![]() |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولقد تبع الناس عمارا، وآمنوا بصدق كلماته.. يقول أبو عبد الرحمن السلمي: " شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!! كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها.. وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة: " تقتل عمّار الفئة الباغية".. من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة: "اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!! ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما: لقد ضربناكم على تنزيله واليوم نضربكم على تأويله ضربا يزيل الهام عن مقليه ويذهل الخليل عن خليله أو يرجع الحق الى سبيله وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين.. قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون.. أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه، وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة.. ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن.. واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!! كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة.. ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته، حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه ... ** كان جيش معاويبة ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والامام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا.. وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما.. شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة.. " ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباعغية". وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية.. وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا.. أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغز قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام الى عليّ.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا ... ؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا: " انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال".. وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم ... ** أمّا عمّار، فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه.. أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار ... ووقف المسلمون على قبره يعجبون.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح: " اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!! أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره ... ؟؟!! وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون ... قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال: " اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟ قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال.. اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار.. واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته.. ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة.. أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟ بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى.. وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار ... ! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(17) عبادة بن الصامت - نقيب في حزب الله انه واحد من الأنصار الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن الأنصار سلكوا واديا أو شعبا، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم، ولولا الهجرة لكنت من أمراء الأنصار"..طوعبادة بن الصامت بعد كونه من الأنصار، فهو واحد من زعمائهم الذين اتخذهم نقباء على أهليهم وعشائرهم ... وحينما جاء وفد الأنصار الأول الى مكة ليبايع الرسول عليه السلام، تلك البيعة المشهورة بـ بيعة العقبة الأولى، كان عبادة بن الصامت رضي الله عنه أحد الاثني عشر مؤمنا، الذين سارعوا الى الاسلام، وبسطوا أيمانهم الى رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعين، وشدّوا على يمينه مؤازرين ومسلمين ... وحينما كان موعد الحج في العام التالي، يشهد بيعة العقبة الثانية يبابعها وفد الأنصار الثاني، مكّونا من سبعين مؤمنا ومؤمنة، كان عبادة أيضا من زعماء الوفد ونقباء الأنصار.. وفيما بعد والمشاهد تتوالى.. ومواقف التضحية والبذل، والفداء تتابع، كان عبادة هناك لم يتخلف عن مشهد ولم يبخل بتضحية ... |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومنذ اختار الله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقوم على أفضل وجه بتبعات هذا الاختيار.. كل ولائه لله، وكل طاعته لله، وكلا علاقته بأقربائه بحلفائه وبأعدائه انما يشكلها ايمانه ويشكلها السلوك الذي يفرضه هذا الايمان.. كانت عائلة عبادة مرتبطة بحلف قديم مع يهود بني قينقاع بالمدينة.. زمنذ هاجر الرسول وأصحابه الى المدينة، ويهودها يتظاهرون بمسالمته.. حتى كانت الأيام التي تعقب غزوة بدر وتسبق غزوة أحد، فشرع يهود المدينة يتنمّرون.. وافتعلت احدى قبائلهم بنو قينقاع أسبابا للفتنة وللشغب على المسلمين.. ولا يكذد عبادة يرى موقفهم هذا، حتى ينبذ الى عهدهم ويفسخ حلفهم قائلا: " انما أتولى الله، ورسوله، والمؤمنين ... فيتنزل القرآن محييا موقفه وولاءه، قائلا في آياته: (ومن يتولى الله ورسوله، والذين آمنوا، فان حزب الله هم الغالبون) ... ** لقد أعلنت الآية الكريمة قيام حزب الله.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحزب الله، هم أولئك المؤمنون الذين ينهضون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حاملين راية الهدى والحق، والذين يشكلون امتدادا مباركا لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم عبر التاريخ حول أنبيائهم ورسلهم، مبلّغين في أزمانهم وأعصارهم كلمة الله الحي القيّوم.. ولن يقتصر حزب الله على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل سيمتد عبر الأجيال الوافدة، والأزمنة المقبلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ضمّا الى صفوفه كل مؤمن بالله وبرسوله.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهكذا فان الرجل الذي نزلت هذه الآية الكريمة تحيي موقفه وتشيد بولائه وايمانه، لن يظل مجرّد نقيب الأنصار في المدينة، بل سيصير نقيبا من نقباء الدين الذي ستزوى له أقطار الأرض جميعا. أجل لقد أصبحعبادة بن الصامت نقيب عشيرته من الخزرج، رائدا من روّاد الاسلام، وامام من أئمة المسلمين يخفق اسمه كالراية في معظم أقطار الأرض لا في جبل، ولا في جبلين، أو ثلاثة بل الى ما شاء الله من أجيال.. ومن أزمان.. ومن آماد..!! ** سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يتحدث عن مسؤلية الأمراء والولاة.. سمعه يتحدث عليه الصلاة والسلام، عن المصير الذي ينتظر من يفرّط منهم في الحق، أو تعبث ذمته بمال، فزلزل زلزالا، وأقسم بالله ألا يكون أميرا على أثنين أبدا.. ولقد برّ بقسمه.. وفي خلافة أمير المؤمنين عمر ؤضي الله عنه، لم يستطع الفاروق أن يحمله على قبول منصب ما، الا تعليم الانس وتفقيههم في الدين. أجل هذا هو العمل الوحيد الذي آثره عبادة، مبتعدا بنفسه عن الأعمال الأخرى، المحفوفة بالزهو وبالسلطان وبالثراء، والمحفوفة أيضا بالأخطار التي يخشاها على مصيره ودينه وهكذا سافر الى الشام ثالث ثلاثة: هو ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء.. حيث ملؤا البلاد علما وفقها ونورا ... وسافر عبادة الى فلسطين حيث ولي قضاءها بعض الوقت وكان يحكمها باسم الخليفة آنذاك، معاوية.. ** كان عبادة بن الصامت وهو ثاو في الشام يرنو ببصره الى ما وراء الحدود.. الى المدينة المنورة عاصمة السلام ودار الخلافة، فيرى فيها عمر ابن الخطاب..رجل لم يخلق من طرازه سواه..!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم يرتد بصره الى حيث يقيم، في فلسطين.. فيرى معاوية بن أبي سفيان..رجل يحب الدنيا، ويعشق السلطان ... وعبادة من الرعيل الأول الذي عاش خير حياته وأعظمها وأثراها مع الرسول الكريم.. الرّعيل الذي صهره النضال وصقلته التضحية، وعانق الاسلام رغبا لا رهبا.. وباع نفسه وماله ... عبادة من الرعيل الذي رباه محمد بيديه، وأفرغ عليه من روحه ونوره وعظمته.. واذا كان هناك من الأحياء مثل أعلى للحاكم يملأ نفس عبادة روعة، وقلبه ثقة، فهو ذلك الرجل الشاهق الرابض هناك في المدينة.. عمر بن الخطاب.. فاذا مضى عبادة يقيس تصرّفات معاوية بهذا المقياس، فستكون الشقة بين الاثنين واسعة، وسيكون الصراع محتوما.. وقد كان..!! ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول عبادة رضي الله عنه: " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا نخاف في الله لومة لائم".. وعبادة خير من يفي بالبيعة. واذن فهو لن يخشى معاوية بكا سلطانه، وسيقف بالمرصاد لكل أخطائه.. ولقد شهد أهل فلسطين يومئذ عجبا.. وترامت أنباء المعارضة الجسورة التي يشنّها عبادة على معاوية الى أقطار كثيرة من بلاد الاسلام فكانت قدوة ونبراسا.. وعلى الرغم من الحلم الواسع الرحيب الذي اشتهر به معاوية فقد ضاق صدره بمواقف عبادة ورأى فيها تهديدا مباشرا لهيبة سلطانه.. ورأى عبادة من جانبه أن مسافة الخلف بينه وبين معاوية تزداد وتتسع، فقال لمعاوية: " والله لا أساكنك أرضا واحدة أبدا".. وغادر فلسطين الى المدينة.. ** كان أمير المؤمنين عمر، عظيم الفطنة، بعيد النظر.. وكان حريصا على ألا يدع أمثال معاوية من الولاة الذين يعتمدون على ذكائهم ويستعملونه بغير حساب دون أن يحيطهم بنفر من الصحابة الورعين الزاهدين والنصحاء المخلصين، كي يكبحوا جماح الطموح والرغبة لدى أولئك الولاة، وكي يكونوا لهم وللناس تذكرة دائمة بأيام الرسول وعهده.. من أجل هذا لم يكد أمير المؤمنين يبصر عبادة بن الصامت وقد عاد الى المدينة حتى ساله: " ما الذي جاء بك يا عبادة" ... ؟؟ ولما قصّ عليه ما كان بينه وبين معاوية قال له عمر: " ارجع الى مكانك، فقبّح الله أرضا ليس فيها مثلك..!! ثم أرسل عمر الى معاوية كتابا يقول فيه: " لا امرة لك على عبادة"..!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجل ان عبادة أمير نفسه.. وحين يكرّم عمر الفاروق رجلا مثل هذا التكريم، فانه يكون عظيما.. وقد كان عبادة عظيما في ايمانه، وفي استقامة ضميره وحياته ... ** وفي العام الهجري الرابع والثلاثين، توفي بالرملة في أرض فلسطين هذا النقيب الراشد من نقباء الأنصار والاسلام، تاركا في الحياة عبيره وشذاه.... |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
(18) أبو عبيدة عامر بن الجراح ( أمين هذه الأمة ) |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه: " ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟ من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟ من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟ من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟ أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه: " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟ انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة. ** عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية.. ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة.. ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه، وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام: " أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح". ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إن أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. ففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول.. ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله.. وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق.. وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!! وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول: " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟ |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية.. وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته: " لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه.. ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم. "!! وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط.. لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!! ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا ... ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله: " لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!! وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه.. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني.. فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!! ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره.. انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم.. ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها.. وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا.. ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد.. لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم.. وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!! ويسأله خالد: " يرحمك الله يا أبا عبيدة. ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟ فيجيبه أمين الأمة: " اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!! ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا.. فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين.. وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا.. فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته.. " يا أيها الناس.. اني مسلم من قريش.. وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ حيّاك الله يا أبا عبيدة.. وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك.. مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر. الدين: الاسلام.. والقبيلة: قريش. هذه لا غير هويته.. أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا.. أما هو كحاكم لبلاد الشام، أمره مطاع ومشيئته نافذة.. كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!! ** ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه: أين أخي..؟ فيقولون من..؟ فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح. ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله.. ويسأله عمر وهو يبتسم: " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟ فيجيبه أبو عبيدة: " يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!! ** 179 |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة.. وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع.. وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام.. ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر.. وأعاد مقالته عنه: " لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة".. ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان.. زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة.. وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف.. فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه.. ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
عثمان بن مظعون - راهب صومعته الحياة |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
اذا أردت أن ترتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق سبقهم الزمني الى الاسلام فاعلم اذا بلغت الرقم الرابع عشر أن صاحبه هو عثمان بن مظعون.. واعلم كذلك أن ابن مظعون هذا، كان أول المهاجرين وفاة بالمدينة.. كما كان أول المسلمين دفنا بالبقيع.. واعلم أخيرا أن هذا الصحابي الجليل الذي تطالع الآن سيرته كان راهبا عظيما.. لا من رهبان الصوامع، بل من رهبان الحياة ... !! أجل.. كانت الحياة بكل جيشانها، ومسؤولياتها، وفضائلها هي صومعته.. وكانت رهبانيته عملا دائبا في سبيل الحق، وتفانيا مثابرا في سبيل الخير والصلاح ... ** عندما كان الاسلام يتسرّب ضوؤه الباكر االنديّ من قلب الرسول صلى الله عليه عليه وسلم.. ومن كلماته، عليه الصلاة والسلان، التي يلقيها في بعض الأسماع سرا وخفية.. كان عثمان بن معظون هناك، وحدا من القلة التي سارعت الى الله والتفت حول رسوله.. ولقد نزل به من الأذى والضر، ما كان ينزل يومئذ بالمؤمنين الصابرين الصامدين.. وحين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القلة المؤمنة المضطهدة بالعافية. آمرا ايّاها بالهجرة الى الحبشة. مؤثرا أن يبقى في مواجهة الأذى وحده، كان عثمان بن مظعون أمير الفوج الأول من المهاجرين، مصطحبا معه ابنه السائب موليّا وجهه شطر بلاد بعيدة عن مكايد عدو الله أبي جهل. وضراوة قريش، وهو عذابها.... |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
** وكشأن المهاجرين الى الحبشة في كلتا الهجرتين ... الأولى والثانية، لم يزدد عثمان بن مظعون رضي الله عنه الا استمساكا بالاسلام. واعتصاما به.. والحق أن هجرتي الحبشة تمثلان ظاهرة فريدة، ومجيدة في قضية الاسلام.. فالذين آمنوا بالرسول صلى الله وصدّقوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، كانوا قد سئموا الوثنية بكل ضلالاتها وجهالاتها، وكانوا يحملون فطرة سديدة لم تعد تسيغ عبادة أصنام منحوتة من حجارة أو معجونة من صلصال..!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحين هاجروا الى الحبشة واجهوا فيها دينا سائدا، ومنظما.. له منائسه وأحباره ورهبانه.. وهو، مهما تكن نظرتهم اليه، بعيد عن الوثنية التي ألفوها في بلادهم، وعن عبادة الأصنام بشكلها المعروف وطقوسها التي خلفوها وراء ظهورهم.. ولا بدّ أن رجال الكنيسة في الحبشة قد بذلوا جهودا لاستمالة هؤلاء المهاجرين لدينهم، واقناعهم بالمسيحية دينا ... ومع هذا كله نرى أولئك المهاجرين يبقون على ولائهم العميق للاسلام ولمحمد صلى الله عليه وسلم.. مترقبين في شوق وقلق، ذلك أن اليوم القريب الذي يعودون فيه الى بلادهم الحبيبة، ليعبدوا الله وحده، وليأخذوا مكانهم خلف رسولهم العظيم.. في المسجد أيام السلام.. وفي ميدان القتال، اذا اضطرتهم قوى الشرك للقتال.. في الحبشة اذن عاش المهاجرون آمنين مطمئنين.. وعاش معهم عثمان بن مظعون الذي لم ينس في غربته مكايد ابن عمّه أمية بن خلف، وما ألحقه به وبغيره من أذى وضرّ، فراح يتسلى بهجائه ويتوعده: تريش نبالا لا يواتيك ريشها وتبري نبالا، ريشها لك أجمع وحاربت أقواما مراما أعزة وأهلكت أقواما بهم كنت تزغ ستعلم ان نابتك يوما ملمّة وأسلمك الأوباش ما كنت تصنع |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
** وبينما المهاجرون في دار هجرتهم يعبدون الله، ويتدارسون ما معهم من القرآن، ويحملون برغم الغربة توهج روح منقطع النظير.. اذ الأنباء تواتيهم أن قريش أسلمت، وسجدت عم الرسول لله الواحد القهار.. هنالك حمل النهاجرون أمتعتهم وطاروا الى مكة تسبقهم أشواقهم، ويحدوهم حنينهم.. بيد أنهم ما كادوا يقتربون من مشارفها حتى تبيّنوا كذب الخبر الذي بلغهم عن اسلام قريش.. وساعتئذ سقط في أيديهم، ورأوا أنهم قد عجلوا.. ولكن أنّى يذهبون وهذه مكة على مرمى البصر..!! وقد سمع مشركو مكة بمقدم الصيد الذي طالما ردوه ونصبوا شباكهم لاقتناصه.. ثم ها هو ذا الآن، تحيّن فرصته، وتأتي به مقاديره..!! كان الجوّار يومئذ تقليدا من تقاليد العرب ذات القداسة والاجلال، فاذا دخل رجل مستضعف جوار سيّد قرشي، أصبح في حمى منيع لا يهدر له دم، ولا يضطرب منه مأمن ... ولم يكن العائدون سواء في القدرة على الظفر بجوار.. من أجل ذلك ظفر بالجوار منهم قلة، كان من بين أفرادها عثمان بن مظعون الذي دخل في جوار الوليد بم المغيرة. وهكذا دخل مكة آمنا مطمئنا، ومضى يعبر درزبها، ويشهد ندواتها، لا يسام خسفا ولا ضيما. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولكن ابن مظعون.. الرجل الذي يصقله القرآن، ويربيه محمد صلى الله عليه وسلم، يتلفت حواليه، فيرى اخوانه المسلمين من الفقراء والمستضعفين، الين لم يجدوا لهم جوارا ولا مجيرا.. يراهم والأذى ينوشهم من كل جانب.. والبغي يطاردهم في كل سبيل.. بينما هو آمن في سربه، بعيد من أذى قومه، فيثور روحه الحر، ويجيش وجدانه النبيل، ويتفوق بنفسه على نفسه، ويخرج من داره مصمما على أن يخلع جوار الوليد، وأن ينصو عن كاهله تلك الحماية التي حرمته لذة تحمل الأذى في سبيل الله، وشرف الشبه باخوانه المسلمين، طلائع الدنيا المؤمنة، وبشائر العالم الذي ستتفجر جوانبه غدا ايمانا، وتوحيدا، ونورا.. ولندع شاهد عيان يصف لنا ما حدث: " لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم من البلاء. وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة، قال: والله ان غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك، واصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى ما لايصيبني، لنقص كبير في نفسي.. فمشى الى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك. وقد ردت اليك جوارك.. فقال له: لم يا ابن أخي.. لعله آذاك أحد من قومي..؟ قال.. لا. ولكني أرضى بجوار الله، ولا أريد أن أستجير بغيره ... فانطلق الى المسجد فاردد عليّ جواري علانية.. فانطلقا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد: هذا عثمان.. قد جاء يردد عليّ جواري.. قال عثمان: صدق.. ولقد وجدته وفيّا كريما الجوار، ولكنني أحببت ألا أستجير بغير الله.. ثم انصرف عثمان، ولبيد بن ربيعة في مجلس من مجالس قريش ينشهدم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال عثمان: صدقت.. قال لبيد: وكل نعيم لا محالة زائل قال عثمان: كذبت.. نعيم الجنة لا يزول.. فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذي جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم..؟ فقال رجل من القوم: ان هذا سفيه فارق ديننا.. فلا تجدنّ في نفسك من قوله.. فرد عليه عثمان بن مظعون حتى سري أمرهما. فقام اليه ذلك الرجل فلطم عينه فأصابا، والوليد بن المغيرة قريب، يرى ما يحدث لعثمان، فقال: أما والله يا بن أخي ان كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة، لقد كانت في ذمة منيعة.. فال عثمان: بل والله ان عيني الصحيحة لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس..!! فقا له الوليد: هلم يا بن أخي، ان شئت فعد الى جواري.. قال ابن مظعون: لا ... وغادر ابن مظعون هذا المشهد وعينه تضجّ بالألم، ولكن روحه تتفجر عافية، وصلابة، وبشرا.. ولقد مضى في الطريق الى داره يتغنى بشعره هذا: فان تك عيني في رضا الله نالها يدا ملحدا في الدين ليس بمهتدي فقد عوّض الرحمن منها ثوابه ومن يرضه الرحمن يا قوم يسعد فاني وان قلتم غويّ مضلل لأحيا على دين الرسول محمد أريد بذاك الله، والحق ديننا على رغم من يبغي علينا ويعتدي ** |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا ضرب عثمان بن مظعون مثلا، هو له أهل، وبه جدير.. وهكذا شهدت الحياة انسانا شامخا يعطّر الوجود بموقفه الفذ هذا.. وبكلماته الرائعة الخالدة: " والله ان عيني الصحيحة، لفقيرة الى مثل ما أصاب أختها في الله.. واني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر"..!! ولقد ذهب عثمان بن مظعون بعد ردّ جوار الوليد يتلقى من قريش أذاها، وكان بهذا سعيدا جدّ سعيد.. فقد كان ذلك الأذىبمثابة الانر التي تنضج الايمان وتصهره وتزكّيه.. وهكذا سار مع اخوانه المؤمنين، لا يروعهم زجر.. وبل يصدّهم اثخان..!! ** ويهاجر عثمان الى المدينة، حيث لا يؤرّقه أبو جهل هناك، ولا أبو لهب.... ولا أميّة.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا عتبة، ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم، وأدمت نهارهم.. يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته، والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله، مبشرين بكلماته وآياته وهداه.. وفي دار الهجرة المنوّرة، يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فاذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب ... واذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة.. بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله.. أجل.. راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معا.. ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم، كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل، فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا، أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة، وتسبيحة طويلة عذبة..!! وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن، ولا يأكل الا الطعام الجشب.. دخل يوما المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس، وكان يرتدي لباسا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟! ".. قال الأصحاب: " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش".. فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: " ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ".. وكان بديهيا، وابن مظعون يسمع هذا، أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!! بل حتى الرفث الى زوجته نأى عنه وانتهى، لولا أن علم أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له: " ان لأهلك عليك حقا".. ** وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما.. 186 |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأولهم ارتياد لطريق الجنة، كان الرسول عليه الصلاة والسلام، هناك الى جواره.. ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب: " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الجنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك".. ** ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته، بل كان دائم الذكر له، والثناء عليه.. حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: " الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون"..!!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا: " عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر، فعبد الله بن رواحة". فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟ من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟ أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة: " قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس".. أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم..!! ** أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن. وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده.. لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود.. وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!! |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
** ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث.. وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع، زيد بن حارثة.. وعادت الأم الى زوجها وحيدة. ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه: بكيت على زيد ولم ادر ما فعل أحيّ فثرجى؟ أم أتى دونه الأجل |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فوالله ما أدري، واني لسائل أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل تذكرينه الشمس عنج طلوعها وتعرض ذكراه اذا غربع\ها أفل وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره فيا طول حزني عليه، ويا وجل ** كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة.. كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها.. وكذلك كان في روما.. وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا.. وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى.. ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة. وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبد الله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره، وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية.. وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا اليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه" " أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد".. ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه.. وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له: "يا بن عبد المطلب.. يا لن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه".. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه.. هنالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ادعوا زيدا، وخيّروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!! وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال: " لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف".. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا عتبة، ولا شيء من هذه الغيلان التي طالما أرّقت ليلهم، وأدمت نهارهم..
يذهب الى المدينة مع أولئك الأصحاب العظام الذين نجحوا بصمودهم وبثباتهم في امتحان تناهت عسرته ومشقته ورهبته، والذين لم يهاجروا الى المدينة ليستريحوا ويكسروا.. بل لينطلقوا من بابها الفسيح الرحب الى كل أقطار الأرض حاملين راية الله، مبشرين بكلماته وآياته وهداه.. وفي دار الهجرة المنوّرة، يتكشفّ جوهر عثمان بن مظعون وتستبين حقيقته العظيمة الفريدة، فاذا هو العابد، الزاهد، المتبتل، الأوّاب ... واذا هو الراهب الجليل، الذكي الذي لا يأوي الى صومعة يعتزل فيها الحياة.. بل يملأ الحياة بعمله، وبجهاده في سبيل الله.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجل..
راهب الليل فارس النهار، بل راهب الليل والنهار، وفارسهما معا.. ولئن كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيّما في تلك الفترة من حياتهم، كانوا جميعا يحملون روح الزهد والتبتل، فان ابن مظعون كان له في هذا المجال طابعه الخاص.. اذ أمعن في زهده وتفانيه امعانا رائعا، أحال حياته كلها في ليله ونهاره الى صلاة دائمة مضيئة، وتسبيحة طويلة عذبة..!! وما ان ذاق حلاوة الاستغراق في العبادة حتى همّ بتقطيع كل الأسباب التي تربط الناس بمناعم الحياة.. فمضى لا يلبس الا الملبس الخشن، ولا يأكل الا الطعام الجشب.. دخل يوما المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه جلوس، وكان يرتدي لباسا تمزق، فرقّعه بقطعة من فروة.. فرق له قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيون أصحابه، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " كيف أنتم يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى.. وتوضع في قصعة. وترفع أخرى.. وسترتم بيوتكم كما تستر الكعب..؟! ".. قال الأصحاب: " وددنا أن يكون ذلك يا رسول الله، فنصيب الرخاء والعيش".. فأجابهم الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: " ان ذلك لكائن.. وأنتم اليوم خير منكم يومئذ".. وكان بديهيا، وابن مظعون يسمع هذا، أن يزداد اقبالا على الشظف وهربا من النعيم..!! بل حتى الرفث الى زوجته نأى عنه وانتهى، لولا أن علم أن رسول الله عليه السلام علم عن ذلك فناداه وقال له: " ان لأهلك عليك حقا".. ** وأحبّه الرسول صلوات الله وسلامه عليه حبّا عظيما.. |
رد: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحين كانت روحه الطاهرة تتهيأ للرحيل ليكون صاحبها أول المهاجرين وفاة بالمدينة، وأولهم ارتياد لطريق الجنة، كان الرسول عليه الصلاة والسلام، هناك الى جواره..
ولقد أكبّ على جبينه يقبله، ويعطّره بدموعه التي هطلت من عينيه الودودتين فضمّخت وجه عثمان الذي بدا ساعة الموت في أبهى لحظات اشراقه وجلاله.. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يودّع صاحبه الحبيب: " رحمك الله يا أبا السائب.. خرجت من الجنيا وما أصبت منها، ولا أصابت منك".. ** ولم ينس الرسول الودود صاحبه بعد موته، بل كان دائم الذكر له، والثناء عليه.. حتى لقد كانت كلمات وداعه عليه السلام لابنته رقيّة، حين فاضت روحها: " الحقي بسلفنا الخيّر، عثمان بن مظعون"..!!! 187 |
الساعة الآن 04:36 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.