها أيضا السعي في طلب العلم لأنه طلب العلم والسعي فيه وبذل الجهد من أفضل الجهاد عند الله .... الخ
وهناك حديث شامل جامع عن النبي عليه السلام يتمم هذه المعاني كلها، فلو تدبره المسلم سيجد فيه أبواب الخير علي أعلي ما يكون من التيسير،
يقول النبي عليه السلام:
(عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلى من أن أعتكف في المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له، أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل، كما يفسد الخل العسل
)

ويلتحق أيضا بهذه الأعمال التي تحرم على النار، وتضمن المغفرة، عمل يستطيعه الإنسان سهولة لا سيما في ممارساته التجارية، وهي فسخ العقود بالتراضي.
فقد جاء عن النبي عليه السلام قوله:
(مَن أقالَ مُسلِمًا بيعتَه؛ أقالَه اللهُ عَثرتَه يومَ القِيامةِ)
وهو تحفيز للمسلمين ليكون تعاملهم التجاري بالتسامح وقبول العذر، وعدم انتهاز فرصة الإعسار والعثرات لتكبيد أحد طرفي العقد فوق طاقته، إذا اضطرته الظروف لعدم تنفيذ العقد.
فالذي يبادر فيخفف الشروط ويسهل المعاملات ويقيل العثرات سيجد المعاملة بالمثل يوم القيامة عندما يحاسبه الله على أعماله بنفس هذا المنهج فيقيل عثرته ويتجاوز عن خطاياه.
والأمر ليس خاصا بالأعمال التجارية وحدها، بل إن تسامح المسلم مع غيره وقبوله العذر ومد مهلة القروض أو التخفيف منها، والتجاوز عن الديون كلها أعمال تؤدي لنفس النتيجة مصداقا لقول النبي عليه السلام:
(إنَّ رجلًا لم يعملْ خيرًا قطُّ، وكان يُداينُ الناسَ، فيقولُ لرسولِه: خُذْ ما تيسَّر، واتركْ ما عَسُرَ وتجاوزْ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا. فلما هلك قال اللهُ له: هل عملتَ خيرًا قطُّ؟ قال: لا، إلا أنه كان لي غلامٌ، وكنتُ أُدايِنُ الناسَ، فإذا بعثتُه يتقاضى قلتُ له: خُذْ ما تيسَّرَ، واتركْ ما عَسُرَ، وتجاوزْ، لعل اللهَ يتجاوزُ عنا. قال اللهُ تعالى: قد تجاوزتُ عنك)

والحديث السابق خطير في مضمونه،
لأن الرجل بطل القصة لم يعمل خيرا قط، أي أنه اقتصر على العبادات المفروضة، ولم يبادر لأعمال النوافل أو أعمال الخير إلا في شيء واحد وهو (التجاوز عن الناس، والتسامح في اقتضاء الحقوق)، رغم قدرته على استيفاء حقه كاملا، فكان جزاؤه يوم القيامة أن تجاوز الله عن سيئاته وذنوبه ولم يحاسبه عليها أصلا.
وهذا يعلمنا حقيقة تغيب عن بال كثيرين.
أن الإنسان في الدنيا هو الذي يختار طريقة الحساب معه في الآخرة بطريقة تعامله مع الناس، فمن كان حريصا على استيفاء حقوقه لا يتسامح في ذرة منها، فلن يظلمه الله يوم القيامة، طالما أنه يستوفي حقوقه ولا يعتدي، لكن بالمقابل سيكون حسابه يوم القيامة على أعماله ذرةً بِذَرة، لا تجاوز فيها.
والذي يتجاوز ويتساهل ويتغافل عن بعض حقوقه، وحتى إن استوفي حقوقه يستوفيها بأفضل الطرق، لا يُحْرج أحدا ولا يستغل ضعفه أو يمن عليه، فهذا سيكون حسابه أيضا بنفس المعاملة يوم القيامة فتعلو حسناته، ويتم التجاوز عن سيئاته كما كان يتجاوز عن الناس.


ولعل هذا الحديث يعلمنا درسا رهيبا وهو مدى خطأ وإجرام الثقافة المنتشرة في المجتمع والتي تجعل من الإنسان الفظ الغليظ الذي لا يترك شيئا أو يتسامح فيه، تجعله ثقافة المجتمع مثلا أعلى في أنه لا يترك حقه، ويعتبره المجتمع إنسانا قويا وذكيا لا يترك لأحد فرصة التحايل عليه!
ونحن لا نقول بقبول التحايل، لكن الكارثة أن تعامل الإنسان مع كل من حوله ممن تمر بهم الظروف القاسية على أنهم محتالين ليس من الذكاء ولا من القوة.
فالقوة أن تكون قادرا على استيفاء حقوقك لكنك تتجاوز ما استطعت عمن يمد عذره إليك، على احتمال بسيط أنه صادق، ولو كان كاذبا فلن تخسر شيئا لأنك نويت الخير أصلا وأجرك فيه ثابت ووزر الكاذب عليه فهذا هو الذكاء الإيماني والقوة الحقيقية.

ومن الأحاديث المؤسسة أيضا في مجال الأعمال التي تحرم الإنسان على النار قوله عليه السلام:
(مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ)
وهذه طاعة ميسورة لمن أنعم الله عليهم بالمواظبة على الصلاة وسُنَنِها، فإذا أضاف المسلم إلي السنن الرواتب أربع ركعات قبل الظهر وبعده فهي لا تمثل جهدا كبيرا، وبالمقابل فهي من الأعمال التي تؤدي به لإدراك فضيلة التحريم على النار

ومنها أيضا قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(ثلاثة لا ترى أعينهم النار: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين غَضّت عن محارم الله)
وهذا الحديث يشمل كل عين قامت بالحراسة في سبيل الله على سبيل العموم أو على جماعة محدودة وسواء كان صاحبها من المكلفين بذلك كعمل له أجرــ بشرط أن يؤدي حق عمله كاملاــ، أو من المتطوعين بهذا، وفي سائر الأحوال فالحديث يشمل كل عين حرست في سبيل الله ولو لمدة يسيرة ما دام فاعلها قد فعلها ابتغاء الأجر.
كما أنها تشمل كل من بكي من خشية الله، سواء خوفا وإشفاقا من عذاب الله تعالي، أو تأثرًا بآياته وشرعه، أو من محبة خالصة لله ورسوله عليه الصلاة والسلام ولصحابته المقربين
وكل مسلم لابد عليه أن يبذل الجهد اليسير لالتماس مواقف الخشوع ــ وما أكثرها ــ في العبادات وفي تلقي العلم وفي سماع القرآن الكريم وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، فإن رقة القلب ودموع العين إذا كانت قريبة ومبذولة فهي علامة من علامات رضا الله تعالي علي عبده.
والعين الثالثة هي العين التي عَوّدَها صاحبها على الغض عن محارم الله، ولا شك أنها في زماننا المعاصر أصبحت طريقا ذهبيا للطاعة، بعد أن انتشرت المحارم وأصبح التشجيع عليها قائم ليل نهار، ورغم صعوبتها البالغة على النفس في عالمنا اليوم إلا أن الله عز وجل عودنا أن الجزاء على قدر المشقة
ولا شك أن من يغض البصر عن محارم الله في زمنٍ تكثر فيه المعاصي أفضل بمراحل من الذي يغض بصره في زمن الفضيلة، وإذا كانت العين التي تغض الطرف عن المحارم جزاؤها ألا تمسها النار، فلا شك أن الجزاء متحقق بضمان أكبر لمن استطاع أن يغض بصره في أزمنة التهتك.

وأيضا من الأعمال التي جعل الله جزاءها التحريم على النار ما ورد في حديث النبي عليه السلام.
(لا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ)
و(تَحِلّة القسم) المقصودة في الحديث ليس معناها ــ كما فهمها البعض ــ أن النار تمسه فعلا، بل المقصود ـــ كما جاء في شرح صحيح مسلم للإمام (النووي) ـــ من (تحلة القسم) هنا، فترة المرور على الصراط والتي سيري فيها كافة الخلائق النار سواء كانوا من الناجين منها أو من غيرهم، فالمرور على الصراط مقرر على الجميع وهذا المرور سيقوم به أهل الجنة ولكن ليس معناه الغمس أو لمس النار، بل هو تحلة القسم الإلهي في قوله تعالي:
[وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا] {مريم:71}
ولا شك أن الجزاء هنا في هذا الحديث فيه عزاء كبير جدا لمن ابتلاه الله بموت الولد، وقد حدد الحديث الشريف من مات له ثلاثة من الولد أن الله تعالي سيحرمه على النار إن صبر وشكر.
ولكن ليس معنى هذا أن من مات له ولد واحد فصبر، لن يناله من هذا نصيب، بل الجزاء موفور حتى لمن مات عنه الشخص المقرب والمصطفي بحياة المرء فَصَبَر المسلم علي فراقه منذ لحظة الصدمة الأولي. وذلك مصداقا لحديث النبي عليه السلام.
(يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة)" "
وهذا كرمٌ عظيم من الله تعالى، فالحديث واضح في أن الله يَـعِد وعدا صريحا ـــ وهو أصدق القائلين ــ كل من مات (صَفِيّه) من الدنيا فاحتسبه وصبر، وعده بالجنة لا محالة
و(الصَفّي) هنا هو الإنسان الأشد قربا للمسلم، سواء كان من الأهل أو من غيرهم لأن الحديث عام في ذلك، والصفي المختار هنا قد يكون الأب أو الأم أو الصديق أو غير ذلك، القصد أن يكون هذا الشخص هو الأكثر قربا والأشد في تأثيره على حياة المرء
ويجدر التنويه أن شرط الحديث بالصبر هنا يلزمه أن يكون الصبر عند الصدمة الأولي، بحيث يُطبّق المسلم حديث النبي عليه السلام فيسترجع فور أن يبلغه خبر الوفاة، والاسترجاع هو قول المسلم (إنا لله وإنا إليه راجعون).
والاسترجاع هو السُنَة التي سنها الله تعالي لعبده عند كل مصيبة بقوله تعالى:
[الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] {البقرة:156}

أيضا من هذه الأعمال الصالحة والتي لها أجرٌ عظيم (الذب عن عرض المسلم)، ومعناه ببساطة قيام الإنسان بالدفاع عن شخص يعرفه جاء أمامه ذكره بسوء، فانبرى للدفاع عنه بما يعرفه فيه من صفات حميدة، أو هو في صورة أخرى رفض المسلم أن يُغْتَاب مسلمٌ في مجلسه وهو حاضر سواء كان يعرف الشخص الذي وقعت في حقه الغيبة أم لا، فدفاعه عنه ورد غيبته من أعظم القربات عند الله وهي أحد الأعمال التي تٌحَرّم العبد على النار أو تدفع عنه النار وذلك بنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(من رد عن عرض أخيه ردّ الله تعالى عن وجهه النار يوم القيامة)
وهذا العمل فيه تطبيقات وتفصيلات كثيرة، من هذه التطبيقات أن رد الغيبة عن المسلم واجب، ورد البهتان أوجب منه، فالغيبة هي ذكر الإنسان في غيبته بسوء موجود فيه، أما البهتان فهو ذكر الإنسان بما ليس فيه أي بظلم وافتراء عليه.
وذلك بمقتضي حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(عن أبي هريرة قال يا رسولَ اللهِ، ما الغِيبةُ؟ قال: ذِكْرُك أخاك بما يَكْرَهُ. قيل: أفرأيْتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إن كان فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه، وإن لم يكنْ فيه ما تقولُ فقد بهَتَّه.)

كما أن رد الغيبة في شأن الدفاع عن العرض من أوجب الواجبات أي أنها ليست مجرد ثواب يستحقه المرء إن قام به، ولا يُحاسب على تركه، بل هو واجب على الإنسان إن فعله نال الجزاء العظيم، وإن قصر فيه عوقب بمثل قائله ما لم يدفع عنه أو يبرأ من الإثم بمغادرة مجلس الغيبة
لأن القذف في العرض من الموبقات وأكبر الكبائر، فالدفاع عنه واجب، وإن لم يستطع الإنسان رد الغيبة أو البهتان أو الطعن في العرض فعليه أن يقوم من هذا المجلس، لأن سكوته عن الباطل أو الغيبة في حق أشخاص غائبين يعتبر شراكة منه في هذا الإثم ما لم يدفع عنه، فإن لم يستطع فعليه القيام من هذا المجلس ليبرأ من الإثم.
ونظرا لأن كل قاعدة ولها استثناء، فالشريعة استثنت من إثم الغيبة كل مُجاهر بالمعصية وكل فاسق معلن بفسقه، فهؤلاء ليس لهم غيبة لما في أفعالهم من ضرر يلحق بالمجتمع إثر أفعالهم، ولهذا أباح الله غيبتهم والحديث عنهم ليحذرهم الناس ويعرفون صفاتهم.
كذلك يستثني من إثم الغيبة الشهادة بالحق أمام القضاء، وأمام الناس أيضا، فمن سئل عما يعلمه من طباع شخص وكان هذا السؤال ينجم عنه معاملة ما كالنسب والتجارة مثلا، هنا تجب الشهادة بالحق في صفة الشخص المسئول عنه.

وإذا كان من يذب عن عرض أخيه، ويرد غيبته، مثل هذا الجزاء العظيم بالعتق من النار، فهل لنا أن نتخيل الجزاء الموفور لمن يرد الإساءة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وعن أمهات المؤمنين، وعن الصحابة، رضي الله عنهم جميعا.
فهذا فوق أنه من أوجب الواجب، فإن له من الجزاء ما لا يعلمه إلا الله، والسكوت عنه مصيبة كبرى تحل بالمسلمين جميعا إن قَصّروا في الرد الواجب.
ويدخل في باب الدفاع عن النبي عليه الصلاة والسلام، نشر سيرته العطرة، ورد شبهات المهاجمين لشخصه وسيرته، وكذلك الأمر في الذب عن الصحابة وأمهات المؤمنين يدخل فيه نشر سيرتهم وعطائهم وفضلهم، والحرص على تعليم الناس تاريخهم وجهدهم.
وبالجملة فإن كل عطاء يقوم به أي مسلم في سبيل الدفاع عن النبي عليه السلام وأصحابه، يعتبر من إبراء الذمة تجاه هذا الواجب مهما كان هذا الفعل هينا أو بسيطا ولو بمجرد إبداء الغضب أو الاستنكار.
كذلك هو الذب عن السنة النبوية في مواجهة مهاجميها ومنكريها، فهذا من أفضل الجهاد في سبيل الله، لأن السُنة دليل الدين ودليل القرآن الكريم، ولكن الدفاع عن السنة لا يكون إلا بالعلم، فلابد لمن يتعرض لهذه المهمة الجليلة أن يتسلح بمبادئ الدفاع عن السنة النبوية في مواجهة أصحاب الشبهات.
والذي يتفرغ ليتعلم أصول ومبادئ السنة، ثم يوجه جهده في رد الشبهات وفي بيان صحيح الدين وتعقب أقوال الملحدين، فهو معدود في علماء الأمة العاملين إن احتسب عمله لله وأخلص نيته ولم يطلب فائدة دنويه من وراء عمله هذا، وجزاء أهل العلم العاملين لا يمكن حصره لأن فضل العلم عند الله لا يدانيه فضل، ومكانة العلماء تأتي بعد مكانة الأنبياء مباشرة عليهم السلام.
وقد قيل للإمام (أحمد بن حنبل):
(الرجل يصوم ويصلي ويعتكف أحب إليك، أو يتكلم في أهل البدع؟)
والمقصود من "التكلم في أهل البدع" هو العالم أو الباحث الذي يرد شبهات المبتدعة عن السنة النبوية، ويُبطل حجج منكريها أو الآخذين بغيرها.
فقال:
(إذا صام وصلى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلم في أهل البدع فإنما هو للمسلمين هذا أفضل)
وقد قال (يحيى بن يحيى):
(الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله،
فقيل له: الرجل ينفق ماله، ويُتعِب نفسه، ويجاهد، والذاب عن السنة أفضل منه؟)
فقال: نعم بكثير).
ومن كان راغبا في الدفاع عن القرآن والسنة، لكنه لا يمتلك العلم الكافي لذلك، فإن تفريغ بعض وقته لسماع أهل العلم في هذا، وقراءة الكتب المدافعة عن السنة لرد شبهاتها يعتبر أيضا من أعظم القربات، لأن المسلم إذا حَصّن نفسه بمعرفة رد الشبهات سيفيد نفسه وأهله في الدنيا والآخرة
وذلك لما في الدفاع عن السنة من خير عميم يشمل سائر المسلمين، ولا شك أن الأعمال التي تعود بالنفع العام والهداية للحق هي أفضل الأعمال بلا منازع.

فهذه هي مجمل الأعمال التي قرر فيها النبي عليه الصلاة والسلام أن فاعلها مُحّرمٌ علي النار بفضل الله وكرمه سبحانه وتعالى.

محمد جاد الزغبي 05-18-2024 04:52 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

والعنصر الثالث من عناصر النجاة:
أن يسلك الإنسان سبيل النجاة والبعد عن الأفعال التي تُحّرم عليه دخول الجنة، ولا أعتقد أن هناك أغبي من الشخص الذي يوفقه الله لأعمال الخير حتى تأتيه الجنة فَيُفَاجئ بأن الجنة محرمة عليه بسبب أنه تورط في عمل من تلك الأعمال التي قررها الله كمبرر لتحريم الجنة على فاعلها.

وقد تعرضنا سابقا في هذا الموضوع للأحاديث التي بَيّنَت قِسْما من هذه الأفعال، ومنها مرتكب النميمة على سبيل الاعتياد، والعاق لوالديه، وقاطع الرحم، ومدمن الخمر، والديوث، والمنّان بما أعطي المرائي بعمله، وأيضا الرَجِلَة من النساء أي التي تعتاد سلوك صفات الرجال سواء في الملبس أو في الكلام أو في مُجمل الصفات.
وقد جاء في الحديث الشريف.
(ثلاثةٌ لا ينظرُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ إليهم يومَ القيامةِ؛ العاقُّ لوالِدَيهِ، والمرأةُ المترجِّلةُ، والدَّيُّوثُ وثلاثةٌ لا يدخُلونَ الجنَّةَ: العاقُّ لوالِدَيهِ، والمدمِنُ على الخمرِ، والمنَّانُ بما أعطى)

كذلك منهم (المُجَاهرون)، الذين ورد فيهم حديث النبي عليه السلام:
(كلُّ أُمَّتي مُعافًى إلا المجاهرين، وإنَّ من الجِهارِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا ثم يُصبِحُ وقد ستره اللهُ تعالى فيقولُ: عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يسترُه ربُّه، ويُصبِحُ يكشفُ سِترَ اللهِ عنه)
والذي يتأمل المجتمع اليوم، لن يجد شيئا أكثر انتشارا من المجاهرة بالذنب!
وهي من الكبائر المخفية عن الناس بسبب انتشار الثقافات المُعَلّبة، والدعوات الغريبة الصادرة عن معاتيه المثقفين في دعوة الناس ليعلنوا معاصيهم وفواحشهم في العلن تحت زعم الجرأة والصراحة وعدم النفاق!
وقد انتشرت أقوالهم تدعو الناس لتقليد الغرب في الإعلان بالفواحش والموبقات، ويفسرون دعوتهم بأن المجتمع الغربي صريح ومتسق مع نفسه ويعلن ما يفعله، بينما المجتمع العربي منغلق ومنافق يحب الفواحش والمعاصي ويقع فيها لكنه ينكرها ويخفيها في العلن!
وهذا من تلبيس الشيطان الرهيب على هؤلاء الناس
لأن إخفاء المعاصي والتستر عن الناس عند ارتكابها ليس من الصراحة أو الجرأة في شيء!
فالصراحة والجرأة هي من الأخلاق الحميدة، ولا يمكن أن نصف بها إنسانا إلا إذا كانت صراحته وجرأته في الحق وحده،
أما الخروج على الناس بالمعاصي والفواحش فهي وقاحة لا صراحة، وزندقة لا شجاعة وجرأة.
والمُستحيي من معصيته ومن يخفيها عن الناس هو مرتكب للمعاصي نعم، ولعل الله يتوب عليه، وغاية ما يناله أن يُعتبر في ميزان الشريعة مذنبا
أما المُعلن بمعاصيه والداعي لها والمجاهر بها على الناس، فهذا خرج بنفسه من حدود الذنب إلى حدود أعتي الكبائر لأن في فعلته تلك تحديا لشريعة الله تعالي، وتهوينا للمعصية في عيون الناس، وَهْدَما مؤكدا للضمير المجتمعي الذي يعتبر وجوده في أي مجتمع هو الحصن الذي يمنع الموبقات من الانتشار
كما أن مجاهرته تمثل تشجيعا رهيبا لغيره على ارتكابها، وتمهيدا للطريق أمامه بعد أن كان يمتنع بمعصيته ويسترها عن الناس من خوف إنكارهم عليه.
وأَشَرّ أنواع المجاهرين بالمعصية هم الداعين لها، والمدافعين عنها، والساعين لأن يتقبلها المجتمع تحت زعم الحرية وقبول الآخر، وهؤلاء صدق فيهم قوله تعالي:
[إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] {النور:19}

أما قولهم الغريب بأن المجتمع العربي يحب المعاصي ويخفي ارتكابه لها وأن هذا من النفاق، فهو قولٌ معتوه لا يصدر عن عاقل!
فليس مطلوبا قط من المسلم أن يقتل شهوته ويهدم رغبة نفسه في ارتكاب المعاصي، بل المطلوب منه أن يمنع نفسه عنها ويصبر على عدم فعلها ــ إلا في الحلال ـــ اتقاء ونفاذا لأمر الله تعالي، ولذلك يجزيه الله تعالى على صبره ومقاومته تلك.
ولو كانت المعاصي ليست ذات إغراء للنفس، وممقوتة، وليست مُـرَكَبة في طبيعة الإنسان لانعدمت الحكمة من أخذ الثواب على عدم ارتكابها.
فهؤلاء الجهلة لا يفقهون أبجدية التشريع.
فالمسلم غير المتزوج تثور به رغبه للزنا فيمنعها ويقهرها بتقوى الله، ولو كان هذا الشخص لا يمتلك الشهوة للنساء ــ لأي سبب ـــ لما قيل عنه أنه اتقي الله تعالي لغياب العلة أصلا

ولتقريب الأمر بمثال.
فالشجاعة ليست معناها (عدم الخوف)، بل الشجاعة هي القدرة على كبح الخوف ومقاومته، أما انعدام الشعور بالخوف فهذا هو (التبلد) وما أبعد هذا عن ذاك
ولهذا فإن الدعوة لنشر الانحلال والمفاخرة بفعله ليست من الشجاعة وليست من الصراحة المجتمعية المطلوبة لأي مجتمع، لأن إعلانها وشرعنتها كفيل بخلق مجتمعات ملوثة تهدم معنى ومفهوم الإنسانية فضلا عن مفهوم الدين والأخلاق.
أو هم كما وصفهم المفكر الراحل د. (مصطفي محمود)، عندما قال إن هؤلاء الناس يريدون أن يجعلوا المجتمع مثل جبلاية القرود كل قرد فيهم مهتم بمؤخرته!

وأمثال هذه المجتمعات أنزل الله بها عقابا ماحقا جزاء فسقهم المعلن، مثل قوم لوط الذين كان قانونهم المجتمعي يشرعن الشذوذ ويعاير المتطهرين!
وَغنِيٌ عن الذكر أن نشر الفاحشة في المجتمع علنا والمناداة بها، أحد الأسباب الرئيسية في ظهور الابتلاء الإلهي بالأمراض الفتاكة والأوبئة المستعصية مصداقا لحديث النبي عليه السلام:
(يا مَعْشَرَ المهاجرينَ! خِصالٌ خَمْسٌ إذا ابتُلِيتُمْ بهِنَّ، وأعوذُ باللهِ أن تُدْرِكُوهُنَّ:
لم تَظْهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قَطُّ؛ حتى يُعْلِنُوا بها؛ إلا فَشَا فيهِمُ الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تَكُنْ مَضَتْ في أسلافِهِم الذين مَضَوْا، ولم يَنْقُصُوا المِكْيالَ والميزانَ إِلَّا أُخِذُوا بالسِّنِينَ وشِدَّةِ المُؤْنَةِ، وجَوْرِ السلطانِ عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاةَ أموالِهم إلا مُنِعُوا القَطْرَ من السماءِ، ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا، ولم يَنْقُضُوا عهدَ اللهِ وعهدَ رسولِه إلا سَلَّطَ اللهُ عليهم عَدُوَّهم من غيرِهم، فأَخَذوا بعضَ ما كان في أَيْدِيهِم، وما لم تَحْكُمْ أئمتُهم بكتابِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ ويَتَخَيَّرُوا فيما أَنْزَلَ اللهُ إلا جعل اللهُ بأسَهم بينَهم)


وقد حفلت مواقع التواصل ووسائل الإعلام بمصائب من هذا النوع تستحي منها الشياطين، مثل الدعوة للإنجاب في غير زواج، والدعوة لإباحة الشذوذ، والدعوة لفتح بيوت البغاء ... الخ
كما أننا طالعنا في أوساط المثقفين انتشار هذه الظاهرة في مذكراتهم الشخصية التي يكتبون بها تجاربهم، وهو أمر يثير الغثيان في الحقيقة!
لأن هؤلاء الناس من المشاهير كان من الممكن أن يدونوا مسيرتهم وسيرتهم في مجالاتهم الثقافية دون ذكر ما ارتكبوه من موبقات في شبابهم وطفولتهم!
لأنها أفعال من الطبيعي أن يستحي منها صاحب الفطرة السليمة فضلا على المسلم العادي
لهذا كان مما أثار استغرابي بشدة وأنا أطالع بعض هذه المذكرات حكاية أحدهم والذي حرص على ذكر تفاصيل حياته في الطفولة وحكي فيها بالتفصيل أول واقعة زنا ارتكبها وكان عمره لا يتعدى الثانية عشرة!
ثم بعد ذلك أتحفنا بذكر قصص العشق التي خاضها لأربعين عاما كاملة من عمره!
وإعلامي آخر كتب في مذكراته نفس تلك المخازي التي اعتاد عليها منذ كان في العاشرة من عمره!
والسؤال المحير هنا حقيقة!
إن كانت كتابة المذكرات الشخصية للمشاهير صُنِعَت لكي يتعرف الناس على تجاربهم الفكرية والعملية ومشروعهم العلمي أو الإبداعي أو الثقافي في المجتمع، وهي بطبيعتها مجال يجب أن تقتصر الأحداث فيه على الوقائع العامة أو الوقائع الخاصة التي لها إطلالة على شأنٍ عام، لأن الهدف الأساسي من فن كتابة المذكرات هو عرض النماذج الحياتية للتجربة كي يستفيد منها القراء.
وبالتالي فإن ذكر تفاصيل الحياة الشخصية يعتبر من العبث وضياع الوقت والفائدة.
هذا إن كانت هذه التفاصيل أصلا من المباحات، فما بالنا إذا كانت تفاصيل الحياة الشخصية عبارة عن ركام وجو فاسد تأنف منه الخنازير!
والذي يثير الذهول أكثر أن رُواة هذه المذكرات لم يكتبوها إلا في نهايات عمرهم، بعد بلوغهم سن الثمانين وأكثر!
ولا شك أن هذا من غضب الله على هؤلاء الناس، فإن المرء في هذه السن له من المحاذير ما يجب أن يتوقاها، فقد جاء في الحديث:
(أعذر الله إلى امرئ أُخِّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة)
بل إن المرء يجب عليه الحذر عند بلوغ الأربعين، فقد جاء في تفسير (ابن كثير) للآية الكريمة:
[وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ] {الأحقاف:15}
أورد (ابن كثير) قول (مسروق) رحمه الله: (إِذَا بَلَغْتَ الْأَرْبَعِينَ، فَخُذْ حِذْرَكَ)" "
وجاء في تفسير الإمام (القرطبي) في تفسير هذه الآية الكريمة.
(ذَكَرَ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ مَنْ بَلَغَ أَرْبَعِينَ فَقَدْ آنَ لَهُ أَنْ يَعْلَمَ مِقْدَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَيْهِ، وَيَشْكُرَهَا، قَالَ مَالِكٌ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا، وَهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا وَيُخَالِطُونَ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ لِأَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِذَا أَتَتْ عَلَيْهِمُ اعْتَزَلُوا النَّاسَ)
نسأل الله العفو والعافية.

وكذلك من الموبقات التي يجب تلافيها على كل عاقل، كبيرة من أكبر الكبائر، لكنها ذات خصوصية في الجزاء حتى أنه لا يفوقها إثما إلا الشرك بالله وعقوق الوالدين، وهي جريمة (الربا)
فالربا الصريح والذي اتفقت عليه كلمة العلماء المتخصصين في تحريمه، من أشد الذنوب التي تقسم النار لِمُرْتكبها، بخلاف كوارثها في الدنيا.
ويكفي أن نعلم أن الربا هو الذنب الوحيد الذي توعد الله عز وجل فاعله بحرب من الله ورسوله، وذلك في قوله تعالي:
([فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ] {البقرة:279}
وقد جاء هذا النهي المشدد للربا إلى هذه الدرجة من الوعيد نظرا لما يتسبب فيه من خراب بالمجتمعات، وانهيار للأموال، واندثار للتجارة وتشجيع البطالة المقنعة عن طريق التجارة المجردة بالمال بدلا من استخدامه فيما ينفع الناس من أعمال التجارة والعمران، والذي هو الهدف والمغزى والحكمة الإلهية من خلق الإنسان على الأرض.
وقد اعتدنا في التشريع الإسلامي أنه يتشدد للغاية فيما يخص تحريمه للجرائم والكبائر التي تعود على المجتمع ككل بالضرر البالغ، لأن الجريمة أو الكبيرة إذا اقتصر ضررها على مرتكبها هان شأنها وتأثيرها، أما إن كان تأثيرها على المجتمع واسعا، فالشرع هنا يُغَلّظ العقوبة والوعيد عليها.
والضرر القادم من الربا هو أوسع أنواع الضرر أثرا بعد جريمة إثارة الفتن والبغي والحرابة.
لهذا حذر منه النبي عليه السلام تحذيرا شديدا في أكثر من حديث، فقد صح عنه أنه قال:
(لعنَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكلَ الرِّبا وموكلَهُ وشاهديْهِ وَكاتبَه)
وغنيٌ عن الذكر أن (اللعن) معناه الطرد من رحمة الله، والطرد من رحمة الله معناه تحريم العبد علي الجنة بطبيعة الحال، فإن الخلق تدخل الجنة برحمة الله وحدها وفق نص الحديث.
(لنْ يُدْخِلَ أحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ. قالوا: ولا أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟
قالَ: لا، ولا أنا، إلَّا أنْ يتغمدني اللَّهُ بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ، فَسَدِّدُوا وقارِبُوا، ولا يَتَمَنَّيَنَّ أحَدُكُمُ المَوْتَ: إمَّا مُحْسِنًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خَيْرًا، وإمَّا مُسِيئًا، فَلَعَلَّهُ أنْ يَسْتَعْتِبَ)
واللعن عندما أصاب إبليس لعنه الله، حرم الله عليه التوبة وطرده من رحمته وأوجب له النار.
فهل هناك عاقل يمكن أن يغامر بنفسه إلى مصير الطرد لأجل إصراره على فعل مهما كانت أهميته له؟!

كذلك هناك أبوابا يستحق فيها مرتكب المعصية اللعن، وبالتالي تُحَرّم عليه الجنة، والمشكلة الكبري حقيقة أن بعض هذه الأعمال لا يدرك مرتكبوها أنها بهذه الدرجة من الجسامة،
ومنها قول النبي عليه السلام من حديث (ابن مسعود) رضي الله عنه:
(لَعَنَ اللَّهُ الواشِماتِ والمُسْتَوْشِماتِ، والمُتَنَمِّصاتِ والمُتَفَلِّجاتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّراتِ خَلْقَ اللَّهِ ما لي لا ألْعَنُ مَن لَعَنَهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وهو في كِتابِ اللَّهِ.)
والحديث يتحدث عن الزينة المحرمة على النساء، فالزينة كلها مباحة للنساء أمام محارمهن وأزواجهن إلا ما جاء ذكره في الحديث من أنواع الزينة السابقة، ولا شك أن العناصر المذكورة في الحديث رغم انتشارها في المجتمع إلا أنها لا تستحق من أي عاقل أن يصر عليها ما دامت عقوبتها فادحة لهذه الدرجة!
وهناك ملحوظة هامة للغاية على القارئ أن ينتبه لها، وهي أنه يجب عليه اللجوء لفتاوي المجامع الفقهية حتى يدرك كل إنسان ما هي حدود الربا المحرم، وما هي حدود الزينة المحرمة وضوابطها وما يلحق من استثناء
فهذه المحرمات وغيرها جعل الله لها استثناء يجيزها ويبيحها في حالات خاصة وهي الضرورة، وتحديد حالات الضرورة المُبيحة في الكبائر ينبغي أن يؤخذ فيها قول مجامع الفقه ومجموع أقوال العلماء وأدلتهم، لأنه لا يبرئ المسلم أن يأخذ التبرير والتحليل من قول شاذ أو من فتوى بغير دليل.
ويلتحق بالفئة السابقة من النساء اللواتي يأتين بالزينة المحرمة، فئة النساء التي أخبر عنهن رسول الله صلي الله عليه وسلم، بأنهن لا يجدن ريح الجنة ولا يدخلنها، بمعنى أن هذه الفئة ضمن الفئات المحرمة على الجنة، وذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:
(صنفان مِن أهلِ النّار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربونَ بها النّاس، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُـميلاتٌ مائلاتٌ، رؤوسهنّ كأسنمةِ البختِ المائلة، لا يدخلن الجنّةَ، ولا يجدن ريحها، وإنّ ريحَها لتوجدُ مِن مسيرةِ كذا وكذا)
وأظن أن الحديث لا يحتاج شرحا لمفهوم الكاسيات العاريات، فإذا كان جزاء الكاسيات العاريات هو التحريم على الجنة، فما بالنا بجزاء من يدعو النساء إلى ذلك، ويحرضونهم على هذا تحت زعم التحرر، وكأن التحرر لا يكون إلا بالتعري والتهتك والتخلي عن ثوابت الدين والأخلاق؟!
يحدث هذا في نفس الوقت الذي يرفض الغرب أن يتخلى عن ثوابته وأعرافه الاجتماعية، بل يُجبر مواطنيه ــ حتى لو كانوا من المسلمين ــ بالتخلي عن أزيائهم المحتشمة لأنها تخالف قوانينهم وأعرافهم، رغم أن الغرب في دعوته تلك يتناقض تناقضا رهيبا مع مبادئ الحرية الفردية وحقوق الإنسان التي صدعوا بها رؤوسنا لعشرات الأعوام!
ولكن العيب هنا ليس عيب الغرب، بل العيب الأكبر في أولئك المتغربين من العرب الذين خالفوا دينهم وأعرافهم واحترامهم لأنفسهم وقبلوا أن يقفوا صفا واحدا مع دعاة البغاء المقنن!
وفي الدورة الأولمبية الأخيرة في اليابان لعام 2021، وَجّهَت إحدى الفرق الأوربية ضربة قاصمة لدعاة التعري عندما رفض الفريق النرويجي للكرة الشاطئية أن يلتزم بارتداء زي السباحة المكشوف بالكامل وارتدى زِيّا أكثر حشمة يغطى معظم الجسد وقالوا في تبرير ذلك أنهم يريدون للناس أن يشاهدوا مهارة وفن الكرة الشاطئية لا أن يشاهدوا أجساد اللاعبات العارية!
وكانت النتيجة أن الاتحاد الأوربي للعبة وقع عليهم الغرامات المادية نتيجة تمسكهم بعدم ارتداء الزي التقليدي.
فإذا كانت بعض النساء في أوربا قد أدركن الخدعة التي مارستها عليهم دعوات التحرر طيلة عشرات السنين، وأدركوا أن النداء بتحرير المرأة لم يكن إلا دعوة فاسدة لتصبح المرأة سلعة متاحة بلا ثمن، فما بالنا بمن يطلقون على أنفسهم مثقفي التنوير في العالم العربي لا ينطقون بكلمة أو تعليق!
ولماذا لم يرفعوا شعار حرية المرأة في اختيار الزي الذي تريده؟!
أم أن نداءاتهم لا يمكن أن تنادي بالحرية إلا فيما يخص حرية التعري؟!

ومن تلك الكبائر التي تُحبط وتفسد العمل الصالح ممارسات اعتاد عليها الناس في عالمنا اليوم ويتوهمون أنها مباحة، أو على الأقل من المعاصي التقليدية.
بينما هي أفعال إما أنها تورد النار، وإما أن تُحبط العمل (وإحباط العمل معناه خسارة الإنسان لرصيد حسناته بالكامل)، وإما أنها أفعال تلتهم موازين الحسنات القيامة.
ولا أظن أن هناك عاقلا في عالمنا اليوم يغامر بخسارة حسنة واحدة من حسناته، مع ندرة أعمال الطاعات وانتشار الإثم والفواحش ليل نهار.
والكارثة الكبرى أن هذه الأعمال ليست من الأعمال التي يصعب مقاومتها أو الأعمال التي لها نفع من أي وجه!
بل هي أعمال يستطيع الإنسان الكف عنها بسهولة.
ورغم ذلك فانتشار مواقع التواصل الاجتماعي جعلها منتشرة انتشارا رهيبا في المجتمع، ويفعلها الناس سعيا وراء التسلية أو المشاركة بالتعليق أو لجلب الشعبية لما يكتبه على صفحته!
ويعتبر أشد هذه الأعمال حُرمة وخطورة هي تأييد الظلم والترويج له أو تبني وجهات النظر الظالمة ولو لفرد واحد في المجتمع.
وليس المقصود هنا مجالات العمل السياسي فقط، بل حتى في المجال الاجتماعي، فإذا تعرض أي إنسان لظلم واضح وانتشرت مظلمته بين الناس فإن من يؤيدها سيكون شريكا فيها كفاعلها تماما رغم أنه لا علاقة له بالأمر من الأساس!
فالمساندة والتأييد لأفعال الظلم الواضحة والرضي بها، تجعل المؤيد مشاركا فاعلا فيها كالفاعل الأصلي، والمساندة والتأييد للظلم أو الباطل على نحو الاشتباه لا يعفي من العذر يوم القيامة لأن المرء من المفترض ألا يؤيد ويساند إلا ما كان واثقا من أنه فعل من أفعال الحق.
فإذا اشتبه عليه الحق مع الباطل فالسكوت هنا واجب.
والله عز وجل يقول:
[وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {هود:113}
وقد جاء في تفسير (الكشاف) للزمخشري:
(عن عطاء أنّ رجلاً قال له إنّ أخي يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال فمن الرأس، يعني من يكتب له؟
قال خالد بن عبد الله القسري، قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث
" ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة، حتى من لاق لهم دواة أو بري لهم قلماً، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمي به في جهنم"
)

فالظلم لا يشمل الظالم الفاعل وحده، بل يمتد ليشمل المعين والمشارك والأخطر أنه يشمل المؤيد والراضي به أو المشجع له.
وفي الحديث الشريف:
(اتَّقُوا الظُّلمَ؛ فإنَّ الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ)
فالأمر ليس فيه هزل أو استخفاف، وليس على الإنسان من شيء إن اتقي الشبهات أو الوقوع في أمور فادحة مثل هذه الأمور وهو يحسبها أمرا هينا
خاصة وأن تحديد مفهوم (الظلم) و(الظلمة)، يحتوي على معانٍ خطيرة جدا، قد لا يدركها بعض الناس.
فالظالم هو الفاعل، والمعين على الظلم ليس هو الشريك كما يفهم الناس، لأن الشريك في الظلم (فاعل أصلي) وليس فاعلا معاونا.
بينما مفهوم (أعوان الظلمة) يشمل ما هو أفدح، وهو الذي يقوم بتيسير حياة الظالمين ولو بغير المشاركة في أفعالهم!
فقد قال الإمام (ابن تيمية) في تعريف مفهوم (أعوان الظلمة).
(وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة، أو برى لهم قلمًا، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم. وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك، قال تعالى:
{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا})

وللإمام (أحمد بن حنبل) تعريف وشرح بالغ الخطورة لمفهوم (أعوان الظلمة)، فمن المعروف عن الإمام أحمد أنه تم سجنه وحبسه ظلما في الفتنة المشهورة المعروفة باسم (فتنة خلق القرآن) التي نوهنا عنها سابقا، والتي حبسه فيها الخليفة العباسي (المأمون)، ونظرا لجلالة قدر الإمام أحمد عند الناس فقد كان حراس السجن يخشون من عواقب حبسه ظلما، ويحاولون النجاة من هذا الإثم، وحدثت القصة التالية في أثناء فترة حبسه.
(قال أبو بكر المروذي:
لما حبسوا أحمد بن حنبل في السجن جاءه السجان، فقال: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم، قال السجان: فأنا من أعوان الظلمة؟ قال له: أعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن أنفسهم
)

فلنا أن نتخيل حقيقة الأمر على السجان الذي كان يظن أنه من أعوان الظلمة، رغم أنه يفعل هذا مضطرا، فإذا به من الظلمة أنفسهم، وأصبح أعوان الظلمة هم أعوانه في شئون حياته العادية من الذين يتعاملون معه في التجارة ونحوها من أمور معيشة الناس دون حتى أن يتورطوا في ظلمه نفسه.
مع ملاحظة هامة ينبغي أن يدركها القارئ، وهو أن مفهوم (أعوان الظلمة) هنا يقتصر على من يعينون الظالم على حياته العادية وهم لا ينكرون فعله، أو يتبرؤون منه، فإن أنكروه فقد برئوا من الإثم إن اضطروا للتعامل معه.

ونعود هنا لقضيتنا الأساسية في ضوء هذا الشرح.
فمعنى هذا أن التأييد أو الترويج لفعل الظلم، لا يجعل من الإنسان معاونا للظلمة فقط بل يجعله منهم، ووزره مثل أوزارهم رغم أنه اكتفي من كل هذا بمجرد التأييد بالكتابة أو اللسان!
والتطبيق العملي لهذه التصرفات نجده في مواقع التواصل عندما تنقلب الصفحات والتعليقات للسب والقذف وتبادل الشتائم في تأييد قضية معينة أو نفيها، دون أن يدرك المتورطون في ذلك ما فعلونه بأنفسهم!
والشتائم والسب بالألفاظ النابية والقبيحة حتى في الأمور العادية واستخدام هذه اللهجة وجعلها أسلوبا للمخاطبة في الحوار، هذه كلها من كوارث مواقع التواصل، والتي هي بالقطع من أشد الأفعال إثما وأشدها في استهلاك حسنات الناس نظرا لأن الطعن في الأعراض والسب والافتراء، كلها لن يكون تكفيرها يوم القيامة إلا من خلال حسنات الساب أو الشاتم، والذي يعتبر وفق نص الحديث النبوي أفلس الناس في الدنيا والآخرة، حيث يقول النبي عليه السلام:
(أَتَدْرُونَ ما المُفْلِسُ؟ قالوا: المُفْلِسُ فِينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا مَتاعَ، فقالَ: إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ.)

والكارثة الأكبر أن هذا الأسلوب في الحوار أصبح يلاقي اعترافا ومدحا من المجتمع، بل وتشجيعا كبيرا باعتبار أن الشخص سريع البديهة في الردود الساخرة والشاتمة يعتبر من الأشخاص المميزين بين أقرانهم على مواقع التواصل!
ومع التشجيع المستمر يتورط الإنسان ويوغل في هذا الأمر الذي سيفضي به حتما للنار وفق نص الحديث ما لم يتب ويكفر عن ذلك.
وامتداد لسان الإنسان إلى أعراض الناس، لا يعادله أي إثم أو معصية يرتكبها الإنسان في حق نفسه سواء بالتفريط في الفرائض أو من خلال الوقوع في الذنوب.
فإن معصية الإنسان إن كانت في حق نفسه هان أمرها بالتوبة والاستغفار، أما المعاصي المتعلقة بالناس فهي مرهونة بعفوهم هم وإلا تم الحساب عليها يوم القيامة.
وقد ثبت تفصيل التفرقة بين أنواع المعاصي في حديث النبي عليه السلام.
(الدَّوَاوِينُ عِنْدَ الله عز وجل ثَلَاثَةٌ: دِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ الله مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُهُ اللهُ. فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللهُ فَالشِّرْكُ بِالله قَالَ اللهُ عز وجل، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللهُ بِهِ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلَاةٍ تَرَكَهَا فَإِنَّ اللهَ عز وجل يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللهُ مِنْهُ شَيْئًا فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا؛ الْقِصَاصُ لَا مَحَالَة)

وقد جاءت لنا وصية بليغة من (عبد الله بن عمر) رضي الله عنه، عندما طلب منه رجلٌ، أن يلخص له من علوم الشريعة ما ينجو به، فقال له (عبد الله بن عمر):
(إِنَّ العِلْمَ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْقَى اللهَ خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دِمَاءِ النَّاسِ، خَمِيصَ البَطْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَافَّ اللِّسَانِ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لاَزِمًا لِأَمْرِ جَمَاعَتِهِمْ، فَافْعَل)
أي أن الصحابي الجليل (عبد الله بن عمر) لَخّص للرجل سبيل السلامة والنجاة في ثلاث وصايا جامعة، بأن أوصاه أن يلقي الله دون أن يكون عليه حقٌ من مال الناس بسرقة أو غصب، ودون أن يتورط في الدماء، ودون أن يتورط بالخوض في أعراض الناس، وأن يلزم أمر الجماعة.
ومن خلال وصية (ابن عمر) ندرك مدى خطورة التورط في الذنوب المتعلقة بحقوق العباد، حيث جعلها (ابن عمر) في ثلاث مواضع من وصيته لأنها المواضع التي سيحاسب عليها الناس بمثقال الذرة يوم القيامة.
فلا ينبغي للعاقل أن يورط نفسه في هذا الجزاء الرهيب، دونما أدني فائدة تذكر.

ولكن مع ملاحظة هامة جدا وضابط هام في هذا السياق،
وهو ألا يعمد المرء إلى اليأس من رحمة الله أو الظن بأنه لن يُغْفر له إن تورط في حقوق العباد وجاءت لحظة التوبة فنوى التوبة من قلبه ولكن تعذرت عليه سُبل التحلل من حقوق العباد وإبراء ذمته منهم.
لأن الله عز وجل يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ولا يغلق باب التوبة قط حتى لحظة الموت، مهما كانت الأفعال جسيمة، طالما أن العبد نوى التوبة وعقد عزمه وصح ندمه.
وللجواب عن نقطة حقوق العباد، فإن الله عز وجل افترض فيها على العبد ضرورة أن يؤديها في الدنيا قبل أن يأتي أوان حسابها في الآخرة فتؤخذ منه بالقصاص.
ولكن هذا الأمر ليس معناه غلق باب التوبة إذا استحال على الإنسان أن يقضي الحقوق التي عليه أو بعضها، كأن يكون صاحب الحق مجهولا لا يعرفه، أو أدركه الموت وليس له ورثة مثلا أو نحو ذلك.
فالأصل أن يجتهد الأمر لرد الحقوق المادية والمعنوية ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فإن استحال ذلك وكان الحق حقا معنويا بغيبة أو نميمة أو بهتان، فليكثر التائب من الاستغفار لصاحب الحق، وَيُكثر من ذكر من أخطأ في حقه بالذكر الحسن في المَوَاطن التي ذكره فيه بسوء.
وإن كان الحق ماديا واستحال عليه أن يؤديه لصاحبه، فليستغفر الله ويتصدق بقيمة هذا الحق ويهب ثوابه إليه وإذا استحال أداء الحق من كل وجه، فليستغفر الله تعالي بصدق توبته فإن علم الله صدق توبته قَبِلَ منه وأدى عنه يوم القيامة إن شاء الله.

وقد جاء في الحديث قصة الرجل الذي قتل مائة نفس ــ ولا شك أن الدماء هي أقوي الحقوق وأول ما يُقْضي فيه يوم القيامة ـــ وكان الرجل قاتلا فتاب إلى الله، والتمس عالما يهديه الطريق، فنصحه العالم بأن يهجر محل سكنه الذي يكثر فيه من يشجعونه على الإثم ويرتحل إلى بلد آخر معروف بصلاح أهله فيقيم بينهم.
فذهب الرجل لينفذ وصية العالم له وتوفي في الطريق فغفر الله له بذلك.
وهذا هو نص الحديث كاملا:
(كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة، فقال: لا، فقتله فكمل به مائة،
ثم سأل عن أعلم أهل الأرض ، فدُلَّ على رجل عالم ، فقال : إنه قتل مائة نفس ، فهل له من توبة، فقال : نعم ، ومن يحول بينه وبين التوبة ، انطلق إلى أرض كذا وكذا ، فإن بها أناسا يعبدون الله ، فاعبد الله معهم ، ولا ترجع إلى أرضك ، فإنها أرض سوء ، فانطلق حتى إذا نصَفَ الطريق أتاه الموت ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله ، وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيرا قط ، فأتاهم ملَكٌ في صورة آدمي ، فجعلوه بينهم ، فقال : قيسوا ما بين الأرضين ، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ، فقبضته ملائكة الرحمة . قال قتادة : فقال الحسن : ذُكِرَ لنا أنه لما أتاه الموت نأى بصدره )
فالعبرة كما يوضحها الحديث ألا نيأس، وفي نفس الوقت ينبغي أيضا ألا نستهين ونتواكل، فالله عز وجل لا يأمرنا إلا بصدق النية وبذل أقصي الجهد، حتى لو كان هذا الجهد مقدار حبة من خردل، سيقبله الله منا ويجعله طريقا لِصِدق الوصول إليه.



محمد جاد الزغبي 05-18-2024 04:54 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 


أيضا من الأفعال المكملة لأفعال الظلم السابق ذكرها، فعلٌ حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، بتصريحه أن فاعله لا يدخل الجنة، بل وأقسم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن فاعله لا يؤمن.
ألا وهو إيذاء الجار بأي صورة من الصور، وبأي فعل من الأفعال سواء كان هينا أو غليظا!
وذلك بمقتضي حديث النبي عليه السلام:
(لا يَسْتَقِيمُ إِيمانُ عبدٍ حتى يَسْتَقِيمَ قلبُهُ، ولا يَسْتَقِيمُ قلبُهُ حتى يَسْتَقِيمَ لسانُهُ، ولا يدخلُ رجلٌ الجنةَ من لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ)" "
كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله:
(واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ. قيلَ: ومَن يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: الذي لا يَأْمَنُ جارُهُ بَوايِقَهُ.)
وهذا الوعيد الشديد من النبي عليه الصلاة والسلام، يعود بصفة أساسية لحكمة رب العزة وتشريعه، حيث أن العداوة والأذي بين الجار وجاره كفيلة بخلق مجتمع مُتحاسد متباغض لا يأمن المرء فيه على نفسه.
ورغم أن أذى المسلم وسَبّه أو قتاله فسق في حكم الله ورسوله عليه السلام، إلا أن هذا الأذى إذا كان من الجار للجار فهو مُضاعف في الإثم، ومُغَلّظ في العقوبة، نظرا لما يمثله أذى الجوار من ضيق وعنت وحرج شديد باعتبار أن الإنسان يمكنه أن يتفادى الأذى في أي مكان خارج بيته ويعود لبيته كي يجد الراحة والسكينة والهدوء.
فإذا كان الأذى موجودا في بيته من الجار فهذا معناه تعسير الحياة على الإنسان إلى أقصي درجة نظرا لأن المنزل موطن الراحة.

ويلتحق بهذه الأفعال أيضا رذيلة منتشرة ولا يحسب معظم الناس أنها من أكبر الرذائل، ألا وهي صفة (الجدل)، وهي رذيلة تعم عواقبها على المجتمع لا على الأفراد وحدهم!
والجدل هو الكلام الفارغ من أي مضمون، والنقاش الذي لا ينتج منه ثمرة أو شيء مفيد سواء في قضية عامة أو قضية خاصة.
وقد فَرّقَت الشريعة تفرقة تامة بين (الحوار) وبين (الجدل)، فالحوار ضرورة من ضروريات العلم، وأحد أهم أساليب شرح المسائل العلمية.
أما الجدل فهو إرهاق العقل واللسان بالأخذ والرد في قضايا تافهة فارغة لا تفيد في دنيا أو دين، أو في قضايا تمت إثارتها قبل مئات السنين ورد عليها العلماء في وقتها، فيستهلك الناس طاقات عقولهم بها ويتركون ما هو أجدر بالمناقشة والتطبيق، وهذا أشبه بمن يمتلك ماكينة جبارة ولا لكنه لا يأتي لها بالمادة الخام للتصنيع ويكتفي بأن يديرها أوقاتا طويلة لتمضغ الهواء بين تروسها دون أن تنتج شيئا فتكون النتيجة أن تروس الماكينة تأكل بعضها بعضا دون أي فائدة
لهذا قال النبي عليه السلام:
(أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لمن تركَ المِراءَ وإنْ كان مُحقًّا)
فتخيلوا إلى مدى وصل تحذير النبي عليه السلام من الجدل وكثرة الكلام، لدرجة أنه وعد من يتركه ببيت في أعلي الجنة، بالإضافة إلى أن الحديث أوضح لنا أن الجدل مذموم ومحرم حتى لو كان المجادل يجادل عن حق.
ذلك لأن الدفاع عن الحق لا يحتاج الجدل ولا يحتاج الكلام الطويل والمخاصمة، وعلي المسلم أن يعرف بدقة ما هي حدود المناقشة المسموحة وحدود الجدل المحرم عن طريق علامات بسيطة جدا وهي:
أولا:
أن يكون موضوع النقاش والحديث تافه وفارغ المضمون ولا يمثل فائدة، وللأسف فإن أكثر السائد في وسائل الإعلام الآن ومواقع التواصل هو أخبار التافهين والمراهقين وتصريحاتهم التي تجلب جدلا فارغا وعقيما في موضوعات يستحي من التورط فيها أي عاقل.
ثانيا:
أن يكون الموضوع موضوعا هاما، أو شبهة دينية، أو نقاش علمي، ولكن كثرة الأخذ والرد فيه قلبته إلى جدل عقيم، وهذا الأمر كثيرا ما يقع فيه المدافعون عن الحقائق، ويظنون أنهم بهذا يدافعون عن الحق.
لكن الدفاع عن الحق يتطلب أن يقتصر المرء على إيضاح الحقيقة العلمية بأدلة واضحة وصريحة لمن أمامه، فإذا كانت الأدلة أوضح من أن يتم إنكارها، وجاء من ينكرها لمجرد المخاصمة فهنا لا ينبغي للمدافع أن يتورط في النقاش مرة أخرى ويكتفي فقط بإبراز أي شبهة في المسألة ثم يترك النقاش والأخذ والرد عملا بنص حديث النبي عليه السلام السابق ذكره.
والجدل أحد علامات غضب الله تعالى على عباده، وأحد أهم أسباب الفشل لأي مجتمع وقد قال الإمام (الأوزاعي) ـــ فقيه أهل الشام ـــ مقولة لخصت مصيبة الجدل وما تفعله في أي مجتمع، فقال:
(إذا غضب الله على قومِ رزقهم الجدل ومنعهم العمل)
ولا شك أن مقولة (الأوزاعي) تلخص لنا أحد أهم الأسباب في تراجع الدول العربية تحديدا عن مصاف الدول المتقدمة، لأن القُطر العربي كله منذ بداية القرن العشرين وهو غارقٌ حتى الثمالة في جدليات فراغ العقل التي بدأها التغريبيون الذين استندوا إلى الاحتلال الانجليزي والفرنسي وَجَنّدوا أنفسهم لتفتح قضايا الدين والثوابت الأخلاقية في الجامعات، وفي وسائل الإعلام حتى صرنا منذ ذلك الحين ونحن في حلقات متواصلة من الجدل على نفس القضايا بنفس الكلام وبنفس العقلية ونفس الردود!
وتركنا أهم الموضوعات التي ينبغي على أي مفكر أن يثيرها في مجتمعه، وهي قضايا التعليم والتقدم التكنولوجي، وسُبل إقامة الوحدة المجتمعية بعيدا عن إثارة النعرات الطائفية أو الفرقة في المجتمع.

وإذا أردنا أن نتعرف على كوارث حركة التغريب وما فعلته بنا، علينا فقط أن نقارن بين البعثات العلمية التي جاءت من شرق آسيا لتتعلم في أوربا، وبين بعثاتنا نحن من الشرق.
وبالمقارنة نكتشف أن اليابان تقدمت في صناعة السيارات مثلا بسبب أن بعثاتها لأوربا ركزت على التقدم الأوربي في هذا المجال، وعندما عادوا لبلادهم وضعوا البذرة الأولي لتكنولوجيا تصنيع السيارات لتصبح اليابان أحد أهم أقطاب العالم في هذا الشأن.
بينما بعثاتنا نحن لأوربا والتي عادت لنا في بداية القرن العشرين جاءت لنا بمفكري التغريب والذين لم يروا في أوربا إلا التعري وحفلات المراقص وأكاذيب تحرير المرأة، والحرب على الثوابت، فجاءوا ليثيروا جدلا رهيبا في هذه القضايا منذ ذلك الحين
وتركزت دعواتهم على ضرورة ترك كافة الثوابت الدينية والثقافية والتبرؤ من التاريخ الإسلامي كله ومن الشريعة، لنلحق بركب التطور على حد زعمهم.
وبالفعل أثمرت تجربتهم عن إقرار دستور سنة 1923م، وتم إلغاء المحاكم الشرعية، وتحجيم دور الأزهر وإبعاده عن قضايا المجتمع بعد أن ظل الأزهر ورجاله هم قادة الرأي العام لألف عام تقريبا وهم الذين قادوا الحركة القومية في مواجهة الاحتلال الفرنسي.
فجاءت حركة التغريب بدعم الاحتلال وانتشرت ثقافتهم بسيف السلطة في المجتمع تنقل لنا طباع الغرب ـــ لا علومهم ــ ثم ماذا حدث؟!
هل تقدمنا وصرنا في ركاب الأوربيين؟!
هل تقدم التعليم بتنفيذ أجندات تحرير المرأة؟!
هل تقدمت التكنولوجيا بالسخرية من السنة النبوية وأحكام القرآن؟!
أظن أن الإجابة على تلك الأسئلة فيها بيان واضح على تلك القضية.

وقد امتدت المأساة حتى وصلنا في عصرنا الحالي لدرجة من المأساة المبكية حقيقة، لأننا اليوم عندما نتصفح وسائل الإعلام من برامج فضائية أو صحف أو مواقع تواصل، لن نجد فيها نقاشا فلسفيا أو حتى جدليا حول تلك المفاهيم التي كانوا يتصارعون عليها في بداية القرن العشرين.
بل إن الإعلام أصبح اليوم يقوم أساسا على كيفية إثارة الجدل، وأصبح الشخص الناجح إعلاميا هو الشخص الموصوف بلقب (المثير للجدل)، بل ويتعمد الإعلام نشر الاستفزاز لدرجة جلب الشتائم والسب والقذف حتى يمكن له أن يصل إلى أعلي التعليقات والمشاهدات!
ونحن هنا لا نتكلم عن ممارسات الصحافة الصفراء مثلا أو على المواقع المجهولة، بل نتحدث عن القنوات الأساسية والصحف الرئيسية في العالم العربي، والتي عزف عنها جمهور القراء، وانتهي عصرها كصحافة مطبوعة، فأصبحت تعتمد في ترويج نفسها على عوامل(الإثارة) وحدها.
وذلك عن طريق استقدام أخبار الرويبضة، وساقطي الاعتبار في المجتمع، والشخصيات المستفزة للناس ونشر أخبارهم وتتبع غرائبهم ووضعها بعناوين مثيرة بل وفاضحة أحيانا، كي يمكنها أن تحظى بالانتشار وبالتالي تحصد النجاح من وجهة نظرهم.
أي أن المجتمع اليوم لم يعد فقط يرتكب رذيلة الجدل كتصرف فردى، بل أصبح الجدل مهنة وسوق ضخم، وتقوم عليه مؤسسات كاملة من المفترض أنها مؤسسات إعلامية مهمتها نشر الوعي في المجتمع!
فهل يمكن لشخص عاقل أن يقول بأننا لم نبلغ بعد آخر الزمان؟!

وقديما لعن الله اليهود على لسان أنبيائه في القرآن الكريم لسببين فقط لا غير.
أولهما: أنهم كانوا يردون أمر الله تعالي، ولا يأمرون بالمعروف ولا ينكرون المنكر، وفق قوله تعالى:
[كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] {المائدة:79}
وثانيهما: أنهم كانوا أصحاب إلحاح مقيت في جدال أنبيائهم، حتى قال المفسرون فيهم أن اليهود كانوا يجلبون لأنفسهم عناء تشديد الله عليهم في العبادة لكثرة جدالهم، ولعل أشهر مثال لذلك عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، ولم يحدد وصفها، ولم يقيد لهم الأمر بل جعله متاحا لهم، ولو بادروا فنفذوا أمر الله تعالى دون جدال وذبحوا أي بقرة لكان هذا أيسر لهم وأتقي وأكثر قبولا من الله
لكنهم جادلوا موسي واتهموه أنه يريد أن يسخر منهم، فجزاهم الله بأن فرض عليهم بقرة محددة بصفات نادرة حتى وجدوها ورفضت صاحبتها بيعها حتى دفعوا لها أضعاف ثمنها" "
يقول تعالي:
[وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] {البقرة:67}
مع أن الأمر كان بيدهم من البداية، لكن حبهم العقيم للجدل أوردهم هذا المورد.

ونحن الآن في عالم اليوم صرنا ألعن من اليهود في كلتا الصفتين، فلا وجود لدينا لأمر بالمعروف أو نهي عن المنكر، وفي نفس الوقت نتجادل طوال الوقت في كل شيء وأي شيء إلا أن يكون جدالا في أمر يستحق!، وخالفنا أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في التحذير من كثرة الجدل والمراء، ثم رضينا بما كره الله لنا وهو القيل والقال وكثرة السؤال!
وذلك وفقا لحديث النبي عليه السلام:
(إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)
والنهي عن كثرة السؤال الواردة في الحديث، ليس معناها النهي عن السؤال في العلم أو تفصيلاته، وإنما النهى عن الخوض في توافه الأمور وكثرة السؤال فيها وطرحها على مائدة الجدل، في نفس الوقت الذي نترك فيه الأسئلة عن الثوابت والقضايا العامة الملحة.
وقد طبق النبي عليه السلام هذا المبدأ على أصحابه، حيث كان ينهاهم عن كثرة السؤال المشابهة لأسلوب اليهود في التدقيق والإلحاح، كما كان ينهاهم عن الخوض في الموضوعات الغيبية التي لا تحمل فائدة علمية ملحة، وكان دافع النبي عليه السلام في ذلك أن يجعل تركيز الصحابة رضي الله عنهم منصبا على أصول الشريعة وثوابتها وتفصيلاتها لكونهم الجيل الأول الذي سيحمل الرسالة للأجيال التالية.
وبالتالي لو أنهم انشغلوا بنوافل القضايا سيؤثر هذا على اهتمامهم بالقضايا الرئيسية حتما.
ومثال ذلك ما فعله النبي عليه السلام مع (عمر) رضي الله عنه عندما لمحه ومعه وثيقة من وثائق التوراة يطالعها من باب الفضول العلمي، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام وقال له:
(أمتهوكون فيها يا بن الخطاب والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني)

والنبي عليه السلام هنا نهى عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن السؤال والبحث في الثوابت والقضايا التي حسمها القرآن الكريم، وعدم مطالعة أقوال اليهود أو أصحاب العقائد الفاسدة فيما يقولون نظرا لما يمثله هذا الأمر من تشكيك للإنسان وذبذبة لأن اليهود أهل تحريف وليسوا أهل أمانة في النقل
فهذه هي حدود النهي وطبيعته، أما السؤال فيما عدا ذلك من أمور العلم فهي من القربات، وهي من السعي المطلوب في طلب العلم، لأن السؤال هو أساس البحث العلمي وأساس الفهم.
وقد سُئِل حبر الأمة (عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما، بعد بلوغه العمر الطويل والعلم الجزيل فقالوا له:
كيف بلغت العلم ؟!
فقال: بلسان سؤول وقلب عقول
أي بلسان لا يكف عن السؤال في العلم، وبقلب عاقل يعرف كي يحتفظ بالعلم بين ثناياه.
وإيضاح الفارق بين السؤال المنهي عنه، والسؤال المطلوب أمر بالغ الأهمية حتى لا نخلط بين ضرورة السؤال لطلب العلم وبين الجدل الفارغ.
وسنضرب مثالا طريفا لذلك، فمثلا ورد في القرآن قصة أهل الكهف، ولم يصرح القرآن الكريم بعددهم، بل جعله احتمالا مطروحا، لهذا كان العلماء وطلبة العلم يبحثون خلف عددهم" "
فالبحث هنا جائز ومتاح لكونه من التدبر والعلم، أما إن جاء من يسأل سؤالا تافها لا قيمة للمعلومة فيه مثل أن يسأل فيقول، ما اسم كلب أصحاب الكهف؟!
فهذا هو الجدل وهذه هي التفاهة.
وإذا كان مثل هذا السؤال تافها ولا يجب أن نضعه في نقاش، فلنا أن نتخيل موقف وحُكْم هذه المناقشات والجدل الرهيب الذي ينعقد على كرة القدم أو المسلسلات والأفلام؟!

أيضا من الأفعال المنتشرة على مواقع التواصل، والتي تجد رواجا كبيرا عند الناس لأنهم يفعلونها وهم يظنون أنهم يخدمون الدين وينشرون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام!
بينما هم في الواقع يقعون في كبيرة فادحة من الكبائر ألا وهي الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام، بكل ما تعنيه هذه الجريمة من عقوبة ثبتت في الحديث الشريف:
(إن كذِبَاً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار)

وهذه الجريمة هي اعتياد الآلاف من الناس نشر الأحاديث المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، دون أن يتحققوا من صحتها، ويكتفون فقط بأن هذه الأحاديث مكتوبة بتصميم مُصَور يوحي بأنها مقتبسة من أحد الكتب المعتمدة، وهذه بلا شك جريمة فادحة العقوبة كما قلنا.
وقد يقول البعض كي يريح ضميره أنه ينشر الأحاديث التي يراها دون أن يدري أنها أحاديث مكذوبة ولا تصح عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وهذا القول ليس عذرا أبدا.
لأن نشر أحاديث النبي عليه السلام ليست أمرا سهلا يمكن أن نتهاون فيه في نشره دون التحقق من مصدره، فالأحاديث من الشرع، وحديث واحد غير صحيح قد يُوْرد الناس المهالك لو طبقوه وهم لا يدرون أنه غير صحيح.
بالإضافة إلى أن التحقق من صحة الأحاديث لم يعد أمرا صعبا كما كان في الماضي عندما كان لا يستطيعه إلا المتخصصون، بل أصبح متاحا باستخدام أدوات التكنولوجيا بالبحث عن صحة الحديث في محركات البحث ومطالعة أقوال العلماء فيه.
وأيضا باستخدام موقع (الدرر السنية) وهو الموقع المتخصص في فهرسة وتخريج كافة أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
فإذا أراد أي شخص المساهمة في نشر السنة المشرفة فعليه أن يتحرى عن الحديث قبل نشره، أو ينشر الأحاديث الموثقة والمذكور فيها مصدر الحديث ودرجته.
فإن قال قائل إنه لا يستطيع فهم مصطلحات التضعيف والتصحيح، ولا يعرف شيئا عن تمييز الأحاديث بين الصحة والضعف، فالحل أن يسكت عن ذلك تماما، ولا يقدم على نشر أي شيء إلا إذا أخذه من متخصص، لأنه ليس مطلوبا منه أصلا نشر الأحاديث والسنة ما دام لا يميز بين صحيح وضعيف.
وقد قال النبي عليه السلام:
(مَن حَدَّثَ بحديثٍ، وهو يَرى أنَّه كَذِبٌ؛ فهو أحَدُ الكاذِبَيْنِ)
ويكفي لإدراك خطورة هذا الفعل أن نطالع نوعيات الأحاديث الموضوعة المنتشرة، والتي تأتي في معظمها من صفحات الشيعة، ومعلوم لكل متخصص أن أحاديث الشيعة ورواياتهم من أكذب الكذب، فهم لا يأخذون بالسُنة المشرفة المروية من طريق الصحابة رضي الله عنهم نظرا لأنهم يُكّفّرون الصحابة جميعا!،
هذا فضلا على أنهم لا يمتلكون أي أسانيد صحيحة للسنة النبوية
ولعل أشهر الأحاديث المكذوبة التي يشارك الناس في نشرها بينما هي من خرافات الشيعة، ذلك الحديث الذي نسبوه للإمام (عليّ الرضا) وقالوا فيه بأن النبي عليه السلام لم يكن أُمّيًا بل كان يقرأ ويكتب بسبعين لغة مختلفة!
وهذا من أوضح الجهل بآيات القرآن والسيرة النبوية، فالله عز وجل في القرآن خاطب نبيه بقوله:
[وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ] {العنكبوت:48}
والآية صريحة في أن النبي عليه السلام ما كان يقرأ كتابا ولا يخط بيمينه شيئا، وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون النبي عليه السلام أميا لا يقرأ أو يكتب حتى لا يرتاب الناس والمشركون فيتهمونه بأنه أخذ القرآن ونقله من كتب الأقدمين أو كتب الرسالات الأخرى
أيضا من الآفات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي تورط الآلاف في كبيرة من فروع الشرك، وهي (التألي على الله)، والتألي على الله معناه التدخل بالكلام والحُكم في أحكام الله التي تعتبر من الغيب المطلق ولم ينزل فيها القرآن أو تتحدث فيها السُنة المشرفة،
والآفة المنتشرة من هذا هي مناقشة مصير الأموات، والجزم بمصائرهم إن كانوا في الجنة أو النار!
فالحديث عن أهل الجنة والنار بالأشخاص المحددين بأسمائهم يجب أن يقتصر على من تم النص عليه بالقرآن والسنة وحدهما، باعتبارهما الوحي المنزل.
أما من عدا ذلك فهو من التألي على الله، فلا يجوز لمسلم تحت أي ظرف أن يجزم بدخول أي إنسان للجنة أو للنار بناء على ما يري الناس من عمله.
فالمصير بيد الله عز وجل وحده، والشيء الوحيد المسموح بقوله في هذا الشأن أن نتحدث بعموم فنقول إن من مات كافرا فهو في النار، ومن مات موحدا فهو في الجنة إن شاء الله، أما أن تحدد الأشخاص بأعيانهم وأسمائهم فهذه مصيبة!
لأنه من المستحيل تحديد خاتمة أي إنسان، فمن الممكن للمذنب أن يتوب قبل موته ولا يعلم أحد، ومن الممكن أن يُخْتم للرجل الصالح بعمل سوء ولا يعلم أحد فالعبرة بالخواتيم.
وقد جاء عن النبي عليه السلام قوله:
(إِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى الناس عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ فِيمَا يَرَى الناس عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ وهو من أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا )
بالإضافة إلى أن المناقشة في هذه الأمور أصلا من العبث والعته وفراغ العقل، ولا تفيد الناس شيئا، لا في دينهم ولا دنياهم، فضلا على كونها من أقبح الكبائر.
وإذا اقتضت الضرورة مناقشة هذه الأمور فيجب أن يكون الكلام كله مبنيا على مشيئة الله تعالي، فَيُقَال للصالح أنه في الجنة إن شاء الله، ويكون القول على سبيل الدعاء له لا على سبيل اليقين قطعا.
ويُقال عن الكفار أنه إن مات على عقيدة الكفر والإلحاد فهو في النار بمقتضي حكم الله.
وقد جاء عن أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها حينما توفى طفل قالت:
(طوبى لك طير من طيور الجنة)
فقال ﷺ: (وما يدريك يا عائشة أنه في الجنة، لعل الله اطلع على ما كان يفعل؟)
فلنا أن نتخيل كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى السيدة عائشة عن الشهادة لطفل معين ومحدد بالاسم أنه من عصافير الجنة، رغم أن الأطفال قبل البلوغ ليس عليهم حساب، وذلك على سبيل التشديد من النبي عليه السلام في النهي عن الشهادة لشخص محدد بالجنة أو النار طالما لم يرد فيه نص واضح من الكتاب والسُنة.

وعِلّة التشديد في الحكم هنا راجعة لكون الأحكام على الأفعال محجوبة بحجاب الغيب لا يعلمها إلا الله، خاصة وأن شرط قبول العمل ــــ مهما كان عظيما في باب الخير ــــ أن يكون العمل خالصا لله تعالى.
وهذا من المستحيل أن يحكم به المرء على نفسه أو يحكم عليه به غيره، فهذه الأحكام مؤجلة إلى يوم القيامة بنص الحديث الشريف الذي قال فيه النبي عليه السلام:
(إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ.
ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ.
وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ! وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)

ونص الحديث واضح، فإذا كان الشهيد الذي ضحى بحياته نفسها، والعالم الذي أنفق عمره وجهده لتعليم الناس، والرجل المتصدق المنفق الذي ضحى بماله لخدمة الناس، كل هؤلاء من الممكن أن يجدوا أعمالهم كلها يوم القيامة سرابا لا ماء فيه ويكون جزاؤهم النار لأنهم افتقدوا شرط إخلاص النية وكان هدفهم دنيويا!
فمن ذا الذي يمكن أن يشهد لأحدٍ بالجنة بشكل قاطع بناء على عمله؟!

وقبل مغادرة هذه النقطة ينبغي التنبيه على أمر واضح.
أن عدم شهادتنا لأحد بالجنة، ليس معناه ألا نتذكر أعمال الصالحين وننشرها وندعو لهم بها، ما دام كلامنا ودعاؤنا محمول على رجائنا له الخير، فهذا مما يُسْتحب نشره وذكره، بشرط الالتزام بالصيغة النبوية عند ذكر فضائل أي إنسان فنقول:
(نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله)
مع ملاحظة أن المدح المبالغ فيه، والثناء بالتعظيم للمرء في وجهه ـــ لا عند غيابه ـــ يُهْلك المادح والممدوح، لأن مدح الإنسان في حضوره فيه مظنة التملق، وقد جاء عن (ابن عمر) رضي الله عنهما:
(مَدحُك أخاك في وجهِه كإمرارِك على حلْقِه مُوْسى ـــ شفرة الحلاقة ــــ رميضًا ـــ أي شديدًا ـــ)
قال: ومدح رجلٌ ابنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ في وجهه فقال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: احثُوا في وجوه المدَّاحينَ التُّرابَ، ثم أخذ ابنُ عمرَ التُّرابَ فرمى به في وجه المادحِ، وقال: هذا في وجهِك ــــ ثلاثَ مراتٍ ــــ)
والنهي عن المدح هنا، ليس معناه ألا نشكر من أدي لنا معروفا، أو فعل فعلا جميلا، فهذا مطلوب لكنه مرهون بصيغة محددة لا ينبغي تجاوزها ألا وهي قول:
(جزاك الله خيرا)
وهي تكفي وزيادة للتعبير عن الشكر والمدح المباح، وذلك وفقا لنص حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(من صُنعَ إليهِ معروفٌ فقالَ لفاعلهِ جزاكَ اللَّهُ خيرًا فقد أبلغَ في الثَّناءِ)
أما رد الجميل الحقيقي فلا يكون بالإفراط في المدح وإنما يكون في الدعاء لصاحب المعروف بظهر الغيب، وبظهر الغيب معناه الدعاء له سرا دون أن يعلم، طبقا لوصية النبي عليه الصلاة والسلام:
(من سأل باللهِ فأعطُوه، ومن استعاذ باللهِ فأَعِيذُوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صَنَع إليكم معروفًا فكافِئوه، فإنْ لم تَجِدوا ما تكافِئونَه فادْعُوا له حتى تَرَوا أنَّكم قد كافَأْتُموه)

فإذا كان هذا هو حُكم المدح لمن يستحق المدح والثناء، فما بالنا بمن يُفْرِط في المدح والثناء والمبالغة فيمن لا يستحق مدحا أو ثناء، ويكون مدحه وثناؤه كذبا لأجل المصلحة والرياء؟!

ونعود لقضية الشهادة للميت بالجنة أو النار حيث تبقت نقطة هامة للإيضاح في تلك القضية.
فالنهي المشدد عن الشهادة لأحد بالجنة أو النار، ليس معناه عدم الرد والبيان الواجب فعله على المحاربين لدين الله وشريعته بأقوالهم وأفعالهم.
فإن الذي قضي عمره في الهجوم على الثوابت الدينية، ومهاجمة السُنة والمجاهرة بأعمال الإلحاد، كل هؤلاء إن مات فيهم أحد، لا نشهد له بالنار بشكل قاطع
ولكن ليس معنى هذا أن نكف عن بيان أقواله وأفعاله في الدنيا، ما دامت تلك الأقوال والأفعال موجودة ومنشورة ويشاهدها الناس وهناك من يساهم في ترويجها.
فهؤلاء الفئة من الناس لا يدخلون في إطار النهي المذكور في الحديث الشريف:
(لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)
فهذا الحديث الشريف يُرْسى قاعدة عامة في النهي المشدد عن سب الأموات وانتقاصهم وذكرهم بسوء، ولكن هذه القاعد العامة لها استثناء هام وواجب،
هذا الاستثناء أقَرّه الشرع إذا كان الميت من دعاة الكفر والبدعة والمحاربين لثوابت الدين، ولم يتب عن فعله قبل موته توبة مُعْلنة عرفها الناس عنه.
وقد ذكر الإمام (المناوي) هذه القاعدة بقوله:
(نُهِيَ عن سب الأموات لما فيه من المفاسد التي منها أنه يؤذي الأحياء، ومحله في غير كافر ومتظاهر بفسق أو بدعة، فلا يحرم سب هؤلاء ولا ذكرهم بشر بقصد التحذير من طريقتهم والاقتداء بآثارهم كما يدل عليه عدة أحاديث مرت)

وهذا ما اتبعه كافة علماء المسلمين منذ عهد التابعين وحتى اليوم، فقد نقلوا لنا في كتبهم السِيّر الذاتية لأصحاب الإلحاد والزندقة والبدع، وشرحوا لنا ما فعلوه، وَعَلّقوا بالذم على كتبهم وأقوالهم.
بخلاف أن (علوم الحديث) نفسها تحتوي فرعا ضخما منها وهو (علم الرجال)، وهذا العلم هو المختص بتحقيق صفات رواة الأحاديث وبيان أحوالهم من الصدق أو الكذب، ولم يمنع موت هؤلاء الرواة من دراسة أحوالهم واتهام الكذابين منهم، وإلا لضاع العلم كله.
وهذه القاعدة قاعدة وجوبية في عالمنا اليوم، بعد أن انفتحت منصات الإعلام لتمجيد كل دعاة الإلحاد الصريح، ودعاة البدع والخرافات، ودعاة هدم الثوابت وأصبح لهم عشرات القنوات والصفحات التي تدافع عنهم وتصفهم بالتمجيد والتعظيم، وتجزم بأنهم من أهل الجنة أيضا!
فلنا أن نتخيل أثر هؤلاء على المشاهدين والمتابعين لو لم يتم التصدي لأفكارهم وبيان أحوالهم للناس.



محمد جاد الزغبي 05-18-2024 04:57 AM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

ومن تلك الكبائر أيضا التي تورد الإنسان مصير الطرد من رحمة الله، رذيلة (الخمر) وهي التي سماها العلماء (أم الخبائث)، لأن الخمر تذهب بالعقل وبالتالي يتورط تحت إثرها الإنسان في كل الرذائل،
وقد ورد فيها اللعن والطرد من رحمة الله ــ ليس في شاربها فحسب ــ بل في كل شخص له علاقة بها، وذلك وفق حديث النبي عليه السلام.
(لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها)
فلنا أن نتخيل فداحة إثم الخمر، وقد ذكرنا سابقا أن مدمن الخمر من الذين حرم الله عليهم الجنة، وامتد اللعن والطرد من رحمة الله إلى كل متعامل مع الخمر أو تجارتها، بداية من شاربها، وساقيها، وبائعها وعاصرها (أي الداخل في صناعتها)، ومعتصرها (من طلب صناعتها له)، وحاملها (من حملها إلى من أرادها)، والمحمولة إليه (أي كل من حملت إليه في سوق ولو لم يكن من شاربيها)، وآكل ثمنها أي التاجر وكل من جعل أمواله في تجارتها.

كذلك من أشد الآثام التي نغفل عنها، ونُمَارسها في المجتمع على أنها مباحة، بل وتجد التشجيع والتعظيم حتى من بعض أهل الفضل والعبادة والحريصين على مرضاة الله!
هذه الظاهرة هي السعي إلى الشهرة والتبذير والإسراف.
فهذه الصفات كفيلة بأن تجعل الإنسان يخسر رصيد حسناته بأن يحبط عمل الخير الذي اجتهد فيه عُمْرَه، أو أنها كفيلة بأن تأتي به ذليلا يوم القيامة جزاء على حرصه على الشهرة في الدنيا، أو أنها كفيلة بأن تجعله مع الشياطين في مستوى واحد.
ونبدأ بالنقطة الأخيرة.
فالله عز وجل يقول عن المذرين في إنفاق المال
[إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا] {الإسراء:27}
وهذا نص صريح لا جدال فيه، وحدود التبذير الحقيقية التي التزم بها النبي عليه السلام والتزم بها الصحابة، هي حدود أعلي من قدراتنا اليوم، ومن يستطيع أن يبلغها ووفقه الله لها فلا شك أنه من أهل الرضوان.
ولكننا تعلمنا من ديننا أيضا قاعدة هامة وهي:
(ما لا يُدْرك كله، لا يُتْرك جله)
ومعنى القاعدة ببساطة، أن المسلم إذا لم يستطع في أمر ما أن يطبق حدود التقوى بحذافيرها، فعلي الأقل لا يتركها كاملة، ويحاول قدر إمكانه الالتزام بمعظمها أو حتى ببعضها.
فحدود الإسراف المُحرم التي التزمها النبي عليه السلام وصحابته من بعده، كانت بإلزام الزهد الحقيقي بمعناه الصحيح.
فليس الزهد معناه ترك الطيبات ولا ترك الاستمتاع برزق الله، لكن الزهد هو أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك، وأن تتمتع بالطيبات في غير الإنفاق المبالغ فيه على المظاهر.
بالذات إن كان هذا الإنفاق المسرف على المظاهر هدفه الأساسي لفت أنظار الناس، والتعاظم عليهم بالحصول على نوادر الأمور، ومشهور الملابس والمنازل ونحوها.
فالله عز وجل أعطانا المال وأمرنا أن نخرج حقه بالزكاة والصدقة، ولكن ليس معنى إخراج حق المال أن ننفق منه على المظاهر والشهرة لمجرد حب الظهور والتعالي.
فهذه الأمور من أقبح المنكرات في الدين،
وحديثي هنا ليس مُوَجّها إلى أهل الإسراف ممن يمنعون حق الله في مالهم، فهؤلاء يرتكبون ما هو أعظم من الإسراف ألا وهو منع الزكاة والصدقات.
وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى في الذين اكتنزوا الذهب والفضة ولم ينفقوها في سبيل الله:
[يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ] {التوبة:35}
لكن الحديث مُوَجه في الأساس للعابدين والمتصدقين وأهل السعي في مصالح الناس، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يُضَيّعوا حسناتهم وأعمالهم بسلوكهم مظاهر الشهرة والتميز وأنفاق الأموال في أمور لا ضرورة لها على الإطلاق، ولا هدف لها في الأصل إلا الشهرة والتميز
وقد جاء في الحديث الشريف:
(من لبس ثوبَ شهرةٍ ألبسَه اللهُ يومَ القيامةِ ثوبًا مثلَه ثم تلهبُ فيه النارُ ـــ وفي لفظٍ ــــ ثوبَ مذلَّةٍ)
وقد جاء عن (شهر بن حوشب) أنه قال:
(من ركب مشهورًا من الدواب ولبس مشهورًا من الثياب أعرض الله عنه وإن كان كريمًا)
وبالتالي،
فخطورة سلوك مظاهر الشهرة أو سرف الإنفاق والمبالغة فيه أنه يبطل أعمال الصدقات والحسنات لأهل الكرم، لأن الله تعالي لا يحب المسرفين ويكفي أنه يُعْرِض عنهم
وحتى لا يقلق بعض القراء ممن يحرصون على اقتناء المنقولات الغالية لمعيشتهم، فنقول لهم أن اقتناء الأمور عالية الثمن إن كان هدف اقتنائها هو الحاجة إليها، والرغبة في تيسير المعيشة أو تيسير العمل، فهذا مما لا شيء فيه إن شاء الله بشرط ألا يكون هناك بديلا لها ــ بنفس الكفاءة ــ أرخص سعرا.
والعلامة الفارقة الظاهرة بين حدود الإسراف وبين الضرورة، هي النية التي تحكم من يقتني هذه الأشياء، فإن كانت نيته في اقتنائها تقليد أهل البَطَر، أو التظاهر والتعالي، أو الزهو أمام الناس، فهذا هو السرف والشهرة المحرمة، أما إن كان الهدف هو رغبة الإنسان لفائدة نفسه وكان محتاجا لها فلا شيء فيه.

كذلك هنا إسراف منتشر في المجتمع، لكنه لا يحظى بانتباه الناس بالقدر الكافي، ألا وهو الإسراف في استخدام الماء العذب في غير موضع الضرورة.
فهذا من أشد المحرمات، وقد جاء عن النبي عليه السلام ما يلي:
(أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ مرَّ بسَعدٍ وَهوَ يتوضَّأُ، فقالَ: ما هذا السَّرَفُ يا سَعدُ؟ قالَ: أفي الوضوءِ سَرفٌ قالَ: نعَم، وإن كنتَ على نَهْرٍ جارٍ)
فإذا كان استخدام الماء العذب بكمية كبيرة في الوضوء نفسه، لا يجوز وإن كان المتوضئ يتوضأ على نهر جار، فكيف بالإسراف في استخدام الماء في اللهو والزينة؟!
وترجع علة التحريم هنا إلى أهمية الماء العذب لكونه أساس الحياة، وهذا النهي المشدد هو من أبلغ إعجاز الإسلام ونظامه الاجتماعي القائم على حفظ الموارد العامة وعدم إهدارها في غير موضعها، والظواهر العقيمة المنتشرة في العالم اليوم توضح لنا مدى المأساة حيث تعاني دول كاملة من قلة الماء العذب للشرب، بينما تهدر دول أخري المياه العذبة في صنع ملاعب الجولف وحمامات السباحة والمنتجعات!

كذلك من السرف وجحود النعمة، الظواهر القاتلة المنتشرة في المجتمع في المبالغة في الإنفاق، بلغت حدا رهيبا تحت تأثير انتشار وتعدد أنواع الملذات حتى رأينا محتويات بعض المنازل والقصور، وتكاليف الإنفاق في حفلات الزواج تتعدي المبالغ الكافية للإنفاق على مدن بأكملها!
ويحدث هذا في نفس الوقت الذي يعاني فيه الملايين من الفقراء من شظف العيش والبحث عن قوت يوم واحد.
كما أن (الشهرة) بذاتها أصبحت هدفا استراتيجيا حتى لمن لا يجدون سبيلا إليها، فسلكوا في ذلك كافة السُبُل من المحرمات دون أدنى وازع من الدين أو الضمير، وأصبحوا يرحبون بالشهرة ولو في المحرمات أو على سبيل العرض والأخلاق، ما داموا سيصبحون نجوما في المجتمع.
أي أنهم يسعون وراء الشهرة في الكبائر، بينما الصحابة وأئمة العلم رضي الله عنهم كانوا يفرون من الشهرة في فضائل الأعمال الكبار كالجهاد في سبيل الله، ونشر العلم!!

وقد جاء في سير هؤلاء الصالحين ما نصه:
(ومن العجب أن يحج مع النبي صلى الله عليه وسلم ما يربو على مئة ألف صحابي فلم يقدر ابن حجر العسقلاني على قوة حفظه وسعة اطلاعه، ومهارة بحثه أن يجمع لنا في كتابه الإصابة أكثر من ثمانية آلاف صحابي فأين الباقون!
إنهم على منهاج قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ»
ولو كانت الشهرة منقبة تتشوق لها النفوس الكريمة لأكرم الله بها سادة الدنيا من الأنبياء والمرسلين الذين بعث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يحفظ لنا القرآن سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.
وقد حذر سلفنا الصالح من حب الظهور والشهرة بين الناس لمن يسعى إليها ويجعلها هدفه، وتضافرت أقوالهم المحذرة من هذا الخلق الذميم، فهذا سفيان الثوري يقول: "إياك والشهرة؛ فما أتيت أحدًا إلا وقد نهى عن الشهرة"
وقال إبراهيم بن أدهم: "ما صدق اللهَ عبدٌ أحب الشهرة"
وقَالَ أَيُّوْبُ السختياني: "مَا صَدَقَ عَبْدٌ قَطُّ، فَأَحَبَّ الشُّهرَةَ")

وكما رأينا في المقال الخطير السابق، ما ورد من أقوال الصحابة وأهل العلم في الهروب من الشهرة في أعظم أعمال الخير، حتى في مقام (صُحبة النبي عليه السلام)، فقد غاب عنا أسماء الغالبية منهم ولم نعرف منهم إلا العشر بينما هم يزيدون عن مائة ألف صحابي، وكل هذا لأنهم كانوا يفرون من الشهرة بلا مقتضي، ولهذا عرفنا منهم رواة الحديث وأصحاب المشاهد والذين نزلت فيهم آيات القرآن والسنة
بل إن الرسل والأنبياء عليهم السلام، لا نعرف منهم إلا 25 نبي ورسول، بينما عدد الرسل يربو على 315 رسولا، وعدد الأنبياء مائة وعشرين ألف نبي، وفق نص الحديث الشريف!
(عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال:
قلت: يا رسولَ اللهِ كمِ الأنبياءُ؟ قال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسه عشر جما غفيرا)
فلو كانت الشهرة أمرا مباحا أو نعمة مطلوبة، لجعلها الله لخاصة أوليائه وهم الرسل والأنبياء.

فإذا كانت الشهرة بالفضائل منهي عنها لهذه الدرجة فما بالنا بالشهرة في الرذائل!، وقد تحقق فينا قول النبي عليه السلام:
(لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ.)
وكذلك أيضا تحققت فينا نبوءة رسول الله عليه الصلاة والسلام في قوله:
(لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ)
ومعنى الحديث أنه في آخر الزمان، سيكون أكثر الناس حظا بالدنيا من المال والشهرة هو (اللكع ابن لكع) أي أقل الناس شأنا في المجتمع سواء من حيث فائدته للمجتمع أو من حيث الأخلاق.
ونحن لا نحتاج إلى أن نقول بأن الحديث تحقق في زماننا بحذافيره!

ولا شك أن أعظم الأمور التي يعانيها المسلم في تقواه، هي ردع شهوة الشهرة في نفسه، والتي تتفوق على كافة الشهوات الأخرى، لذلك كان لجهاد النفس في ذلك أجر عظيم، ولكي ينجح الإنسان في ردع نفسه عن فتنة الشهرة عليه أن يتذكر فقط عواقب الشهرة في إبطال حسناته، ولا شك أن حرص المسلم علي حسناته سيكون دافعا قويا جدا لذلك.
ويجب علينا أن نجدد إيماننا كلما استطعنا، وفق ما يقول النبي عليه السلام في الحديث:
(إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)

ومعني (إن الإيمان يخلق كما يخلق الثوب) أن يعتريه القدم فيبلى كما يبلى الثوب بمرور الزمن والاستخدام.
ولهذا يجب ألا نيأس من تورطنا في حب الشهرة مرات وكَرّات، فالله يحب العبد الأواب إليه، وتجديد الإيمان يكون بتجديد العهد مع الله أن يخلع من نيته حب المظاهر والاشتهار بين الناس، وأن يحاول قدر استطاعته عدم الفتنة بمدحهم بالذات إن كان من أهل العلم أو أهل البر.

وتتبقي ملحوظة هامة جدا في هذا السياق.
وهي ضرورة بيان حدود (الشهرة المحرمة)، حتى لا يقع الإنسان في حرج إن كان معروفا بالعلم والتقوى أو بأعمال البر، ويتلقى الشكر والثناء على أفعاله وتقتدي به الناس.
فالشهرة المحرمة تختلف عن (عاجل بشرى المؤمن)، وعاجل بشرى المؤمن هي كلمات الإطراء والثناء وحب الناس لشخص فاعل الخير أو صاحب الخلق والعلم، وقد جاء هذا المفهوم من خلال حديث النبي عليه الصلاة والسلام عندما اشتكى إليه الصحابة أنهم يجدون الثناء ويخشون على دينهم الفتنة به،
(عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ")

ومعنى (عاجل بشري المؤمن) أن قبول الناس وثنائهم الحسن على أفعال المؤمن ــ دون أن يكون في نيته مسبقا الحرص على هذا الثناء ـــ فإن ثناء الناس هنا ليس من السمعة والشهرة التي تحرم الأجر، بل هو على العكس بشارة النبي عليه السلام بأن قبول الناس ومحبتهم لفعل المؤمنين هي بشارة عاجلة بقبول العمل في الدنيا يدركها المؤمن في الدنيا وتصبح علامة لوجود القبول في الآخرة
وأبسط وسيلة كي يفرق الإنسان بين الشهرة المحرمة وبين (عاجل بشرى المؤمن)، هي أن يتأمل الإنسان في نفسه ونيته، هل قام بفعله أصلا وهو يستهدف الشهرة والسمعة الحسنة بين الناس، أم أنه قام بفعله ابتغاء مرضاة الله وفي سبيله ولم يكن يهدف من وراء هذا منفعة دنيوية أو يتوقع وينتظر ثناء الناس عليه.
فإذا كانت نيته من البداية هي السعي لعمل الخير ــ سواء عرف الناس أم لم يعرفوا ــ فلا شك أن ثناء الناس إذا جاء في هذه الحالة فهو من عاجل بشري المؤمن في الدنيا.
وعاجل بشري المؤمن هي وعد الله الذي يتحقق لعباده المؤمنين، لأن أي مؤمن صالح سيجد محبة الناس من حوله وثنائهم عليه بطبيعة الحال، وهذا وفقا لقوله تعالى:
[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا] {مريم:96}

ومعني أن الرحمن سيجعل لهم وُدا، أن المؤمنين ستكون لهم مكانة وحب وشعبية بين الناس، وقال العلامة (ابن كثير) في تفسيره لهذه الآية.
(يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه)
وهذا ما عبر عنه أيضا حديث النبي عليه الصلاة والسلام:
(ِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ. فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ. فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ)

قال النووي رحمه الله:
(قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ هَذِهِ الْبُشْرَى الْمُعَجَّلَة لَهُ بِالْخَيْرِ، وَهِيَ دَلِيل عَلَى رِضَاء اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، وَمَحَبَّته لَهُ، فَيُحَبِّبهُ إِلَى الْخَلْق كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيث، ثُمَّ يُوضَع لَهُ الْقَبُول فِي الْأَرْض. هَذَا كُلّه إِذَا حَمِدَهُ النَّاس مِنْ غَيْر تَعَرُّض مِنْهُ لِحَمْدِهِمْ، وَإِلَّا فَالتَّعَرُّض مَذْمُوم)
كما ينبغي للمؤمن أن ينتبه لمكر الشيطان جيدا في هذا الباب،
لأن مكر الشيطان في هذا الشأن لا يكون فقط بدفع الإنسان للبحث عن مدح الناس، بل يكون مكره أشد بالمخلصين الذين يبتغون ثواب الله بنية صادقة، فيوهمهم ويؤنب ضمائرهم بأن الناس قد عرفتهم واشتهر ذكرهم وبالتالي فإن أعمالهم صارت رياءً وسمعة.
ويهدف الشيطان من وراء ذلك إلى إيقافهم عن أفعال الخير ودفعهم للامتناع عن إفادة الناس بما يفعلون تحت تأثير خشيتهم أن يقعوا في حب الشهرة والسمعة.
فإذا حدثت الإنسان الفاعل للخير نفسه بمثل هذا فلا يمتنع أبدا عما يفعل، بل يزيد من أعمال الخير التي يفعلها ويحرص عليها ولا يلقي بالا لوساوس الشيطان في هذا الجانب.
فلولا أن أعمال المرء تفيد الناس فعلا وتحظى بقبول رب العالمين، لما جاء الشيطان كي يوسوس له بأن يوقفها
والأمر ليس صعبا على الفهم ومعرفة الفارق الدقيق.
ويستطيع الإنسان أن يستدل بنفسه على ذلك، عن طريق مراقبة مشاعره عند فعل الخير، فإن وجد نفسه قد اعتادت أن تفرح بكلام الناس عنه، بحيث إذا لم يتحدث الناس أصابه الضيق، فعليه عندئذ أن يجدد نيته المخلصة لله عز وجل،
وإذا وجد نفسه يفرح بثناء الناس لكن ثناءهم لا يمثل دافعا أو تشجيعا له في فعل الخير، بمعنى أنه يقوم بعمله في كافة الأحوال سواء عرف الناس أم لم يعرفوا، فهو هنا على الطريق الصحيح.

كذلك من الذنوب المُحبطة للعمل، التي تقع دون أي داع في المجتمع رغم خطورتها، هو الذنب الذي ثار فيه جدل عقيم على مواقع التواصل من مُشجعي الثقافة الغربية وهي آفة امتناع الزوجة عن زوجها إن أرادها لنفسه!
وكعادة التقليعات الغربية انتشر هذا المصطلح الهدام (الاغتصاب الزوجي)، في نفس الوقت الذي تظهر فيه دعواتهم الداعية والمشجعة للمجاهرة بكل الرذائل كالزنا والشذوذ!
وهذا من جملة ما جرته علينا أقلام وجدت الفرصة في هذا الجو المشحون ضد كل أحاديث النبي عليه السلام وضد ثوابت الأخلاق، فهاجموا حديث النبي عليه السلام الذي يقول فيه:
(إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فلم تأته، فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)
وهذا الحديث فيه تحذير ووعيد للمرأة ألا تمتنع عن زوجها إن أرادها لفراشه، وعلة خطورة التحذير أن الرجل بطبيعته مفتوحة أمامه أبواب المعاصي والذنوب لا سيما في ظل انهيار الأخلاق بالمجتمع، فإذا اجتمع على الرجل امتناع زوجته ورفضها له مع يُسر الزنا كانت الكارثة!


والقضية لا تحتاج جدلا طويلا.
فالحديث فيه وعيد شديد نعم، ولكن ليس فيه إجبار ــــ كما يقول دعاة الانحلال ــ للمرأة على الاستجابة القطعية لزوجها في كل وقت حتى لو لم تكن لها رغبة.
فالعلاقة الزوجية علاقة مودة وتراحم لا علاقة استعباد، وبالتالي يجوز للمرأة بالتفاهم والرضا مع زوجها أن تمتنع عنه إن أرادت فإذا رضي الزوج انتهت القضية!
فلماذا يُصِر هؤلاء الناس على أن يكون امتناع الزوجة بالرفض العنيف الموجب للعن الملائكة، ولماذا لا ينصحون ــ لو أنهم حقا لا يريدون خراب البيوت ــ بأن يتم كل هذا في إطار التفاهم.
وهذا المعني يؤكده حديث النبي عليه السلام:
(والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها)
ونقول لهؤلاء المُحَرّضين للزوجات إذا كان عندكم ما يسمي بالاغتصاب الزوجي، فلا مانع عندنا من تطبيقه بشرط أن يكون من حق الزوج إن أصرت زوجته على الامتناع عنه دون عذر أن يتزوج عليها المثني والثلاث والرباع كما أحل الله له.
ودعونا نري رأي الزوجات في هذا العرض البسيط؟!
فإن أردت أن تكوني زوجة حرة مستقلة ـــ وفق ما ينادي به هؤلاء ـــ فاقبلي باستقلال زوجك وحريته أن يجد لشهوته موضعا آخر بالحلال الذي شرعه له الله طالما أنك امتنعت عنه بغير مرضاة الله ؟!
وحقا نحن في آخر الزمان والله

يتبع إن شاء الله

محمد جاد الزغبي 05-31-2024 10:51 PM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

ونأتي للعنصر الرابع من عناصر النجاة.
وهو أن يُطَبّق المسلم وصايا النبي عليه السلام ووصايا الصحابة للنجاة بدينه في عصر الفتن.
وعلى عكس ما يظن البعض أن المعيشة في زمن الفتن وآخر الزمان كلها شر، فالله عز وجل خلق الحياة كلها على قاعدة (النسبية)، والدنيا كلها تعيش بِعُمْلة ذات وجهين، وجه سلبي وآخر إيجابي
وإذا كان المسلم المخلص في عصرنا الحالي يري أنه من سوء حظه أنه لم يعش زمن النبي عليه السلام مثلا، أو زمن الصحابة، فعليه أن يراجع رأيه وينظر في الدرس البليغ الذي أعطاه لنا الصحابي الجليل (المقداد بن الأسود) رضي الله عنه في عدم جواز تمني المعيشة بزمنٍ آخر.
فقد روي (جبير بن نفير) ــ وهو من التابعين ــ قصة بليغة عن (المقداد بن الأسود) فقال:
(جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما، فمر به رجل، فقال:
طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت، وشهدنا ما شهدت.
فاستغضب "أي ظهر على المقداد الغضب الشديد" فجعلت أعجب، ما قال إلا خيرا، ثم أقبل إليه!
فقال المقداد:
ما يحمل الرجل على أن يتمنى مَحْضَرا غَيّبَه الله عنه، لا يدري لو شهده كيف كان يكون فيه، والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام كَبّهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه، ولم يصدقوه.
أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين لما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم، والله لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشدّ حالٍ بعث عليها فيه نبي من الأنبياء في فترة وجاهلية، ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفَرّق بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده وولده أو أخاه كافرا، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله عز وجل:
{الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}).

صَدَق (المقداد) رضي الله عنه، وما أعظم فهمه وعبقريته، فالمقداد رضي الله عنه شرح في بساطة واختصار درسا عبقريا للمسلمين لو تدبروا فيه لسلموا بحكمة الله عز وجل الذي قال عن نفسه في القرآن:
[لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا] {البقرة:286}
فالخالق سبحانه أدرى بطاقة كل إنسان من خَلْقه، و(المقداد) عندما رأى الرجل يتمني لو كان قد حضر زمن النبي عليه السلام وفاز بصحبته، حَذّره من هذا التمني
فالرجل ــ رغم حُسن نيته ــ وقع في خطأ كبير، إذ أنه احتسب نفسه على أنه سيؤمن بالنبي عليه السلام ويتبعه حتما إن حضر زمنه
وهذا مما لا يمكن القطع بحدوثه لأن النبي عليه السلام بُعث في فَوْرة عبادة الأصنام، وحاربه قومه وفيهم الكثير من العقلاء والنابهين، ورغم ذلك عندما انتشرت الدعوة تفرقت الأسر والعائلات بين مسلم وكافر، وكان هناك الكثيرون ممن آمنوا في أعماقهم بصدق الوحي والرسالة ـــ ورغم ذلك ـــ أصروا على الكفر لأسباب مختلفة منها الكبر وكراهية شخص النبي عليه السلام نفسه،
ومنها خشية المعايرة، ومنه ــ وهذا هو الأخطر ــ الالتزام بخط الآباء والأجداد في نصرة الشرك كما فعل (أبو طالب) عم النبي عليه السلام
وبالتالي ذهب هؤلاء إلى النار لا لأنهم كانوا مكذبين حقا للرسالة، بل ذهبوا نصرة لآبائهم الذين ماتوا على الشرك أثناء حربهم مع النبي عليه الصلاة والسلام.

و(المقداد) رضي الله عنه، ذكر للرجل كيف أنه يرفل في نعمة كبيرة من الله إذ أنه وُلد في زمن عزة الإسلام، وخرج في أهله الذين علموه الإسلام، وهذه نعمة عظيمة إذ يُولد المرء في بيت ومجتمع مسلم فلا يضطر إلى معاداة أهله أو عشيرته للدفاع عن عقيدته
كما أن الله عافي أجيال التابعين ومن بعدهم من ابتلاء رهيب تَحَمَّله الصحابة رضوان الله عليهم إذ أن معظمهم كانوا يحبون آباءهم وكانوا يتمنون لهم الهداية، لكن آباءهم ماتوا على الشرك، ومنهم من جاء ذكره في القرآن محكوما عليه بالنار والذم، كما هو الحال مع (أبي جهل) وقد أسلم ولده (عكرمة)، و(عتبة بن ربيعة) وقد أسلم ولده (أبو حذيفة)، و(الوليد بن المغيرة) وقد أسلم ولداه (خالد) و(الوليد) وغيرهم كثير
فلنا أن نتخيل مشاعرهم وهم يتلون آيات الله التي نزلت في عذاب آبائهم؟!
ولا ينبغي للمرء أن يقول عن نفسه أنه لو حضر زمن النبي عليه السلام فلا شك أنه سيؤمن برسالته وليحمد الله على عافيته، لأن التجربة العملية تثبت النتيجة، فاليهود في مجتمع الجزيرة العربية قاطبة كانوا يعلمون بمبعث النبي عليه الصلاة والسلام بل ويعلمون بيوم ولادته أيضا بموجب ما عندهم من علوم (التوراة)،
والمفارقة الرهيبة أنهم كانوا ينتظرون ظهوره ويتمنون حضور زمنه كي يؤمنوا به وينصروه على أهل الشرك، وعندما جاء زمان بعثة النبي عليه السلام وظهر فعلا ودعا للإسلام بآيات القرآن الكريم التي تخاطب أهل الكتاب بما يعرفونه ولا يعرفه غيرهم
إذا بهم يستنكرونه وينكرونه لكونهم كانوا يتوقعون ظهوره في نسل بني إسرائيل، فلما جاء ظهوره في العرب أنكروه بل وحاربوه الحرب الشعواء!

وقد يعترض القارئ بأن هذا يجوز في عدم تمني زمن الصحابة، ولكن كيف لا يتمني المرء عدم ولادته في زمن الفتن؟!
ونقول إن الله عز وجل حكيم، وهو الأدري بقدراتنا، فلو أن المسلم الطموح اليوم وُلِد قبل مائة عام أو أكثر من زمنه الحالي حيث كان المجتمع لا زال فيه من الخير الكثير، لفات عليه أجر وجزاء بالغ الاتساع.
لأننا في عصرنا الحالي نرى أن المسلم الملتزم الذي يحسده الناس على التزامه، هو من يحافظ على الفرائض من الصلاة والزكاة والصوم والحج، ويختم القرآن مرة في رمضان، ويتقي الله ما استطاع في معاملاته، فهو بذلك في عُرْف مجتمع اليوم شخص متدين بلغ الحد الأقصى من التقدير في مجتمعه لتدينه هذا

وهذا راجع بالأساس لأن الفرائض تم انتهاكها في المجتمع وتراجعت قيمتها، وبالتالي صار الملتزمون بها هم القلة القليلة التي تستحق التقدير
بينما منذ أقل من مائة عام، لو تأملنا المجتمع سنجد أن المسلم العادي الذي لا يتميز عن أقرانه بعبادة ملحوظة هو المسلم المواظب على صلاة الجماعة في المسجد في كل فرض، وهو القائم بالفرائض والسنن الرواتب والنوافل المتعارف عليها، وهو المنتظم في قراءة القرآن فيختمه مرة واحدة على الأقل كل شهر، وهو المواظب على أذكاره في الصباح والمساء والواقف عند حدود الله تعالي لا يتعداها.
فهذه الصفات كانت في ذلك الزمان صفات الفرد العادي في المجتمع، بينما المتميز العابد في هذا المجتمع كان أعلي من هذا بمراحل
فتجده حافظا لكتاب الله تعالي، دارسا للسنة والفقه ولو بالسماع، مؤديا لحق المجتمع في التكافل وحريص على البر وقضاء حوائج الناس ... إلى غير ذلك.

وبالتالي فالمسلم المتحمس في عالم اليوم، بلغ بأعماله القليلة ما لا يستطيع أن يبلغه لو وُلِد في زمنٍ آخر، لأنه بطاعته القليلة تلك، صار من العابدين في زمن الفتن
وحساب الحسنات عند الله تعالي يختلف من زمن لآخر، فأجر أداء الفراض والطاعات في زمن الفتن أضعاف مضاعفة من أجرها في أزمنة الخير وهذا ثابت في أكثر من حديث.
ومنها حديث النبي عليه السلام:
(إِنَّ مِنْ ورائِكُم زمانُ صبرٍ، لِلْمُتَمَسِّكِ فيه أجرُ خمسينَ شهيدًا منكم)
والحديث في منتهي الخطورة، ويحمل بشارة عظيمة جدا لكل مسلم في عالمنا اليوم،
فالنبي عليه السلام يوضح للصحابة كيف سيكون عليه حال الناس في أزمنة الفتن، وكيف أن القابض على دينه في هذا الزمان المتمسك بالسُنة سيكون له أجر خمسين شهيدا ــــ ليسوا من زمنه ــــ بل أجر خمسين شهيدا من الصحابة أنفسهم!
وأنا لا أعلم أجرا وجزاء ورد في شريعة الإسلام يعادل الأجر الوارد في هذا الحديث الشريف.
لأنه من المعلوم والثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن الصحابة لهم مكانة عند الله لن يبلغها سواهم ممن سيأتي بعدهم من الأجيال مهما بلغت طاعتهم وعطاؤهم في الإسلام، وذلك بموجب حديث النبي عليه السلام:
(لا تَسبُّوا أصحابي فوالَّذي نَفسي بيدِهِ لَو أنَّ أحدَكُم أنفَقَ مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما أدرَكَ مُدَّ أحدِهِم ولا نصيفَهُ)
ورغم هذا.
فإن العابد المتمسك بدينه في أزمنة الفتن سيكون له استثناء غير تقليدي بأن يبلغ أجر خمسين صحابيا دفعة واحدة بكل ما يشتمله هذا الأجر من مزايا لا تخطر على بال
وذلك لأن العبادة والطاعة والتمسك بالدين في زمن الفتن هو بطبيعته من أصعب الأمور على النفس، لا سيما في ظل انتشار الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بعد انقلاب الأخلاق والمُسَلّمات، وبالتالي أصبح الملتزم بالطاعة يجد من معايرة المجتمع وحربه عليه، ما كان يجده العصاة وأصحاب الفواحش في الزمان القديم.
وهذا من علامات الساعة الصغرى حيث جاء عن أهل العلم مقولة معبرة تصف هذا الأمر وهي:
(ليأتين على الناس زمان يُعَيَّر المؤمن بإيمانه كما يُعير اليومَ الفاجر بفجوره حتى يقال للرجل إنك مؤمن فقيه)
وقد حدث هذا بالفعل!

وبالتالي يجب علي المسلم المحافظ على الحد الأدنى من العبادة، أن يستبشر بهذه الطاعة لأن جزاءها لا يفوقه جزاء أي جيل من أجيال الأمة.
بل إن الجزاء لا يقتصر على أن أجر العابد سيكون مساويا لأجر خمسين من الصحابة، بل جاء عن النبي عليه السلام ما هو أعز وأكرم حيث قال عليه الصلاة والسلام:
(الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ.)

وهذا جزاء بالغ العظمة، لأن الله عز وجل جعل من هجرة الصحابة إلي النبي عليه السلام قبل فتح مكة أجر أعلي ومكانة أقيم بكثير ممن أسلم بعد الفتح، وقد جعل الله ترتيب الأفضلية في الصحابة على ثلاث مستويات، فأعلاها وأعظمها هو مستوي (المهاجرين)، لأنهم تركوا أموالهم وديارهم وهاجروا وجاهدوا مع النبي عليه السلام في زمن حربه مع قريش.
والمستوي الثاني جعله الله تعالي في (الأنصار) باعتبارهم الذين آووا ونصروا المهاجرين وقاسموهم أموالهم وديارهم وتجارتهم، والمستوي الثالث والأخير وهم (مُسْلِمة الفتح)، والذين أسلموا عند فتح مكة وعفا عنهم النبي عليه الصلاة والسلام فانضموا لمفهوم (الصحابة) في المجمل.
وهذا الترتيب هو الذي ورد في آيات القرآن الكريم في قوله تعالي:
[وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] {الحديد:10}
وأيضا في قوله تعالي:
[لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ(9)]. {الحشر}.
وبفتح مكة انتهي مفهوم (الهجرة) تماما، ولم يتجدد فتح هذا المفهوم مرة أخري إلا للمسلمين في زمن الفتنة وفق نص الحديث الشريف
(العبادة في الهَرْج، كهجرة إليّ)
والهَرْجْ هو انتشار فتن القتل والهلاك العام، وانتشار الفرقة والتناحر وسفك الدماء، ولا شك أننا نشاهد في عالمنا اليوم آلاف الضحايا ممن لا يدرون فيم قتلوا وبأي مبرر؟!
وحولنا أوطان كاملة تحولت إلى يُبَاب وخراب، ولا يوجد مبرر منطقي لحدوث هذا إلا الفتن العمياء والتجارة بالدين والتجارة بالأوطان!
وعليه.
فالمعيشة في زمن الفتن في ظل التمسك بالحد الأدنى من التقوى هي كرامة عظيمة لمن وفقه الله تعالى للانتباه لها والعمل على الدخول في بشارتها النبوية.

ولكن هذا مع الضابط الهام الذي ينبغي للعاقل أن يضعه نصب عينيه، وهو الحرص التام في عدم التورط بلسانه أو بفعله في الموبقات التي تنسف جزاء طاعته، وتبطل عمله.
كذلك من أهم وصايا النبي عليه الصلاة والسلام في زمن الفتن، هي الاعتزال الإيجابي أولا، فإن لم يستطع فعليه بالاعتزال السلبي
وقد سبق أن أوردنا هذه الوصية في حديث النبي عليه السلام لحذيفة بن اليمان أن يعتزل بدينه عن كافة الفرق، وضرب له المثل بأن يفعل ذلك ولو اضطر إلى أن يعض على أصل شجرة حتى يدركه الموت.
ولا شك أن هذه الوصية وردت بهذا التشديد في زمن (الفرقة) لكثرة انتشار الصراعات على الباطل، وانعدام الحق بين سائر الفرق المتناحرة.
وقد يعترض البعض بأن فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هي فريضة واجبة على الأمة، وجعلها الله تعالي في القرآن الكريم أهم أسباب خَيْرِيتها وتميزها على بقية الأمم وذلك بموجب قوله تعالي:
[كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ] {آل عمران:110}

فنقول بأن هذه القاعدة هي الفرض المفروض في الأحوال العادية على الأمة، أما في أزمنة الفتن فهي حالات استثنائية عالجها القرآن وعالجتها السُنة المشرفة بنصوص خاصة بها.
فالله عز وجل قال أيضا في كتابه:
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] {المائدة:105}
وقد قال (ابن كثير) في تفسيره كلاما نفيسا يشرح الفارق بين الأحوال العادية للأمة والتي يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوبيا، وبين أحوال الفتن وتفرق الجماعة والتي تنطبق فيها قاعدة (عليكم أنفسكم) فجاء في التفسير عن هذه الآية الكريمة ما نصه:
(وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {
فقال: إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم – فحينئذ" عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل"
ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم {الآية ،
قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله:
ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول:
} يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم {الآية.
قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مه، لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي -صلى الله عليه وسلم -بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه،)

وحديث (ابن مسعود) رضي الله عنه واضح تام الوضوح في إبراز وجوب الاعتزال عندما يحين زمانه وتحين علاماته وهي اختلاف القلوب والأهواء والتفرق والتشرذم والصراعات بين المسلمين وبعضهم البعض وانعدام اجتماع كلمتهم على أمر واحد.
ويُسْتثني من حالة الاعتزال التام أهل العلم، والذين يكون من واجبهم إظهار الحق، ودفع الشبهات، وتعليم الناس الأصول الصحيحة للدين، فهؤلاء لا يجوز لهم الاعتزال لأنهم هُدَاة المجتمع.
ولكن وفقا لحديث (ابن مسعود) فإنه حتى العلماء يجوز لهم الاعتزال أيضا والسكوت في حالة واحدة وهي أن يتم الرد عليهم برفض سماعهم، ورفض إرشادهم، ومنعهم من البيان، عندئذ يطبقون نص الآية ويكتفون بإصلاح أنفسهم وإصلاح من يستمع منهم أو يقبل، أما غير ذلك فلا يحملون أنفسهم ما لا يطيقون طالما واجهوا حالة من الرفض العام في المجتمع.
وهذا حدث ويحدث في المجتمعات الإسلامية بمختلف أقطارها بأساليب مختلفة، حيث أصبح المنادون بالاستقلال المعرفي والداعين للالتزام بالقرآن والسنة غرباء عن مجتمعاتهم، معتكفون في مكتباتهم وبين كتبهم يعانون الرفض والإهمال، وإذا تكلموا واجهوهم بالسب والطعن والاتهام.
ولهذا انطبق عليهم وصف (الغرباء) الذي وصفهم به النبي عليه السلام بقوله:
(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء)
وفي رواية أخرى:
(قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟
قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)
ومفهوم (الغربة) هنا أتي من مفهوم (الاعتزال)، والذي يجعل من الإنسان الملتزم، إنسانا منعزلا وغريبا عن الطبائع العامة في مجتمعه، وهذا ما يعانيه وسيعانيه كل من حضر وعاش في زمان الفرقة والفتن.

وقد يعترض البعض أيضا بحديث النبي عليه السلام:
(المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ)
وبالمثل.
فالحديث ينطبق نصه على الأحوال العادية التي تكون فيها الأمة متفقة الكلمة بشكل عام، أو حتى بشكل جزئي، أما عندما تنقسم إلى عدد لا نهائي من الأهواء والفرق والجماعات والحكومات، ويصبح من المستحيل أن تجد أسرة واحدة يتفق أهلها علي أمر واحد دون اختلاف، فلا شك أن هذا الزمان هو زمان فُرْقة ينطبق عليه الاستثناء الذي يكون له تطبيق آخر وهو نص حديث (حذيفة ابن اليمان) السابق الإشارة إليه.
والأذى المحتمل المشار إليه في الحديث، هو كل أذى يلاقيه المؤمن في غير العقيدة، أما الأذى الذي يفتن الناس عن دينهم ويشككهم في عقيدتهم فليس للمؤمن فيه أن يخالط من يرتكبونه أو يتحمل أذاهم، بل المفروض هو العكس، اعتزالهم وهجرهم وفق أمر الله تعالى في كتابه العزيز:
[وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا] {النساء:140}

كذلك من أهم الوصايا التي وردت إلينا عن طريق الصحابة والأئمة والعلماء، هي ضرورة أن يتميز المسلم بالذكاء الإيماني.
والذكاء الإيماني معناه في أصل الحرص على معرفة وتطبيق أبسط الأعمال الصالحة جُهدا، وأعظمها أجرا.
وأيضا معناه إدراك واستغلال الموهبة والميزة أو النعمة التي عندك في نفع الناس، فالمجتمع يوجد به أُناسٌ عاديون، وآخرون مميزون بميزة خلقها الله تعالي فيهم في موهبة يجيدونها، أو نعمة يمتازون بها عن غيرهم.
وبالتالي فإن الذكاء الإيماني يقتضي أن يُركز في استغلال هذه الموهبة أو النعمة لخدمة الناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا، لأن الله عز وجل جعله مميزا بها لهذا الغرض أصلا.
وبالتالي فليس عليه أن يغرق في نوافل العبادات ويهمل استغلال ما أنعم الله به عليه من تحقيق مصالح المجتمع.
فإن الذي يتعبد إلى الله بخدمة عموم الناس، أفضل بمراحل من المتعبد بالنوافل والعبادات الخاصة الذي تعود بالنفع عليه وحده لا المجتمع، ومعروف بالطبع أن التعبد بنفع المجتمع أفضل كثيرا من التعبد بالنوافل.
وقد جاء في كتاب (إحياء علوم الدين)، للإمام (الغزالي):
(قيل لبشر الحافي:
إن فلاناً ــــ الغني ـــ كثير الصوم والصلاة،
فقال: المسكين ترك حاله، ودخل في حال غيره! وإنما حال هذا: هو إطعام الطعام للجياع والإنفاق على المساكين، فهذا أفضل له من تجويعه نفسه، ومن صلاته لنفسه، ومن جمعه للدنيا، ومنعه للفقراء !!
وقال ابن مسعود:
في آخر الزمان يكثر الحج بلا سبب، يهون عليهم السفرُ، ويُبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين، يهوي أحدهم بعيره بين الرمال والقفار، وجاره مأسور لا يواسيه
)

فإن العابد الغني لا ينبغي أن ينشغل بالنوافل وحدها، ويترك الوظيفة الأهم التي خلقه الله تعالى لها ألا وهي السعي في إعالة المحتاج وتفريج أزمة المكروب بماله.
وبالمثل فإن المسلم الذي رزقه الله نفوذا ومكانة في المجتمع، فهذا قد يَسّر الله له سهولة قضاء حوائج الناس بأكثر مما يستطيع غيره، وبالتالي فإن جعل سعيه في ذلك كان له أفضل أجرا من العبادة الشخصية بالنوافل.
وأيضا المسلم الذي رزقه الله العلم الصحيح، والفهم والأسلوب في نشر المعرفة الصحيحة في الدين، فهذا قد رزقه الله بأفضل النعم، فلو أنه انشغل بهذا العلم وجعله في رد الشبهات عن الدين، وتعليمه للناس وإرشادهم، فإن الأجر الذي سيلقاه عند الله ــــ ليس أعظم من العابدين المحافظين على النوافل ـــ بل أعظم حتى من المجاهدين أنفسهم والذين يبذلون الدماء للدفاع عن أوطانهم.
لأن الجهاد يكون نفع الناس فيه على مقدار المعركة أو القتال، بينما نفع نشر العلم والدفاع عن السُنة هو جهاد عام يبقي أثره على امتداد الزمان على عموم الناس.

وليس معنى هذا الكلام أن يكف المرء عن النوافل من الزيادة في الصلاة والحج والعمرة، ولكن المطلوب منه أن يُوّظف نفسه توظيفا يليق بالموهبة التي وهبها الله له.
وقد سبق أن ذكرنا حديث النبي عليه الصلاة والسلام في ذكر أفضلية السعي في قضاء مصالح الناس وكيف فَضّلها النبي عليه السلام على الاعتكاف في المسجد النبوي شهرا!

والوصايا السابقة كلها إنما ينجح في تطبيقها من وفقه الله تعالى إلى ذلك بصدق النية، مصداقا لقوله تعالى:
[وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] {العنكبوت:69}
لأن نية النجاة هي التي تحكم رغبة المرء حقا، فليس كل من عَبّرَ بلسانه عن رغبة النجاة بطالبٍ لها أو ساعٍ إليها إن لم تكن رغبته تلك أقرب إليه من حبل الوريد، فلا رغبة ولا نية.
كُلنا قائلٌ برغبته، معبرٌ عنها، لكن هل تعمقنا في أنفسنا فأدركنا هدفنا حقا، أم أن الأمر لا يعدو إلا كونه محاولة لإرضاء الضمير وفقط؟

تلك هي المعضلة الحقة إخلاص النية وإدراك معية الله وقربه تعالى منا إلى أقصي درجات القرب.
وأهم ما فيها هو تنفيذ المسلم لأهم شرط في الإيمان عند أداء الفرائض وعند الالتزام بالنواهي، هذا الشرط هو (تعظيم أمر الله)
وهو ليس أمرا هينا، بل أمر وجوبي ووجودي في الدين، فتعظيم أمر الله معناه تقديس الأمر والنهي الإلهي وتعظيمه حتى لو كان هناك تقصير منك في أداء الأمر أو الامتناع بالنهي، فلا تدع تقصيرك دافعا للاستهانة بالأمر والنهي بل يجب إنزالهما في قلبك منازل الخشية مصداقا لقول الله تعالي في وصف المؤمنين.
[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] {الأنفال:2}
وبعدها، لا خشية كما أسلفنا القول، ولا خوف، وكُن كيف شئت طالما أنك أدركت منزلة الخشية لله حقا، وهذا يقودنا إلى إدراك واحدة من أكبر الكوارث التي تحيق بالمجمعات الإسلامية وهي أزمة اليقين المفقود



محمد جاد الزغبي 05-31-2024 11:03 PM

رد: كتاب فِـقْـــه السُـنّة في النجاة من الفتن وأحداث آخر الزمان
 

الفصل الثالث:
أزمة الخط المستقيم

من أكبر الأزمات العقلية في طريق العودة إلى الله هو محاولة العقل للعودة بغير إرشاد القلب.
فما يغفل عنه الكثيرون أن الطريق إلى الله لا يُسرع بالعاقل، ولا يبطئ بالغبي الغافل، بل يبطئ بالعاقل المتغافل
وبالعكس
فالعقل غالبا ما يكون طريقا للهلاك وهذا أمر طبيعي لأن العقل إذا سلك طريق التساؤل والعودة إلى الله طرح أمامه مفردات المادة والإدراك في أمر يعوزه العجز للاعتراف بوجود خالق قادر منعم ومتفضل
ولذا فالمقولة الشهيرة أن الله تمت معرفته بالعقل، تحتاج معها إضافة لتصبح قابلة للمنطق فيكون الطريق بالعقل والقلب، فالقلب عماده المشاعر والأحاسيس وهو الذي يضيف لمحة التأثر المطلوبة لجمود العقل.

فالعقل بلا قلب، لن يعرف الخوف ولا الهيبة ولا العجز لأن مفردات العقل بطبيعتها تُفَجّر الغرور الإنساني فتدفعه للتساؤل بلا حدود وفى غياب التأثر القلبي يستمر التساؤل إلى ما لا نهاية رافضا أن يستكين لمفردات المنطق الإلهي طمعا في منطق عقلي يقنعه بدليل محسوس ملموس!
ولذلك ضل الملحدون وغيرهم الطريق عندما قالوا بعدم وجود إله لا تدركه الحواس، وكيف يمكن أن يوجد إله لا يدركه بصر وفى هذا جاء القرآن الكريم مُترجما لتلك الحقيقة، حقيقة أن العقل وحده لا يصلح حيث يقول عز وجل:
[أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ] {الحج:46}

هل لاحظتم التعبير القرآني: (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا)
فالآية الكريمة جعلت الإدراك العقلي للقلب لا للعقل، لأن العقل هو الطريق أو الوسيلة بينما المُنَفّذ الفعلي هو القلب الذي يصدق أو يكذب النتائج
وقد تكرر مفهوم نسبة الإدراك للقلب لا العقل في آيات القرآن الكريم مثال ذلك قوله تعالى:
[أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] {محمد:24}
وضلال الملحدين والمنكرين لوجود الخالق يدحضه المنطق العقلي ذاته، حيث أن مفردات العقل ذاتها تقود إلى أن وجود الإله في محل الإدراك ينفي ألوهيته بطبيعة الحال،
بمعنى أنه لو تمكن العقل (المخلوق) من رؤية وإدراك ذات الله تعالى وصفاته، لكان هذا دليلا على قصور الخالق ــ حاشا لله ــ إذ أن الخالق لا يمكن أن يخضع لإدراك (المخلوق)، وقول الملحدين هنا يشبه أن تتمرد الآلات التي صنعها البشر على البشر أنفسهم وأن تكون في مستواهم وتدرك طبيعتهم وكيفية صناعتهم لها!
وهذا مستحيل وضد المنطق بطبيعة الحال، فإذا كان هذا الأمر غير جائز في صناعة الإنسان للمخترعات والأدوات فكيف يمكن تجويزه على خالق الكون.
ويُضاف إلى هذا أن مقولة الملحدين في أنهم يريدون خضوع الخالق لحواسهم الظاهرة، ينافي منطق العلم نفسه، لأن العقل البشري يقف عاجزا أمام بعض مخلوقات الله، فكيف يمكن تصور قدرته على إدراك خالقها؟!
إذ أن هذا الكون الذي لم نعرف منه إلا جزء بسيطا من سمائه الدنيا يبلغ مقداره 15 مليار إلى 100 مليار سنة ضوئية في الاتساع و13 مليار سنة في العمر ــ والله أعلم بالحقيقة ـــ ويبدو أمام الإدراك لغزا غير قابل للحل،
فإذا كان العقل عاجزا عن الإدراك الحسي لبعض مخلوقات الله، فكيف بالله نفسه عز وجل؟!
والعقل العلمي عجز في كافة حضارات الأرض الحالية والسابقة عن معرفة أدنى معلومة تخص (الروح)، وكيفية الموت، فرغم التقدم العلمي الهائل في أجهزة القياس إلا أن العلم البشري سيظل عاجزا أمام حقيقة الموت وعاجزا عن تفسيرها وسيقتصر علمه فقط على مُسبباتها الظاهرة دون أن يدرك كنه الموت نفسه، ودون أن يستطيع العلم إعادة الحياة حتى لحشرة صغيرة!
وسيظل العلم عاجزا عن محاكاة الإبداع في الخلية البشرية أو تكوينها معمليا بنفس صفاتها وخَلْقها!

هم بهذه الطريقة مع أمثالهم من عبدة المذاهب البشرية هبطوا بقدرات العقل إلى دركها الأسفل فخرج منهم كما رأينا ملحدون ومشركون، وصنف آخر أعجب وهم العلمانيون عندما وقفوا يدافعون عن قدرات العقل الإنساني باعتباره يستطيع بالتطور أن يطور تشريعاته بما يتناسب والتقدم العلمي الهائل الذي يرونه أمامهم ويعبرون عن ذلك بأن الدنيا أصبحت قرية صغيرة مملوكة للقدرات الإنسانية
ولعمرى إنهم في ضلالة ما بعدها ضلالة، ومن أشد إعجاز القرآن آياته التي أخبرنا عن أمثالهم في قوله تعالى:
[حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] {يونس:24}

وقد كنت أتعجب من حماقة إبليس لعنه الله وهو يتحدى رب العالمين وهو يثق تمام الثقة بمصيره الذي أخبر عنه القرآن فإذا ببعض البشر أشد منه حماقة وهم يقرءون بأعينهم ولا يفقهون بقلوبهم هذا الوعيد المباشر الصريح بأن مصدر الهلاك الأعظم للبشرية عندما تأخذ الأرض زخرفها ويظن الغافلون أنهم قادرون عليها.
ومما هو أغرب أن تلك العقول التي تتبجح بالعلم والإدراك والدفاع عن العقل تعجز عن ربط حقائق بسيطة تطرحها العقول والتجارب أمامهم وهم يرون بأعينهم هذا الكون الفريد، الذي تشغل فيه شمسنا بمجموعتها حيزا أشبه بثقب إبرة في هذا الكون الفسيح الذي لا زلت أدعو القارئ للتبصر في جزء بسيط من سمائه الدنيا يبلغ اتساعه 13 مليار سنة ضوئية في أقل التقديرات العلمية
أي حاصل ضرب 13000000000 × 12 × 365 × 24 × 60 × 60 كيلومتر
وتبلغ درجة حرارة الشمس في قلبها من7 إلى 10 مليون درجة مئوية وعلى سطح الشمس تبلغ 5600 درجة تقريبا لو نقصت هذه الدرجة بمقدار محدود، فهذا معناه بدء عصر جليدي على الأرض!، ولو زادت بمقدار محدود لاحترقت الأرض بما عليها
فأين هو مثال تلك القدرة على الضبط والإحكام ؟!
هذه الشمس بكل هذا المقدار الرهيب من الحرارة لا تستطيع أن تضيء حول محيطها إلا ما مقداره 500 كيلومتر من صفحة السماء والباقي في ظلمة حالكة،
والأكثر إثارة للذهول أن هذا المقدار من الطاقة والحرارة يعتبر أشبه بقطعة الثلج أمام النجوم العملاقة التي تعتبر شمسنا أمامها من النجوم الباهتة حيث يبلغ مقدار طاقة بعض النجوم الكبري حجم كافة نجوم مجرتنا درب التبانة في الكويزرات العملاقة!
أي أن مجرتنا بكل ما تحويه من شموس عملاقة، تعادل حجم نجم واحد من النجوم الكبري في مجرات أكثر فداحة في الحجم
فتخيلوا معي مقدار الطاقة المنبعثة من كامل نجوم السماء الدنيا ؟!
وتخيلوا السماوات السبع في مجموعها بكل من فيها وما فيها عندما نستمع إلى أقوال المفسرين عن الكُرسي الذي يستقر فوقه عرش الرحمن حيث وصف دنيانا بأنها إلى جوار الكرسي ــــ لا العرش ـــ كحلقة المغفر إذا ألقيت في الصحراء وحلقة المغفر هي حلقة الحديد التي تربط بها الدواب
وهذا وفقا لحديث النبي عليه السلام:
(ما السماوات السبع في الكرسي بالنسبة لكرسي الله إلا كحلقة ملقاة في فلاة في صحراء من الأرض وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)
هذه الحقائق لو أننا وضعنا كوكب الأرض إلى جوارها، ما الذي يمكن أن يساويه ؟!
فإذا وضعنا الإنسان إلى جوار كل هذا الهول، ما الذي يساويه ؟!
وهل يمكن بعد كل هذا أن نقبل تبجح القائلين برفض التشريع السماوي الداعين للمنهج العلماني القائم على عدم صلاحية شريعة الله عز وجل لهذا العصر المتقدم ؟!

ولأن رب العزة لا يأخذنا بحماقاتنا فقد ترك لنا من الأدلة المبسوطة على حقارة شأن الدنيا وأهلها ـــ إلا من أدرك واعتبر ـــ عندما نلمح في أطراف الأرض نفسها ــ لا الكون بعجائبه ـــ ألغازا تتحدى قدرة العلماء من سائر أقطار العالم وهم يقفون أمامها عاجزين عن النوم وعن الحل.
والقائمة لا تؤذن بحصر حول النظام المفرط الدقة للأجرام السماوية وآثار ذلك على الأرض وما يحتشد من ألغاز علمية لا زالت رهن البحث من مئات الأعوام مثل لغز رسومات (كهوف تاسيلي) في الجزائر ومثلث (برمودا) في المحيط الأطلنطي، و(بوابة الشمس) في بيرو، وحادثة (روزرويل) وانفجار (سيبريا) العظيم، وأعماق المحيطات المليئة بالغرائب، والآثار المكتشفة لمخترعات علمية الحديثة بلغ عمرها ما يزيد عن خمسة وثلاثين ألف عام في حضارات مجهولة لنا تماما لا نعرف كم بلغ تقدمها العلمي!
هذا بالإضافة للقدرات التي تخرجها الطبيعة لنا
فإعصار واحد مثل إعصار (تورنادو) الشهير الذي يتكرر مرارا، ومع ذلك تعجز أعتى التكنولوجيا عن التصدي له لتقليل الخسائر فقط فضلا على منعها ؟!
ومن آياته أيضا أن الدواب التي تقبع بلا عقل، ومع ذلك يمكنها إدراك الكوارث الكونية والطبيعية قبلها بوقت يمتد لساعات في حين يعجز الإنسان بأجهزته ومعداته عن توقعها بنسبة صحيحة إلا فيما ندر
وهذا يؤكد على القول المأثور أن من اعتمد على عقله ضل، ولكن أين المتأملون ؟!
ولو غابوا عن تلك الحقائق كيف غابوا عن مثل هذا الوعيد في قوله تعالى:
[وَذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا {المزمل ـ 11 , 12}

ومن غريب الأمور أن بعض علماء الغرب الكبار وهم في الأصل أبعد ما يكون عن الدين، إلا أنهم تمكنوا بالعقل المقترن بالمنطق القلبي الحر الخالي من الغرض والهوى من ولوج باب الإيمان من أوسع أبوابه عقب التأمل في بديع صنع الله بهذا الكون ونقلت وسائل الإعلام مقولة مأثورة لأحد مشاهير العلماء في علم الفلك قال:
(إني على يقين من أن هذا المجال ـــ مجال الفلك ـــ لا يمكن لأحد أن يخوضه بعقله في غير إيمان بوجود إله أو حتما سيفقد هذا العقل)
والوصول إلى الله بطريق الإدراك العقلي السليم الممتزج بصحوة القلب يكون أفضل طرق الوصول دون شك مصداقا لقوله تعالى
[إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ] {فاطر:28}
فبلا شك أن إدراك العقل لمدى قدرة الله تعالى اللامحدودة وطلاقتها في خلقه يقود المرء ببساطة إلى أن الوقوف بالعقل أمام خالق العقل ومحاولة الاستقلال ورفض أداء العبادة والإيمان بالقرآن والسنة هو من الحماقة بمكان كبير.
هذا عن العقلاء الذين أحبوا الإنفراد بالعقل وحده طريقا دونما تهذيب لقدراته بالقلب المستعد القابل للهداية فأخذهم الكبر والغرور البشري المعهود.

ولكن ماذا عن العقلاء الراغبين الذين قادهم نفس العقل الراغب للهداية إلى التيه بدلا من الهداية؟!
هؤلاء هم للهداية طارقو أبواب، فوقعوا في الإفراط كما وقع غيرهم في التفريط، لكنهم عجزوا عن إدراك أن هذا الطَـــرْق لا يفيد حيث أن الأبواب مفتوحة على الدوام ومع ذلك يصرون إصرارا غريبا على طرقها وسماع الإذن بالدخول أولا قبل أن يدخلوها!
مع أن الإذن ممنوح لهم ولكافة المخلوقات منذ خلق الله الدنيا، وقد جاء في صريح القرآن هذا المعني.
[قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {الزُّمر:53}
هؤلاء الذين لم يدركوا مدى العظمة التي يمثلها كبرياء الخالق
ونعني بهم المبالغين في اليأس، المستسلمين له، الواقفين عند أخطائهم وذنوبهم بغير الشكل الذي أراده الله من الإنسان.
أولئك المؤنبين ضمائرهم بأخطائهم السابقة بشكل يجاوز الحد، بل ويمتد بهم العصف النفسي إلى ما هو أخطر إلى درجة ترك أعمال الخير مخافة الرياء وإلى حمل الهم النفسي والقنوط من رحمة الله تعالى تحت تأثير الخوف المرضي من الخطأ أو الذنب
وهؤلاء لم يدركوا حكمة الإسلام العريقة التي تقول بالوسطية دوما، لأن مبالغتهم في الخوف من الذنوب أوقعتهم فيما هو أشد ألف مرة إلا وهو القنوط واليأس
فإن كان مفروضا علينا إدراك عاقبة الذنوب والندم والتوبة، فالأشد فرضا من هذا عدم اليأس من مغفرة الله
قال تعالي:
[وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ]
{يوسف:87}
وهؤلاء لا يدركون حقيقة بسيطة للغاية تبسط نفسها أمام كل مبصر وهي أن الإنسان مخلوق على طريق الخطأ بطبيعته وليس مطلوبا من أي إنسان ألا يذنب بل المطلوب منه فقط ألا يُصِر على ذنب وإن أصر فلا يمل من التوبة ولو تكرر الذنب منه آلاف المرات.
وبإجماع العلماء بناء على نصوص القرآن والسنة فإن العبد المكرر للذنب لو كرر التوبة فهو في الأوابين أي الراجعين للحق دوما، والأوابون صفة من صفات الأنبياء أنفسهم يحبها الله تعالي في عباده
فيقول عز وجل:
[رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا] {الإسراء:25}
وقد امتدح الله نبيه داوود بهذا الوصف فقال:
[اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ] {ص:17}
فقط مطلوب من المسلم ألا يصر على الذنب اتكالا على التوبة فيستهين بذلك وينتوى مسبقا أن يستمر في الذنب وبخلاف هذا وطالما أنه لم ينتو مسبقا فالتوبة مقبولة حتما
وليس في العبادة ـــ كما قلنا ــ مطلوب منا عدم الخطأ أو العصمة
فلو أن الإنسان مطلوب وواجب عليه ألا يخطئ لما دخل الجنة أحد قط حتى الأنبياء والرسل والملائكة، والله عز وجل خلقنا لنعبده ونذنب فنتوب فيتوب علينا،
وفى هذا ورد حديث المصطفي صلي الله عليه وسلم قائلا:
(والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم.)
ولو أن طبيعة خَلْقْ الإنسان كان فيه الإلزام بالعمل الصارم بلا خطأ لكان معناه أن البشر تدخل الجنة بعملها وتدخل النار بتقصيرها وهو ما يُعَد أمرا مفروغا من نفيه.
بل حتى الملائكة وهم خلق لا يعصون الله ما أمرهم لا يدخلون بهذا العمل وقد ورد في التفاسير أن هناك من الملائكة من هو ساجد لا يقوم وراكع لا يرفع وتقوم الساعة عليهم وهم على هذه الحالة قائلين:
(ما عبدناك حق عبادتك)

فما أعجب المتنطعين الراغبين في تعذيب أنفسهم بما لم يرتكبوه بعد وكأن الله تعالى لم يقل في كتابه العزيز:
[مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا] {النساء:147}
فالله أكبر من هذا وأعظم وأَجَل من أن يقف بالحساب أو يبالي، وكما أن الله تعالي لا يقبل التفريط، فهو أيضا لا يقبل الإفراط
والمطلوب من المسلم ألا يطمئن ويغتر بعمل صالح وفقه الله إليه، وفي نفس الوقت مطلوب منه ألا ييأس من رحمة الله على ذنب وقع منه.
فليس على المسلم إلا إخلاص النية وعدم الشرك بالله والإيمان التام الخالص لوجهه وبعدها ليس مطلوبا منه إلا السير بطريق الإخلاص في النية وهي أخطر ما يطلبه الله عز وجل حيث أن الإخلاص جعله الله سرا مخفيا حتى عن الملائكة والشياطين وجعله الطريق الوحيد للنجاة.
أما الأخطاء والذنوب فهي عوارض الحياة اللازمة لها مهما فعلنا وما علينا إلا تفادى العمد فيها وحسب.

ومن خلال التأمل في خلق الكون وطبيعته يلفت نظرنا أن طبيعة الكون نفسه تحمل هذا المعني.
فعلماء الفلكيون قرروا أن الكون ــ خارج حدود الأرض ــ لا يعرف الخط المستقيم قط،
بل كل ما فيه عبارة عن منحنيات حتى الأجسام التي تطرق الفضاء يُجْبرها الفضاء الكوني أن تستسلم لسلوك المسار المنحنى أو الدائري أو الأسطواني ولهذا أيضا وصف القرآن الصعود في السماء دائما بلفظ (العروج) ولم يصفه بلفظ (الصعود) قط
لأن العروج معناه المسار الدائري أثناء الارتفاع إلى أعلي، بينما الصعود معناه الارتفاع بخط مستقيم، لهذا جاء وصف الارتفاع إلى السماء بلفظ العروج وحده ومن ذلك قوله تعالي:
[تَعْرُجُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ] {المعارج:4}
وقال أيضا:
[وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ] {الحجر:14}

ولهذا قال العلماء عبارتهم السابقة أن الكون لا يعرف في هندسته الخطوط (المستقيمة)،
ومن باب الفائدة اللغوية نقول إن لفظ (الاستقامة) محل نظر وتعديل، لأن العلماء أرادوا بها وصف (الخط المباشر) غير المنحنى أو المنكسر ووصف (المباشر) في اللغة العربية، يختلف جذريا عن (المستقيم) لأن الاستقامة معناها الانتظام في المسار بغض النظر عن شكل المسار مباشرا أو منحنيا، والمباشر معناها السير في خط ممتد إلى الإمام لا ينكسر.

فالأرض مثلا تدور في فلك منتظم مستقيم لا يختل في مساره شبه الدائري حول الشمس، وكذلك سائر الأجرام السماوية، ومسارها مستقيم ــــ أي منتظم ــــ رغم أنه ليس مسارا مباشرا على خط واحد
وهذا يقودنا للربط بين التعبير الفلكي، والحقيقة التي نحن بصددها أن الاستقامة المطلوبة من البشر ليست معناها السير في خط مباشر لا يختل يمينا أو شمالا لأن هذا ضد طبيعة الخلق الإنساني القائم على الخطأ والسهو والكبر والنسيان
فضلا على أن الاستقامة المطلوبة من البشر لو أنها تعنى السير المباشر لكان معنى هذا دخول الناس للجنة بأعمالها كجزاء طبيعي لعدم انحناء المسار في انتظامه على الحسنات وحدها، وهو ما يعد غير متحقق بشكل قاطع كما رأينا في أدلة القرآن والسُنة
وبهذا الشكل فحتما هناك مقصود ومدلول مختلف لمعنى الاستقامة في القرآن الكريم في قوله تعالى:
[فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ] {الشُّورى:15}
فالاستقامة هنا معناها الالتزام بأوامر الله بعد الإيمان والتوكل عليه في الحساب، لأن المسار بطبيعته للإنسان لا يمثله الخط المباشر بل الاستقامة فيه هي المسار المنحنى بلا خلاف والفارق يكمن في الطاعة بحسب انتظام هذا المسار المنحنى ذاته
فليس مهما أن تُزايد على نفسك بالطاعة والحذر بقدر ما هو أهم أن تنتبه لحقيقتين وهما
الأولي: أن تسلك طريقك مخلصا النية في عدم الوقوع في الخطأ،
والثانية: أن توقن تمام اليقين أن كل ما فعلته وما ستفعله هو لا شيء أمام نعمة الله تعالى لأن الغرور بالنعمة أو العمل أو العلم هو طريق إلى جهنم بلا جواز سفر
لذلك على الذي يرهق نفسه بالخشية من الخطأ أن يجعل تلك الخشية قاصرة على ما هو أولى ألا وهو الخشية منه جل وعلا ألا يقبلنا يوم الحساب، والله عز وجل ذو رحمة وفضل لا ينفذ قط ولا يمل الله حتى تملوا.
وإنه من المثير للدهشة أن الإنسان يمل والخير أمامه أضعاف الشر وسبل النجاة عديدة وسبيل الهلاك واحد فقط.
بينما الشيطان لا يمل قط ولا ييأس ويبذل الجهد أعواما لينال من الإنسان عثرة واحدة، وبعد كل هذا الجهد المضنى قد يعود الإنسان إلى رشده فيستغفر الله فيضيع عمل الشيطان كله بضربة واحدة.
ومع ذلك لا يمل ولا يكل!
فهلا عدنا لأنفسنا في لحظة صافية، لنتعلم كيف نعود لله عودة شافية

تم بحمد الله


الساعة الآن 06:44 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team