منتديات منابر ثقافية

منتديات منابر ثقافية (http://www.mnaabr.com/vb/index.php)
-   منبر رواق الكُتب. (http://www.mnaabr.com/vb/forumdisplay.php?f=27)
-   -   فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته (http://www.mnaabr.com/vb/showthread.php?t=143)

ايوب صابر 08-06-2010 05:13 PM

فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين



مقالات ساخنة




و


مقولات أشد سخونة




أيوب صابر

إصدار 2010

ايوب صابر 08-06-2010 05:15 PM

رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
الإهداء

إلى كل الأيتام في كل زمان ومكان ...مع حبي

ايوب صابر 08-06-2010 05:18 PM

رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
أوراق ساخنة (1): رحلة العقل في البحث عن الحقيقة


كانت الأسطورة التي هي عبارة عن قصص خيالية mythology وسيلة البشر لتقديم إجابات لكل الأسئلة التي طرحها الإنسان على نفسه. وكان موضوع الأسطورة الأساس هو الإله. وكان تركيز الأسطورة ينصب على تفسير الظواهر الطبيعية والإنسانية. لكن العقل الإنساني الذي طور الأسطورة للضرورة، ومن خلال تطورالوعي القائم على الاحتكاك مع البيئة، رفض التسليم باستمرار هيمنة التفكير الأسطوري على حياة الناس. ولذلك جاء من قرر تفحص الأساطير عن قرب، وذلك باستخدام العقل والتجربة الحسية، وهو ما أدى إلى ولادة الفلسفة.

وقد انتقد الفلاسفة الأوائل الذين ظهروا حوالي (سنة 750 قبل الميلاد)، عالم الآلهة الأسطوري، لأنه في نظرهم يشبه عالم البشر. والمعروف أن أول نظرة ناقدة للأسطورة معروفة عند الفيلسوف (كزينوفان) الذي عاش نحو 750 ق.م. والذي قال "لقد خلق الناس الآلهة على صورتهم". ودليله على ذلك أن الأساطير الإفريقية كانت تصور الآلهة بلون اسمر، وأنف أفطس، بينما يقول الأوروبيون بأن آلهتهم زرقاء العيون حمراء الشعر. لذلك شكلت الفلسفة أسلوباً جديداً في التفكير، كنتيجة مباشرة للتقدم الحضاري الذي شهدته المرحلة المذكورة، حيث ازدهرت المدن الإغريقية تحديداً، مكان ولادة المناهج الفلسفية الأولى.

ويمثل هذا النمط من التفكير عبوراً من نمط التفكير المبني على الأسطورة إلى نمط التفكيرالمبني على التجربة والعقل، حيث كان هدف الفلاسفة الإغريق إيجاد أسباب طبيعية للظواهر الطبيعية.
من هنا ولد ما يعرف بفلاسفة الطبيعية، والذين يمثلون المرحلة الثانية من تطور الفكر بعد الأسطورة. وقد أطلق عليهم اسم فلاسفة الطبيعة،لأنهم كانوا يهتمون بالطبيعة وظواهرها. وكانوا في مجملهم يحاولون فهم الأحداث التي تحصل في الطبيعة دون العودة إلى الأساطير. ويمكن القول إن أفكارهم تمحورت حول"المبدأ الأول" وتحولاته في الطبيعة.

طاليس مثلا، وهو من أوائل الفلاسفةالمعروفين، كان يعتقد أن الماء أساس كل الكائنات. وينسب له أن كل شيء مليء بـإله،رغم أن قصده عن الإله ظل غير مفهوم. كذلك كان يعتقد أن الأرض مليئة ببذور الحياة صغيرة غير مرئية، ولكنه لم يرجعها إلى آلهة الأسطورة طبعاً. فيلسوف آخر اسمه اناكسيماندر كان يعتقد بأن كل شيء يخلق يختلف عن خالقه، ولذلك لا يمكن أن يكون المبدأ الأول ماء، بل شيء يصعب تحديده. أما أناكسيمانس فكان يعتقد أن الهواء والضباب هما أصل الأشياء، والماء بالنسبة له هو هواء مركز، وعليه اعتقد أن الماء والتراب والنار لها أصل واحد هو الهواء وهو أساس خلق الأشياء.

أماالفيلسوف بارمينيدس فكان يرى أن كل ما هو موجود قد وجد من الأبد، وأن الأشياء تتغير بطبيعتها، ورغم أن أحاسيسه كانت تلحظ تغير الأشياء، لكن عقله كان يقدم تفسيراً آخر، فغلب العقل على الحواس، فالحواس بالنسبة له تعطي صورة كاذبة للعالم، وهي صورة لاتتفق مع ما يقوله العقل. لذلك خون الحواس، وآمن بالعقل، وقد أطلق على هذا المذهب العقلانية، والعقلاني هو الذي يؤمن بأن العقل هو مصدر كل معرفة في العالم.

هيراقليطس كان يقول إن كل شيء يجري، أي أن كل شيء متحرك، وركز على التناقضات المتلازمة في العالم، بمعنى إذا لم نصب بالمرض لا نعرف معنى الصحة. والوجود محكوم بهذه اللعبة الإلزامية بين الأضداد، وهذه الأضداد تمثل العقل الكوني، أو القانون الكوني (لوغوس)، وعليه فقد كان يرى أن وراء كل هذه التحولات والتناقضات في الطبيعة، ذلك الشيء الذي يقع في أصل جميع الأشياء، وهو الله، أولوغوس، أو العقل الكوني.

أما أمفيدوكليس فقد اعتقد أن الطبيعة تمتلك أربعة عناصر أساسية، يطلق عليها مصطلح الجذور، وهي التراب، والماء، والهواء، والنار. وكلما يتحرك في الأرض يعود إلى امتزاج أو انفصال هذه العناصر الأربعة، وكان يرى أنقوتين مختلفتين تعملان في الطبيعة لتوحيد العناصر، وهما الحب والكره، وما يوحدالأشياء هو الحب وما يفرقها هو الكره.

جاء بعده فيلسوف اسمه انكزاغوراس، الذي كان يعتقد أن الطبيعة مكونة من جزيئات صغيرة لا ترى بالعين المجردة، وكان يطلق على هذه الأشياء البذور أو الحبوب، واعتقد بوجود نوع من القوة التي تشكلا لأشياء وتعطيها شكلها، وكان يسمي هذه القوة "القوة العاقلة" أو الذكاء، وقد اتهم هذا الفيلسوف بالإلحاد بالإلهة الأسطورية في أثينا، وأجبر على ترك المدينة، ذلك أنه تجرأ في أشياء كثيرة، منها القول بأن الشمس ليست إلهاً وإنما حجر محمى حتى البياض، وحجمه بحجم إحدى الجزر اليونانية، وكان قد توصل إلى ذلك الاستنتاج بعد فحص حجر نيزكي.

أما ديمقريطس، ويعرف بأنه آخر فلاسفة الطبيعة، فقد افترض بأنه لا بدأن يكون كل شيء مركبا من عناصر صغيرة جداً، وكل عنصر بمفرده دائم وأبدي. وكان يسمي هذه الأجزاء البالغة الدقة (ذرات) بمعنى أنها غير قابلة للتجزئة، وهي غيرمتماثلة، ويوجد منها عدد غير متناهٍ، وهي تستطيع أن تتجمع في كيانات مختلفة لا حدلها.

ويمكن التأكيد اليوم على أن نظرية ديمقريطس حول الذرة كانت صحيحة، وقد كانت أداة ديمقريطس في التوصل إلى تلك النظرية هي العقل فقط، وبدون استخدام أدوات العصرالحديث، وهو لم يلجأ إلى أية قوة أو روح لتفسير الظواهر الطبيعية. فكل ما يعمل هوالذرة، والفراغ، ولم يؤمن إلا بكل ما هو مادي، وعليه فإن كل ما في الطبيعة يتم بطريقة ميكانيكية، ولكن الأمور لا تحدث مصادفه، وانما تتبع قانون الحتمية في الطبيعة، لذلك فإنه يرى بأن وراء كل هذه الظواهر سبباً طبيعياً، كامناً في الأشياء نفسها.

وقد تزامنت ولادة فلاسفة الطبيعة، مع ولادة الفلاسفة السفسطائيين، واستبدل هؤلاء دراسة الطبيعة بدراسة الإنسان وموقعه في المجتمع، وكانوا يسعون لجعل الشعب مستنيراً. وهم يشتركون مع فلاسفة الطبيعة في نقدهم للأسطورة، ولكنهم كانوايرفضون موضوع التأمل بدون موضوع محسوس، وكانوا يعتقدون أنه حتى لو وجدت إجابات عن الأسئلة الفلسفية، فإن الإنسان لا يستطيع الوصول إلى يقين فيما يخص ألغاز الطبيعية والكون، وهذا ما يسمى في الفلسفة بالارتيابية، أو اللا أدرية.

سقراط، وهو واحد من أهم ثلاثة فلاسفة جاءوا بعد فلاسفة الطبيعة، يرى أن المعرفة الحقيقة هي التي تأتي من الداخل، وقد مثلت فلسفته تحولاً جذرياً في المشروع الفلسفي،وهو يعتبر الشخصية الأكثر إشكالية في تاريخ الفلسفة، وكان سقراط يمتلك قدرة البقاء لساعات طوال غارقاً في تفكيره، واعتبر واحداً من أكثر الأشخاص غموضاً، وعنده أن عمل الفيلسوف مثل عمل القابلة، فهي لا تضع المولود، ولكنها تساعد في إخراجه إلى الحياة، وهكذا الفيلسوف، ومهمة الفيلسوف عنده توليد العقول أفكارًا صحيحة، وهو يرى أن بإمكان الإنسان التوصل إلى الحقائق الفلسفية إذا قبل أن يستعمل عقله، فعندما يبدأ الإنسان بالتفكير يجد أجوبته داخل نفسه، وكان يؤكد أنه يسمع صوتاً إلهيًّا داخله، وقد اتهم في العام (399 ق.م.) بأنه أدخل آلهة جديدة، وعليه حكم عليه بالإعدام بالسم، وأعدم فعلاً.
كذلك كان سقراط يعتبر أن الفيلسوف الحقيقي، هو الذي يعي بأنه لا يعرف إلا القليل، ولهذا السبب يحاول باستمرار أن يبلغ الحقيقة، وقد تجرأ وأعلن كم هي ضئيلة معرفة البشر للأشياء، لذلك اعتمد في منهجه على البحث وطرح الأسئلة، حتى يصل إلى الحقيقة، وكان يهمه إيجاد قاعدة صلبة للمعرفة، وبرأيه أن هذه القاعدة تكمن في عقلالإنسان، وعليه فقد اعتبر فيلسوفًا عقلانيًّا.

أما أفلاطون، وهو أحد تلاميذ سقراط، فقد طرح عدة أسئلة فلسفية في الإنسان والطبيعة، وظن أن الكون يشكل معجزة خارقه. ولقد بحث في النفس البشرية، وسأل إن كان للإنسان نفس خالدة، وقد كان لقتل أستاذه(سقراط) أثر كبير في نفسه، وكان عنده التعبير الأكثر حدة عن التناقض بين الظروف الموجودة واقعيًّا في المجتمع، وما هو حقيقي ومثالي.

أما منهاج أفلاطون الفلسفي، فقد كان يدور حول اكتشاف العلاقة بين ما هو أزلي وغير فان من جهة، وما هوآني وزائل من جهة أخرى. وكان أفلاطون يرى أن كل ما هو محسوس في الطبيعة قابل للتحول، خاضع لتأثير الزمن ومصيره للتراجع والزوال، لكن كل شيء مخلوق في قالب غيرآني غير قابل للفناء وأزلي، فعلى الرغم من أن الحصان يفنى، لكن يظل قالب الحصان أبديًّا وغير زائل، وعليه فإن الأزلي وغير الزائل عنده إذن ليس مادة فيزيائية، وإنما مبادئ ذات صفه روحية، وبالتالي مجردة. واعتقد أنه لا بد من وجود عدد لا محدود من القوالب هي فوق أو وراء كل ما يحيط بنا، وهذه القوالب هي ما أسماه الأفكار. فوراء كل الأشياء، توجد فكرة هذه الأشياء.
ويمكن القول بأن أفلاطون كان يرى أن هناك حقيقة أخرى وراء عالم الحواس، هذه الحقيقة هي ما أسماه الأفكار، وهناك توجد المثل الأبدية والثابتة القائمة على أساس الظواهرالطبيعية، ويشكل هذا المفهوم الخصوصي نظرية الأفكار عنده.

وعند أفلاطون وحده العقل، الذي يعمل على ما يراه هو، يمكننا من المعرفة الحقيقية، ولا يمكن الوثوق بالحواس، لأن عملية الرؤية تختلف من إنسان إلى آخر، في حين نستطيع أن نثق بعقلنا لأنه هو، هو عند جميع البشر، ويمكن عنده التأكيد على أن العقل أزلي وكوني، لأنه يعمل على أشياء أزليه، وكونية، ولذلك فإن ما نراه من داخلنا بفضل العقل يقودنا إلى المعرفة الحقيقية.

وقسم أفلاطون الواقع إلى قسمين: الأول مشكل من عالم الحواس، وهو الذي يعطينا معرفة تقريبية وغير كاملة باستخدامنا الحواس الخمس، وهو عالم في تحول دائم. وعالم الأفكار الذي يسمح لنا بالوصول إلى المعرفة الحقيقية، عن طريق استعمال العقل. وعالم الأفكار هذا مستعص على الحواس، وبالتالي فإن الأفكار أو المثل أزلية وثابتة، وهو يرى بأنه لا يمكن الوثوق بحواسنا لأنها مربوطة بالجسد، ولكن النفس الخالدة والتي مقرها العقل تستطيع أن ترى عالم الأفكار، لأنها ليست مادية، وهو بذلك يرى بأن النفس كانت موجودة قبل أن تأتي لتسكن جسداً، حيث كانت سابقًا في عالم الأفكار، هناك في الأعلى، ولكنها عندما تجد نفسها في جسد بشري، تنسى الأفكار الكاملة، وتبدأ مسيرةغريبة تتمثل في البحث عن الحقيقة، فكلما أخذ الإنسان يدرك بوساطة حسه الأشياء المختلفة المحيطة به تنبعث في النفس ذكرى غريبة، فعندما يرى الإنسان حصاناً، يتذكر فكرة الحصان الكامل التي عرفتها النفس في عالم الأفكار، وعليه فهو يرى بأن كل الظواهر الطبيعية ما هي إلا ظلال الأشكال أو الأفكار الأبدية في عالم الأفكار.

واعتمادًا على نظرية الأفكار الأزلية، نادى أفلاطون بالجمهورية المثلى، واعتقد أنه لا بد أن يحكمها الفلاسفة، لأنهم الأقدر على رؤية الأشياء على حقيقتها، ويرون ما وراء الظلال، وتقع فلسفة أفلاطون ككل تحت عنوان الفلسفة (العقلانية)،فالمهم في المدينة الفاضلة أن يحكمها العقل كما يحكم الرأس الجسد.

ورأى أفلاطون أن تربية الأطفال، شيء أخطر من أن يترك لتقدير كل أسرة بمفردها، وعليه كان أول فيلسوف طالب بإنشاء رياض الأطفال والمدارس المشتركة، ذلك لأن المدرسة يمكنها أن تنتج فلاسفة يرون الحقيقة، بينما الأسرة لا ضمانة أن تنتج تربيتها فلاسفة جديرين بالجمهورية الفاضلة.

أما أرسطو وهو تلميذ من تلامذة أفلاطون فقد اعتبر رجلاً موسوسًا في التفاصيل. وقد اعترض على نظرية أستاذه أفلاطون، وركز في مشروعه الفلسفي على الطبيعة الحية، وبهذا لم يكن فقط فيلسوفًا، وإنما كان أول عالم أحياء عرفه التاريخ.
وقد فعل أرسطو عكس أفلاطون الذي أدار ظهره لعالم الحواس، ليذهب إلى ما وراء كل ما يحيط بنا، فقد انحنى على يديه ورجليه ليدرس الأسماك والضفادع والورد والبنفسج، وعليه فقد استخدم حواسه، واعتمد على الأبحاث الميدانية، والعالم مدين له ببلورة لغة علمية خاصة بكل علم، فقد كان المنهجي الكبير، الذي أسس ونظم مختلف العلوم، ولذلك ينظر إلى منهجه الفلسفي، ونقده لنظرية الأفكار الأزلية على أنها لحظة تاريخية.

وعلى عكس أفلاطون، يرى أرسطو أن ما ندركه في حواسنا يشكل أعلى درجات الواقع، وليس ما نفكر فيه في عقولنا كما يقول أفلاطون، فأرسطو لا يؤمن بأن فكرة الدجاجة تسبق الدجاجة، وعنده أن شكل الدجاجة موجود في كل دجاجة، وليس في الفكرة.

وحسب أرسطو فإن ما من شيء يمكن أن يوجد في الوعي دون أن يدرك في الحواس، وعليه فإن كل أفكارنا تجد أصلها فيما نرى أو نسمع، ويقول أرسطو، إننا نولد وفينا عقل، لكن لايكون لدينا أفكار فطرية بالمعنى الذي قصده أفلاطون، ولكن يكون لدينا قدرة فطرية على تصنيف انطباعات الحواس في فصائل مختلفة تكون موجودة دون شك، وهكذا تنبثق مفاهيمالأشياء: حجر، حيوان، رجل، حصان .
ولا ينكر أرسطو أن الإنسان يولد ومعه العقل، بل يعتبر أن العقل هو ما يميز الإنسان، لكنه يرى بأن العقل يكون فارغًا قبل أنتبدأ الحواس بإدراك الأشياء، وبالتالي فإنه لا أفكار فطرية لدى الكائن البشري عند أرسطو، وما شكل الحصان عنده إلا مجموع خصائصه المميزة.

لذلك فإن الحقيقة عند أرسطو، مكونة من أشياء مختلفة، والشيء عنده مكون من شكل ومادة، والكل هو مجموع ميزات الشيء الخاصة، أما المادة فهي ما يتكون منه الشيء، فعند الموت يتوقف الشكل، وتظل المادة، بمعنى أن الدجاجة لا تظل دجاجة بكل معنى الكلمة، وعليه فهو يرى أن الدجاجة تأتي من البيضة، لأنها تحمل في داخلها شكل الدجاجة، فلا يمكن أن تتكون إوزة من بيضة دجاجة. والأشياء عند أرسطو تحدت بسبب العلة السببية والغائية وهي القوة التي تعطي الأشياء شكلها، وقد أسس أرسطو علم المنطق بهدف جعل الاستنتاجات مقبولة منطقيًا.

أما حياة الإنسان عند أرسطو فتختصر حياة الطبيعة كلها، فالإنسان يكبر ويتغذى كالنبات، ويمتلك القدرة على إدراك العالم والتحرك فيه كحيوان، إضافة إلى كونه الوحيد الذي يمتلك قدرة استثنائية هي القدرة على التفكير العقلاني، وهويعتقد أن الإنسان يمتلك جزءًا من العقل الإلهي، وهو يرى أنه لا بد من وجود إله، أومحرك أول يسيطر على حركة كل الأشياء، والله عنده إذًا، يقع في أعلى سلم الطبيعة.

في الفترة الهللينية التي تلت موت أرسطو في العام (322 ق.م.) واستمرت (300عام) تقريبَّا كان التشاؤم يسود الناس، وقد سعت الديانات التي ظهرت في العصر الهلليني، من أجل معرفة تعليم يحرر البشر من الموت، والبحث عن خلود الروح والحياة الأبدية. كذلك كان هناك سعي لامتلاك معرفة حسية بالطبيعة الحقيقية للكون، وكذلك سعت الفلسفة من أجل تحرير الإنسان من قلق الموت والتشاؤم، وبذلك أصبحت الحدود بين الدين والفلسفة رقيقة جدًّا.

وفي هذه الفترة بدأت العلوم تسير بخط موازٍ مع الفلسفة والفكر، وقد سعت الفلسفة في هذه المرحلة إلى معرفة أين تكمن السعادة الحقيقية، وكيف نبلغها. وقد ظهر في هذه الفترة مجموعات من المذاهب الفلسفية المميزة مثل: الكلبيون ،والرواقيون، والأبيقوريون، والأفلاطونية الجديدة والتصوف.

كان الكلبيون يمثلون إحدى هذه التيارات الفلسفية التي جاءت في هذه المرحلة، وكانوا يعتقدون أن السعادة تأتي من الاستقلال عن الظروف المادية الخارجية العابرة والمتقلبة.

أما الرواقيون فكانوا يعتقدون أن كل البشر يشكلون جزءًاً من العقل الكوني، وأن كل فرد هو عالم مصغر، ويشكل انعكاسًا للعالم الكبير، وهو الكون، وعليه يرون أنه يمكن إقامة قانون يصلح لكل الكون، هو القانون الطبيعي المبني على العقل الأزلي للإنسان وللكون الذي لا يتغير بحسب الزمان والمكان. وكانوا يعتقدون أن الظواهر الطبيعية كالمرض والموت تتبع القوانين الدائمة للطبيعة، لذا على الإنسان أن يتصالح مع قدره، فكل ما يحصل هو ثمرة الضرورة، ولا فائدة من التذمر والشكوى عندما يدق القدر الباب.

أماالأبيقوريون فقد رأوا أن هدف الحياة لا بد أن يكون تحقيق أكبر قدر من المتعة، فالخير المطلق في المتعة، والشر المطلق في الألم. وفي رأيهم لا بد من التغلب على الخوف من الموت لنعيش حياة سعيدة. وعند الأبيقوريين أن الموت لا يعنينا لأنه طالما نحن أحياء فإن الموت لا يأتينا، وعندما نموت لا نعود موجودين .

أما الأفلاطونية الجديدة، فقد كانت الخط الفكري الأكثر بروزًا في العصور القديمة المتأخرة، وكان هذا الخط متأثرًا بأفلاطون، ولذلك أطلق عليه اسم الأفلاطونية الجديدة. وأبرز فلاسفة هذه المدرسة هو أفلوطين. الذي درس الفلسفة في الإسكندرية، ملتقى الفلسفة الغربية والروحانية الشرقية، وقد وضع أفلوطين نظرية شكلت المنافس الأقوى للمسيحية في بداياتها، ثم تركت تأثيرها على اللاهوت المسيحي نفسه.
وبينما كانت نظرية أفلاطون تميز بين عالم الأفكار وعالم الحواس، وتفصل بين الروح والجسد،وعليه تكون الروح في الكيان الإنساني، كأنها قنديل صغير، كلما ابتعدنا عنه أكثر، فإن النور يختفي عنا، وعندما يصبح حولنا ظلام دامس لا يعود بإمكاننا أن نرى شيئًا لا ظلال ولا خيالات. أما عند الأفلاطونية الجديدة فالذي يشتعل ويضيء هو الله، أما الظلام فهو المادة التي يتكون منها البشر والحيوانات، وعندهم تتوزع حول الله الأفكار الأزلية، التي تشكل رحم أو قالب كل ما هو مخلوق، وأن روح الإنسان هي قبل كل شيء قبس من النار، ومع ذلك فإن كل الطبيعة تتلقى قليلاً من الفيض الإلهي. وعندهم يكفي أن ننظر إلى كل الكائنات الحية لنرى أن شيئًا من النور الإلهي ينبعث منها. وكلما هو موجود يشترك في السر الإلهي، وكثيرًا ما نحس بهذا السر الخفي عند مشاهدة فراشة تطير من زهرة إلى أخرى مثلاَ. ونستطيع بفضل روحنا أن نقترب ما أمكن من الله، وعندها نتوحد مع سر الحياة الكبير، وقد يحصل أحياًنا أن نشعر بأننا نحن هذا السر الإلهي ذاته.
وبينما يقسم أفلاطون الواقع إلى قسمين مختلفين، يرى أفلوطين أن الواقع يقع تحتتجربة كلية، وأن كل شيء واحد لأن كل شيء هو الله، وحتى الظلال التي تحدث عنها أفلاطون تتلقى انعكاسًا من الواحد. وأحيانًا كان أفلوطين يحس أن روحه تذوب في روح الله، وهذا ما يطلق عليه تجربة صوفية.

والتجربة الصوفية تعني الإحساس بالتوحد مع الله، أو مع روح الكون، وبينما تركز بعض الديانات على الفجوة بين الله والخلق ترى الصوفية أن هذه الفجوة غير موجودة حيث يتوحد الشخص في الله أي يذوب فيه. وطريق الإشراق عند الصوفية هو نمط من الحياة القاسية، وعدة ممارسات تأملية إلى أن يأتي يوم يستطيع فيه الصوفي أن يصرخ (أنا الله) أو أنا أنت.

وتوجد التوجهات الصوفية في كل الديانات. وفي التصوف الغربي المتأثر بالديانات التوحيدية الثلاث يشير الصوفي إلى أنه يخوض تجربة لقاء مع إله شخصي. فحتى لو كان الله موجودًا في طبيعة كل إنسان وروحه إلا أنه يظل حائمًا فوق العالم. أما في التصوف الشرقي (الهندوسية،والبوذية، والطاوية) فمن الشائع أن المتصوف يدخل تجربة الذوبان الكلي مع الله، أو روح العالم، ويستطيع المتصوف أن يصرخ أنا روح العالم، أو أنا الله.

وبذلك انتهى عصر الفلسفة القديمة، واختفى الفلاسفة العظماء مع ولادة السيد المسيح عليه السلام، وظهور الديانة المسيحية، حيث قدم الفكر اللاهوتي، الذي سيطر على كثير من القلوب والعقول خلال حقبة العصور الوسطى، إجابات لاهوتيه لكثير من الأسئلة، لكن الإجابات ظلت غير شافية، وظل العقل البشري يسأل هل تسبق الدجاجة البيضة؟ ومن أين تأتي الفكرة؟

ايوب صابر 08-08-2010 03:32 PM

رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
أوراق ساخنة (2) : الفكر وسيلة النهوض الحضاري

من يغوص عميقًا في تاريخ الحضارات، وتطور الوعي والثقافة والمعرفة يجد أن النهوض الحضاري كان دائمًا ملازمًا، لا، بل نتيجة حتمية للنشاط الفكري والعكس صحيح، فقد كان النهوض الحضاري يتراجع عبر العصور بشدة وحدة في ظل غياب النشاط الفكري الفلسفي.

ففي العصور القديمة، وحين نشط الفلاسفة الإغريق في استعمال العقل ووسيلته التفكير، وغاصوا في أعماق عقولهم ونفوسهم، وحاولوا التوصل إلى المعرفة من خلال البحث والتفكير، بهدف التوصل إلى إجابات لكل الأسئلة الوجودية التي كانت تشغلهم: مثل من أين جاء الإنسان؟ ولماذا يموت ؟ وما أصل الأشياء؟ نجد أنالحضارة ازدهرت بشكل لافت، وواضح لا يمكن إنكاره، حتى أن آثارها ما تزال قائمة إلى يومنا هذا، وهي بمنزلة اللبنة الأساسية في البناء الفكري الإنساني المتراكم.

والمدقق يجد أن الحضارة والإنجازات الحضارية قد ارتفع شأنها، بعد أن أسس أفلاطون أكاديميته، ليتم تدريس الناس أساليب التفكير والبحث، ومساعدتهم على الوصول إلى الحقيقة، حيث اعتقد أن الأسرة لا يمكنها أن تقوم بعملية التربية والتعليم القائمة على تفعيل العقل.

لقد كان نتاج تفكير تلك العصبة من الفلاسفة الأفذاذ هو بحق الأساس الحقيقي لجميع العلوم في جميع المجالات، وقد ظلت الحضارة مزدهرة طوال المدة التي استمر فيها النشاط الفكري والفلسفي الذي امتد من حوالي (600سنه قبل الميلاد)، إلى بداية ما يسمى بالعصور الوسطى، حيث يلاحظ المدقق في تاريخ الثقافة والمعرفة أن أوروبا غرقت في عصر ظلامي أطلق عليه اصطلاحًا العصور الوسطى، وهي تمتد من العام (400 بعد الميلاد) تقريبًا إلى عام (1200 بعد الميلاد). والملاحظ أن بداية عصر الظلام يتزامن مع قوة وسطوتها، الكنيسة ونفوذها في الدولة، حيث أصبحت هي السلطة الحاكمة والمشرعة.

وقد سادت الكنيسة التي كان ينظر إليها على أنها (مملكة الله) من خلال فكر القديس أوغسطينوس تحديداً، حيث شملت أفكار القديس اوغسطينوس جوانب متعددة مثل إن في الدين حدودًا لا يمكن للعقل تجاوزها، وأن الدين المسيحي فيه سر إلهي لا يمكن إدراكه إلا بالإيمان وحده.

وبالنسبة للقديس أوغسطينوس فإن الشر يأتي من عصيان البشر لله، كما أن القديس أوغسطينوس يلغي حق أي إنسان في انتقاد الله حول مفهوم تخليص بعض البشر من الهلاك، وليس كلهم، لذلك فإن الحياة عنده، وبالتالي عند المسيحية هي قدر محتوم، كما أن التاريخ عنده ضروري لتربية الإنسان، وإلغاء الشر.

المهم أن القديس أوغسطينوس ابتعد في أطروحاته،ونظرياته اللاهوتية عن الفلسفة الإغريقية، على أساس أنه لا حاجة للتفكير ما دام الإيمان اللاهوتي موجودًا، رغم أنه لم يرفض الفكر المثالي الأفلاطوني، الذي تحدث عن الأفكار الأزلية، لكنه رفض النهج الأرسطي في التفكير، واستخدام العقل، وكأن الكنيسة تبنت أفكاره، وقد كان مؤثرًا جدًّا في الفكر المسيحي في تلك القرون.

وعلى إثرسيادة هذه الأفكار المسيحية الأصولية، أغلقت الكنيسة أكاديمية أفلاطون، وأصدرت من بين إجراءات تربوية وتعليمية وتنظيمية وتشريعية قانون البركة، بمعنى أن الكنيسة أصبحت ممثلة الله على الأرض، في مملكة الرب تمنح البركة، وما إلى ذلك، وتقدم التعليم اللاهوتي على التعليم الفلسفي الأكاديمي القائم على العقل بدل الإيمان.

والملاحظ أن هذه الإجراءات، وسيطرة الكنيسة، والأخذ بنظرية الخلق والإيمان الموحى به، بدون الحاجة للتفكير واستخدام الفلسفة والفكر على الطريقة الأرسطية، لا بل محاربة الفلاسفة وتكفيرهم، هو الذي أدى إلى الانحدار الحضاري، وهو الذي أغرق أوروبا تحديدًا في عصر الظلام الطويل،
والدليل على ذلك هو بزوغ عصر الحضارة الإسلامية خلال تلك الحقبة الزمنية، فقد أقدم المسلمون الأوائل الذين توسعت دولتهم إلى شمال أفريقا وإسبانيا على المعرفة بجميع فروعها عملاً بتعاليم دينهم الذي يحض على التفكير والتبصر والتفكر، ولم يجدوا تناقضًا بين التفكير الفلسفي والإيمان، فانكبوا على الفلسفة و العلوم الإغريقية التي وجودها في مدينة الإسكندرية ونهلوا منها بشغف منقطع النظير، وأضافوا إليها، فتطورت العلوم على أيديهم تطورًا مذهلاً.

في العصور الوسطى ولد الإسلام، وانتشرت الثقافة الإسلامية، وبعد موت النبي محمد صلى الله عليه وسلم عام (632 م)، كان الإسلام قد انتشر بلغته العربية في الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا، وإسبانيا، وقد أتاح ضم العرب المدينة الهللينية (الإسكندرية) إليهم الاطلاع على العلوم اليونانية، فعملوا على ترجمتها وتطويرها.

والمعروف أن المسلمين والعرب قد لعبوا طوال العصور الوسطى دورًا مهيمنًا في مجال الرياضيات، والكيمياء، وعلم الفلك، والطب، والفلسفة، وفي مجالات كثيرة أخرى حيث تفوقت الثقافة العربية الإسلامية على المسيحية. ومن المعروف أيضا أن الكندي الذي عرف باسم فيلسوف العرب توفي عام (870م)، وكان قد كرس جهوده لتحقيق هدفين: أولهماالإحاطة بكل ما قاله الأوائل، وثانيهما إتمام ما لم يتمه الأوائل، ووضع كل ذلك باللغة العربية. و في المغرب ظهر ابن باجة بفلسفته الأخلاقية، وقد تأثر به ابن طفيل الذي جاء بعده، واشتهر كثيرًا بكتابه (حي بن يقظان). وكان أهمفلاسفة المغرب هو ابن رشد الذي درس فلسفة المشرق، والفلسفة الإغريقية على السواء، ودافع عن الفلاسفة في كتابه تهافت التهافت. كما ترجمت أعمال أبن رشد لاحقًا إلى كثير من اللغات، وترك الأثر الأكبر على الفلسفة الأوروبية. كما أن الفيلسوف العربي ابن خلدون أسس علم الاجتماع من خلال مقدمته الشهيرة التي بنت عليها الحضارة الإنسانية جميع مفاهيم علم الاجتماع الحديث وأسسه كلَّها.

وبينما كانت أوروبا ترزح تحت ظلام الكنيسة، متأثرة بالأصولية الدينية التي سعت لتعطيل العقول على اعتبار أن السبيل الصحيح للوصول إلى الحقيقة هو الإيمان الكنسي، كانت شعلة العلم بمختلف فروعه تشع وترتفع في بلاد العرب والمسلمين، ويبدو أن المسلمين، وبخاصة عرب إسبانيا قد عَرفوا التقليد الأرسطي ومارسوه طوال القرون الوسطى، وهو الذي ساهم في إنجازاتهم العلميةالمميزة واللافتة، ولا شك في أن موقع إسبانيا الجغرافي ساهم في نقل العلوم والحضارة والتأثير الإسلامي إلى باقي دول أوروبا بعد انحسار سيطرة الكنيسة.

أما البلاد التي ظلت تحت تأثير المسيحية، فلم تشهد تحولاً على الثقافة والتطور الحضاري إلا بعد ولادة القديس توما الإكويني، الذي تبنى الفكر الفلسفي الأرسطي، في العام (1225م)،وكان له تأثير كبير في الفكر المسيحي، كونه ثاني أكبر باحث وفيلسوف عرفته المسيحية في تلك الفترة. وواضح أن القديس توما الإكويني حاول التوفيق بين الإيمان والفلسفة، واعتبر أن كليهما يوصلانإلى الحقيقة، وهو ما شكل خلخلة في سلطة الكنيسة والأصولية المسيحية، حيث بدأ النهوض متزامنًا مع ضعف سلطة الكنيسة.

كما يبدو أن القديس توما كان من بين الذين تأثروا بإنجازات الفكر الإسلامي ونهضته، حيث يبدو أن بعض علماء العرب قد زاروا أوروبا في تلك الفترة، أي في آواخر القرن الثاني عشر بدعوة من أمرائها، وأثروا في علمائها، ومن بينهم توما الإكويني الذي تأثر بفكر الفلاسفة المسلمين المبني على النهج الأرسطي أصلاً.

لذلك أعيد اكتشاف بعض كتابات أرسطو في أوروبا، وشيئًا فشيئًا راحت تترجم من العربية إلى الإغريقية واللاتينية، مما أحيا الاهتمام بالعلوم الطبيعية، وبالعلاقة بين الإيمان المسيحي والفلسفة الإغريقية. وعلى إثر ذلك بدأ في أوروبا ما يسمى بعصر النهضة الذي عادت فيه أوروبا لتصبح مركزًا للحضارة، وتطورالعلوم، حيث ازدهرت الفلسفة ومناهجها، وانتعش التفكير العقلي البعيد عن الإيمان اللاهوتي، وظهر من أكد على أهمية التفكير، حتى أنه ربطه بالوجود، فقال " أنا أفكرإذًا أنا موجود".

لكن في المقابل بدأ التفكير والبحث يخبوان لدى العرب والمسلمين تحت تأثير كتابات الأصولية الإسلامية وفكرها، وتحديدًا فكر الإمام أبو حامدالغزالي الذي تقمص بشكل أو بآخر، من حيث يدري أو لا يدري، دور الكنيسة في العصورالوسطى، وكان له تأثير مشابه لتأثير القديس أوغسطينوس، من حيث رفضه للتفكير بأسلوب الفلاسفة العقلاني، حيث ظن أن الحقيقة لا بد أن تصل للإنسان عن طريق الإيمان بالوحي والإلهام، على اعتقاد أن العقل يوصل إلى الضلال، وقد ضمن تفكيره ذلك في كتاب تهافت الفلاسفة" الذي هاجم فيه الفكر الفلسفي، وطريقة الفلاسفة في التفكير.

هذا ليس تشكيكًا في نية هذا العالم الموسوعة وقصده، فلاشك في أنه كان مندفعًا في سعيه لتجنيب الناس طريق الضلال الذي كاد أن يقع فيه هو نفسه، كما يقول في كتابه "المنقذ من الضلال". لكن منهجه كان له عظيم الأثر في تعطيل عقول الباحثين والعلماء المسلمين الذين أصبح ينظر إليهم كزنادقة، وربما تم تكفير بعضهم لتجاوزه في تفكيره وآليات بحثه ما اعتبر مسلمات إيمانية وخطوطًا حمراء لا ينبغي تجاوزها.

لذلك نجد أن ابن رشد، الذي حاول الرد على ما ورد في طرح الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" يمثل نهاية المفكرين الإسلاميين العقلانيين العظماء، وبداية الانحطاط الفكري والحضاري الإسلامي الذي ما يزال ممتدًّا إلى أيامنا هذه. بينما تطورت مناهج التفكير، وتعددت مدارسه في أوروبا، وانعكس ذلك على جميع جوانب التطور الحضاري، والإنجازات التي ما كانت لتحصل لولا التحرر الفكري الذي سمح بولادة مناهج البحث الحديثة والتطور العلمي الهائل.

وكمثال يمكن من خلاله التدليل على خطورة التفكير الأصولي في العصر الحديث، ما ارتكبته تلك العصابة التي آمنت بالمسيحية الجديدة، وظنت أنها يوحى لها، وأنها تمثل إرادة الرب على الأرض، ومكلفة بتحقيق العدالة السماوية، وذلك من خلال ماارتكبته هذه العصبة من جرائم بحق الإنسانية، لاحتلالها بلاد الرافدين، وشن حرب عالمية مدمرة تعددت أضرارها، وارتكاب جرائم فظيعة بحق الإنسانية، تجاوزت فيها كل الشرائع، والقوانين، والأصول الإنسانية والأخلاقية.

وقد أدت هذه الحماقة إلى دمار هائل في منجزات حضارة بلاد ما بين النهرين، والحضارة الإنسانية ككل، ولم يقتصر أثرها المدمر على ما ألحقته من دمار في الشرق الأوسط، وإنما أدت إلى أضرار هائلة على مستوى العالم والمجتمع الأمريكي نفسه، وأدت إلى الانهيار المالي الكبير الذي أصبح يشكل عائقًا أمام التطور الحضاري الإنساني، وخلق مجاعة لا سابق لها، و لا أحد يعرف أين ستقف آثاره المدمرة التي أدت حتى الآن مثلاً إلى انهيار كثير من البنوك والشركات الكبيرة ، مما زاد في حجم البطالة، وسيكون له أثر مدمر على جميع مجالات الحياة لعدة أجيال قادمة.

كل ذلك يؤكد، على أهمية الابتعاد عن الأصولية الدينية المثالية، بكافة أشكالها ومناهجها، وبدلاً من ذلك دعم وتبني وإعمال العقل والفكر الذي هو وسيلة التفكير العقلاني، وإعادة إحيائه، والعمل بمناهج الفلسفة والتفكير، من أجل النهوض، والتقدم الحضاري، وتحقيق نهضة لا سابق لها. وإن ذلك يدعونا، نحن العرب والمسلمين، إلى إعادة النظر في موقفنا من العقل والتفكير الفلسفي ومناهج العلوم الطبيعية، والتوقف الفوري عن اعتبارها خروجًا عن الأصول الدينية، لا بل واعتبار ذلك تعطيلاً للعقل، وهو أمر لم تناد به شريعتنا السمحة أبدًا، لاسيما وأن ديننا قد حثنا في كثير من تعاليمه على التفكير والبحث.

ولذلك كله يمكن القول، أن الفكر والتفكير هما وسيلتنا للنهوض من جديد، وعليه لا بد من إحياء مناهج الفلاسفة على اختلافها، فالتفكير ومناهجه تعمق الإيمان، والعقل هو الوسيلة لتطور الوعي والثقافة والمعرفة، وبذلك نسمو وتسمو الحضارة الإنسانية.

ايوب صابر 08-10-2010 07:26 PM

رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
أوراق ساخنة (3): فلنهدم مدارس التجهيل ونشيد مدارس التفكير



المتعمق في التراث الفكري الإنساني يجد أن هناك علاقة بين الوضع الثقافي والفكري السائد، ومناهج التعليم وأساليبه وآلياته ومخرجاته، فحين يكون الجو الفكري متحررًا، ويتم التعامل مع المتلقي على أساس أنه ذلك العنصر المهم والإنسان المتميز، وأن العقل والتفكير صفات مميزة للإنسان عن الحيوان يتوجباحترامها واستثمارها، يكون التعليم مزدهرًا، وهو ما ينعكس بشكل إيجابي على الثقافة والتعليم، وبالتالي على التقدم والنمو والحضارة، ويمكن القول إن العكس صحيح حيث يتأثر التعليم سلبًا في حالة سيطرة الأيديولوجية الأصولية المنغلقة، على نمط الحياة، فتتعطل العقول والتفكير المبدع، وهو ما يؤثر سلبا على النظام التعليمي والفكري، وبالتالي يتأثر الإبداع والإنتاج الحضاري سلبًا
.


ذلك ما يظهر جليًا في استعراض الوضع التعليمي منذ إنشاء أول أكاديمية في التاريخ إلى يومنا هذا، مقرونًا بنمط التفكير السائد، ومدى الحرية الفكرية، وهو ما يشير أيضًا إلى أهمية الاستفادة القصوى من تجربة التاريخ، وما يجب عمله من أجل أن يكون التعليم حافزًا مهمًّا للإبداع والتقدم الفكري والحضاري.

وتظهر أي نظرة تحليلية معمقة لهذا الجانب من الحياة الثقافية والفكرية، بأن الفيلسوف الإغريقي الكبير أفلاطون، كان أول من اقترح تأسيس رياض الأطفال والمدارس، وذلك بناء على استنتاجاته الفلسفية المهمة، ومنهاجه الفلسفي الذي يقوم على إعمال العقل وتفعيله بالتفكير، ويعتبر أفلاطون

ثاني أكبر الفلاسفة الإغريق العقلانيين، بعد سقراط، الذين اعتبروا العقل العنصر الأهم في الوصول إلى المعرفة. والعقلانية تعرف على أنها مذهب فكري يزعم أنه يمكن الوصول إلى معرفة طبيعة الكون والوجود عن طريق الاستدلال العقلي، كما يرى هذا المذهب ضرورة إخضاع كل شيء في الوجود للعقل بهدف إثباته، أو نفيه، أو تحديد خصائصه، وقد رأى سقراط الذي يُعتبر المؤسس الحقيقي للمذهب العقلي بأن المعرفة الحقيقية تأتي من الداخل.

وطور سقراط منهاجًا لتفعيل العقل يقوم على أساس إعطائه الانطباع بأنه يريد أن يتعلم من محدثه، ولا يريد تعليمه، كما فعل السفسطائيون الذين كانوا يعتبرون أنهم يمتلكون المعرفة (علماء ومثقفون)، ويعملون على تلقينها للآخرين، وكان سقراط يبدأ بطرح الأسئلة متظاهرًا بأنه لا يعرف شيئًا، ثم يرتب الحوار بشكل يجعل المحاور يكتشف شيئًا فشيئًا ما يفكر فيه. وكان سقراط يتظاهر بعدم المعرفة ليجبر الناس على التفكير، وكأنه كان يلعب دورالجاهل، وكان لا يتوقف عن الاهتمام، وطرح الأسئلة للوصول إلى المعرفة الحقيقية، وكان يعتقد بأن كل الناس قادرون على اكتشاف حقائق فلسفية شرط أن يستعملواعقولهم، وقد مثل منهاج سقراط ثورة حقيقية في التفكير، والتعلم، واستنباط الافكار، وتوليدها، ورفع من شأن العقل، إلى حد أنه اتهم بإدخال آلهة جديدة، وقد حكم بالإعدام لذلك، حيث قتل بالسم بتهمة إفساد الناشئة.

أما أفلاطون، وهو أحد تلامذة سقراط، فيعود له الفضل في أنه أنشأ أكاديمية خارج أثينا، في حديقة كانت تحمل اسم البطل الإغريقي أكاديموس، ومن هنا أسميت " أكاديمية"، ومن يومها عرف العالم الأكاديميات، والمواضيع الأكاديمية، وقد درست أكاديمية أفلاطون، الرياضيات، والفلسفة، والرياضة البدنية، وكان التدريس يمثل صراعًا بين الأفكار، والجدل، وكان الحوار الأدبي الأسلوب المفضل لدى أفلاطون.
ويرى أفلاطون أن العقل وحده، يمكننا من المعرفة الحقيقية. وأكد أفلاطون على أن الرياضيات يمكن أنتقدم لنا معرفة أزلية حقيقية، وهو يعتقد بأن مشاهداتنا لا تسمح لنا بأن نرى إلا تفسيرات غامضة، لكن ما نراه في داخلنا بفضل العقل يقودنا إلى المعرفة الحقيقية. ويعتقد أفلاطون أن مقر النفس الخالدة هو العقل، وأن النفس ليست مادية، وهي تستطيع أن ترى عالم الأفكار الذي آمن به أفلاطون، حيث يرى أفلاطون أن النفس كانت موجودة في عالم الأفكار قبل أن تأتي لتسكن الجسد، وعنده أن هذه النفس تحاول استذكار الأفكارالأزلية التي تعرفها من عالم الأفكار.

من هنا تأتي أهمية إعمال العقل، ليرى الصورة الحقيقية للأفكار، واعتقد أفلاطون بضرورة أن يتعلم الأطفال في المدارس كيف يضبطون رغباتهم، وينمّون شجاعتهم، وأن يستخدموا عقولهم ليصلوا إلى الحكمة.
وقد رأى أفلاطون أن تربية الأطفال شيء أخطر من أن يترك لتقدير كل عائلة أو أسرة بمفردها، وذلك لأنه لا يمكن أن تعلم الأسرة الأطفال ما يجب أن يتعلموه من أجل الوصول إلى المعرفة، القائمة حسب رأيه على استنباط الأفكار بوساطة العقل، وكي تنتج المدارس فلاسفة يمتلكون الحكمة، ليكونوا جديرين بحكم المدينة الفاضلة. المهم أن أفلاطون أدرك خطورة أن ينحصر التعليم في العائلة، لأن مثل هكذا عملية تعليمية تورث الطفل ما لدى الآباء من معلومات أو مهن في أطر تقليدية محصورة، فيظل المجتمع أسير محدودية التفكير غير القائم على المعرفة الحقيقية والحكمة، ويظل ضحية العادات والتقاليد التي تقتل الإبداع والأفكار، ويظل لسان حال الأطفال يردد "هذا ما وجدناعليه آباءنا". وقد كان لأفلاطون غرض آخر من تأسيس المدارس أكثر سموًّا ومثالية، ويتمثل ذلك الغرض في تعليم الأطفال كيف يفكرون، وكيف يستخدمون عقولهم، ليكونوا جديرين بالعيش في المدينة الفاضلة التي تخيلها، وظن أنه لا يمكن إلا أن يحكمها ويديرها الفلاسفة المتنورون الذين أصبحوا قادرين على تشغيل عقولهم، لأنهم هم الذين يرون الأمور على حقيقتها، وهو ما يؤكد أهمية دور المدارس والتعليم عنده.

وعلى اثر ذلك ازدهرت الحضارة وترك الإغريق أرثا حضاريا مهولاً ظلت البشرية تنهل منه عبر العصور والى عصرنا الحاضر رغم انه تعرض للإهمال والمقاومة والرفض في فترات زمنية وصفت بالظلامية كانت السيطرة فيها للمؤسسات الدينية ممثلة بالكنيسة في العصور الوسطى والتي رفضت الأخذ بالعقل كوسيلة للمعرفة وحاربت التفكير العقلي.
وفي تلك العصور اشتد صراع الكنيسة مع الفلاسفةالعقليين، لأنهم ظلوا على قناعاتهم أن العقل هو مصدر كل معرفة واعتقاد ديني، بينما آمنت الكنيسة بأنه لا يمكن للعقل أن يصل إلى بعض الحقائق الموحى بها. وبعد اتساع نفوذ الكنيسة وسلطتها، وتعمق تأثيرها ونفوذها، على مختلف جوانب الحياة، أمرت في العام (529م) بإغلاق أكاديمية أفلاطون في أثينا، و ظهر أمر منح البركة الذي اعتبرأول قانون كهنوتي، ولذلك يعتبر العام (529م) رمز وضع الكنيسة يدها على الفلسفة الإغريقية، وهو ما يعني سيطرة الأصولية الدينية على مقاليد الأمور بما في ذلك التعليم والفكر والتأويل، وتزامن ذلك مع سيطرة الكنيسة على المدارس، التي أصبحت تدار وتوجه من خلال الأديرة. وقد ظلت الكنيسة والأديرة تسيطر على التعليم والمدارس لمدة أربعة قرون منذ اغسطينوس حيث بنيت أول جامعة غير مرتبطة بالكاتدرائيات في العام (1200م) زمن القديس توما الإكويني، ومثل ذلك بداية تحرر الفكر في أوروبا التي كانت تخضع للمسيحية ومن ثم بزوغ عصر النهضة.

ولنا أن نتخيل ما تكون عليه الثقافة والفكر، إضافة إلى نظام الدراسة في تلك المدارس، في ظل مثل تلك السيطرة للكنيسة، وما طبيعة المناهج التي كانت تدرس في ظل تلك الأفكار الأصولية القائمة على مثل تلك المبادئ الدينية، التي تعمقت في تطرفها في ظل غياب الفلسفة العقلية، والمدارس الأفلاطونية، والمناهج البحثية...يمكننا أيضًا أن نتخيل ما كان عليه دور المعلم والمتعلم في ظل تلك الأفكار عن الإنسان، وكيف كان ينظر إلى الطالب متلقي العلم... ذلك لأن الكنيسة تبنت فكرة أن الوحي أغنى الناس عن كل أراء البشر وبخاصة في شأن الدين، لاعتقادهم أن ما جاء به الوحي يحتوي على كل ما كان يحتاج إليه الإنسان من التعليم والإرشاد.

لا شك أن مثل ذلك الجو الأصولي القائم على فكرتي تمرد البشر، والعقاب الذي فرضه الله على الإنسان كنتيجة لتمرده، أثرت في طبيعة الفكر والثقافة إلى حد بعيد، ومثل إلغاءً للعقل ودوره في الثقافة والمعرفة والعملية التربوية على وجه الخصوص... وهذا مثال آخر كيف كان ينظر للإنسان في ذلك العصر بناء على ما ورد في سفر أيوب (( إلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلى من السماوات ، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض طوله، وأعرض من البحر ...أما الرجل ففارغ عديم الفهم، وكجحش الفرا يولد الإنسان ) سفر أيوب(11:7 -12).

ولا شك في أن ذلك شكل تراجعًا كبيرًا في تسخير العقل من أجل الوصول إلى المعرفة، مما أثر سلبًا على الإنتاج الإبداعي، وبالتالي حدث التراجع الحضاري الإنساني في تلك الفترة الزمنية المظلمة، ولذلك فإن الليل الطويل الذي دخلته أوروبا في ما يسمى بالعصور الوسطى، عصر الظلام، والذي امتد ألف سنة، ما هو إلا نتيجة مباشرة لذلك الجو الظلامي الذي خلق تخلفًا في مختلف المجالات، بعد أن تم تعطيل العقول، ومحاربة المفكرين، والفكر المستنير بشتى الوسائل، وربما تكفير المفكر، ومعاقبته إذا خرج في أطروحاته عما تقوله الأفكارالدينية.

ولكن وبينما غرقت أوروبا في تلك الظلامية على كافة الأصعدة، ازدهرالتعليم والتعلم في المجتمع الإسلامي، إثر ولادة الإسلام عام (632م)، فلم يجد المسلمون تناقضًا بين الفكر الديني وأفكار الفلاسفة العقلانيين...حتى أن المسلمين الأوائل هم الذين حافظوا على تراث المفكرين الإغريق، بعد تشديد الكنيسة قبضتها، وتكفير الفلاسفة ونبذهم، وهم الذين ترجموا كتب الفلاسفة الإغريق وعلومهم، وعملوا على تطويرها.
ولا شك في أن ذلك القبول للفكر الفلسفي العقلاني، والمنهج الأرسطي والأخذ به، أثر بدوره بصورة إيجابية على النظام التعليمي في الإسلام ككل، من حيث المناهج، والتعليم، ودور المعلم، وبالتالي ازدهرت العلوم وتطورت بشكل مذهل. ولم يتراجع التعليم في البلاد الإسلامية، كما أن العلوم، والبحث العلمي، والتقدم الحضاري ظلت مزدهرة في البلاد الإسلامية في العصور الوسطى، إلى أن برز أئمة مسلمون تبنوا أفكارًا أصولية من حيث رفضهم للفلسفة، ومنطق الفلاسفة العقلانيين ومناهجهم.


وبالتالي أثرت أطروحات هؤلاء الأئمة سلبًا على النشاط العقلي والفكري والفلسفي في العالم الإسلامي، فتراجعت العلوم، وتراجعت الحضارة، بعد عصر ابن رشد، وهي ما تزال في تراجع في المجتمعات الإسلامية، نظرًا لاستمرار انتشار وتأثير وسيطرة ذلك التفكير الأصولي وتأثيره وسيطرته، وأثر ذلك بالتالي على مختلف مناحي الحياة، وعلى رأسها النظام التعليمي، ومناهجه والذي هو المحرك الأساس لتأهيل العلماء والباحثين.

وفي المقابل عادت أوروبا لتستعيد زمام المبادرة في تصدرالتطور الحضاري، والتقدم العلمي والنهضة، بعد تخلصها من سيطرة الكنيسة المطلقة، والعودة إلى الأخذ بمناهج البحث والتفكير العلمية العقلانية، وقد ساهمت أعمال ابن رشد تحديدًا في تلك النهضة، وساعدت في إحياء الفكر الفلسفي العقلاني في أوروبا، حيث أعيد اكتشاف بعض كتابات أرسطو بمساعدة الفلاسفة المسلمين، مما أحيا الاهتمام بالعلوم الطبيعية، وأثر من جديد في النظم التعليمية في أوروبا وأدى إلى نهضة غير مسبوقة قائمة على كم هائل من الاختراعات المبدعة التي ما كان للعقل البشري أن ينتجها لوظلت الكنيسة هي المسيطرة.

ومن الأدلة على ذلك، مثلاً، ما حصل من رفض الكنيسة لاستنتاجات كوبرنيكس عن دوران الأرض حول الشمس، وعودة الكنيسة لرد اعتبار العالم جاليلو الذي كفرته، وكادت أن تنفذ فيه حكم الإعدام، لولا أنه تراجع عن أفكاره ظاهريًّا في المحكمة، لإنقاذ نفسه، ليخرج مرددًا " لكنها تدور، لكنها تدور"، وقد جاء رد اعتباره بعد أربعمائة عام من تاريخ إصدار الحكم ضده، وبعد أن أثبت العلم الحديث صحة استنتاجاته العلمية بشكل قطعي.

لا شك في أن المتأمل والمتعمق في ما سبق يرى أهمية دور العقل والتفكير في المعرفة، وأهمية دور المفكرين العقلانيين في التطور الحضاري، ويرى بجلاء خطورة سيطرة المؤسسات الأيديولوجية ضيقة التفكير، وعلى التعليم والمناهج التعليمية.

وفي ظل تراجع التطور والحضارة في البلاد الإسلامية، وفي المقابل النهضة والتقدم الهائل في البلاد الغربية، لا بد من إعادة النظر في كل ما يتعلق بالفكر والتفكير والمناهج والعملية التعليمية، وربما إعادة إحياء المدارس على الطريقة الأفلاطونية، وهي المدارس التي تأخذ بتفعيل الأنشطة العقلية، ولا بد إذن من إعادة الاعتبار للعقول، ووضع مناهج تقوم على تنشيط التفكير، وتوليد العقول، مع ضرورة إخضاع كل ذلك للتجارب العلمية والبحثية والميدانية والحسية، ولا بد من إصلاح الوضع التعليمي في البلاد التي تشهد تراجعًا في التفكير، وأن يؤخذ بالاعتبار في ذلك دور المعلم، والإداري، والمبنى الدراسي، والفصول، والمنهاج، والكتاب، وطريقة التقويم، والامتحانات، وغيرها من الأمور التي تشتمل عليها العملية التعليمية، وجعلها تتمحور حول تحرير العقول، وأهم من ذلك حفظ كرامة الإنسان المتعلم والباحث، ومنحه الفرصة للبحث والتعمق في طرح الأسئلة في جو حر، يمكن الإنسان من الإبداع بدون خوف وهذه هي الضمانة الوحيدة لتحقيق مزيد من التقدم لما فيه خير الإنسانية.


ناريمان الشريف 08-10-2010 07:39 PM

رد: فلنهدم أصنام القرن الحادي والعشرين- كتاب الفته
 
يعطيك ألف عافية أخي أيوب
وبارك الله فيك

أتابعك




.....ناريمان

ايوب صابر 08-11-2010 04:18 PM

الاخت ناريمان شكرا لمرورك الكريم

كنت على امل ان تمري هنا وربما في مرحلة لاحقة تبدين رأيك في جدوى طباعة الكتاب حيث ان هذا ما انوي فعله خلال مدة قصيرة.

مع خالص التحية

ايوب صابر 08-11-2010 04:22 PM

أوراق ساخنة (4): ما سر الطاقة الإبداعية؟

كنت في السادسة عشرة حينما بدأت بكتابة بعض المحاولات الإبداعية مثل القصائد والخواطر، وكنت منكبًا على القراءة، يحركني دافع قوي لا أعرف كنهه ولا طبيعته، ولا مصدره، ولا سره. إلى أن وقع بين يدي كتاب للكاتب الروسي الكبير ليو توليستوي، وبينما كنت أقرأ عن سيرته الذاتية...عرفت أنه فقد الأم وهو صغير... ولم يشاهد صورة والدته أبدًا. ولقد كان لتلك المعلومة وقعا شديدًا على نفسي، فأنا أيضًا فقدت والدتي وعمري سنتان، ولم أشاهد صورتها أبدًا. وقد ربطت فورًا بين موت الأم، وذلك الاندفاع نحو القراءة والكتابة الإبداعية، ووجدتني أسأل سؤالاً سيطر على ذهني منذ ذلك الحين: هل هناك علاقة بين اليتم والإبداع؟
وخلال السنوات التي تلت، وجدت نفسي منكب على الكتب، أحاول أن أجد إجابة لهذا السؤال. وتعمقت في البحث، فوجدت أن الاهتمام في هذه السمة الإنسانية قديم، قدم الفلسفة اليونانية، وأن بعض الفلاسفة الإغريق حاولوا تقديم تفسير لسر الإبداع.
ولقد وجدت بأن هناك من سلم بأن الإبداع سمة لا يمكن فهمها، والبعض الآخر اعتقد أنها سمة غريزية تولد مع الإنسان، وآخرون اعتقدوا أن الإبداع هو أمر موروث، وقد كان الاهتمام منصبًا على المنتج الإبداعي أكثر من مصدر الإبداع عبر التاريخ.
وتبين أن محاولات فهم السمة الإبداعية ظلت عاجزة عن تقديم تفسير شاف ومقنع، حتى بعد الثورة الفكرية والعلمية العظيمة، التي تلت ولادة علم الفيزياء، حيث بدأ العلماء يتعاملون مع سمات الشخصية على أساس أنها شكل من أشكال الطاقة التي لا تفنى ولا تستحدث، ولكنها تتحول من حالة إلى أخرى.
ووجدت أن أعظم العلماء الذين تحدثوا عن هذه السمة المهمة، وتعاملوا مع الدماغ على أساس أنه نظام طاقة، وهما فرويد و إدلر، لم يربطا بين الموت والطاقة الإبداعية إلا بطريقة غير مباشرة عند فرويد.... وبينما ظن إدلر أن الإبداع هو تعويض لفقدان أحد الحواس compensation theory ، اعتقد فرويد، بأن الإبداع عبارة عن إحباطات جنسية تتحول لاحقًا إلى طاقات إبداعية، وحتى أن أهمية الموت في العملية الإبداعية بالنسبة لفرويد تكمن في ما يخلفه الموت من إحباط جنسي.
ولكن مزيدًا من البحث أظهر أن أعدادا أكبر من المبدعين كانوا بالفعل أيتاما، ولذلك قمت على تحليل حياة بعض هؤلاء المبدعين وأدبهم، ضمن متطلب أكاديمي للدراسات العليا، محاولاً إيجاد صلة بين فجيعة اليتم، والقدرة الإبداعية والتدليل على ذلك. وقد تمكنت من إيضاح تلك الصلة عند بعض المبدعين بشكل مقنع...فتعمق الشعور لدي بأن الموت يشكل عاملاً مهمًا في العملية الإبداعية، إن لم يكن الأهم، واستمريت في البحث، ورصد حياة مزيد من المبدعين، وقد ظهر جليًّا لي كلما تعمقت في البحث أن أعدادا كبيرة منهم أيتام فعلاً.
وحينما وقع بين يدي، ومنذ مدة قصيرة ،كتاب آخر للكاتب الأمريكي مايكل هارت، وهو بعنوان "الخالدون المائة"، هذا الكتاب الذي وفر فرصة استثنائية لفحص النظرية إحصائيًا، أخضعته للدراسة كعينة بحثية غير متحيزة هدفت من ورائها، معرفة نسبة الأيتام من بين هؤلاء الخالدين المائة حسب تصنيف هارت الذي أقامه على أساس الأثر لهؤلاء في التاريخ. وتبين بأن ثلاثة وخمسين من العباقرة الخالدين، بين أفراد العينة المذكورة، الواردة أسماؤهم في الكتاب المذكور هم فعلاً من الأيتام المسجل يتمهم وأن طفولة خمسة وأربعين منهم...طفولتهم غير معروفة، ولذلك استنتجت، وبموجب القاعدة المنطقية أنهم على الأغلب أيتام كونهم يمتلكون طاقات إبداعية في أعلى حالاتها، أي أن 98% من أفراد العينة المذكورة فعلاً أيتام. وهو ما أكد الافتراض بأن اليتم هو السبب الأساس والأهم وراء الدافع الإبداعي، ليس ذلك فقط، وإنما أكدت الدراسة أن اليتم يؤدي إلى الإبداع في أعلى حالاته، وأصبحتُ على قناعة لا تتزحزح بأن الموت أو على الأصح (فجيعة اليتم) هي الأعظم تأثيرًا في تحفيز الطاقة الإبداعية، وأن أعلى حالات الإبداع في التاريخ، في كل المجالات، بما فيها القيادة الفذة، تأتي من أثر اليتم على الشخصية، ولكنها ليست الدافع الوحيد، وإنما هي الأعظم من ضمن سلسلة الفجائع التي يمكن أن تصيب الطفل، فتتولد في ذهنه تلك الطاقة المهولة التي يمكن أن تتحول إلى طاقة إبداعية في حالة توافر عناصر أخرى مهمة مثل: التعليم، والقدوة الحسنة، وربما أحيانًا المصادفة..الخ .
مع ذلك، ورغم تعدد الأدلة والشواهد القائمة على أساس أساليب البحث العلمي، وتحديدًا البيانات الإحصائية والتحليلية، والتي لم تترك مجالاً للشك أن الخالدين العباقرة عبر التاريخ هم في أغلبهم، وبحد أقصى أيتام، ظلت آليات تأثير الفجائع، وعلى رأسها اليتم، في الشخصية أمرًا غامضًا بالنسبة لي، وإلى أن وقع بين يدي دراسة حديثه للدكتور أحمد توفيق من الأردن، بعنوان "أيقظ قوة عقلك الخارقة"، وهو كتاب مهم جدًا ، يشبه الدكتور أحمد توفيق فيه عقل الإنسان بمولد قوي...مولد يفوق في طاقته وقوته أعظم الشلالات... ويوضح بأن المخ، وعلى الرغم من قلة وزنه، وصغر حجمه يحتاج من الأوكسجين إلى حوالي 20% من احتياجات الجسم البشري ...وهو مركز إعجازي لكثير من الأنشطة الحيوية... وتُجري فيه تفاعلات غاية في التعقيد ...وأن الخلايا المخية تملك القدرة على توليد طاقة شبه كهربية نتيجة لتفاعلات كيماوية معقدة تحدث داخل الخلية، وهذه الشحنة شبة الكهربية التي لا يعرف كنهها، أو تفسيرها حتى الآن، هي سر الحياة نفسها، باختفائها وعدم سريانها من خلايا مخ الإنسان إلى بقية أعضاء جسمه تختفي الحياة نفسها فيه. ولكن الدكتور أحمد توفيق يؤكد على أنه رغم التقدم الهائل الذي أحرزه الطب والعلوم فلا يزال المخ من الأسرار المعقدة أمام العلماء وتفسيراتهم، وكلما تفتح لهم باب في أسرار عمل المخ ظهرت أبواب أخرى أكثر غموضًا وتعقيدًا، ولكن شيئًا مهمًا يتضح يومًا بعد يوم هو أن المخ يسيطر على جميع أوجه النشاط الإنساني الإرادي، واللاإرادي، والمعنوي، في أثناء النوم أو في أثناء اليقظة علمًا بأنه يعمل بنسبة (5%) من طاقته فقط.
عندما تعرفت إلى هذه المعلومات عن قدرة المخ... أصبحت على قناعة أكبر بأن فجيعة اليتم هي العامل الأهم في تحفيز طاقة الدماغ، وبشكل مهول... وإذا ما توافرت الظروف الملائمة فإن مالك هذه الطاقة يتحول إلى عبقري مبدع حتمًا في مختلف المجالات، وحتى إن لم يُكتب لهذه الطاقة أن تخرج بشكل إيجابي مبدع، فإنها حينما تخرج بشكل سلبي يكون ظاهراً ومدوياً.
وفي ظل غياب أي تفسير علمي حتى الآن لأثر فجيعة الموت على دماغ المبدع، وأخذاً بما أصبح مسلمات علمية، بأن الدماغ، مثل القلب، عبارة عن جهاز طاقة...فإنني أجد بأن الفجيعة تقوم مقام الطاقة التي تقذف بها ذرات اليورانيوم، فتتحول ذرات اليورانيوم ذات الطاقة الكامنة والمحدودة جدًّا بتدخل تلك القوة الخارجية، إلى القنبلة الذرية.
وهذا ما أراه يحصل في الدماغ، وبغض النظر عن آليات حدوثه التي لا بد من تمحيصها ودراستها بوسائل علمية مخبرية، فإن الفجيعة، وبمجرد حدوثها تؤثر في الدماغ بصورة مهولة، وتتشكل فيه طاقة استثنائية تعادل طاقة المفاعل الذري، وهذه الطاقة تتناسب طرديًا مع طبيعة الفجيعة، وتوقيت وقوعها، وكثافتها، أو ربما تكرار حدوث فواجع أكثر عددًا في حياة الإنسان المبدع، وتكون العملية الإبداعية ما هي إلا ترجمة لتلك الطاقة التي تشكلت في الدماغ بطريقة مجهولة حتى الآن ...قد تكون كهربية أو هرمونية أو غير ذلك...
ولذلك نجد أن نسبة الذكاء، والقدرات العقلية الإبداعية، تختلف من شخص إلى آخر، ولكننا نجد بوضوح أن مجموع الظروف الحياتية لها تأثير كبير على القدرات الذهنية للإنسان....ومن هنا نستنتج بأن عددًا من العوامل التي تقوم بعمل الفجيعة، أو يكون لها وقع الفجيعة على الدماغ، هو في الواقع لا حصر له، وحيث أنه يصعب في كثير من الأحيان قياس الأثر أو ملاحظته في الكثير من هذه العوامل، وبناء على البيانات الإحصائية المتوافرة لدينا من خلال عينة "الخالدون المائة"، أصبح لا بد من التسليم بأن فجيعة الموت (اليتم) هي أعلى وأقوى الفجائع على الإطلاق...وهي لذلك تنتج أعلى حالات الإبداع في كل المجالات... وتقل السمة الإبداعية حدة كلما قل أثر الفجائع...ورغم ذلك يكون لها أثر مشابه، فنجد مثلاً كُتابًا نجحوا في كتابه مجموعات شعرية، وهم ليسوا أيتاما، أو ربما أصبحوا قادة، أو علماء... ولكننا نجد أن كل عبقري سواء كان أديبًا، أو عالمًا، أو قائدًا كرزميًا كان له دور بارز وخالد في التاريخ...هو بالضرورة يتيم...وأن كل ما امتلكه من قدرات سواء على التعبير، أو التفكير، أو التأثير السحري الكرمزي... ما هي في الواقع إلا مخرجات لتلك الطاقة المهولة.. التي تولدت في دماغه كنتيجة لإصابته بفجيعة اليتيم.
وقد أظهرت الدراسات التحليلية والقائمة على البيانات الإحصائية أن اليتم قبل الولادة، يشكل أعلى حالة من حالات الفجيعة، وهذه الشريحة من الأيتام تمثل أعظم الخالدين عبر التاريخ على الإطلاق. ويقل تأثير الفجيعةويختلف المجال الإبداعي كلما تقدم المصاب بها في السن، ويظل لها أثر كبير إلى حين اكتمال النمو العقلي لليتيم، والمتعارف عليه أنه يكتمل في سن الحادية والعشرين.
وأيضا يلاحظ أن المخرجات الإبداعية متقاربة من حيث المجال، والعمق، والتعقيد، والأثر، والديمومة، بين الأيتام الذين أصبحوا أيتاما، ضمن الفئة العمرية الواحدة، كما يبدو أن لكثافة الطاقة المتولدة في الدماغ، كنتيجة لتلك الفجيعة، الأثر الأعظم في الإبداع ...مع عدم استثناء العوامل الأخرى الكثيرة المؤثرة... لكن يظل للطاقة المتولدة الأثر الأعظم حتمًا، وذلك بناء على المعطيات التي أظهرتها الدراسة الإحصائية والتحليلية للعينة المذكورة، فنجد مثلاً أن أعظم المخترعين من بين أفراد العينة أصيبوا بفجيعة اليتم في سن ما بين 17-21 سنة...بينما نجد القادة الدكتاتوريين الثوريين...الذين أراقوا كثيرا من الدماء، مثل: هتلر، ونابليون، وستالين، و الإسكندر الأكبر الخ...هم أيتام ما بين 11-16 سنة...ونجد أن الأيتام في سن الثامنة علماء أفذاذ مثل دارون وكلارك ماكسويل، ونجد أن الأيتام في سن مبكرة، متعددي المواهب،ونجدهم مفكرين، وفلاسفة وعلماء وقادة أفذاذًا، يبحثون بشغف عن الحقيقة، وكنه الحياة... ويقدمون تصورات تجيب عن الكثير من التساؤلات الوجودية... فتخرج منهم كثير من النظريات الفكرية والفلسفية والعلمية....مليئة بالحكمة والإدهاش..تحاول تقديم تفسير وإجابات دنيوية وإلى ما بعد الموت.
وقد أظهرت هذه الدراسة البحثية، التي أجريتها حول الموضوع، شواهد عظيمة تؤكد على صحة الاستنتاج بأن الموت يقع في أعلى سلم المؤثرات لخلق طاقة إبداعية مهولة في الدماغ، وهو ما سيترك أثرًا عظيمًا على جميع مجالات الفكر والعلوم، وفهم الشخصية ونظرياتها وسماتها.
لكن، لا بد من التحقق علميًا من هذه الاستنتاجات والفرضيات النظرية... وإن أثبتت البحوث ألمخبريه العلمية صحتها، وقدمت تفسيرًا علميًّا لجميع عناصرها، وخفاياها، وطبيعتها، وقدمت شرحًا وفهمًا عليمًّا لما يحدث في الدماغ كنتيجة لفجيعة اليتم...سواء كان ذلك التفسير كهربيًّا أو هرمونيًّا أو كهرومغناطيسيًّا، أو غير ذلك، فإن القدرة على التحكم في هذه الطاقات سيصبح ممكنًا... وسيصبح بالإمكان صناعة العلماء والمبدعين والقادة في كل المجالات...كما سيصبح بالإمكان فهم سمات الشخصية الإنسانية بصورة أفضل والتحكم في السلوك البشري ككل.. ومن المهم إعادة النظر في كثير من المسلمات التي أقيمت على افتراضات خاطئة، وعليه لا بد من إعادة كتابة التاريخ.
وهذه دعوة لكل العلماء، وعلى رأسهم الأيتام، الخبراء في مجالات الدماغ بأن يقوموا على إخضاع هذه الافتراضات لمزيد من البحث والتحقق العلمي، وأنا على يقين بأنه لن يطول الزمن الذي يخرج علينا فيه عالم عبقريُّ فذُّ، يؤكد صحة هذه الافتراضات، وما تبعها من استنتاجات، سيتم نشرها عما قريب في كتاب يتحدث تفصيلا عن نظرية تفسير الطاقة الإبداعية، وسوف يتمكن العلماء عما قريب من تقديم فهم، وشرح مقنع ومثبت علميًّا يشرح آليات تأثير الفجيعة على الدماغ، وسوف تُظهر هذه الأبحاث دون شك أن سر الإبداع في أعلى حالاته يكمن في أثر فجيعة اليتم، وعندها ستبدأ البشرية تاريخًا جديدًا...وتصبح إعادة كتابة التاريخ ضرورة ملحة بادرت فيها هنا وأطلقت لها العنان ضمن هذه السلسلة من المقالات والمقولات الساخنة.

عادل بشير 08-11-2010 05:45 PM

الصديق ايوب

احيي فيك روح المثابرة والابداع

لك الود

ايوب صابر 08-14-2010 04:07 PM

المهندس اللطيف الاخ عادل بشير


اشكرك على مرورك الكريم ،،

ايوب صابر 08-14-2010 04:10 PM

ِأوراق ساخنة (5): في البدء كان العقل

إن الدارس لتاريخ الفكر يلاحظ أهمية الدور الذي لعبه العقل وما يزال يلعبه، في بناء المعرفة الإنسانية ونشر الوعي، وبناء الحضارة، وبالتالي السعي للوصول إلى الحقيقية المطلقة، ويبرز دورالعقل في كافة المناهج سواء الأسطوري، أو الطبيعي، أو التجريبي، أو الديانات الأرضية، أو الديانات السماوية، وكافة المناهج الفلسفية الأخرى، وعلى رأسها طبعًّا المنهج العقلاني.

فحينما سأل الإنسان الأول الأسئلة الوجودية عن أصل الأشياء، وعن كثير من الظواهر الطبيعية التي حوله، جاء الجواب من العقل، الذي أوجد الأجوبة، وبالتالي وضع الأسطورة كإطار منظم لتقديم التفسير العقلاني لتلك الظواهر، والإجابة عن التساؤلات التي انبثقت عن الوعي.

فالعقل إذاً هو أداة الإدراك والوعي الأولى إلتي حاولت تفسير وجود الإنسان، بما هو منطقي وعقلاني، حتى ولو كان أسطوريًّا من نسج خيال الإنسان، وقد فعل الإنسان ذلك مدفوعًّا بحاجته لتحقيق نوع من التوازن، ولكي يحفظ العقل نفسه من الضياع، أو الجنون، وفقدان السيطرة، ولكن العقل، على الرغم من الفلسفة التفسيرية التبريرية، التي وضعها واعتمدها، ظل في حالة نشاط دائم يبحث عن الحقيقة والإجابات الشافية، وكأن لسان حاله يقول إن هذا الإطار الفكري المنظم والمفسر (الأسطورة) هوإطار مؤقت، وتفسير آني للوجود وللظواهر الطبيعية، يخدمني أنا العقل الآن لكي أستمر، لكنني لن أتوقف عن البحث عن الحقائق والمعرفة الكاملة، التي هي الهدف الأسمى للنشاط الذهني والعقلي.
لذلك ومن خلال تجارب الإنسان مع البيئة المحيطة، وحالة القلق التي تولدت لدى الإنسان المفكر، بأن ما يؤمن به من أساطير صنعها العقل، لم تعد تقدم أجوبة منطقية شافية يقبلها العقل نفسه، ومن خلال نضوج العقل، ورفضه الاستمرار بالأخذ بالأطر القائمة على أنها تقدم التفسير المطلق والنهائي، لذلك دفع العقل بالإنسان لتوسيع دائرة البحث، وتوسيع الإطار الفكري والمعرفي الذي سبق أن وضعه، بهدف تحقيق التوازن المتمثل في الأسطورة، وبهدف استكمال رحلته في البحث عن الحقيقة، من هنا رفض العقل الاستمرار في التسليم بهذا القائم الذي اهتزت أركانه، وأصبح مشكوكًّا في صحته وصلاحيته.

ومن هنا أيضًّا، دفع العقل الإنسان للبحث عن منظومة فكرية جديدة كبديل لما هو قائم، لذلك توجه الإنسان للبحث في الطبيعية، باستخدام الحواس بديلاً عن الإيمان بآلهة الأسطورة الخيالية، لعله يجد التفسير المقبول لأصل الأشياء، ومع ذلك ظل العقل، مرحليًّا، يؤمن بالأسطورة في خط متواز ومتزامن مع أساليب البحث الحسية الجديدة المتمثلة في استكشاف الحقيقة، من خلال الحواس والتجريب، وذلك بسبب حاجة العقل الدائمة لوجود مثل ذلك الإطار التفسيري أياً كان؟ لحين تكوين البديل المقبول، وهذا ما مثل ولادة الفلسفة، وتحديدًا فلاسفة الطبيعية الذين قدموا تفسيرًا جديدًا للوجود.
وكلما حقق العقل نجاحًا منطقيًّا من الإدراك والمعرفة والوعي،(بمعنى أنه يدهش العقل ويدفعه لقبوله)، مثَّل ذلك يمثل بديلاً للفكر السائد. وعليه كان العقل يأخذ به، فتنحسر الحاجة للفكر السائد، مثلاً الأسطورة، لصالح الفكرالجديد الذي يمثل إطارًا جديدًا أعم وأشمل، ويقدم إجابات أوفى وأكثر منطقية.
ويظهر أن العقل بطبيعيته، وبهدف الحفاظ على توازنه، واستمراريته يتمسك مرحليًّا بالإطار الذي يقدم أفضل التفاسير في حينه، وأحيانًا كثيرة يصبح التخلي عن المنظومة الفكرية السائدة أمرًا يكاد يكون مستحيلاً، وهو ما يعرف حاليًّا بالقلق الناتج عن التغيير، والذي يتحول في أحيان كثيرة إلى توتر، ومن ثم إجهاد مرضي، يدفع الفرد للاستماتة في التمسك بما هو قائم. ورغم ذلك يستمر العقل في البحث عن الإجابات الشافية، مدفوعًا بحب المعرفة والحقيقة، ونظرًا لإن الإطار المعتمد والقائم يمثل مسلمات نسبية، لم يتمكن العقل يومًا من تقديم إجابات كلية شافية لها. ومن هنا جاء الفلاسفة الذين رفضوا التفسير الأسطوري للأمور، ونادوا بالأخذ بالمعرفة التي تتحصل من خلال الحواس، على اعتبار أن المعرفة تتحصل من التجربة الحسية.
ولكن العقل لم يتوقف عند ذلك، وبالنمط نفسه تقريبًا من حيث عدم التسليم بما هو قائم جاء سقراط العقلاني، ليعتبر أن العقل هو أساس المعرفة، وعلى أساس أن الحواس مصدر للشبهة، وأن المعرفة تتأتى من العقل نفسه قبل التجربة. وعليه ينظر إلى العقل على أساس أنه هو مصدر الأفكار، ويمثل طرح سقراط رفضًا لطرح الفلاسفة الطبيعيين إذًا، ولما سبقه من أفكار، وتقديم العقل على ما سواه.

كما أن أفلاطون جاء، بدوره، بتفسير جديد لعمل العقل، حيث اعتبر أن العقل عبارة عن جهاز استقبال الأفكار الأزلية الموجودة في عالم الأزل، وليس هو مصدرها، كما قال سقراط، ويصر أفلاطون على أن المعرفة الحقيقية تقتضي الانتقال من العالم الحسي إلى عالم المعقولات، حيث يفهم العقل وحده موضوعاته، ويرى بأن النفس البشرية التي كانت تعيش في عالم الأزل، وتعرفت على الأفكار هناك مقرها العقل.
أما أرسطو الذي اعتمد البحث الميداني كأساس للوصول إلى المعرفة، فقد قدم نظريته في الطبيعة الإنسانية، والتي جعلت العقلانية Rationality الصفةالمميزة، التي تعرف الإنسان على أنه "حيوان عاقل" مؤكدًا في كتابه "الأخلاق" على أن سعادة الإنسان السامية تكمن في ممارسته قدرات العقل النظرية الخالصة، وعلى الرغم من أنه يقدم الحواس والبحث الميداني العلمي على العقل إلا انه يعتبر العقل جهازاستيعاب المعرفة التي تتأتى من الحواس.
وقد اعتبر علماء النظرة التجريبية أن المشروع العقلاني المجرد عن التجربة الحسية لعبة انطوائية قائمة على الانغماس الذاتي للفرد، وليس لها إلا القليل من القيمة العلمية، وهو ما مثل معركة بين نهجي العقلانيين والتجريبيين ظلت قائمة ولم تحسم، وهو ما يشير إلى استمرارالعقل في نهجه من أجل الوصول إلى الحقيقة.
بينما يرى جون لوك، وهو من فلاسفة عصر النهضة، أن الوصول إلى المعرفة لا يحتاج إلى المعرفة (القبلية)، ولا يتم بواساطة الانطباعات الفطرية التي ترى بأن الحروف مطبوعة في ذهن (عقل) الإنسان ومولودة معه، لأن ذهن الإنسان عند الولادة، حسب لوك لوح أملس، وصفحة بيضاء خالية من أي حرف، والمعرفة بأصنافها اكتساب من خلال التجربة وحدها، وليس من فطرة مسبقة، لكن الفيلسوف العقلاني في المقابل (لايبنتس) في رده على جون لوك يسلم بأن الإدراك الحسي، قد يحدث المعرفة، لكنه غير كاف لاكتسابها، حيث لا توجد نظرية متكاملة في المعرفة لاتقر بالإسهام الذي يقدمه العقل نفسه. وهذا مؤشر على أن التطور المعرفي لم يقلل من قيمة الدماغ، وإنما ظل العقل ودوره في المعرفة يكتسب مزيدًا من الاهتمام امتد إلى أيامنا هذه، إضافة إلى التوسع في محاولات فهم كيف يعمل العقل، وشرح لدوره في المعرفة.
ورغم أن الأديان ذات الرسائل السماوية الموحى بها، تطرح نفسها كبديل عما سبقها من منظومات فكرية وفلسفية، لكنها لم تلغ دور العقل، فالعقل هو وسيلة الوحي في إيصال الرسالة، كما أن دور العقل لم يقتصر على نقل الرسالة أو استقبالها بل إن له دورًا في فحص ما ورد عن الوحي، واختباره وتأكيده. بمعنى أن الدين لم يلغ دور العقل، وإنما أكد عليه، وبخاصة الدين الإسلامي الذي أعطى عظيم الأهمية للعقل، ودوره في القضية الإيمانية، وإن كثيرًا من المؤمنين يفسرون الدين في ضوء العقل، ويعتبرون أنهما لا ينفصل احدهما عن الآخر.

من هنا، فقد توسع مع الأيام مفهوم العقلانية، ولم يعد مذهبًا مغلقًا بل أصبح نزعة ومنهجًا في التفكير، يميل إليه المفكرون والفلاسفة، بل والفقهاء داخل منظوماتهم، ومذاهبهم الفكرية، أو الفلسفية، أو الشرعية، مولين العقل مكانة محورية، سواء في نظرية المعرفة، أو في فهم العالم، أو تحكيم الشرع، والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله، كذلك أصبحت العقلانية تعني اقترابًا فكريًّا يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة.

وقد استثمرت الكنيسة العقل من أجل تثبيت المبادئ اللاهوتية المسيحية وخدمتها، واعتبرت العقل أداة الدين، وكذلك حاول بعض الفلاسفة المسلمين توظيف العقل للتعبير عن العقائد والأفكار الإسلامية، وللدفاع عنها ضد مهاجميها مثل الكندي والفارابي وابن سيناء الذين سعوا للتوفيق بين الدين الإسلامي والعقلانية اليونانية، وقد ذهب ابن رشد للقول إلى أن العقل هو الأساس.

ورغم النفوذ الذي تحقق للدين فقد استمر العقل في بحثه، وظل كثير من الفلاسفة يعتبرون أن العقل هو الأساس، ويرى بعض الفلاسفة أن الدين ما هو إلا مرحلة جديدة في تطور الوعي الكلي، وقد رفعت فلسفة التنوير العقل إلى درجة أرقى عنصر في الوجود، وأكدت ثقتها في قدرته على تطوير المجتمع، والتقدم به نحو الأفضل.

كل ذلك يشير بوضوح إلى أن العقل، كان وما زال وسيبقى ذا دور محوري في عملية المعرفة، والإدراك، والوعي، عند كل الأديان والمذاهب والفلسفات، وعلى رأسهم الفلسفة العقلانية سعيا وراء الحقيقة، والمعرفة الكلية الشاملة، ومن المؤكد أن مزيدًا من الفهم والتفعيل لهذا الجهاز ألإعجازي سيعني مزيدًا من الأهمية.

ايوب صابر 08-16-2010 12:38 PM

أوراق ساخنة (6): الأيتام منارات الفكر عبرالتاريخ



إن تاريخ الفكر الإنساني يشير إلى أن المحطات الكبيرة، أو المنعطفات الأساسية التي مثلت أبرز سمات التطور الفكري الإنساني، والقفزات النوعية، والأكثر أهمية في تاريخ البشرية، جاءت على يد أيتام غالبًا. وذلك على الرغم أنه لايمكن نفي دور تراكم المعرفة المجتمعية والعقلية الجماعية للبشر ككل.

لكن المدقق في تاريخ الفكر يجد أن المحطات الرئيسة، والقفزات النوعية المؤثرة التي أدت إلى بروز مناهج فكرية رئيسة جاءت من قبل عدد من الأفراد الأفذاذ عبر التاريخ، وهم غالبًا أيتام، أو مروا في تجربة فقدان من نوع ما في الطفولة المبكرة، والطفولة وإلى سن إحدى وعشرين عاماً، رغم عدم إمكانية إثبات وقوع اليتم عند بعضهم، وذلك لعدة أسباب، مثل عدم إدراك المؤرخين، وكتاب السيرة لتلك العلاقة المهمة بين اليتم والإبداع، وبالتالي عدم اهتمامهم برصد تلك الحوادث، والتسليم بأن القدرات الإبداعية الاستثنائية تلك إما مجهولة المصدر، أو ربما هي عبارة عن موهبة، يتميز بها بعضهم، أو أنها ناتجة عن الرعاية الأسرية، وإلى غير ذلك من أسباب، ولذلك كان التركيز ينصب على المنتج نفسه، دون الاهتمام بمصدرالمنتج الذي هو الشخص المبدع إلا ما ندر.

والمدقق في السير الذاتية لكبارالمفكرين والمبدعين عبر التاريخ، يمكنه أن يلاحظ مثل تلك العلاقة، وكأن السبب في ذلك هو ما تحدثه حادثة اليتم في شخصية اليتيم من ألم، وحزن، وعزلة، ودهشة، وحرمان بجميع أشكاله، وربما شعور بالنقص، وحالة من القلق، مع فقدان الدرع الواقي الذي يوفر الأمان والشعور بالأمن، وكذلك ربما يتشكل عند بعضهم شعور بالعدمية، بمعنى أن يلف اليتيم شعورً بأنه جاء من العدم، نظرًا لفقدانه أي اتصال مع الوالدين أوأحدهما.

ويمكن أن نقول أكثر من ذلك، أي أن اليتم ربما يحدث نوعًا من التدفقات الكهربية، أو الكيماوية، أو الهرمونية، أو حتى تزايدًا حادًّا في عدد الخلايا في الدماغ، أوتشكل الدماغ بصورة فوق عادية، وهو ما يحدث في حالة بعض الأمراض العقلية المتعارف عليها، رغم اختلاف التأثير والناتج بين الإبداع والجنون، والذي يرى سجموند فرويد بأنهما ينبعان من مصدر واحد.

لكل ذلك حتمًا تأثير كبير على قدرات الفرد الإبداعية، والفكرية التي غالبًا ما تشكل منظومة فكرية متكاملة، أو نهجًا فكريًّا جديدًا، وغالبًا ما ينقض ما سبقه من أفكار، يجد الكاتب أو المفكر المبدع نفسه مدفوعًا بصورة غير واعية لانجازه، ولنهجه الفكري، وكأنه في مهمة مقدسة، وتكليف لا يمكنه الفكاك منه مهما كان الثمن الذي قد يصل إلى الموت، كما حدث مع كثير من المفكرين عبر التاريخ، وهم بصدد الدفاع عن المنظومات الفكرية التي جاءوا بها، والأمثلة على ذلك كثيرة، سنذكر بعضًا منها هنا.

ولا شك في أن مسعى الكاتب، الذي هو غالبًا غير واعٍ، مرتبط أو ربما ناتج عن تلك الحالة التي يجد الكاتب نفسه، وقد برمج للقيام بها، فالإنتاج الإبداعي والفكري يمكن أن يفسر على أنه سعي، غالبًا غير واعي، من أجل إزاحة الألم والحزن، أوربما خلق نوع، ومستوى آخر من التواصل والتعبير، وربما تدفع الدهشة من تجربة الموت الإنسان اليتيم لأن يبحث عن إجابات، تقدم تفسيرًا للوجود، ومن أين جاء الإنسان؟ وإلى أين ينتهي؟
كذلك يندفع اليتيم لمحاولة تفسير الطبيعة الإنسانية، والحصول على نوع بديل من اللذة، أو ربما البحث عن الاكتمال، ومحاولة تعويض الشعور بالنقص، وإزاحة القلق بالتفريغ، لتحقيق نوع من التوازن.

وكأن تجربة اليتم تحدث نوعًا من الثورة الوجدانية الهائلة في ذهن اليتيم، فيندفع الشخص دون أن يدري، وبصورة غير واعية أيضًا للبحث والتفكير ومحاولة حل لغز الحياة، حيث يتحول ذهنه إلى آلة تنتج الأفكار دون هوادة، وربما يكون هناك تأثير فسيولوجي هرموني، أوكهربي، أو كهرومغناطيسي، يؤدي إلى حدوث مثل تلك الثورة الفكرية في ذهن المفكر.

ورغم عدم وجود تدوين في العصور القديمة، وصعوبة نقل المعلومات، وعدم إدراك أهمية اليتم في تلك السنوات كدافع للإبداع والتميز والتفكير، لكننا نجد بين فينة وأخرى ذكراً لموضوع اليتم، حتى في الكتابات الأسطورية الموغلة في القدم، وربطه مع أشخاص أفذاذ في تاريخ البشرية القديم.

وربما يكون حمورابي الذي وضع شريعته المشهورة في عام (1900 قبل الميلاد تقريبًا)، أول مفكر يتيم معروف ومسجل في تاريخ البشرية، حيث كان له دور بارز ومدون، ذلك ما تشير إليه قوانين حمورابي التي وضعها، حيث يختتم حمواربي قوانينه الـ (285 ) بالقول، " إن الشرائع العادلة التي رفع منارها الملك الحكيم حمورابي، التي أقام بها في الأرض دعائم ثابتة، وحكومة طاهرة صالحة. أنا الحاكم الحفيظ الأمين عليها، في قلبي حملت أهل أرض سومر وأكاد، وبحكمتي قيّدتهم حتى لا يظلم الأقوياء الضعفاء، وحتى ينال العدالة اليتيم، والأرملة.
وعلى الرغم أنني أحصر مقالي هذا في الحديث عن الفكر الوضعي، والمفكرين المبدعين الوضعيين، لكن يمكن التنويه بأن الأنبياء المرسلين بدءًا من سيدنا إبراهيم الخليل، هم جميعًا أيتام، أو مروا بتجربة الفقدان بشكل أو بآخر، وكأن اليتم متطلب أساس لبناء الشخصية، حتى يكون لديها القدرة على احتمال عبء الرسالة، ولكنني أترك الحديث عن العلاقة بين النبوة واليتم للمتخصصين في هذا المجال.

كذلك فان حملة لواء الديانات الأرضية القديمة، والتي يستمر نفوذها حتى الآن مثل كنفوشيوس وبوذا هم أيتام، وتمثل تعاليم هذه الديانات أسسًا فكرية مهمة، حاولت شرح الحياة، وتقديم تفاسير لكل الظواهر الطبيعية والإنسانية، ثم هناك الخالدون المائة، والذين ورد ذكرهم في كتاب مايكل هارت ثبت أنهم في معظمهم أيتام، كذلك فإن البحث والتمحيص في السير الذاتية، لعدد كبير من الفلاسفة والمفكرين والمبدعين،أثبت أنهم مروا بفجيعة اليتم، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، أفلاطون، وجان بول سارتر، وهيجل، وأبو حامد الغزالي، والمهاتماغاندي، والمتنبي ، وادجر ألن بو، ونيوتن، وجابر بن حيان، والإمام الشافعي، وسيمون بولفارد، وديكارت، وديفد هيوم، وغيرهم الكثير.

ونجد أن من الأيتام من ادعى النبوة مثل المتنبي، حيث يقول في أكثر من مقام له ما يشير إلى أنه كان ينظر إلى نفسه نظرة المعتز، الذي وجد مقامه يشابه إلى حد كبير مقام الأنبياء بين قومهم حيث يقول :
أنا في أمـة تداركــها الله ..........غريـب كـصالح فيثمـود
ما مقامي بأرض نخلةإلاّ.............. كمقام المسيح بين اليهود

ولا شك في أن هناك كثيرًا من الأيتام أسسوا ديانات خاصة بهم، مثل مؤسس الديانة البهائية، وهذا على سبيل المثال أيضًا المدعو محمد رضا الشيرازي، والملقب بــ(الباب) الذي ولد في مدينة شيراز في (1819م) – ومات في (1850م)، وترجع سلالته إلى السيدة فاطمة الزهراء، حسب ما يعتقد أتباعه، وتربى في رعاية أحد أخواله، وقد كان والده توفي قبل ولادته.

ومؤسس الديانة المانوية، حيث عاش ماني بن فاتك تجربة قاسية من ناحية أمه، إذ أمضى طفولته محرومًا منها، بل محرومًا من حنان الأنوثة بصورة تامة، وتبدأ المعاناة عنده عندما تخلى أبوه عن ديانته العراقية القديمة، واعتنق ديانة روحانية جديدة، إما أن تكون الصابئة نفسها، أو طائفة منشقة عنها. والمشكلة إن هذه الطائفة المحسوبة على الصابئة التي انتمى إليها (فاتك) كانت تعادي المرأة، وتعتبرها رجسًا من عمل الشيطان، وترفض أي اتصال بها، أو تقربًا منها، بل ترفض حتى دورها الأمومي، لهذا ما إن بلغ الطفل (ماني) عمر أربع سنوات، حتى أتى أبوه (فاتك) من (ميسان) حيث كان منعزلاً مع طائفته، وأخذه من أمه مريم، ليعيش معه هناك في حياة الزهد والتعبد، بعيدًا عن الحياة الفاسقة، وعن المرأة خصوصًا.

وهناك من اعتبرهم محبوهم ومريدوهم أنبياء رغم عدم ادعائهم النبوة، وذلك كنتيجة للصفات الاستثنائية، فوق الطبيعية التي يتميز بها اليتيم، عادة وهم لا شك كثر عبرالتاريخ.

والدارس للسير الذاتية للأيتام، وبخاصة فئة القادة الذين حكموا عبرالتاريخ، وتركوا بصماتهم أمثال جنكيزخان، وعبد الرحمن الداخل، وجمال عبد الناصر، وصدام حسين، والإمام الخميني، والشيخ عمر المختار، وعبد القادر الجزائري، وغبرهارد شرودر، ونيلسون مانديلا، والشيخ أحمد ياسين، وياسر عرفات، وبل كلينتون، وجوزف ستالين، ولينين، وقيصر والاسكندر، وحتى الرئيس الجديد أوباما نجد إنهم يتمتعون بصفات استثنائية تشكل في مجملها بدون شك قدراتهم التي دفعتهم للقيادة.

وها هو أحد كتاب السيرة، ابن حيان، يصف عبدالرحمن الداخل أحد القادة المسلمين في الأندلس كمثال صارخ على الصفات التي يمتلكها القادة الأفذاذ الأيتام: "كان عبد الرحمن الداخل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوًّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة من وليه وعدوه".

وها هي نبذة، متوافرة من خلال آليات البحث على الانترنت، من كاتب يتحدث عن الرئيس الأمريكي السابق بل كلنتون يقول فيها: "إعجابي بهذا الرجل ليس فقط لأنه كان رئيس أعظم دولة في العالم، ولكن لأنه أحد أذكى رجال القرن الحادي والعشرين، وأكثرهم حنكة وسياسة، فقد تعدت رؤية هذا الرجل لقيادة دولته، حتى أصبح من المنظرين والمفكرين للإنسانية جمعاء.. ذلك الرجل حقيقة يستحق التقدير، ليس لكل النجاح الذي حققه في أثناء فترته الرئاسية، ولكن لقدرته على الظهور بهذا الشكل البسيط والمتواضع ، وأعتقد أننا لم ننته من سماع آخر أخباره، فمن المؤكد أنه لن يغيب عن تسجيل تاريخ هذا القرن".

ومما قيل عن القائد عمر المختار على لسان أستاذه المهدي السنوسي: "لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختارلاكتفينا بهم، ويقال إنه كان يتصف بالنجابة ورزانة العقل، وكان يمتلك ملكات مثل جشاشة الصوت، وعذوبة اللسان، واختياره للألفاظ المؤثرة في فن الخطابة، وجاذبية ساحرة لدرجة السيطرة على مستمعيه، وشد انتباههم.

ومن الصفات الأخرى المشتركة، بتفاوت، في القادة الأيتام كما هي مذكورة في سيرهم الذاتية المتوافرة للقراء: تمتعهم بكرزما طاغية، وعيون ثاقبة، وميض في العيون، وحب للمغامرة، والشجاعة، والحكمة، والكبرياء، والطموح، والانقباض، الميل إلى تجنب الآخرين، العزلة، حياة شقية، الاعتماد على الذات، الصبر والقدرة على التحمل، الإبداع، العزيمة، علامات القيادة، النجابة، ورزانة العقل، والنزوع إلى الرئاسة، والنظر إليه على أنه نادرة زمانه، سابق عصره، ومصدر الهام للآخرين.

ومن أهم الصفات التي يبدو أن رواد الفكر الأيتام قد تميزوا بها: عدم أخذهم بالنظم القائمة، واندفاعهم للبحث والدراسة، واستنباط الأفكار بهدف الإتيان بالجديد، واندفاعهم الثوري للانقلاب على ما هو قائم لتشكل منظومة أفكارهم الجديدة البديل عما هو سائد، وذلك في مقابل نزوع الجمهور إلى التمسك بالتقاليد، وبما هو قائم. ولذلك غالبًا ما كان ينتج عن الفكر الجديد رد فعل قاسٍ من المجتمع المحيط بالمفكر على اعتبار انه جاء ليهدم ما وجد الجمهور عليه آباءهم. ولذلك نجد أن قادة الفكر قد تعرضوا عبر العصور للاضطهاد والعقاب بمختلف أشكاله .

ومن أبرز المفكرين الذين تعرضوا للعقاب في عصور ما قبل التاريخ، الفيلسوف سقراط، الذي أجبر على تناول السم بسبب اتهامه بالإتيان بآلهة جديدة ضد آلهة الإغريق الأسطورية المتعددة، حيث قال إن أصل المعرفة يأتي من العقل نفسه. كما تعرض جاليلو في القرن السابع عشر إلى المحاكمة، وحكم عليه بالإعدام إذا لم يتراجع عن أفكاره التي نادى بها، والتي تقول إن الأرض ليست مركز الكون، إنما الشمس كما أثبت من خلال التجربة العلمية.

كذلك دفع جيوردانيو بونو في العام (1600م) ثمنًا غاليًا لفكره، حيث لم يكتف هذا المفكر بالقول، إن الله موجود في الطبيعة، بل افترض أيضًا أن الكون أزليّ. وهما ادعاءان كلفاه حكمًا بالغ القسوة، فقد أحرق في ساحة السوق في روما.

كما أعدمت امرأة فرنسية من المناضلات في سبيل المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة في العام (1791) تدعى أوليمب دو غوج، بسبب إعلانٍ نشرته حول حقوق المرأة، لأن هذه الحقوق لم تجد مكانًا لها في فصل محدد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن.

ومن المفكرين الأيتام الذين تركوا بصماتهم على الفكر، من خلال مناهجهم الفكرية المهمة، الفيلسوف أفلاطون، وهو فيلسوف إغريقي يعتبر أعظم الفلاسفة الأقدمين دون منازع، وكانت أعماله هي الشرارة الأولى التي أشعلت جميع المسائل والأفكار الفلسفية في العالم الغربي حتى اليوم، وكانت أيضًا الحافز الأول لظهور علم النفس، والمنطق، والسياسة، و قد خلفت تلك الأعمال تأثيرات عميقة على الحياة العلمية في مختلف عصور التاريخ.
َ
ولد أفلاطون في أثينا عام (428) قبل الميلاد، وكان زوج أمه، بعد وفاة أبيه، من مساعدي حاكم أثينا (بركليس) المشاركين في السياسة والزراعة، وكان لإعدام أستاذه سقراط من قبل السلطة أثر كبير في نفسه، لا سيما وأن سقراط كان من أصدقاء عائلته، وقد انعكس ذلك الأثر بشكل واضح في كتاباته. بعد موت سقراط اعتزل أفلاطون الحياة العامة في أثينا، وخرج منها مرتحلاً لعدة سنوات.

والفيلسوف ديكارت، صاحب منهج الشك، الذي ولد في العام (1596م)، وعاش حياة ترحال عبر أوروبا كلها، وقد توفيت أمه بعد عام من ولادته، وربته جدته، والمعروف أن ديكارت كان فذًا، ومنذ شبابه المبكر ظلت تمتلكه رغبة حادة في التوصل إلى معارف أكيدة بشأن الطبيعة، والإنسان، والكون، وقد انتهى إلى قناعة بعد دراسة الفلسفة أنه جاهل بشكل كامل، وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في الفلسفة، حتى بعد موته، وعليه اعتبر أبو الفلسفة الحديثة، حيث تمكن من جمع أفكار المرحلة في منهج فلسفي مترابط، وقد كان متقدمًا على عصره.

أما ديفد هيوم، فهو من مواليد مدينة اسكتلندا سنة (1711م)، توفي والداه وهو في سن الثالثة من العمر، فرباه عمه جورج، وهو كاهن في كنيسة، ومن أشهر كتاباته كتاب ألفه في فهم الطبيعة الإنسانية، وهو رائد من رواد الفلسفة التجريبية الذي لا يزال الأكثر تأثيرًا من بين التجريبيين، وقد نشر كتابه الأهم في الثامنة والعشرين من عمره، وهو بعنوان " أطروحة في الطبيعة الإنسانية"، لكنه كان يؤكد أن فكرة الكتاب كانت لديه منذ سن الخامسة عشرة.

وهيجل الفيلسوف الكبيرصاحب الفكر المثالي، ولد عام (1770م)، وقد توفيت أمه وعمره أحد عشرعامًا، وتعتبر فلسفته معقده جدًّا ومتعددة الوجوه، ولكن بعض النقاط الأساسية تشير إلى أن مصطلح الفلسفة يعني عند هيجل منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، ومن أفكاره أنه لا يمكن فصل أيفيلسوف، أو أية فكرة عن سياقها التاريخي، فالعقل عنده تقدمي، أي أن معرفة الإنسان هيفي تطور مستمر، ومن هذه الزاوية، نرى أنها تتجه دائمًا إلى الأمام، بمعنى أن تراكم المعرفة والمعلومات يجعل من يأتي لاحقا أقدر على طرح أفكار أكثر دقة، ولكن ذلك لا يعنيأن الأمر يتوقف هناك، فالأفكار تخضع لنقد الأجيال اللاحقة، ويقول هيجل إن فكرالعالم سينمو، ليصل إلى وعي أكبر فأكبر لذاته، تمامًا كما تصبح الأنهار أوسع مجرى كلمااقتربت من المحيط، فليس التاريخ برأي هيجل إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم على نفسه، لقد وجد دائمًا، ولكن عبر ثقافات البشر وتطورهم، أصبح فكر العالم يعي خصوصيته أكثر فأكثر.

والصحيح أن العقل الجماعي ظل دائمًا يقاوم أي فكرجديد، ولكن فكر الأشخاص الأفذاذ ظل دائمًا يجد له منفذًا، ويجد طريقه إلى عقول الناس وقلوبهم، حتى وإن ترددت البشرية بالأخذ به في زمن المفكر، ولكن نجد أنه غالبًا ما يتم الرجوع إليه، والأخذ به في زمن لاحق، ويرد له اعتباره، وكأن المبدعين الأيتام يعيشون فعلاً في زمن يتقدم على زمانهم.

أخيرًا ، لا بد من التنويه بأن المقال هنا يشكل رصدًا لظاهرة تعتبر على درجة عالية من الأهمية، ويمكن رصدها وملاحظتها في الكتب والمراجع وكتب السيرة، ولا يمكن الادعاء بأن الاستنتاجات هنا هي حقائق علمية يمكن الأخذ بها كمسلمات، فلا شك في أن كل جوانب هذه الظاهرة ما تزال بحاجة إلى مزيد من الدراسة، والبحث، والتمحيص المتعمق، ولكن تظل هناك حقيقة قائمة وأكيدة، وهي أن كثيرا من الأيتام هم رواد التجديد، وحملة ألوية الفكر عبر التاريخ، إضافة إلى كونهم القادة الأفذاذ، والأدباء المبدعون في مجالات الأدب والعلوم المختلفة.

ايوب صابر 08-17-2010 10:57 AM

أوراق ساخنة (7) : مُبطِلاتُ العقل


لا شكَ في أن العقل يُمثل قوة هائلة، وطاقة غير محدودة، وهو حتمًا أقوى عنصر في الوجود. إنه ناقل المعرفة والأفكار ومستقبلها، إن لم يكن مصدرها، على رأي سقراط، وغيره من الفلاسفة العقلانيين، من خلال قدرته على إنتاج الأفكار، وهو مركز المعلومات التي تتجمع في الذاكرة، وتشكل مصدر القوة المبدعة الخلاقة، وهو مركز الخيال الواسع، الذي يعتبره بعضهم صفة مميزة للإنسان عن غيره من الكائنات، وهو أيضًا القوة الكامنة وراءالإنتاج بمختلف أشكاله: الفكري، والمعرفي، والمادي، وبالتالي هو مصدر المناهج الفكرية، والطاقة التي تكمن وراء البناء والتقدم الحضاري، وتطوير المجتمع نحو الأفضل. والعقل هو مصدر الحكمة، والمنطق، والرأي الصائب، والتصرف الحسن، ما دام يعمل باتزان، وما دام تحت السيطرة، والعقل هو حتمًا أصل كل فعل بخيره وشره.

ولكن هناك كثير من المبطلات التي تعطل العقل، منها ما يؤدي إلى شلل وعجز في نشاط العقل، ومنها ما يؤدي إلى عمل نقيض الحكمة، والمنطق، والاتزان، ومنها ما يجعل الفعل شريرًا هادمًا للبناء والتقدم.

ولا شك في أن هذه المبطلات كثيرة، منها المعروف تاريخيًّا، وطبيًّا، من خلال تراكمات المعرفة الإنسانية، ومثال ذلك الجنون بمختلف أشكاله، ومنها الأمراض النفسية التي لا ترقى لمرض الجنون، ولكن البشرية ما تزال تحبو في التعرف عليها، والتعامل معها ومعالجتها، ولكنها حتمًا تشل العقل، أو تؤثر على إنتاجيته، فيعمل بظلامية، ويصدر عنه أمور مهولة هادمة أحيانًا ومدمرة.
وهناك عدد من العوامل التي تؤدي إلى تعطيل العقل بشكل مؤقت مثل:الغضب، والانفعال، والحب، والمسكرات، والمخدرات، وغيرها من العوامل الكثيرة التي تغيب العقل خلال تأثيرها الآني، ولكن العقل ما يلبث أن يعود ليعمل ضمن الحدود المنطقية التي يمتاز بها.

أما مبطلات العقل الأكثر خطورة فهي تلك التي تمارس أثرها على العقل بصورة مبطنة، وغير مرئية، وغالبًا ما تستخدم أساليب عقلية، وفكرية، ومناهج فذة في التحكم بالقدرات العقلية للأفراد، والمجتمعات ككل، وتعمل على توجيهها والسيطرة عليها، ويكون لهذه الأساليب الأثر الأكبر ضمن فئة الناس الأقل تعليمًا، وثقافة، ودراية، ومعرفة، ولكن أثرها لا يقتصر على تلك الفئة، بل يمتد إلى سائر الفئات، عبر الثقافة، والفكر، والمناهج، وهي التي تشكل النمط الحضاري في كل عصر من العصور.

ولا شك في أن العقل قد اخترع الأسطورة الأولى البدائية إثر اندهاش الإنسان، ولحاجته إلى تقديم تفسير للظواهر التي حوله، ومن ثم اخترع الآلهة الأسطورية في الأزمان الغابرة، في محاولة منه لفهم الكون، والإجابة عن تلك التساؤلات التي انبثقت في ذهنه، وإيجاد تفسير لكل الظواهر الطبيعية، لتحقيق التوازن الذهني، ومن أجل التعايش مع واقعه، ولكن هذه الأساطير أصبحت تلقائيًّا ديانة تعطل العقل، وتبطله، رغم أنها هي نفسها من إنتاج العقل.

ولم يكن من السهل التخلص من سيطرة هذا النهج الأسطوري في التفكير، والذي عطل العقل لحقبة زمنية طويلة، رغم ولادة الفلسفة التي اعتمدت على التجربة الحسية في الوصول إلى المعرفة، واعتبرت العقل عند بعضهم هو الأساس في توليد الأفكار، مما أنتج مناهج فكرية مهمة في حينه، أثرت في التطور الحضاري للإنسانية ككل.
ولكن الفلسفة عادت لتنزلق من جديد في المثالية على يد الأفلاطونية الجديدة، التي تزامنت مع ولادة المسيحية، وهذه المثالية أثرت سلبًا على استخدام العقل، فلم يعد العقل أساسيًا في المعرفة، ولذلك فَقَدَ العقل قيمته، وتم تعطيله ومحاربته من جديد، حيث غرقت البشرية على يد الكنيسة والفكر الكنسي في ظلام شديد، أطلق عليه اسم العصور الوسطى.

وفي وسط ذلك الظلام، ولد الإسلام، الذي أعطى العقل وزنًا وقيمة عالية، واعتبر التفكير، واستخدام العقل من أساسيات الدين، والإيمان، ولم يكن مناداة الإسلام بنهج الوسطية أمرًا اعتباطيًّا أو عشوائيًّا، ولكنه كان أسلوبًا وآلية لضمان عدم تعطيل العقل من جديد، لا بل من أجل توفير الفرصة والضمانة لهذا الجهاز المهول، بأن يظل يعمل بكامل طاقته، لما فيه خير البشرية.

ولكن ومع الزمن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين في مثالية دينية متطرفة، وتبنت نهجًّا مطلقًا في التفكير، عطل الوسطية وقيد العقول، وعطلها على اعتبار أنها ليست محل ثقة، مثلها مثل الحواس، وحاربوا الفلاسفة العقلانيين، وذلك من خلال اعتبار نهجهم الإيماني القائم على الإلهام هو النهج السليم، وكل نهج غيره خروج عن الدين وزندقة وكفر.


وانزلقت الشعوب الإسلامية تحت هذا التأثير في ظلام، بينما بدأت الشعوب التي تململت، وبدأت تتخلص من حكم الكنيسة الظلامي، وعادت لتسخيرالعقل والمناهج العقلية لتنهض من جديد، فيما سمي بعصر النهضة، وفي زمن لاحق زاد الاهتمام بالعقل، ووُلِدَ مزيدٌ من المناهج العقلية التي تقدم العقل على غيره، فضعفت مبطلاته، وصارت له السيادة، فَوُلد ما يسمى بعصر التنوير، والذي انتقلت فيه الحضارة البشرية نقلات نوعية مهولة.

لكن التقدم الحضاري انعكس على الفكر من جديد في العصر الحاضر، فولد علم النفس، الذي جعل من الإنسان وشخصيته وعقله محور اهتمامه، وبذلك توصل الإنسان إلى فهم أكبر لكيفية عمل العقل، ودور كل من الانا ، والأنا العليا، والد، والذي هو مركز الغرائز في توجيه الشخصية، وطور آليات للتأثير والتحكم في الأنا العليا التي تمثل مركز المثل، وبالتالي بوصلة الشخصية والمتحكم فيها.

ومن جديد تمكن العقل البشري بقدراته الفذة من تطوير أساليب جديدة للسيطرة على العقل، وتعطيله والتحكم فيه، ويقع ضمن هذه الأساليب مدارس سعت إلى برمجة تفكير الإنسان، وتوجيهه، وقد استخدمت عدة أساليب، على رأسها التربية والتعليم، والإعلام بجميع وسائله، حيث أصبحت بعض المؤسسات، والأجهزة، والدول، تمارس ما يعرف بمسح الدماغ المنظم، أو غير المنظم، وغير المباشر، ومنها من عمل على برمجة التفكير وتوجيهه، ومنها من سخر علمه، مثلاً، في شن حروب نفسية ساهمت في حسم المعارك، وهذا الجزء من المعركة يتمحور حتمًا حول تعطيل العقول وشلها.

ولا شك في أن ولادة علم النفس، والتطور الذي حصل في فهم الشخصية الإنسانية، ساهم في تطوير برامج ذكية، ومناهج قادرة على التحكم في العقل وتعطيله وتوجيهه نحو أهداف محددة تخدم مصلحة المبرمج، وهذه المناهج تستثمر من قبل الحكومات، والدول، والأنظمة الفكرية، وبما يخدم مصالحها. كما أنها أصبحت تستخدم من قبل الشركات التجارية، التي تدفع شخصًا معينً الاختيار منتج معين فقط، من خلال قدرة المادة الإعلانية أو الإعلامية في برمجة مزاجه، ورغبته، ودفعه لاختيار منتج بدل آخر، وما ذلك إلا عملية يتم من خلالها التحكم في قدرة الإنسان على الاختيار، فهو إذن عملية تعطل العقل من ناحية لحساب ناحية أخرى.

ولا شك في أن صراعًا شرسًا، لكنه في معظمه غير مرئي وغير ملموس، يدورفي الخفاء بين المدارس الفكرية، التي تحاول كل منها دحض المدارس المنافسة، وترسيخ أفكارها ومناهجها، وذلك من خلال التحكم في برمجتها للعقول، والسيطرةعليها.

ولكن أخطر ما في الأمر هو أن يصبح الإنسان أداة طيعة في يد هذه المدارس والمناهج، حين تنجح في برمجته، فيكون مثل الآلة التي يتم التحكم بها عن بعد، يتصرف ضمن برنامج فذ، تمكن من تعطيل عقله، وإعادة برمجته ضمن تصور مفروض عليه، لكنه في الغالب يجهل ذلك، ويكون مسلوب الإرادة تجاهه، بسبب قدرة ذلك المنهج على التحكم في عقله، ودفعة للإيمان المطلق بأنه الخيار الأفضل، والأوحد.

وهذا ما يحصل عادة في الأحزاب السياسية، والمذاهب والتنظيمات الفكرية، والتي تعتمد على برمجة أعضائها ليفكروا ضمن منظومة فكرية معينة ومسيطر عليها، وعندها يبدو أن الأعضاء وكأنهم نسخ مستنسخة بعضها عن بعضها الآخر.

وأخطر من كل ذلك، هو أن يصبح الإنسان ضحية للمدارس التي تعطل العقل الفردي، وتستبدله بالفكر الجماعي للتنظيم أو الحزب، ومن ذلك التطرف بجميع أشكاله. فعندما اندهش الإنسان الأول من ظواهرالطبيعة، قدم العقل تفسيرًا بدائيًّا يحقق الرضا والتوازن للإنسان، ولكن كلما توسعت تجربة الإنسان، وضعفت قناعاته بذلك التفسير، كان العقل يتدخل من جديد من أجل تطويرالفكر، فيشكل الفكر الجديد البديل، لكن هذا البديل ظل دائمًا، في جزء منه، يعطل العقل وقدراته، على أساس أنه هو الطرح الأنسب والأكمل.

والصحيح أن العقل البشري، الذي يجمع الخبراء على أنه لا يعمل سوى بما نسبته (5%) من طاقته، سيظل فاعلاً، ونشطًا، ويعطي، وينتج أفكارًا ونظمًا فكرية جديدة، مهما تعددت وسائل إبطاله وتعطيله، فهو المتحكم في البداية، وفي النهاية ستظل له كلمة الفصل.

وكما يقول الفيلسوف هيجل "نحن لا نستطيع أن نجمد الأتي، ذاك أن ما هو قائم في أساس المعرفة الإنسانية يتغير ويتطور عبر الأجيال، لذلك لا نستطيع الكلام عن حقائق أبدية، فلا وجود لعقل لازمني".

وحيث أن العقل، مصدر الأفكار، فلا بد إذًا أن يظل قادرًا على دحض كل أساليب تعطيله وتحجيمه مهما تعقدت، وحتمًا إن فكر العالم ووعيه سينمو ويتقدم، فتراكمات الفكر تمثل اختراقات ثورية للعقل يحطم فيها كل الحواجز، والموانع، والمبطلات التي تحاول إعاقة تقدمه، رغم أنها في أحيان كثيرة تكون بطيئة.

وعليه لا شك في أن البشرية تتجه دائمًا نحو قدر أكبر من العقلانية والحرية والوعي لتصل، ربما، في يوم من الأيام إلى الوعي المطلق.

ايوب صابر 08-18-2010 12:39 PM

أوراق ساخنة (8): ما التاريخ إلا سجل لأفعال وصراعات شخصيات كارزمية.

يعرف التاريخ على أنه مجموعة الأحداث السابقة، ويعرف أيضًا على أنه تسجيل للجرائم، والأخطاء، وسوء حظ الإنسانية. وبعضهم يعرف التاريخ على أنه مذكرات المنتصر، ومنهم من يعتبره ملخص التجربة الإنسانية، وسجل نشاط الناس الذين يسعون لتحقيق أهدافهم.

وعلم التاريخ هو دارسة الماضي، بالتركيز على الأنشطة الإنسانية، وحتى الوقت الحاضر، ولا شك في أن الأحداث في فترة زمنية معينة هي التي تعطي كل عصر من العصور سمة حضارية معينة.

ما يعنينا في هذا المقال هو كيف يصنع التاريخ؟ ما يهمنا هو ما يطلق عليه البعض فلسفة التاريخ، بمعنى السبب والنتيجة وراء التاريخ، وعليه سنركز في هذا المقال على الأسباب الكامنة وراء صناعة التاريخ، كما هي في التراث الثقافي الفلسفي الإنساني، ثم نقدم رؤيا جديدة تفسر أسباب حدوث التاريخ. وما هي القوة الكامنة وراء صناعة التاريخ؟

لا شك في أن الاهتمام بالتاريخ أمر قديم جدًَا، فقد اهتم الفلاسفة الإغريق بمعرفة أية قوة تحكم مسيرة التاريخ، وسألوا: هل الناس هم الذين يحكمون التاريخ؟ أم أنه عبارة عن سجل للأحداث المقدرة، ولما هو مقرر سلفًا ؟ ويُظهر اهتمام الناس في ذلك العهد بالعرافة وعلم الفلك أن الناس كانت تعتبر الأحداث أمرًا مقدرًا وما التاريخ عندهم إذن إلا سجل لأحداث مقدرة سلفًا.
لكن هذه النظرة بدأت تتغير عندما بدأ الفلاسفة الإغريق بالبحث عن تفسير عقلاني للظواهر الطبيعية، وعليه تغير مفهوم التاريخ أيضًا، وأصبح غاية علم التاريخ إيجاد الأسباب الطبيعية الكامنة وراء مسيرة التاريخ...فلم تعد خسارة حرب مثلاً ترد إلى مجرد انتقام إلهي، وكان أشهر المؤرخين اليونان في تلك الحقبة هيرودوت الذي عاش بين (484 و 424 ق.م).

لا شك في أن الإيمان بالقدر امتد منذ ذلك الزمن، وحتى أيامنا هذه. وظل قطاع كبير من الناس يميلون إلى اعتبار التاريخ سجلاًّ لما هو مقدر سلفًا.. لكن عبر العصور، وبتطور الفلسفة والمعرفة والعلوم وأساليب البحث، واهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء في البحث عن العلل والأسباب وراء حدوث الأشياء، جاء مَن قدم فهمًا آخر للتاريخ.

في مطلع العصور الوسطى جاء القديس أوغسطينوس، وقد اعتبر أن التاريخ ما هو إلا صراع بين مملكة الله، والمملكة الأرضية، وهاتان تتصارعان داخل كل كائن بشري وخارجه، وتتمثل مملكة الله عنده في الكنيسة، بينما تتمثل مملكة الأرض في التنظيمات السياسية مثل الإمبراطورية الرومانية التي انهارت في عصر القديس أوغسطينوس.

وقد استمر النظر إلى التاريخ عبر هذين المنظارين خلال العصور التي تلت مرورًا بعصر النهضة، وعصر التنوير... فمن ناحية ظلت الديانات السامية تنظر إلى التاريخ على أنه سجل لما هو مقدر، كما أنه صراع الفرد ضد قوى الشر والباطل، والسعي من أجل نشر كلمة الحق كما هي الحال عند المسلمين.

أما المفكرون المنحدرون من الثقافة الهندو- أوروبية، التي اشتغلت بالبحث الفكري والفلسفي، فقد رأت أن التاريخ هو صراع الإنسان ضد قوى الطبيعة، والتاريخ هو سجل لهذا الصراع، رغم أن هذا المفهوم لم يتطور بشكل واضح، إلى أن جاء الفيلسوف هيجل الذي ولد عام (1770م )، واعتبر أن الفلسفة مصطلح يعني منهجًا لفهم حركة التاريخ قبل كل شيء، وقد عني بالحديث عن تاريخ البشر.

والتاريخ عند هيجل ما هو إلا سلسلة من الصحوات البطيئة لوعي العالم، أو عقل العالم على نفسه، وعنده أن البشرية تتجه نحو معرفة أكبر، وهو يرى بأن التاريخ يشهد على أن البشرية تتطور باتجاه قدر أكبر من العقلانية والحرية. لذلك يرى هيجل بأن التاريخ ما هو إلا سلسلة طويلة من الأفكار، وهو يحدد القواعد التي تحكم هذه السلسلة، ففي نظره يكفي أن ندرس التاريخ قليلاً لنرى كيف تبنى كل فكرة على فكرة أخرى أقدم منها، ولكنها ما تكاد تطرح حتى تأتي فكرة ثالثة تحافظ على الأفضل في سابقتيها، وهذا ما يسميه هيجل التطور الجدلي، بمعنى، ما إن يحدد موقف ما تحديدًا دقيقًا، حتى يجتذب نقيضه، وهذا ما يسميه هيجل النفي.

حينما تولد فكرة تأتي فكرة أخرى لتنفيها، وهذا يحدث توترًا بين الفكرتين، بين رؤيتين متناقضتين تمامًا، فتأتي فكرة ثالثة تتبنى الجانب الصحيح من الفكرتين، وتأتي هي برؤيا جديدة، وعنده مثلاً أن عقلانية ديكارت تشكل رؤيا وفكرة، وتجريبية هيوم هي نقيضها، وقد نتج عن هذين المنهجين في التفكير تناقض وتوتر فجاء فكر (كانت) ليجمع ما أصاب به المنهجان، فأعطى بعض الحق للعقلانيين، وبعضه للتجريبيين، وأظهر نقاط ضعف المنهجين في نقاط أخرى.

لكن التاريخ عند هيجل لا يتوقف عند (كانت) ففكره ورؤيته هما نقطة انطلاق لسلسة جديدة من الأفكار، والواضح أن التاريخ عند هيجل هو تطور العقل الذي يحكمه قانون الجدلية أو الديالكتيك.

أما ماركس الذي يعتبر أبو الفلسفة المادية التاريخية، فيرى أن الشروط المادية في المجتمع، هي التي تحدد جذريًّا وتملك تفكيرنا، وهي التي تقع في أساس كل تطور تاريخي، ويتفق ماركس مع هيجل بأن التطور التاريخي يأتي من التوتر بين عناصر متناقضة تختفي تحت وقع تغير فجائي، ولكنه يرى بان هيجل فسر الأمور بشكل خاطئ. فقد رفض ماركس أن فكر العالم أو العقل الكوني، هو القوة المحركة واعتبر أن هيجل فهم الأمور بالمقلوب.
وقد سعى ماركس لأن يبرهن على أن المحرك الحقيقي للتاريخ، وصانعه ما هو إلا تغير ظروف الحياة المادية، بمعنى أن الظروف الروحية ليست هي أساس تغيرات الظروف المادية في الوجود، وإنما العكس فالظروف المادية تحدد ظروفًا روحية جديدة. من هنا شدد ماركس على وزن القوى الاقتصادية والاجتماعية وأهميتها داخل المجتمع، والتي أطلق عليها ماركس اسم البنية التحتية، واعتبر أن هذه القوى هي التي تسبب كل أنواع التغيير، وتحقق بذلك تقدم التاريخ. ويرى ماركس أن البنية الفوقية التي تمثل نمط تفكير المجتمع، ما هي إلا انعكاس البنية التحتية، ويرى أن هناك تفاعلاً وتأثيرًا متبادلاً بين البنية التحتية والبنية الفوقية، وأن ما يحكم هاتين البنيتين هي العلاقة الدياليكتيكية، وهو يرى أيضًا أن الطبقة المسيطرة هي التي تحدد الخير والشر في التاريخ. وعنده، ما التاريخ إلا صراع طبقات، ولا يفعل التاريخ إلا رسم خط هذا الصراع على امتلاك وسائل الإنتاج.
لقد كان ماركس يعي أن البنية الفوقية قد توثر في البنية التحتية، لكنه لا يعترف لها بتاريخ مستقل، ففي نظره أن جميع التحولات التاريخية منذ مجتمع العبودية في العصور القديمة حتى المجتمع الصناعي في أيامنا، تعود إلى تحولات في البنى التحتية للمجتمع، وتتميز كل مراحل التاريخ في نظر ماركس، بمواجهة وصراع بين طبقتين اجتماعيتين، هما مثلاً في العصور القديمة، طبقة العبيد، وطبقة المواطنين الأحرار. ويرى ماركس أن كل نظام اقتصادي يحمل في داخله تناقضاته الداخلية، وبذور فنائه، ولذلك فهو يرى بأن الرأسمالية تحمل في داخلها تناقضات داخلية، وعليه فإن الانتقال إلى المرحلة الشيوعية هو حتمية تاريخية، وذلك ما حدث بالنسبة للمراحل السابقة.

ولكن المعرفة الإنسانية لم تتوقف عند ذلك الحد، فقد جاء من سَجّلَ مآخذ على فلسفة هيجل، واعتبر أن الحقائق الموضوعية التي تنادي بها الهيجلية لا يمكن أن تطبق على الوجود الفردي، كما قال كيركيغارد، الذي لم ير فائدة من وصف عام للطبيعة العميقة أوالإنسان، فالمهم عند كيركيغارد هو وجود كل فرد، ولا يمكن للإنسان أن يعي وجوده إلا من خلال الفعل، وعنده أن كل وعي حقيقي يأتي من الداخل، وقد اشتقت الفلسفة الوجودية مبادئها من هذا الطرح وبنت عليه، حيث أصبح الفرد هو محور الوجود، وبالتالي محور كل ما له علاقة بوجوده، بما في ذلك صناعة التاريخ.

كذلك جاء من سَجّل َمآخذ على الماركسية، فبينما كان ماركس يرى بأن الإيدولوجيات الإنسانية هي نتاج الظروف المادية للمجتمع، أوضح دارون في نظريته "أصل الأنواع"، بأن الجنس البشري ما هو إلا ارتقاء بيولوجي بطيء، وأن حياة الكائنات ما هو إلا صراع للبقاء، وكان دارون يرى أن الحياة عبارة عن يانصيب كبير نرى فيه الأرقام الرابحة فقط.

بينما كشفت دراسات فرويد عن اللاوعي أن تحركات الناس وتصرفاتهم في معظمها تنتج عن دوافع أو غرائز حيوانية، ومن خلال عمله على تحليل أعماق النفس البشرية، أو ما يسمى التحليل النفسي، قدم فرويد منهاجًا لفهم ماهية الإنسان وتصرفاته وأعماله. وقد آمن فرويد أن هناك علاقة صراعية دائمة بين الفرد ومحيطه، وتحديدًا بين رغبات الإنسان وغرائزه من جهة، ومتطلبات العالم المحيط به ومحرماته. وبذلك فهو يرى بأن العقل ليس هو الوحيد الذي يقودنا، فغالبًا ما تحدد اندفاعات لا عقلانية ما نفكر به أو نفعله، ويمكن أن تكون هذه الاندفاعات اللاعقلانية تعبيرًا عن غرائز، أو رغبات عميقة.

وبين فرويد أيضا أن هذا النوع من الحاجات الأساسية قد يظل مقَّنعًا، مكبوتًا، متنكرًا، لكنه يدير بذلك أفعالنا بدون أن نعي، وقد لاحظ فرويد عدة أشكال من الآلام النفسية، والحالات العصبية التي تعود لأزمات عاشها المريض في طفولته، وقد رأى أننا نحتفظ في أعماق أعماقنا بجميع ذكريات الماضي مخبأة، وهي التي تحدد وتحرك قدرات الإنسان.

كما رفض الفيلسوف الوجودي الأول، نيتشه، فلسفة هيجل والتاريخية الألمانية، وطرح مقابل ذلك الاهتمام المطلق بالتاريخ، والاهتمام بالحياة نفسها.
أما سارتر، فقد رأى أن الوجودية فلسفة إنسانية، وأن نقطة انطلاق الوجوديين هو الإنسان، حيث أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يعي وجوده، وعلى الإنسان أن يخلق طبيعيته وجوهره، فالحياة أو الفعل عند سارتر هي أن نختار كيف نعيش حياتنا، والقلق هو المحرك للإنسان عندما يعي وجوده، والموت الذي هو نهايته.
ويرى سارترأن الإنسان يشعر بنفسه غريبًا جدًا في عالم يفتقر إلى المعنى، وعندما يصف هذه الغربة عن العالم، يلتقي مع هيجل وماركس، فهذا الإحساس بالغربة يخلق إحساسًا بالعبثية.

والمهم في الطرح الوجودي، وما قدمه كل من دارون وفرويد من فكر وشرح للطبيعة الإنسانية، أن يعطي أهمية عظيمة لدور الفرد في المجتمع، وكأن الفرد وأفعاله بغض النظر إذا ما كانت عبارة عن صراع للبقاء، كما يقول دارون، أو صراع ضد المحيط كما يقول فرويد، أو هو نتيجة لوعي الإنسان بوجوده وإحساسه بالغربة، واختياره كيف يعيش كما يقول سارتر، فهي في مجملها تجعل الإنسان الفرد محور الفعل، وبالتالي محور صناعة التاريخ، والقوة الكامنة وراءه.

إذن تُجمع المناهج السابقة، على بأن التاريخ ما هو إلا عبارة عن سجل لأحداث تنتج عن صراع ما. فهو إما صراع الحق ضد الباطل، وهو صراع الإنسان ضد الشيطان، وقوى الشر، وفعل كل ما يمكن أن يقود الإنسان للنجاة والفوز بالجنة، كما هي الحال عند الأديان السماوية. أو هو صراع ضد الطبيعة، كما تصور الفلاسفة عبر العصور، أو هو صراع أفكار في وعي العالم كما يراه هيجل، أو هو صراع طبقي كما يعتقد ماركس، أو هو صراع البقاء كما يطرح دارون، أو صراع الفرد ضد محيطه كما يقول فرويد، أو هو صراع ذاتي يحصل داخل الفرد كنتيجة لوعي الإنسان بوجوده، وإحساسه بغربته، وقدرته على الاختيار، وما ينتج عن ذلك من قلق.

إن الشواهد التاريخية، وما أوصله التاريخ من سجلات لنا، تشير بوضوح الى أن كل هذه التفسيرات لم تُصِبْ كَبِدَ الحقيقة في فهم القوة المحركة للتاريخ... صحيح أن هذه الأطروحات قدمت كثيرًا لفهم حركة التاريخ، حين اعتبرت أن الصراع على اختلاف أشكاله هو محور الحياة، وبالتالي محرك أساسي لصناعة التاريخ، فالصراع ضد قوى الشر والباطل موجود، والصراع ضد قوى الطبيعة موجود، والصراع الفكري الذي يحكمه تطور العقل وقانون الجدلية، ويؤدي إلى سلسلة من الصحوات البطيئة في الوعي البشري- كما يقول هيجل-موجود...كما أن صراع الطبقات الناتج عن تغير الظروف المادية، وعن التوتر بين عناصر متناقضة في الطبقات في المجتمع موجود أيضًا.

لكن أين دور الفرد الفذ والعبقري والمبدع الذي يمتاز بطاقات هائلة، وكرزما طاغية، وسحر استثنائي من كل هذه الحركة عبر التاريخ؟ إلا نجد حينما نغوص في التاريخ أن حفنة من الأشخاص الأفذاذ بعينهم، الذين يمتلكون صفات خاصة وطاقات استثنائية، سواء كانوا قادة، أو مفكرين، أو أدباء، أو علماء قد برزوا في عصورهم. وحققوا إنجازات شكلت منعطفات تاريخية مهمة وبارزة بقيت حية في ذاكرة التاريخ؟ وبذلك كانوا هم السبب الحقيقي وراء حركة التاريخ وصناعته؟

وحتى لو سلمنا بأن التاريخ هو نتاج أحد تلك الصراعات، أو جميعها، ألا تُظهر الشواهد التاريخية بوضوح أن أفراداً أفذاذاً هم بعينهم الذين تركوا بصماتهم على حركة التاريخ؟ وهم الذين قادوا هذه الصراعات على اختلاف أشكالها، أو كانوا جزءًا أساسيًّا وفاعلاً منها؟ وهم الذين صبغوا التاريخ بصبغتهم وأدائهم وإنجازاتهم في رحلة الصراع المتعددة الجوانب تلك؟
كما أننا نجد أن تطور الوعي البشري، وولادة أفكار وحركات وقفزات ثورية ترفض التسليم بالموروث والقائم، وتطرح أفكارًا جديدة في سلسلة الوعي، هم أفراد أفذاذ حتمًا، وذلك واضح في تاريخ تطور الفكر والمدارس والمناهج الفكرية والفلسفية، سواء من وضع الأسطورة الأولى، أو الكنفوشية، أوالبوذية...حتى أن هيجل الذي فسر هذه الظاهرة على أساس أنها حركة جدلية ديالكتيكية حيث تلد الفكرة، ومن ثم يأتي نقيضها، وهكذا دواليك ما هو إلا فرد عبقري فذ. ومما لا شك فيه ايضا ان جميع من ذكروا سابقا هم من العباقرة الافذاذ!!

ولو اعتبرنا أن التاريخ صراع بين الحق والباطل ألا نجد أن الأنبياء وأتباعهم المخلصين من بعدهم، هم صناع التاريخ وقادة هذا الصراع على جميع أشكاله، وقد تركوا وما زالوا بصماتهم بقوة مهولة على حركة التاريخ؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع ضد الطبيعة، ألا نجد أن فلاسفة الطبيعة ومن جاء بعدهم من علماء أمثال سقراط ومنهجه السقراطي، وابن سينا والرازي ولاحقًا كوبرنيكس، ونيوتن، وآينشتاين، وجاليلو هم الذين تركوا بصماتهم من خلال محاولاتهم للانتصار على الطبيعة، ومعرفة كنهها، والسيطرة عليها وكذلك الكون وماهيته؟

ولو افترضنا أن التاريخ صراع أفكار، ألا نجد أن ثلة من الفلاسفة الأفذاذ ابتداء بسقراط وانتهاء بـهيجل مرورًا بكل المناهج الفكرية، هم الذين ولًدت عقولهم أفكارًا مهولة تركت بصماتها على التاريخ؟

وكذلك لو سلمنا أن التاريخ هو صراع طبقات، ألا نجد أن الذي تمكن من تحقيق الوعي بوحدة العمال، وتمكن من تنظيم طبقة العمال لتقوم بأول ثورة ماركسية شيوعية هم ثلة من الأفذاذ الأفراد ابتداء بـ ماركس، وانجلز... ومرورًا بلينين، وستالين، وماو تسي تونج، وهوشي منه، وكاسترو، وجيفارا.

ثم أليس التراث الأدبي الإنساني، من صناعة عباقرة وإبداع عقول أفراد أفذاذ من هوميروس، إلى شكسبير، وتوليستوي، والمتنبي، والعقاد، وجبران خليل جبران، وادجر الن بو، مرورا بالأدباء الأفذاذ المعاصرين ممن تركوا بصماتهم الأدبية على التاريخ، وساهموا بإبداعاتهم في صناعته؟


كذلك ألا نجد أن عددًا محدودًا من القادة الأفذاذ الذين يمتلكون كرزما استثنائية، وشخصيات قيادية فذة، هم الذين كان لهم دور أساس في صناعةالتاريخ؟ لا بل دور حاسم وأساس في ذلك، من خلال قدرتهم على استنهاض الهمم والطاقات؟ ألا يظهر التاريخ أن الرجل الزعيم هو القوة الدافعة التي تشكل التاريخ وتصنعه؟ فالقائد، القادر، الفذ، الحاذق، الماكر، صاحب الرؤيا والحنكة، هو الذي يقود شعبه إلى تسجيل صفحات ناصعة في التاريخ؟ ألا تشكل انتصاراتهم أو هزائم بعضهم في بعض الأحيان، شواهد تاريخية مهمة وبارزة؟ ألا تقع هذه الفئة تحديدًا بما تمتلكه من قدرات وطاقات كرزمية ساحرة، وقدرة على التأثير بالفعل على رأس قائمة صناع التاريخ؟

إن دارون، وفرويد، وسارتر وغيرهم ممن أعطوا قيمة للفرد في حركة التاريخ، واعتبروه مركز الفعل ليسوا سوى أفراد، عباقرة، أفذاذا ساهموا في صناعة التاريخ وكتابته. والمهم في كل ذلك، وهنا يكمن بيت القصيد، وتكمن أهمية هذا البحث، كما نشاهد عبر مسيرة التاريخ ، أن معظم هؤلاء الأفراد الأفذاذ إن لم يكونوا جميعًا، والذين كان لهم دور حاسم ورئيس في صناعة التاريخ كانوا أيتامًا، فهل اليتم هو صانع التاريخ ؟ وهل التاريخ عبارة عن سجل لانجازات وأفعال وثورات ومخرجات وابداعات وصراعات ومبادرات من صنع ثلة من الأيتام، وإن تعددت مظاهرها ومجالاتها في القيادة والأدب والعلم والفكر؟ هل هو صراع هذه الثلة من الأيتام ضد المجتمع، حيث يدفعهم ما يمتلكون من طاقة استثنائية لتبني رؤيا مناقضة لما هو سائد ومألوف، فيقعوا في تضاد يترك بصمته على حركة التاريخ؟ هل هو صراع هؤلاء الأيتام ضد بعضهم بعضا؟ هل هو صراع ثلة من العلماء والمفكرين ضد المجهول والطبيعة؟ وإن كان الصراع نفسيًّا داخليًّا متأثرًا بقوى اللاوعي كما يقول فرويد، أو اغتراب وقلق كما يقول سارتر، فهل يكون اليتم هو الذي يتسبب بتلك الطاقة الكامنة الزائدة التي تحرك الصراع وتفعله وتجعله حادًّا، مهولاً مؤثرًا؟ وهل يتضخم الصراع النفسي الداخلي في الفرد، أو بين الفرد ومحيطه، كنتيجة مباشرة لتلك الطاقة الاستثنائية؟

في ضوء كل ما سبق يتضح جليًّا أن الأيتام هم الذين يصنعون التاريخ، حيث تترجم طاقاتهم إلى قوة فعل، وتأثير، وصراع متعدد الجوانب والأشكال والمظاهر، فيكون التاريخ.

طبعًا كل ذلك لا يعني أبدًا أننا نستثني أثرالعوامل الأخرى، فكما في الفلم السينمائي يكون هناك البطل، ويكون هناك طواقم عديدة ومتعددة، والكمبرس، وكلها تساهم في صناعة الفلم، ولكن الدور الرئيس في صناعة الفلم هو للبطل الزعيم الفذ، والقائد، والكرزمي، وفي غيابه لا يكون الفلم...وهكذا التاريخ، فصنّاعه هم الأبطال الأفذاذ، أصحاب الطاقات، والكرزمات، وهم في جلهم أيتام.


ايوب صابر 08-19-2010 10:56 AM

أوراق ساخنة (9): هل القداسة منتج عقلي؟
طرح الدكتور مصطفى أبو هندي، رئيس قسم الأديان في جامعة المَلِك الحسن الثاني، في المغرب، ضمن برنامج إضاءات، الذي يقدمه تركي الدخيل، وتبثه فضائية العربية، موضوعًا مهمًّا جدًّا نظرًا لما يمثله من أثر على الفكر، والحضارة، وعمل العقل، والدين، والإيمان، والاجتهاد من القضايا المرتبطة.

والمهم الذي سنأخذه في الاعتبار، ضمن هذا المقال من كلام الدكتور مصطفى أبو هندي هو رفضه للقداسة، التي تقترن ببعض الأشخاص المفسرين، والأئمة، والناس العُدول، والمؤسسات عبر التاريخ، فتتحول هذه المؤسسات والأشخاص إلى ما يُشبه الصَنَمْ الذي نُعطيه قداسة استثنائية تجعله بمنزلة صنم، فنتحول نحن إلى عبادة العباد بدلاً من عبادة رب العباد.
وهو يرى مثلاً أن عملية تفسير النص القرآني هي عملية اجتهادية، تحتمل في طياتها الصواب والخطأ، وهي بالتالي عملية نسبية، تتأثر بشخصية المفسر، وظروفه، وبيئته، وزمنه، وتراكم المعرفة لديه، وغير ذلك من ألأمور الدنيوية.
وعليه فإنه يرى ضرورة للثورة، ثورة ضد الأصنام التي تتخذها عقولنا، دون وعي منا أحيانًا، وإعادة القداسة للنص الموحى به الذي يشتمل في طياته ما يَصلُحُ لكل زمان ومكان، وعدم إعطاء القداسة للإنسان الذي يقدم تفسيره للنص ضمن محدودية قدراته، مهما ارتقى في علمه وصفاته.
ولكن الدكتور مصطفى لا يقدم، رغم عدم التقليل من شأن ما يطرح، ما يكفى من المسوغات المنطقية والعلمية، والعقلية، لدعوته هذه، حيث تَحدّثَ بعموميات تعتمد على فهم عام لتطور الحضارة، وضرورة إعادة النظر فيما قُدم من تفسيرات في أزمان سابقة، نظرًا لتغير الظروف البيئية والحضارية، إذ تُصبح تلك التفسيرات غير مُلائمة للواقع المتغير، وعليه ونظرًا لتغير المعطيات لا بد من النظر إلى النصوص الموحى بها، بمنظار الوقائع الحضارية الجديدة المتغيرة، ليتم استنباط التفسير الملائم للمجتمع، ضمن المتغيرات الموجودة في حينه، وعدم الانزلاق بالأخذ بما يقوله الشخص المفسر بشكل مطلق، وعدم منحه الولاء إلى حد تقديسه، فيكون بمنزلة الصنم لنا، ونحن لا نعي ذلك في الغالب.

لن أتطرق هنا لموضوع التفسير، ولكني سأركز حديثي على الجوانب المتعلقة بالكيفية التي يعمل بها العقل البشري، والجوانب النفسية والفكرية والتاريخية المرتبطة باتخاذ الأصنام أربابًا، والأسباب التي جعلت عبر الزمن بعض الأفراد والمؤسسات يمتلكون ويمنحون قداسة استثنائية، حولتهم في عيون مريديهم إلى مايشبه الصنم، و الولاء لهم هو أقرب إلى العبادة، رغم أنهم بشر محدودو القدرة، ومن ثم نصل إلى خلاصة هل أن الدكتور مصطفى محق في دعوته للثورة للتخلص من الأصنام؟ أصنام القرن الحادي والعشرين؟

لا شك في أن الإدراك والوعي الذي يمتاز به الإنسان، وخوفه من الموت تحديدًا، وربما حاجته الفطرية هي التي دفعت البشر (ضمن المحيط والثقافة الهندو أوروبية ) لاتخاذ آلهة تُعبد وتُقدس، فكانت الآلهة الأسطورية المتعددة، حسب اختلاف البيئة، وكانت عِبادة الأصنام على تلك الشاكلة.
والتاريخ يشير إلى أن سيدنا إبراهيم الخليل، أبو الحنفية، عليه السلام قد رفع فأسه في الشرق، وحطم الأصنام، في ثورة عقلية عظيمة، حتى يُعيد الناس لعبادة رب العباد، ولكن فأس سيدنا إبراهيم عليه السلام، رغم ما فعلته من أفاعيل، لم تقض على الأصنام تمامًا، فظلت على مدار الأيام تعود لتتسلل إلى أذهاننا، ولكن بأشكال مختلفة واضحة أحيانًا ومموهة أحيانًا أخرى...وقد تأتي على شكل أفكار وقناعات تعتمل في العقل وتتحكم فيه، وليست مجسدة بأجساد كتلك التي حطمها سيدنا إبراهيم عليه السلام.

فالصنم أحيانًا يكون عبارة عن فكرة، أو أفكار تُصبح جزءًا منا، ومن قناعاتنا، ومن اللاوعي الخاص بنا، وذلك بسبب الطبيعة البشرية التي يتشكل منها العقل البشري، وإمكانية التأثير عليه وبرمجته، فتصبح هذه القناعات، وكأنها جزء من الوعي والإدراك الواعي الذي نختاره ونرتضيبه، ولا يدرك الإنسان عندها أنه على ضلال.

إن بعض الأقوام من صلب سيدنا إبراهيم الخليل، هادم الأصنام، (على الرغم أن الله بعث فيهم عدة رسل) اتخذوا العجل آلهًا في حضور النبي موسى عليه السلام، وأخيه هارون، ولكن ذلك لم يكن نهاية المطاف، فقد أخذوا لاحقًا ينظرون إلى ملوكهم على أساس أنهم أبناء الله، المسيح المخلص، الذي يحكم في مملكة الله على الأرض، وبذلك اتخذوهم أربابًا فعادوا إلى عبادة الأصنام، لكن بشكل آخر هذه المرة.

وفي محيط الثقافة (الهندو أوروبية) المقابلة للثقافة الشرقية، السامية، في التاريخ بدأ التخلص من الآلهة الأسطورية مع تطور الوعي، وولادة الفلسفة الطبيعية حوالي (600 قبل الميلاد)، ومن ثم الفلسفة العقلانية، فلم يعد العقل يؤمن بأشياء غير حسية لم تخضع للتجريب. ولكن الفلسفة نفسها عادت في مرحلة الأفلاطونية الجديدة التي تزامنت مع ولادة المسيحية لتتبنى فِكرًا مثاليًا سهلً على العقل أن ينزلق من جديد في مُتونِ القناعات المُطلقة التي لا تقوم على أساس منطقي عقلي تجريبي، وأثرت هذه الفلسفة المثالية في الدين المسيحي الذي مثل بديلا للفلسفة في تلك المرحلة، حيث انتشر في أوروبا، ومن هناك حصلت الكنيسة على سلطات مطلقة حولتها إلى مملكة الله على الأرض، حيث فاز الفكر الفلسفي المثالي على غيره، وتعززت سلطة الكنيسة، واللاهوت، على حساب العقل والمنطق العقلي والتجريب، الذي أتى به المنهج الأرسطي.

وصار للكنيسة وممثليها قداسة إلهية، ونفوذ تتحكم في كل شيء ، وصار الناس يَشترون المغفرة من خلال صكوك الغفران، ويتقربون إلى الله من خلال الكنيسة ومؤسساتها، واتخذ بعضهم من الرهبان أربابًا، وهو ما يمثل عودة لعبادة الأصنام بقوة، ولكنها طبعًا أصنام من نوع آخر، وقد شرحنا في موقع آخر، تأثير ذلك على التطورالحضاري، حيث حاربت الكنيسة في تلك الفترة العقل فغرقت أوروبا في الظلام.
وما يشير بشكل واضح إلى أن سلامة وعي البشرية، وإدراكها، وصحة فكرها، ومعتقداتها، وتقدمها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى عقلانية الفكر السائد، وواقعيته وعلمانيته ومنطقيته. فكلما أوغل العقل في المثالية، انحرف وانزلق، وتم تعطيله، و تزايد الخطر في أن يقع الإنسان في الضلال، والمشكلة في أن ذلك يكون تصرفًا لا واعيًا في الغالب، فيظن من هو في الضلال أنه على حق، ويدافع عن فكره باستماتة مدفوعًا بالمنظومة الفكرية التي تكون قد فرضت سيطرتها على ذهنه، من خلال الأنا العليا، دون أن يعي ذلك ويدركه.

لقد جاء الإسلام في القرن السادس الميلادي بمنهجيته، وعقلانيته، وعلميته، ليقود ثورة عارمة ضد الأصنام على مختلف أشكالها، فحطم الأصنام التي كان يتقرب بها الناس إلى الله، ومنهم من كان يعبدها، ولكنه جاء أيضًا ليخلص البشرية مما تمثله الأصنام في الأذهان، ومن أجل التخلص من عبادة العباد، وتحويل الناس إلى عبادة رب العباد، وهو ما يشير إلى أن الإسلام جاء ليحارب الأصنام على كافة أشكالها، ومن أهم ما قدم لتحقيق ذلك تفعيل العقل وإعطاؤه شأنًا عظيمًا وجعل التفكير فريضة.

وقد امتاز الدين الإسلامي عما سبقه بتعظيمه للعقل الإنساني، وحث على التدبر في منهجية واضحة، فلذلك كان للإسلام دور مهم في إعادة البعث للفكر الفلسفي العقلي الإغريقي، وزاد عليه علماء المسلمين كثيرًا من فكرهم، فكانت النتيجة نهضة غير مسبوقة على جميع الأصعدة.
ولكن الأهم هو تلك المنهجية، التي أكدت على رفض الأصنام ومحاربتها، حتى أن الخليفة الثاني، مثلًا، قطع شجرة حتى لا يكون لها قدسية مع مرور الزمن، فتعبد كما الأصنام. وأكد وهو يقبل الحجر الأسود على قناعته العقلية بأن ذلك حجر لا يضر ولا ينفع، وبهدف إزالة القدسية عنه، لكي لا يتحول إلى ما يمثله الصنم من قداسة.

وظَلَّ حال الإسلام مُشرقًا يشعُ نورًا،إلى أن انزلقت عقول بعض المفكرين الإسلاميين الذين كان لهم أثر عظيم على الفكر والتفكير والفلسفة في اجتهاداتهم، فانزلقت العقول من جديد في متون المثالية والقناعات المطلقة، فسهل انزلاق الناس في مثالية عميقة، فعادت الناس تعبد شكلاً جديدًا من الأصنام الهلامية التي تمثلت هذه المرة من ناحية في قناعات وأفكار حدت من نشاط العقل وقيدته، ومن ناحية أخرى، منح وإعطاء قدسية استثنائية لبعض أصحاب هذه الأفكار والأطروحات والاجتهادات، ومن بينهم الأئمة والناس العدول الذين تحدث عنهم الدكتور مصطفى، فانزلقت الأمة في جاهلية جديدة أثرت سلبًا على التطور الحضاري، وانزلقت الأمة الإسلامية في ظلام.

والمهم في الموضوع، هو أن الناس كانوا وما يزالوا يجهلون الأسباب الكامنة وراء منح هؤلاء العلماء والمجتهدين والأئمة، تلك القداسة التي حولتهم إلى أصحاب كرامات، أو ما يشبه الملائكة، أو حتى ما يشبه الآلهة عند البعض فاخذوا بفكرهم واجتهاداتهم على أساس أنها نصوص مُقدسة، تمثل بحد ذاتها المرجعية النهائية المطلقة، ومن هنا تشكلت الديانات الأرضية والمذاهب الدينية والسياسية أيضا.

ولا شك في أن بعض الأشخاص عبر التاريخ امتلكوا طاقات وقدرات وصفات ومميزات إبداعية وقيادية مهولة، استثنائية ، عجيبة، تفوق استيعاب عقول العامة، وكانوا دائمًا يبدون على أنهم متقدمين على عصرهم، أصحاب شخصيات قيادية، كرزمية، مؤثرة وطاقات سحرية جعلتهم أصحاب قول فصل ونفوذ، رغم أنهم بشر، فِكرهم، وطروحاتهم، واجتهاداتهم، بشرية تَحتمل الخطأ والصواب.

والسركما سبق وأن تحدثنا في المقالات السابقة، من هذه السلسة، يكمن في اليتم الذي يولد عند بعضهم طاقات مهولة، ويعطي بعضهم مواصفات وصفات استثنائية، تجعلهم محط إعجاب وانبهار عند بعض الآخر الذي ينسج حولهم الأساطير، ويؤلههم كما هي الحال في بعض الديانات الأرضية.

ولو نعود إلى الكنفوشية مثلاً، لوجدنا أن كنفوشيوس اليتيم، امتلك مثل ذلك السحر الكرزمي، وهو لم يدع النبوة، وكان طرحه فلسفيًّا، فكريًّا، حاول من خلاله تقديم تفسير منطقي عقلي للوجود، وما إلى ذلك من ظواهر طبيعية، حيث تزامن عهده مع ولادة الفلسفة الطبيعية، لكن العامة جنحوا إلى اتخاذه نبيًّا، وقد بهروا بفكره، وما قدمه من أطروحات تطغى عليها الحكمة والموعظة.

ويتضح أن الناس قد أحاطت ولادته وحياته المبكرة بأوهام وأفكار خيالية، تتناقلها القصص في التراث الصيني، منها أن الأشباح أبلغت أمه الشابة مولده غيرالشرعي، وكيف كانت الأرواح الإناث تعطر لها الهواء وهي تلده في أحد الكهوف، وقد عاش كونفوشيوس يتيمًا، إذ توفي والده وهو ابن ثلاث سنوات، وقد مالَ إلى دراسة الفلسفة، وظلت أفكاره تتحكم في سلوك الناس أكثر من ألف عام، واكتسبت قداسة عظيمة، حيث صار يلقب بنبي الصين.

وفي زمن مقارب جاء بوذا، وكان يتيمًا أيضًا، ولم يدع النبوة، ولا الألوهية، ولكن الناس حوله، أعطوه القداسة، وجعلوه إلهًا. و قد توفيت أمّه في اليوم السابع من ولادته، كما هو مدون في الكتب التي تتحدث عن سيرته الذاتية. وقد نسجوا حوله قصصًا خيالية أيضًا، ومنها قصة إنجابه تحت شجرة المالبيني، كما جاء في إنجيل بوذا «انتشر نوره، وملأ العالـم، ففتحت عيون المكفوفين، وشاهدوا المجد الآتي من العلاء، وحلّت عقدة ألسنة الخرس، وسمعت آذان الصم». ومن جملة ما نسج الخيال الهندي حول مولد بوذا قصة ولادته الخيالية، وكيف أنه تحدث ومشى فور ولادته. وأعطى البوذيون لبوذا ـ كماجاء في إنجيل بوذا ـ موقعًا فيه حال التأليه، وأصبح بوذا هو الرسالة عندهم، وتقليده والأخذ بسلوكه ومنهجه هو المطلب.

ولو تم التدقيق في سيرة حياة الشخصيات العظيمة، التاريخية، الأفذاذ، أصحاب النظريات الفكرية والفلسفة الوضعية، والتي تركت بصمتها على التاريخ لوجدنا أن معظمهم كان قد مر بتجربة اليتم بشكل أو بأخر، في سن مبكرة، وامتلك صفات استثنائية، وشخصية كرزمية، وقدرات فذة أذهلت من حوله، وأثرت فيهم أيما تأثير، فجاءت القداسة من مجموع تلك الصفات والقدرات الشخصية .

ويمكن الآن، وبفضل ما يتوافر لدينا من معلومات إرجاع تلك الصفات الاستثنائية لأسباب موضوعية، ربما نفسية أو غير ذلك، لم تكن مفهومة من قبل، ويمكن اعتبار أنذلك هو الذي منحهم هالة، ومع مرور الأيام قداسة ميزتهم عن غيرهم، فصاروا هم بذاتهم المرجعية، رغم أنهم بشر محدودو القدرات، وعليه نقول إن أتباعهم ومريديهم الذين يأخذون بفكرهم بشكل مطلق، قد تحولوا إلى عبادة الأصنام، وهم في هذه الحالة الأئمة والمفسرون الذين صار يؤخذ بفكرهم على أساس أنه المرجعية المطلقة ألمعصومة، والتي تصلح لكل زمان ومكان، وليس النص المقدس بذاته.

طبعًا يمكن فهم ما كان يجري قبل الإسلام، من الأخذ بأفكار الناس على أساس أنها أفكار مطلقة، لها قدسية، كما في الفكر الكنفوشي والبوذي. ويمكن فهم ما حصل بعد أن تمكنت الكنسية، وبتأثير الأفلاطونية الجديدة من تعطيل العقل، والتفكير العقلي، وبالتالي انزلاق العقل في متاهات بما في ذلك عبادة العباد أو المؤسسات التي جعلت نفسها ممثلة الله على الأرض.
ولكن ما لا يمكن فهمه وقبوله، هو انزلاق الناس بعد الإسلام في مثل ذلك الانزلاق، لأن الإسلام أعطى العقل منزلة عالية، وجاء بمنهج عقلي متكامل، أوضح للناس فيه طريق الحق، وطالبهم بالتوقف عن عبادة العباد، ورفض الأصنام على كافة أشكالها...وللأسف ذلك ما يحصل حينما نتخذ قناعات مطلقة، ونؤمن بعصمة بعض الناس، وعدلهم، وصحة منهجهم، ومذهبهم إلى حد التقديس، واعتباره أنه المرجعية المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان.
ولو أخذنا مثلاً مؤسسي المذاهب، وأئمة السنة الإمام أحمد ، والإمام الشافعي، والإمام مالك وأبي حنيفة، وأئمة الشيعة، وكذلك المفسرين أمثال ابن كثير، وكتًاب الحديث، أمثال أبي هريرة، والبخاري ومعظم الفلاسفة أمثال الأمام الغزالي، وابن تيمية وكثيرا غيرهم، لوجدنا أنهم في أغلبهم أيتام، ولو تم التدقيق في السيرة الذاتية لكل مفكر ترك أثرًا مهمًّا خالدًا عبقريًّا لوجدناهم في معظمهم إن لم يكونوا جميعا أيتام اتصفوا بصفات استثنائية مهولة.

وكتب السيرة توضح في أحيان كثيرة كيف كانت تمنح تلك القداسة من قبل العموم لمثل هؤلاء الأفاضل، حيث لم يدع أحد من هؤلاء الأئمة بالعصمة المطلقة، ولا بالقدسية، وهم حتمًا منزهون عن الادعاء بمثل تلك القدسية، ولكن مريديهم ومحبيهم هم الذين نسجوا حولهم هالة أسطورية.
ففي سيرة الإمام أحمد بن حنبل مثلاً، نجد من يقول بأن الإمام توفي يوم الجمعة، سنة إحدى وأربعين ومائتين للهجرة، وله من العمرسبع وسبعون سنة. وأنه كانت له كرامات كثيرة وواضحة، فعن ابنه عبدالله، قال: رأيت أبي حرّج على النمل أن تخرج من داره، ثم رأيت النمل قد خرجت نملاً أسود، فلم أرها بعد ذلك. وعن الإمام أبي الفرج الجوزي، قال: لما وقع الغريق ببغداد سنة أربع وخمسين وخمسمائة وغرقت كتبي ، سلم لي مجلد فيه ورقات من خط الإمام أحمد بن حنبل".
أما الإمام البخاري الذي ولد ببخارى سنة (194 هـ)، ونشأ يتيمًا، أخذ يحفظ الحديث قبل أن يصل العاشرة، فقد لقب بأمير المؤمنين في الحديث، كما لقّبه بذلك غير واحد من أئمة السلف، ويقال إنه ظهرت عليه في طفولته علامات النبوغ والنجابة، ووهبه الله سبحانه وتعالى ذاكرةً قويّة تفوّق بها على أقرانه، وقد اشتمله الله برعايته منذ طفولته، وابتلاه بفقدان بصره في صباه، فرأت والدته في المنام إبراهيم عليه السلام فقال لها: "يا هذه قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك، أو كثرة دعائك" فأصبحت وقد ردّ الله عليه بصره ببركة دعاء أمه له .

وحتى أن قائدًا إسلاميًّا وهو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس ما بين عام (731 – 788 هجري)، عَبْدالرَّحْمَن الدَّاخِل، قد نسجت العقول حوله هالة عجيبة، فأسموه الأمير الفَذ، ولد في دمشق حيث مات أبوه، وهو صغير، فتربي في بيت الخلافة...لقب بصقر قريش، وقيل عنه "لولا عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل لانتهى الإسلام من الأندلس بالكلية، وإنا لتعلونا الدهشة ويتملّكنا العجب حين نعلم أن عمره حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين عامًا، أي في سنّ خريج الجامعة في العصر الحديث، وقيل عنه "ملَك من السماء، أم ماذا هو؟! لن نذهب بعيدًا، وسنترك الحديث عنه إلى ابن حيّان الأندلسي، ولنعي ما يقوله عنه، يقول ابن حيان مستعرضًا بعضًا من صفات عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل، "كان عَبْد الرَّحْمَن الدَّاخِل راجح العقل، راسخ الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، بعيد الغور، شديد الحدّة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان قد أعطي هيبة منوليّه وعدوّه، وكان يحضر الجنائز، ويصلي عليها، ويصلي بالناس الجمع والأعياد إذا كان حاضرًا، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى. وقيل إنها شخصية تُشخِص الأبصار، وتبهر العقول، فمع رجاحة عقله، وسعة علمه كان لا ينفرد برأيه، فإذا اجتمعت الشورى على رأي كان نافذ العزم في تطبيقه -رحمه الله-، ومع شدته وحزمه وجهاده وقوته كان -رحمه الله- شاعرًا محسنًا رقيقًا مرهف المشاعر.

ويظهر أن أصحاب المذهب الشيعي يقدسون مريديهم وأئمتهم بشكل أعظم بكثير، فللفقيه عندهم منزلة عظيمة، وهم يقلدونهم ويؤمنون بعصمتهم في ولاء يصل أحيانًا إلي اعتبارهم في مقام الأنبياء، وقد يصل إلى ما هو أبعد من ذلك...كما أنهم يمارسون طقوسًا لا يتقبلها العقل كنتيجة لطبيعتها وقساوتها أيضا. ولو دققنا في سيرة أئمة الشيعة لوجدناهم أيتامًا في معظمهم.

والمدقق في سيرة الأيتام الأفذاذ، والعباقرة جميعهم، يجد أن كثيرمن هذه الصفات والقدرات قد اتصف بها عبد الرحمن الداخل، والإمام أحمد بن حنبل، اللذين تم ذكرهما كأمثلة فقط هنا، والأئمة جميعهم، وحتى كثير من القادة الأفذاذ المعاصرين مع اختلاف نسبي بين واحد وآخر.

وهذه الصفات الكرزمية المهولة هي تحديدًا ما جعلهم بعيون مريديهم، وكنتيجة لعجزهم عن فهم طبيعتها التي ظلت غامضة حتى الآن، ذوي قداسة وعصمة، فانزلقت العقول بدون وعي إلى تقديسهم، وتأليههم والأخذ بفكرهم، ليصبح قناعات مطلقة، رغم أنهم بشر مجتهدون ليس إلا، يحتمل فكرهم الخطأ والصواب ولا يمكن النظر إلى طروحاتهم على أنها صالحة لكل زمان ومكان.

من هنا نعود لنقول:نعم، نحن بحاجة لثورة حتمًا، نحن بحاجة لتشغيل عقولنا، واعتماد المنهج العقلي، وعدم الانزلاق في متاهات المثالية المظلمة،
نحن بحاجة لفهم أعمق لآليات عمل العقل، وإدراك أن العقل قد يؤدي بنا إلى المهالك أحيانًا حيث يبرمجنا، ويخدعنا، فنعتقد أننا على صواب بَيّنْ، ونتطرف في مواقفنا غير المستندة في الغالب إلى المنطق العقلي، والمنبثقة من برمجة ذاتية خادعة. نحن بحاجة لأن نتوقف عن الانبهار ببعض الأشخاص، ومنحهم قداسة، لأننا نعرف سر ملكاتهم الآن، وهي بشرية حتمًا ناتجة عن ظروف صنعتهم، وأعطتهم عبقريتهم وقدراتهم الفذة، فهي ملكات موضوعية يمكن فهمها وربطها بتجارب اليتم التي مروا بها. نحن بحاجة لهدم الأصنام، أصنام القرن الحادي والعشرين المتمثلة في اعتبار بعض الأئمة والأفراد ذوي قدسية استثنائية، ولا بد من الرجوع للنص الذي يصلح لكل زمان ومكان.

وحتى نكون موضوعيين، عقلانيين، وعلميين لا بد من التأكيد هنا على، أن هذا هو مجرد تصور تم بناؤه اعتمادًا على ملاحظة تلك الظاهرة المهمة المتمثلة في اليتم ونتائجه، وهي قضية تحتاج لمزيد من الدراسة العلمية المتعمقة حتى يتم الأخذ بها أو نفيها.

ايوب صابر 08-27-2010 01:42 PM






الجزء الثاني: مقولات أشد سخونة.

ايوب صابر 08-27-2010 01:43 PM

مقولات ساخنة (1)
إن العقل مثل المنجم المطمور غني بالمعرفة، ويمثل نبعًا للأفكار، وهو بذاته قادر على إنتاج أفكار عظيمة، مدهشه، لا متناهية. لكن عقلنا يغلق أبواب هذا المنجم بإحكام، وقليل منا فقط يدرك أن في أعماق عقله سلسلة لا متناهية من الأفكار التي يمكن أن تفيد البشرية، وقد تقدم إضافة يسجلها التاريخ.

ومن أجل إطلاق هذه الأفكار، لا بد من الإيمان أولاً بقدرتنا على إنتاجها، وثانيًا ممارسة طقوس الكتابة بكل شجاعة، وبدون تردد مهما بلغ الإحباط منا مبلغًا أحيانًا، ومهما كانت العوائق الخارجية، ومهما بدت الأفكار تافهة، أوغير ذات قيمة... فلا يجوز أن نقيس قيمة أفكارنا بأنفسنا، أو في لحظة ولادتها، ويمكن لنا أن نغنى أفكارنا من خلال الإضافات التي تساهم في تراكم المعارف، وتنشيط توالد الأفكار.

لكن يجب أن نظل دائمًا على ثقة بأننا قادرون على إنتاج أفكار مهمة، مهما قلت تجربتنا وثقافتنا وعلمنا، فالعقل بذاته قادرعلى فعل ما لا يمكن لنا تصوره، ونقطة البداية تكون في الإيمان بذلك، بكل جوارحنا.

سارع إلى الإمساك بقلم وورقة، واترك الأفكار تتوالد بغزارة، وثق أنك تقدم إضافة من الممكن أن تغير وجه العالم إلى الأفضل.

ايوب صابر 08-27-2010 01:49 PM

مقولات ساخنة (2)

إن استكشافنا لإمكانات عقولنا وقدراتها، لأهم بملايين المرات من استكشاف الفضاء الخارجي، وأعماق البحار، لأن قدرتنا على تفعيل أدمغتنا بنسبة إضافية قليلةجدًا، قد لا تتجاوز جزءًاً يسيرًاً بالمائة مما هي عليه الآن، سيؤدي حتمًا إلى فتوحات غيرمسبوقة على كل الجبهات، وفي كل المجالات، بما في ذلك أعماق البحار، والفضاء الخارجي. و على الإنسانية أن تهتم باستكشاف العقول، وتسخير قدرتها، وتجعل من هذه المهمة الغاية الأهم ضمن قائمة غاياتها وأهدافها، لأن فضاء عقولنا أوسع وأرحب مئات المرات من أعماق البحار والفضاء الخارجي مهما اتسع.

ايوب صابر 08-28-2010 01:31 PM

مقولات ساخنة (3)

المدقق في السجلات التاريخية يكتشف أن البشرية أغفلت، أو أسقطت في أحيان كثيرة معلومات في غاية الأهمية، عن قصد أو عن غير قصد، ولذلك فإن دراسة التاريخ تظل منقوصة، ولا يمكن البناء عليها، والمقدمات المزيفة، أو المنقوصة لا يمكن أن تعطي إلا نتائج مزيفه، أو منقوصة. ولذلك فإن البناء عليها سيقود إلى نتائج مغلوطة. الآن وبعد كل هذا التقدم التكنولوجي في مجال الاتصالات، وبعد أن تحول العالم إلى قرية صغيرة، صار لا بد من التمحيص في تدوين الوقائع التاريخية كما هي، وليس كما نرغب في أن تكون....وأن نهتم بالتفاصيل مهما صغرت، وأن لا نفترض أن بعض الأمور تافهة، لا تستحق أن تسجل، فالنقطة تحول الحمل إلى جمل...تلك هي مسئوليتنا تجاه الأجيال القادمة.

ايوب صابر 08-28-2010 01:33 PM

مقولات ساخنة (4)

الحضارة ...هي صراع الأيتام ضد السائد والمألوف.

ايوب صابر 08-28-2010 01:35 PM

مقولات ساخنة (5)

لو فهم العالم أهمية أثر اليتم على الشخصية مبكرًا لربما كان جنكيزخان عالم رياضيات ...أو عالم فلك، أو أستاذًا في الفلسفة.

ايوب صابر 08-28-2010 01:36 PM

مقولات ساخنة (6)

الجهل هو الذي جعل من جنكيزخان وحشًا آدميًّا ولو تم ضبط تلك الطاقة المتفجرة فيه، والناتجة عن يتمه، لكان شيئًا آخر تمامًا لكن، وللأسف تُرجمت طاقاته المتدفقة بشكل سلبي جدًا...الآن صار علينا فهم هذه الطاقة بسرعة، لعلنا نعيد توجيهها، فنحول القتلة المحتملين إلى علماء مغمورين.

ايوب صابر 08-28-2010 01:37 PM

مقولاتساخنة (7)

بإمكان البشرية أن تصنع مئات العلماء أرسطو ولويس باستور وجاليلو إن هي اهتمت بالأيتام تعليمًا وتأهيلاً وتدريبًا، ولكنها حتمًا تترك المجال لبروز مئات الجنكيزخانات إذا كان العطف والشفقة هو الشيء الوحيد الذي تقدمه البشرية لهم.

ايوب صابر 08-28-2010 01:39 PM

مقولات ساخنة (8)

إن الباحث والمدقق في قدرات العقل يظن كلما تعمق أن لهذا الجهاز العظيم قدرات إلهية لا حدود لها، فكيف إذا كانت هي قدرات الله خالق كل هذه العقول؟ وكلما تجرأ الباحث، وتعمق أكثر اندهش، وخشي، وارتجف، وأحس بضآلته أمام عظمة الله، وتيقن أن لا سبيل أمامه إلا الاستلام والتسليم.

ايوب صابر 08-28-2010 01:40 PM

مقولات ساخنة (9)

ولدت نظرية "تفسير الطاقةالإبداعية" في العام (1970)، عندما وجدت مصادفة تشابهًا كبيرًا بين ظروف يتمي، ويتم الكاتب ليوتوليستوي، واعتمدت في العام (1983) من قبل لجنة للدراسات العليا، حيث حصلت على ماجستير في الأدب المقارن، بعد أن تمكنت من إقناع اللجنة الدارسة بالعلاقة بين اليتم والإبداع، من خلال تحليل أعمال وحياة كل من الأديبة الأمريكية سلفيا بلاث، والأديب الأمريكي من أصول إفريقية رالف إلسون، والشاعر التشيلي الكبير بابلونيرودا، حيث اعتمدت رسالة الماجستير، وكانت بعنوان ”Creativity and the search for fulfillment “ ، ولكنها لم تنتشر على نطاق واسع، ولم يؤخذ بها إلا على نطاق ضيق، لكن اليوم، وبعد هذه الدراسة الإحصائية غير المتحيزة، والتي أثبتت أن الاغلبية من بين العظماء الخالدين المائة حسب تصنيف الكاتب الكبير مايكل هارت (والذي أظنه يتيمًا هو أيضًا لأنه قدم بكتابه هذا جهدًا فذًا للإنسانية) هم فعلاً أيتام.
يمكنني الآن أن أزعم بأن النظرية أصبحت مثبتة بالوقائع، والبيانات الإحصائية، وهي إحدى أسس البحث العلمي، وصار لا بد من الأخذ بها، وإعادة النظر في كثير من المسلمات. فلا يمكن مثلًا الاستمرار بالقول إن الجنس هو المحرك الأساس، والوحيد في حياة الإنسان، كما يقول فرويد، بل هو الموت.

ايوب صابر 08-28-2010 01:44 PM

مقولات ساخنة (10)

إن إسكات عقل، أي عقل، جريمة لا تغتفر ، أما إسكات عقلِ يتيمٍ فتلك أم الجرائم، ومن يدري، لعله كان سيأتي بإبداع مهول تنتفع منه البشرية.

ايوب صابر 08-28-2010 01:49 PM

مقولات ساخنة (11)

إذا نشبت حرب بين طرف يقوده يتيم وطرف يقوده إنسان عاش في كنف والديه فإن الغلبة في النهاية لليتيم حتى وإن خسرمعارك عدة، ودمر جيشه، ووقع في الأسر، ونال من جسده حبل المشنقة. ذلك لأن اليتيم يمتلك طاقة هائلة ورؤيا، وفكرًا وقدرات بعيدة المدى، تدوم حتى بعد موته الجسدي، وتظل روحه قادرة على التعبئة، والحشد إلى أن يتحقق النصر الذي خطط له وسعى إليه، فيكون انهيار الطرف الآخر مدويًا.
إن النصر دائما حليف الأيتام، مهما ضعفت إمكاناتهم...فهم برؤيتهم وإرادتهم وطاقاتهم الفذة يسبقون معاصريهم دائمًا بعقود.

ايوب صابر 08-28-2010 02:36 PM

مقولات ساخنة (12)

إذا وقعت جريمة، ووجد مندوبو البحث الجنائي صعوبة بالغة في فك لغز ما حدث، وكان عدد المتهمين المحتلمين بتلك الجريمة عشرة، واحد فقط منهم يتيم، فالأغلب أنه هو الذي ارتكب الجريمة، فعقل اليتيم يعمل بوتيرة أعلى من وتيرة عقول الناس العاديين، وإذا ما ترجمت طاقات الأيتام بصورة سلبية، فارتكبوا الجرائم، فإن جرائمهم تكون شديدة التعقيد والغموض.
فأحسنوا إلى الأيتام، وسارعوا إلى كفالتهم ورعايتهم، واستثمروا في عقولهم، ليكون نتاجهم لكم، وليس عليكم.

ايوب صابر 08-28-2010 02:38 PM

مقولات ساخنة (13)

إذا كنت تبحث عن موظف فذ، وكان عدد المرشحين لوظيفة عشرة من بينهم واحد فقط يتيم، فلا تتردد في اختياره، وان قلت كفاءته، فقدراته الدفينة قادرة على تعويض النقص في الكفاءة والتعليم والتدريب، وسيكون أكثرهم ولاء وإخلاصًا، وأكثرهم إنتاجية وإتقانًا.

ايوب صابر 08-28-2010 02:40 PM

مقولات ساخنة ( 14)




إذا كان لديك مسألة رياضيات عجز كثيرون عن حلها، فاعرضها على يتيم له دراية ومعرفة بعلم الرياضيات...فعقله كفيل باستنباط الحل مهما كان معقدًا وان لم يكن هناك أسس نظرية للحل وضع لها نظرية جديدة. فقط امنحه الوقت والدعم اللازمين.

ايوب صابر 08-28-2010 02:41 PM

مقولات ساخنة (15)

أعظم الجيوش هو الجيش الذي يتكون أفراده من الأيتام، لكنه قد يكون أخطرها إذا ما فقد انضباطيته....وأخطر القادة هو قائد يتيم فقد السيطرة على طاقات عقله المتدفقة.

ايوب صابر 08-28-2010 02:43 PM

مقولات ساخنة ( 16)

حينما تولد الأفكار في عقولنا تسارع إلى التفلت والخروج إلى حيز الوجود والحكيم من يعمل على احتضان الأفكار لتولد راشدة. والحكمة هي فكرة نضجت وتخمرت قبل أن تنطق بها ألسنتنا.

ايوب صابر 08-28-2010 02:44 PM

مقولات ساخنة (17)

نبحث في كل مكان عن الكنوز، ونغفل أن أعظم المناجم هي عقول الأيتام، فهي المكان الأفضل للبحث عن أثمن الكنوز وأكثرها جدوى.

ايوب صابر 08-28-2010 02:46 PM

مقولات ساخنة (18)

حرية الفكر ليست غاية بحد ذاتها، لكنها الوسيلة التي تساعدنا على إخراج الكنوز من عقولنا إلى حيز الوجود، وغياب حرية الفكر لا يمكن أن يمنع خروج الأفكار، مهما كانت الولادة عسيرة، فقط يجعلها أكثر بريقًا.

ايوب صابر 08-28-2010 02:48 PM

مقولات ساخنة ( 19)

لقد تخلصت البشرية من كثير من عادات الجاهلية، لكنها مستمرة في وأد الأفكار.

ايوب صابر 08-28-2010 02:49 PM

مقولات ساخنة (20)

أشد الناس ذكاء أقدرهم على إدراك أن الموت هو نهايتهم، والاستمرار في استحضار ذلك الهاجس، ليصبح واقعًا مُعاشًا، وأفطنهم أوعاهم بأن الحياةم شروع محدود الأجل، وله نهاية محددة، لكن لا يعرف تحديدًا متى تصبح واقعًا، فيظل متيقظًا.

ايوب صابر 08-28-2010 02:51 PM

مقولات ساخنة (21)

كل فكرة تولد في العقل هي فكرة قابلة للتطبيق مهما بدت خيالية، ومهما تطلب ذلك من زمن، فالعقل لا يفكر خارج حدود الممكن...وبولادة الفكرة تكون قد قطعت نصف المسافة إلى تحقيقها...والنصف الآخر يحتاج إلى إنسان فذ يجد ويجتهد ليحول الفكرة إلى واقع ملموس.

ايوب صابر 08-28-2010 02:52 PM

مقولات ساخنة (22)

التوريث في الحكم وصفه سحرية للفشل، والتراجع على كل الجبهات، وفي كل المجالات، إلا إذا كان الوريث يتيمًا...ربما .

ايوب صابر 08-28-2010 02:54 PM

مقولات ساخنة (23)

ولاية الفقيه تستمر ما دامت الشخصية الكرزمية للفقيه اليتيم طاغية على أذهان العامة، وتبدأ في الانهيار مع انحسار الصورة الذهنية لتلك الشخصية، وتنهار في حالة حدوث خلل يؤثر على تلك الهالة القدسية لشخصية الفقيه....والطريقة الوحيدة لاستمرارية ولاية الفقيه هي بروز شخصية كرزمية تكمل المشوار، ولكن إذا ظهرت شخصية كرزمية تبنت خطًا معارضًا تسارع الانهيار.

ايوب صابر 08-28-2010 02:55 PM

مقولات ساخنة (24)

لا تخشوا أبدًا أن تقولوا ما تفكرون به، مهما بدا جنونيًا.... فالوقائع تشير بوضوح إلى أن معظم العظماء الذين سبقونا نعتوا بالجنون في عصورهم، وكثيرا ما أتضح بعد زمن أن الناس الذين ينعتونهم بالجنون هم البلهاء.


الساعة الآن 09:34 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.

Security team